المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الياء الناقصة في الخط - عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل

[ابن البناء المراكشي]

الفصل: ‌فصل في الياء الناقصة في الخط

وإنما جاء اللفظ بالإبهام على أسلوب المجاملة في الكلام والإمهال لهم ليقع التدبر والتذكار، كما جاء (وَإِنّا أَو إِياكُم لَعَلى هُدىً أَو في ضَلالٍ مُبين) ومعلوم أنّا على هدى وهم في ضلال.

‌فصل في الياء الناقصة في الخط

وهي ضربان: ضرب محذوف في الخط، ثابت في التلاوة.

وضرب محذوف فيهما.

فالضرب الأول: المحذوف في الخط دون اللفظ.

هو باعتبار ملكوتي باطن. وهذا الضرب قسمان: ما هو ضمير المتكلم، وما هو لام " الكلمة ".

فالقسم الأول: إذا كانت الياء ضمير المتكلم مثل: (فَكَيفَ كانَ عَذابي وَنُذُر) ثبتت الأولى لأنه فعل ملكي، وحذفت الثانية لأنه فعل ملكوتي.

وكذلك: (فَما ءاتني اللَهُ خَيرٌ مِمّا آتاكُم) حذفت الياء في الخط باعتبار ما آتاه الله من العلم والنبوة والخير فهو المؤتى الملكوتي الذي من قبيل الآخرة في ضمنه الجسماني الذي للدنيا

ص: 93

لأن الجسماني فإن والملكوتي ثابت.

وكذلك: (فَلا تَسأَلنَ ما لَيس لَكَ بِهِ عِلم) هذا المسؤول غيب ملكوتي يدلك عليه قوله تعالى: (ما لَيس لَك بِهِ عِلم) فهو على غير حال (فَلا تَسأَلني عَن شَيءٍ حَتى أُحدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكراً) لأن هذا سؤال عن حوادث الملك في مقام المشاهدة مثل: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقام الجدار.

وكذلك في البقرة: (أُجيبُ دَعوَةَ الداعِ إِذا دَعان) فحذف الضمير في الخط دلالة على الدعاء الذي من جهة الملكوت بإخلاص الباطن.

وكذلك: (فَقُل أَسلَمتُ وَجهِيَ لِِلهِ وَمَن اِتّبَعَن) هو الإتباع العلمي في دين الله وطريق الآخرة. يدل على ذلك قوله: (أَسلَمتُ وَجهِي لِله) فهو على غير حال: (فاتبِعوني يُحبِبكُمُ اللَهَ) فإن هذا في الأعمال الظاهرة بالجوارح المقصود بها وجه الله وطاعته.

وكذلك: (لِمَن خافَ مَقامي وَخافَ وَعيد) ثبت الياء في المقام لاعتبار المعنى من جهة الملك، وحذفت في الوعيد لاعتباره ملكوتيا. فخاف المقام من جهة ما ظهر للأبصار، وخاف الوعيد من جهة إيمانه بالأخبار.

ص: 94

وكَذلك: (لَئِن أَخَرتَني إِلى يَومِ القيامَة) هو التأخير بالمؤاخذة لا التأخير الحسي، فهو على خير حال:(لَولا أَخَرَتَني إِلى أَجلٍ قَريب) لأن هذا تأخير حسي في الدنيا الظاهرةس.

وكذلك: (وَقُل عَسى أَن يَهدِينِ رَبّي لأَقرَبَ مِن هَذا رَشَداً) سياق الكلام في أمور محسوسة، والهداية فيه ملكوتيةس، وقد هداه الله في قصة الغار وهو في العدد ثاني اثنين حين خرج بدينه عن قومه بأقرب من طريق أهل الكهف حين خرجوا بدينهم عن قومهم وعددهم على ما قص الله علينا فيه. وهذه الهداية على غير حال ما قال موسى عليه السلام (عَسى رَبّي أَن يَهدِيَنَي سَواءَ السَبيل) فإنها هداية السبيل المحسوسة إلى مدين في عالم الملك. يدل عليه قول الله تعالى:(وَلَما تَوَجّهَ تِلقاءَ مَديَن) .

وكذلك: (عَلى أَن تُعَلِمَنِ مِمّا عُلِمتَ رُشدا) .

وكذلك: (ألا تَتَبِعَن) هو في طريق الهداية لا في مسير موسى إلى ربه. يدلك عليه: (أَفَعَصيتَ أَمري) .

ولم يأمره بالمسير الحسي إنما أمره بخلفه في قومه ويصلح. فهذا على غير حال قول هارون: (فاتبِعوني وَأَطيعوا أَمري) وهو لا أمر له إلا الحسي.

وكذلك: (فَكيفَ كانَ نَكير) حيث وقع لأن النكير يتعين من جهة الملكوت لا من جهة أثره المحسوس، فإن أثره قد انقضى، وأخبر الله عنه

ص: 95

بالفعل الماضي. والنكير اسم ثابت في الأزمان كلها. ففيه التنبيه على أنه كما أخذ أولئك يأخذ غيرهم.

وكذلك: (إِنّي أَخافُ أَن يُكَذّبون) خاف موسى عليه السلام أن يكذبوه فيما جاءهم به من عند الله، وأن يكون سبب ذلك من قبله من جهة إفهامه لهم بالوحي، فإنه عليه السلام كان عالي البيان فإنه كليم الرحمان. فبلاغته لا تصل إليها أفهامهم، فيصير إفصاحه العلي عند فهمهم الدني عقدة عليهم في اللسان تحتاج إلى ترجمان يقول لينا ويفصح لهم بينا.

فإن يقع بعد ذلك تكذيب فيكون من عند أنفسهم ليس من قبل موسى فيه شيء. وبذلك تتم حجة الله عليهم.

وكذلك: (إِن كِدتَ لَتُردينَ) هو الإرداء الأخروي الملكوتي.

وكذلك: (أَن تَرجمون) ليس هو الرجم بالحجارة، إنما هو ما يرمونه به من بهتانهم وأباطيلهم التي هو منزه عنها.

وكذلك: (فَحَقَ وَعيد) هو الأخروي الملكوتي و (مَن يَخافُ وَعيد) هو الأخروي الملكوتي.

وكذلك: (فَيَقولُ رَبي أَكرَمَن) ، (رَبي أَهانَن) هذا الإنسان يعتبر منزلته عند الله في الملكوت بما يبتليه به الله في الدنيا. وهذا من الإنسان خطأ، لأن الله يبتلي الصالح والطالح لتمام حجته على خلقة:(لِيُهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَينَة وَيَحيَ مَن حَيّ عَن بَينة) .

ص: 96

والقسم الثاني من الضرب الأول: إذا كانت الياء لام الكلمة سواء كانت في الإسم أو في الفعل مثل: (أُجيبَ دَعوَةَ الداعِ إِذا دَعان) تنبيها على الداعي المخلص لله الذي قلبه ونهايته في دعائه في الملكوت والدار الآخرة لا في الدنيا.

وكذلك: (الداعِ إلى شَيءٍ نُكُر) هو دعاء ملكوتي من عالم الآخرة.

وكذلك: (يَوم يَأتِ لا تَكَلّمُ نَفسُ) هو إتيان ملكوتي في الآخرة، آخره متصل بما وراءه من الغيب.

وكذلك: المهتد هو الهدي الملكوتي المتصل بما وراءه وفوقه مما بطن عنه.

وكذلك: (وَالباد) حذف لأنه على غير حال الحاضر المشاهد. وقد جعله الله لهما سواء.

وكذلك: (كالجَواب) من حيث التشبيه فإنه ملكوتي إذ هو صفة نفسية لا ظهور لها في الإدراك الملكي.

ص: 97

وكذا (يَومَ التّلاق) و (المُناد) كلاهما ملكوتي أخروي.

وكذلك: (وَاللّيلِ إِذا يَسر) هو السري الملكوتي الذي يستدل عليه بآخره من جهة الإنقضاء وبمسير النجوم.

وكذلك: (الصّخرُ بالواد) يعتبر من جهة ملكوتية وهو اتصاله بما ذكر من جوب الصخر وبناء المباني وعمارته بهم لا من جهة كونه محسوسا ملكيا، فهو مثل (ذاتِ العِماد) في الاعتبار.

وكذلك (وَمِن آَياتِهِ الجَوارِ في البَحرِ كالأعلام) تعتبر من جهة هي آية يدل ملكها على ملكوتها. فآخرها في الإعتبار يتصل بالملكوت. ويدل عليه قوله تعالى: (إِن يَشَأ يُسكِن الريحَ فَيَظلَلنَ رَواكِدَ عَلى ظَهرِهِ) .

وكذلك حذفت ياء الفعل من يحيى إذا انفرد وثبت في الضمير مثل: (مَن يُحيي العِظامَ وَهيَ رَميم قُل يُحيِيها) لأن حياة البواطن أظهر في العلم من حياة الظاهر وأقوى في الإدراك.

والضرب الثاني الذي تسقط فيه الياء في الخط والتلاوة فهو باعتبار غيبه عن باب الإدراك جملة واتصاله بالإسلام لله في مقام الإحسان.

ص: 98

وهذا الضرب قسمان أيضا: منه ضمير المتكلم ومنه لام الفعل.

فالقسم الأول: إن كانت الياء ضمير المتكلم، فإنها: إن كانت للعبد فهو الغائب، وإن كانت للرب فالغيبة للمذكور معها فإن العبد هو الغائب عن الإدراك في ذلك كله فهو في هذا المقام مسلم مؤمن بالغيب مكتف بالدلائل والآثار فيقتصر في الخط لأجل ذلك على نون الوقاية والكسرة وفيه من جهة الخطاب به الحوالة على الإستدلال بالآيات دون تعرض لصفات الذات. ولما كان الغرض من آي القرآن جهة الإستدلال والإعتبار بالآثار وضرب الأمثال دون التعرض لصفة الذات كما قال تعالى:(وَيُحَذِرُكُمُ اللَهَ نَفسَه) وقال الله تعالى: (فَلا تَضرِبوا لِلهِ الأَمثال إِن اللَهَ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمون) كان الحذف في خواتم الآي كثيرا مثل: (فاتَقون)، (فارهَبون) (وَما خَلَقتُ الجِنّ والإِنسَ إِلا لِيَعبُدونَ ما أُريدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَما أُريدُ أَن يُطعِمونَ) وهذا كثير جدا. وكذلك ضمير العبد مثل:(إِن يُردنِ الرَحمنُ) العبد غائب عن علم إرادة الرحمن، إنما علمه بها تسليما وإيمانا برهانيا عن الدلائل والآثار من مقتضى اسمه العزيز الغفار.

وكذلك قوله تعالى في العقود: (فَلا تَخشوا الناسَ واخشون) .

ص: 99

" الناس " كل لا يدل على ناس بأعيانهم ولا موصوفين بصفة فهم كل ولا يعلم الكل من حيث هو كل بل من حيث أثر البعض في الإدراك. ولا يعلم الكلي إلا من حيث أثر الجزئي في الإدراك.

والخشية هنا كلية لشيء غير معلوم الحقيقة. فوجب أن يكون الله أحق بذلك فإنه حق وإن لم نحط به علما كما أمر سبحانه بذلك ولا يخشى غيره لأنه توهم كاذب. فهذا الحرف على غير حال ما في البقرة. قال تعالى فيها: (فَلا تَخشَوهُم وَاخشون) ضمير الجمع يعود على الذين ظلموا من الناس فهو بعض لا كل ظهروا في الملك بالظلم. فالخشية هنا جزئية. فأمر الله سبحانه أن يخشى من جهة ما ظهر كما يجب ذلك جهة ما ستر فإنه سبحانه عزيز ذو انتقام.

وكذلك حذفت الياء من: (فَبِشِر عِبادِ الَّذين يَستَمِعون) و (قُل يا عِباد الَّذَينَ آمَنوا) هذا خطاب لرسوله عليه السلام على الخصوص. فقد

ص: 100

توجه الخطاب إليه في فهمنا وغاب العباد كلهم عن علم ذلك. فهم غائبون عن شهود هذا الخطاب لا يعلمونه إلا بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على غير حال ما في قوله تعالى: (يا عِبادِ لا خَوفُ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلا أَنتُم تَحزَنون) وهذا خطاب لهم في يوم الآخرة يفهم منه أنهم غير محجوبين عنه.

جعلنا الله منهم إنه منعم كريمس.

وثبت حرف النداء، فإنه أفهمهم نداءه الأخروي في موطن الدنيا في يوم ظهورهم بعد عدمهم وفي محل أعمالهم إلى حضورهم يوم ظهورهم الأخروي بعد موتهم في محل جزائهم.

وكذلك: (يا عبادي الَّذيَنَ أَسرَفوا) ثبت الضمير وحرف النداء في الخط فإنه دعاهم من مقام إسلامهم وحضرة أعمالهم إلى مقام إحسانهم وحضرة آمالهم.

وكذلك (يا عبادىَ الَّذَينَ آَمَنوا) في العنكبوت ثبت الضمير وحرف النداء. فإنه دعاهم من حضرتهم في مقام إيمانهم إلى حضرتهم في مقام إحسانهم إلى ما لا يعلم من الزيادة بعد الحسنى.

وكذلك سقطت في الدعاء مثل: (رَبِ اِغفِر

ص: 101

لي) وذلك أن من مقتضى هذا الإسم العزيز بدأ التكوسي وبه قوامه. فهو أول اسم لنا أثره في الوجودن. فحذفت الياء علامة لعدم الإحاطة به عند التوجه إليه " لغيبنا " نحن عن الإدراك. وحذف حرف النداء لأنه أقرب إلينا من أنفسنا قال تعالى: (وَإِذا سَأَلَكَ عِباديَ عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدَاعِ إِذا دَعانِ) .

وكذلك (وَقيلهِ يا رَبّ إِنّ هَؤلاءِ) أثبت حرف النداء لأنه دعا ربه من رتبة حضوره معهم في مقام الملك لقوله: (إِنّ هَؤلاءِ) وأسقط حرف ضميره لغيبه عن ذاته في توجهه في مقام الملكوت ورتبة إحسانه في إسلامه.

وكذلك في مثل: (ياقَوم) دلالة على أنه خارج عنهم في خطابه كما هو ظاهر في الإدراك وإن كان متصلا بهم في النسبة الرابطة بينهم في الوجود المعلومة من الدلائل والآثار.

والقسم الثاني: إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل وفي الإسم فإنها تسقط حيث يكون معنى الكلمة من مبدئه الظاهر شيئا بعد شيء إلى ملكوته الباطن إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما فيكون حذف الياء منبها على ذلك وأنه لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب

ص: 102

غرض الخطاب مثل: (وَسَوفَ يُؤتِ اللَهُ المُؤمِنينَ أَجراً عَظيماً) هو: (ما تَشتَهيهِ الأنفس وَتَلَذُ الأَعيُن) وقد اِبتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة، كذلك إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وكذلك: (وَإِنّ اللَهَ لَهادِ الَّذَينَ آَمَنوا) حذفت لأنه يهديهم بما نصب في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم برفع درجاتهم في هدايته إلى حيث لا إلى غاية. قال تعالى: (وَلَدَينا مَزيد) .

وكذلك: (وَماأَنتَ بِهادِ عَن ضلالَتِهِم) في الروم. هذه الهداية هي الكلية على التفصيل والتوالي التي ترقي العبد في هدايته من الآثار إلى ما لا يدركه العيان ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان ويدل على ذلك قوله تعالى قبلها: (فانظُر إِلى آَثارِ رَحمَةِ اللَهِ كَيفَ يَحيي الأَرضَ بَعدَ مَوتِها) الآية. فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت إلى ما يدرك إيمانا وتسليما من يقين البرهان.

فهذا الحرف على غير حال الحرف الذي في النمل

ص: 103

قال فيه: (وَما أَنتَ بِهادِى العُمي عَن ضَلالَتِهِم) يثبت الياء وهي مثل تلك الآية في التلاوة.

ومعنى هذه الهداية هي الكلية العامة على التفصيل والإجمال وحصول الكمال. يدلك على ذلك قوله تعالى: (فَتَوَكَل عَلى اللَهِ إِنّكَ عَلى الحَقِ المُبين) .

وكذلك: (بِالوادِ المُقَدَس) و (الوادِ الأَيمَن) مبدأ التقديس واليمن الذي وصفا به اتصل التقديس واليمن منهما إلى الحال بهما ذاهبا إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله.

وكذلك: (وادِ النَمل) هو موضع لإبتداءِ سَماعِ الخِطاب مِن أَخفَضَ الخَلق وهو النملة إلى أَعلاهُم وَهُوَ الهدهد والطير. ومن ظاهر الإنس وباطن الجن إلى قول العفريت، إلى قول الذي عنده علم من الكتاب، إلى ما وراء ذلك من هداية " الكتاب " إلى مقام الإسلام لله رب العالمين.

ص: 104

وكذلك: (وَلَهُ الجَوارِ المُنشَآتِ في البَحرِ كالأعلام) سقطت الياء تنبيها على أنها لله من حين إنشائها بعد أن لم تكن إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها وأحوالها. جميع ذلك كله له لا لغيره. له الخلق والأمر.

وكذلك: (الجَوارِ الكُنّس) حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها منها بالحناس إلى محل اتصافها بالكناس. وذلك يفهمنا منها أنها اتصفت بالخناس عن حركة تقدمت. فالوصف بالجواري الظاهر يفهم منه وصف بالجواري في الباطن. وهذا الظاهر مبدأ نفهمه. فالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة. وكذلك كل جار. وينبه ذلك على أن خروجنا للدنيا خناس عن الآخرة وأن رجوعنا إليها جرى وأن إقامتنا بها كناس، فافهم. فكذلك يوم الدنيا خنس من يوم الآخرة وهو يجري إليه ويكنس فيه بعد ذلك.

ويوم الآخرة هو جامع الأيام وميقات الأكوان الظاهرة مع الأزمان. ولأجل هذه المعاني في هذه الكلمة حذفت لاماتها وصلت بما أضيفت إليه أو وصفت به في اللفظ وإن كان منفصلا في العلم وفي الخط. فإن الإنفصال يؤل إلى الإتصال. وكل مفترق يعود إلى إجتماع، وذلك من آية الحشر والنشر.

ص: 105

فصل

ويلتحق بهذا القسم من جهة المعنى حرف النون الذي هو لام فعل يكون فإنه يحذف في بعض الكلمة تنبيها على صغر مبدأ الشيء وحقارته، وأن منه ينشأ ويزيد إلى ما لا يحيط بعلمه " إلا الله " مثل:(أَلَم يَكُ نُطفَة) حذفت النون تنبيها على مهانة مبدأ الإنسان وصغر قدره " بحسب ما يدرك " هو من نفسه ثم يترقى في أطوار التكوين (فَإِذا هُو خَصيمٌ مُبين) فهو حين كانَ نطفة كان ناقص الكون.

كذلك كل " رتبة " ينتهي إليها كونه هي ناقصة الكون بالنسبة إلى ما بعدها.

فالوجود " الدنيوي " كله ناقص الكون عن كون الآخرة، كما قال تعالى:(وَإِنّ الدارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيوانُ لَو كانوا يَعلَمون) .

وكذلك: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفها) حذفت النون تنبيها

ص: 106

على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الإعتبار فإن الله يربيها ويضاعفها إلى ما لا يعمله سواه.

وكذلك: (إِن تَكُ مِثقالَ حَبَةٍ مِن خَردَل) حذف النون لأن هذا المثقال " أصغر مقدارا " وأحقره في الإعتبار منه الإبتداء إلى القنطار. فإذا كان ذلك الذي لا خطر له عندنا يأتي به الله، فما ظنك بأكبر من ذلك، هو أولى أن يأتي به الله.

وكذلك: (أَوَ لَم تَكُ تَأتيكُم رُسُلُكُم بالبَينات) جاءتهم الرسل من أقرب شيء في البيان الذي هو أقل مبدأ فيه وأصغره وأضعفه وأحقره وهو الحسن إلى العقل إلى الذكر. ورقوهم من أخفض رتبة وأحقرها وهي الجهل إلى أرفع درجة في العلم والإدراك وهي اليقين.

وهذا على غير حال الحرف الذي في قوله تعالى: (أَلَم تَكُن آَياتي تُتلى عَلَيكُم) فإن كون تلاوة الآيات قد كمل كونه وتم.

كذلك: (ألم تكن أرض الله واسعة) هذا قد تم كونه.

كذلك (لَم يَكُنِ الَّذَينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتاب) الآية.

هذا قد تم كونهم غير منفكين إلى تلك الغاية التي جعل الله لهم، وهي مجيء البينة.

وكذلك: (فَلَم يَكُ يَنفُعُهُم إِيمانُهم لَمّا رَأَوا بَأسَنا) . انتفى عن إيمانهم مبدأ الإنتفاع وأقله فانتفى لأجل ذلك كله.

ص: 107

فحذف اللامات في هذه الكلمة دليل على هذه البدايات وعدم النهايات. وظهر من ذلك أن هذه الحروف يختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها في العلم لا في اللفظ. وفيها التنبيه على العوالم ومراتب الوجود والمقامات.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 108