المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول:استحباب البكاء عند تلاوة القرآن المجيد - عودوا الى خير الهدي

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌المطلب الأول:استحباب البكاء عند تلاوة القرآن المجيد

‌المطلب الأول:

استحباب البكاء عند تلاوة القرآن المجيد

قال الله تعالى في سياق الثناء على الأنبياء عليهم السلام: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].

وعن عبد الأعلى التيمي قال: "إن مَن أوتيَ من العلم ما لم يُبكِه لخليق أن لا يكون أوتي علمًا ينفعه، لأن الله نعت العلماء

فقال: {

إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109](1).

ويروَى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إذا قرأتم سجدة {سُبْحَان} (2) فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبكِ عينُ أحدِكم؛ فليبك قلبه"(3).

(1)"جامع البيان" للطبري (8/ 165).

(2)

أي التي في سورة الإسراء.

(3)

"الإحياء"(1/ 502).

ص: 4

وقال تعالى منكرًا على المشركين: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (1)[النجم:59 - 61].

وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِي، وفي صدره أزيز كازيز المرجل من البكاء" (2).

وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال:"يا عائشة ذررني أتعبد لربي"، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت، فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما

(1) سامدون: غافلون لاهون عنه، وعن تدبره.

(2)

روأه أبو داود رقم (904)، والترمذي في "الشمائل" رقم (276) ص (169)، والنسائي (3/ 13)، وصححه النووي، وأزيز المرجل: غليانه.

ص: 5

تأخر؟ قال "أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) الآيات [آل عمران: 190].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُل بَكَى مِنْ خَشْيِةِ الله حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وِلَا يَجْتَمعُ غُبَار في سَبِيلِ الله وَدُخَانُ جَهَنمَ"(2).

وعن أبن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عَيْنَانِ لَا تَمسُهُمَا (3) النَّارُ: عَيْن بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَينٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللهِ"(4).

(1) صححه الألباني في "الصحيحة"، وعزاه الى أبي الشيخ، وأبن حبان في

"صحيحه".

(2)

رواه الترمذي (2311)، وقال:"حسن صحيح"، والنسائي (6/ 12)، والحاكم (4/ 260)، وصححه، ووا فقه الذهبي، وصححه الألباني في "تحقيق المشكاة" رقم (3828).

(3)

قال في "تحفة الأحوذي": (قوله: "عينان لا تمسهما النار" أي: لا تمس صاحبهما، فعبرَّ بالجزء عن الجملة، وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى) اهـ. (5/ 269).

(4)

رواه الترمذي (1639)، وحسنه الحافظ في "الفتح"(6/ 83).

ص: 6

وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ شَيْءٌ أَحَب إِلَى الله منْ قَطْرَتَيْنِ وَأثريْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوع في خَشْيَةِ الله، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ في سَبيلِ الله، وأما الأثرَانِ: فَأَثر في سبِيلِ الله، وَأَثَر في فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الله الله"(1).

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سَبْعَة يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلَّه يَوْمَ لَا ظِل إلَّا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وَشَاب نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تحُابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُل طَلبتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمال فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجل تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتى لَا تَعْلَمَ شِمَاله مَا تُنْفِقُ يَمِينه، وَرَجُل ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْناهُ"(2).

وعن عبد الله بن عبيدة، أن نفرًا اجتمعوا في حجرة صفية بنت حُيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا الله وتلوا القرآن وسجدوا، فنادتهم صفية: هذا السجود وتلاوة القرآن، فأين البكاء؟ (3).

(1) رواه الترمذي (1639)، وحسنه في "تحقيق المشكاة" رقم (3837).

(2)

رواه البخاري (2/ 143)، ومسلم رقم (1031).

(3)

"حلية الأولياء"(2/ 55).

ص: 7

ولما اشتد مرض رسول الل صلى الله عليه وسلم قال: "مُروا أبا يكر فليصلّ بالناس، قالت عائشة: "إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه" وفي رواية:"إنه رجل أسيف (1)، إذأ قرأ مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، ولم يُسمع الناسَ من البكاء"(2) الحديث.

وفي خبر ابن الدُّغُنَّةِ: "أن أبا بكر ابتنى مسجدًا بفناء دار ابن الدغنة، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكَّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن" انتهى محل الشاهد منه (3).

وقال علقمة بن وقاص: (صليت خلف عمر بن الخطاب فقرأ سورة يوسف، فكان إذا أتى على ذكر

(1) أسيف: رقيق القلب، بكاء.

(2)

رواه الإمام أحمد (6/ 210)، والبخاري رقم (678، 679، 3385)، ومسلم رقم (418)، والنسائي (2/ 99).

(3)

رواه الإمام أحمد (6/ 198)، والبخاري برقم (3905).

ص: 8

يوسف سمعت نشيجه من وراء الصفوف" (1).

وقال القاسم بن محمد: "كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة فأسلِّم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي قائمة تُسَبِّح (2)، وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة تصلي وتبكي"(3).

وعن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قُرب أن يُصبح، يقرأ آية من كتاب الله، ويركع، ويسجد، ويبكي:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (4)[الجاثية:21].

وقال بشير: "بِتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 8).

(2)

أي: تصلى.

(3)

"السمط الثمين" ص (90).

(4)

"الإصابة" لابن حجر (1/ 184)، وصحح إسناده الى مسروق.

ص: 9

يصلي، فمر بهذه الآية، فمكث ليلته حتى أصبح، ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد" (1).

وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول:"ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟ "(2).

قال القرطبي رحمه الله: "وكانت هذه الآية تسمى مَبْكاةَ العابدين، لأنها محكمة"(3).

وعن الحسن قال: "لم يزل الناس على ذلك، يبكون عند الذكر وقراءة القرآن"(4).

وروى خالد بن مَعْدَان، عن كعب الأحبار قال:"لَأن أبكيَ من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بوزني ذهبًا"(5).

(1)"حلية الأولياء"(2/ 112).

(2)

"الجامع لأحكام القرآن"(16/ 166).

(3)

"السابق".

(4)

"الرقة والبكاء" لابن أبي الدنيا رقم (101).

(5)

"سير أعلام النبلاء"(3/ 490).

ص: 10

وعن عبد الله بن مسعود قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونا، حكيما حليمًا، عليمًا سكيتًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا صَخَّابًا ولا صيَّاحًا، ولا حديدًا"(1).

وعن الحسن قال: "إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فَقُهَ الفقهَ الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ (2) وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم عز وجل،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 231) رقم (35573)، و"حلية الأولياء"(1/ 130)

(2)

الزَّوْر: جمع زائر.

ص: 11

ذلك أن الله تعالى عز وجل يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وذلك أن الله تعالى ذكر عبدًا صالحًا، ورضي قوله، فقال:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3](1).

وكان حسان بن أبي سنان يحضر مجلس مالك بن دينار، فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يبل ما بين يديه، لا يُسمع له صوت (2).

وعن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرًا ما كان يخطر ببالي، فاقول في نفسي: "بأي شيء فُضِّل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة: إن كان يصلي إنا لنصلي، وإن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج؟!

قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت، إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه

(1)"الزهد والرقائق" لابن المبارك رقم (140).

(2)

"صفة الصفوة"(3/ 339).

ص: 12

ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي:"بهذه الخشية فُضِّلَ هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج، فصار إلى ظلمة؛ ذكر القيامة"(1).

وعن عاصم قال: كان أبو وائل إذا صلى في بيته نشج (2) نشيجًا، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله، وقد كان أيوبُ السَّخْتِياني إذا غلبه البكاء قام (3).

وقال خادم الأمام محمد بن أسلم الطوسي: "سمعته يحلف كذا وكذا مرة أن لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، ولكن لا أستطيع ذلك"(4).

وكان إبراهيم التيمي يقول: "المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته"(5).

وقال الحسن البصري: "إن كان الرجل ليجلس

(1)"صفة الصفوة"(4/ 121).

(2)

نشج الباكي نشجًا ونشيجًا: تردد البكاء في صدره من غير انتحاب.

(3)

"تلبيس إبليس" ص (202).

(4)

"حلية الأولياء"(9/ 243).

(5)

"تنبيه المغتربين" ص (27).

ص: 13

المجلس، فتجيئه عَبْرتُه فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام" (1).

قال القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة - 83].

"وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتماوتون، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزّلَ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ

} [الزمر:23]، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] " (2).

وقال في تفسير آية الأنفال هذه: "وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ونظير هذه الآية:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(1)"الزهد" للإمام أحمد ص (262).

(2)

"الجامع لأحكام القرآن"(6/ 258 - 259).

ص: 14

وقال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} ، فهذا يرجع الى كمال المعرفة وثقة القلب، والوَجَل: الفزع من عذاب الله، فلا تناقض.

وقد جمع الله بين المعنيين في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله، وإن كانوا يخافون الله، فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؟ لا كما يفعله جهال العوامِّ، والمبتدِعَةُ الطَّغام (1) من الزَّعيق والزئير، ومن النُّهاق الذي يشبه نُهاق الحمير.

فيقال لمن تعاطى ذلك، وزعم أن ذلك وَجْدٌ وخشوع: لم تبلغ أن تساوي حالَ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله، والبكاء خوفًا من الله، ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره

(1) الطَّغام: أراذل الناس وأوغادهم.

ص: 15

وتلاوة كتابه، فقال:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم، ولا على طريقتهم؛ فمن كان مستنًّا فليستَنَّ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسِّهم حالًا، والجنون فنون.

روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْهُ (1) في المسألة، فخرج ذات يوم فصعِد المنبر، فقال:"سلوني، لا تسالوني عن شيء إلا بينتُه لكم ما دمت في مقامي هذا"، فلما سمع ذلك القومُ أرَمُّوا (2) ورهِبوا أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشِمالا، فإذا كل إنسان لاف رأسَه في ثوبه يبكي، وذكر الحديث.

وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية

(1) أي: أكثروا عليه، وأحفى في السؤال، وألحف بمعنى أَلَحَّ.

(2)

أَرَمَّ الرجلُ إرمامًا: إذا سكت، فهو مُرِمٌ "النهاية"(2/ 267).

ص: 16

قال: "وَعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذَرَفَتْ منها العيون، ووجِلَت منها القلوب" الحديث، ولم يقل: زعقنا، ولا رقصنا، ولا زَفَنَا (1) ولا قمنا" (2).

وعن جُنْدُبِ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سَمَّعَ؛ سَمَّع اللهُ به، ومن يرائي؛ يرائي الله به"(3).

وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسولَ الل صلى الله عليه وسلم يقول: "من سمَّع الناسَ بعمله؟ سمَّع الله مسامعَ خلقِه، وصغره، وحقره"(4).

(1) زَفَن (من باب ضرب): رقص، وأصله الدفع الشديد، والضرب بالأرجل، كما يفعل الراقص.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن"(7/ 365 - 366).

(3)

رواه البخاري (11/ 287)، ومسلم (2987)، وأبن ماجه (4207).

(4)

رواه الإمام أحمد (6509، 6986، 7085)، والطبراني في "الكبير"، وصححه المنذري ثم الألباني "في صحيح الترغيب"(1/ 117).

فائدة: (والفرق يين الرياء والسمعة أن الرياء: هو العمل لرؤية الناس، والسمعة: العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسة السمع.

فالتسميع على هذا لا يكون إلا في الأمور التي تُسمع كقراءة القرآن،=

ص: 17

وعن أبى هريرة: قال رسولُ الل صلى الله عليه وسلم "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر"(1).

قال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى-: "وقد لبَّس- يعني إبليس- على قوم من المتعبدين، وكانوا يبكون والناس حولهم، وهذا قد يقع عليه، فلا يمكن دفعه، فمن قدر على ستره، فأظهره فقد تعرَّض للرياء"(2).

وعن محمد بن زياد قال: رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد، وهو ساجد يبكى في سجوده، ويدعو ربه،

= وذكر الله تعالى، ونحو ذلك.

إلا أن العز بن عبد السلام يرى أن المراد بالتسميع هو أن يحدِّث المرء غيره بما يفعله من الطاعات التي لم يطلع عليها ذلك الغير، أما الرياء فهي الطاعة التي يُظهرها الفاعل كي يراها الناس) اهـ. من "مقاصد المكلفين" ص (437).

(1)

رواه الإمام أحمد (2/ 441)، وابن ماجه (صحيح ابن ماجه رقم 1371)، واللفظ له، والدارمي (2/ 301).

(2)

"تلبيس إبليس" ص (203).

ص: 18

فقال أبو أمامة: أنت أنت! لو كان هذا في بيتك؟! " وعن أبى حازم قال: "مَرَّ ابن عمر برجل ساقط من العراق، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: إذا قُرِئ عليه القرآن يصيبه هذا، قال: إنا لنخشى الله عز وجل، وما نسقط" (1).

عن عمران بن عبد العزيز، قال: سمعت محمد بن سيرين، وسئل عمن يستمع القرآن فيصعق، فقال:"ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط، فيُقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره، فإن سقطوا فهم كما يقولون"(2).

وعن الحسن أنه وعظ يومًا، فتنفس رجل في مجلسه، فقال الحسن:"إن كان لله تعالى فقد شهرت نفسك، وإن كان لغير الله فقد هلكت"(3).

ولأن الرياء كالزجاج يشف عما وراءه، فسرعان ما يُفتضَح المرائي، ويعامَل بنقيض قصده:

(1)"السابق" ص (359).

(2)

"السابق" ص (361 - 362).

(3)

"السابق" ص (362).

ص: 19

روي عن عمر أنه قال: "من تزين بما ليس فيه شانه الله"(1).

وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك! فقال: "وأنا مع ذلك صائم".

فقال أعرابي حاضر المجلس:

صلَّى فأعجبني، وصام فرابني

نَحَّ القُلُوصَ عن المصلي الصائمِ (2)

وقال ابن الجوزي أيضَا: "ومن أعجب ما رأيت فيهم أن رجلًا كان يصلي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة، ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين، ويدعو بدعاء الختمة ليعلم الناس أني قد ختمت الختمة، وما هذه طريقة السلف، فإن السلف كانوا يسترون عبادتهم، وكان عمل الربيع بن خثيم كله سِرَّا، فربما دخل عليه الداخل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه، وكان أحمد بن حنبل يقرأ القرآن

(1)"تلخيص الحبير"(2/ 196).

(2)

"أدب الدنيا والدين" ص (95).

ص: 20

كثيرًا، ولا يُدْرَى متى يختِم" (1).

تنبيه:

[البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه ليس هو مقصودًا لذاته، ولا هو المراد في الأصل، إنما المقصود حضور القلب وتدبره لما يتلو ويسمع، فيُحْدِث له ذلك إيمانًا ويقينًا، ورغبة ورهبة، ومحبة وشوقًا، توجب له هذه الأمور خضوعًا وخشوعًا، وذلًا وانكسارًا، يصاحب ذلك رقة وبكاء.

فهذا البكاء يُمْدَح ويُثْنى على صاحبه، لا البكاء المجرد عن السبب الذي ذكرتُ، العاري عن الخشوع الذي وصفتُ، ولا البكاء المتكلَّف أو الذي يُراد به وجه الخلق.

ولقد رأيت كثيرا من القراء خاصة من أئمة المساجد يتصنعون البكاء، ويتكلفونه إلى الغاية، فتجد الواحد منهم يستجلب البكاء ويستخرجه من رأسه قَسْرًا، ضد ما كان عليه السلف رحمهم الله: يكظمونه ويَرُدُّونه ما استطاعوا.

وينبغي للقارئ إذا كان مع الناس أن يُخفي بكاءه ما

(1)"تلبيس إبليس" ص (203).

ص: 21

استطاع، وإذا كان وحده فليبكِ ما شاء، لكن لا يُحَدِّث به بعد. ولقد رأيت من الأئمة من يتجهز للبكاء قبل الصلاة! ورأيت من يُقَدِّم الإمام إلى الصلاة، ويقول له: ابكِ يا شيخ!

ورأيت من يبكى أثناء الفاتحة في الركعة الأولى؟! بل إن بعضهم لتخرج منه تكبيرة الإحرام مخنوقة من البكاء!

ما هكذا كان السلف! كانوا يبكون في مواضع البكاء، ويبكون غلبة لا تصنعًا، ويبكون لِما تحدثه الآيات في قلوبهم من الخشوع والرقة، لا يبكون رياء وسمعة.

ولقد رأيت من لا تكاد تفهم قراءته لكثرة بكائه. والله لو كان هذا غلبة لعذرناه إذا أحسن قراءة الفاتحة، لكن هو التكلف!

إنه ليبكي إذا قرأ آياتِ الوعيد، ويبكي إذا قرأ آيات الرجاء، ويبكي إذا قرأ آياتِ الطلاق، ويبكي إذا قرأ آياتِ الميراث! (1).

(1) لا عجب في أن يبكي القارئ من كل آي القرآن الكريم خشوعا=

ص: 22

إن هذا يذكرني بحكاية هي كالطرفة، رأيتها في "أخبار الحمقى" لابن الجوزي، قال رحمه الله: عن أبي عثمان الجاحظ قال: أخبرني يحيى بن جعفر قال: كان لي جار من أهل فارس، وكان طَوَالَ الليل يبكي، فأنبهني ذات ليلة بكاؤه ونحيبه، وهو يشهق، ويضرب على رأسه وصدره، وُيردد آية من كتاب الله تعالى، فلما رأيت ما نزل به؛ قلت: لأسمعن هذه الآية التي قَتَلَتْ هذا، وأذهَبَتْ نومي، فتسمَّعْتُ عليه، فإذا الآية:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} اهـ.

وصليت مرة خلف بعضهم فناح طوال الصلاة، وبعض من خلفه يبكون، ويتكلمون بالدعاء والنياحة والتأوهات في الصلاة وأثناء القراءة!! ويخرجون المناديل من جيوبهم، ويمسحون وجوههم، ويتحركون هكذا وهكذا.] (1) اهـ.

= وتعظيمًا لأنه كلام الله تعالى، وإنما النكير على المرائي ببكائه أيًا كان موضوع الآيات الكريمة.

(1)

بتصرف من كتاب "دموع القراء" لمؤلفه محمد شومان الرملي ص (8 - 11)

ص: 23

قال ابن الجوزي: "إن أول الوَجْدِ انزعاج في الباطن، فإن كَفَّ الإنسانُ نفسَه كي لا يُطَّلَعَ على حاله يئس الشيطان منه، فبعد عنه، كما كان أيوب السختياني إذا تحدث فرقَّ قلبه مسح أنفه، وقال: "ما أشد الزكام! "، وإن أهمل الإنسان نفسه، ولم يبال بظهور وجده، أو أحب اطلاع الناس على نفسه نفخ فيه الشيطان، فانزعج على قدر نفخه"، ثم روى ابن الجوزي بسنده إلى ابن أخي زينب، عن امرأة عبد الله قالت: جاء عبد الله ذات يومٍ وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَةِ، فادخلتُها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيطًا، فقال:"ما هذا الخيط؟ " قلت: "خيط رُقي لي فيه رقية"، فأخذه، وقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن في الرقى والتمائم والتِّوَلَةِ (1) شِرْكًا"، قالت: فقلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، قال: إنما ذاك من عمل الشيطان، كان ينخسها

(1) التولة: ضرب من السحر، يحبب المرأة إلى زوجها.

ص: 24

بيده، فإذا رقيتِها كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الل صلى الله عليه وسلم:"أذهب الباس ربَّ الناس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما"(1) اهـ. (2)

كانت قلوب الصحابة أصفى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع:

عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قلت لأسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة القرآن؟ قالت: كانوا كما ذكرهم الله، أو كما وصفهم عز وجل: تدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم، فقلت لها: إن ههنا رجالًا إذا قرئ على أحدهم القرآن غشي عليه، فقالت:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"(3).

وعن أبي عيسى قال: ذهبت إلى عبد الله بن عمر، فقال

(1)"تلبيس إبليس" ص (363).

(2)

رواه الإمام أحمد (1/ 381)، وأبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، والحاكم (4/ 417 - 418)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (331).

(3)

"السابق" ص (359).

ص: 25

أبو السوار: يا أبا عبد الرحمن إن قومًا عندنا إذا قرئ عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية الله، قال: كذبت، قال: بلى وربِّ هذه البَنِيَّةِ (1)، قال:"ويحك إن كنت صادقًا، فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم، والله ما هكذا كان أصحاب محمد"(2).

وعن عبد الكريم بن. رشيد قال: كنت في حَلْقَةِ الحسن، فجعل رجل يبكي، وارتفع صوته، فقال الحسن:"إن الشيطان ليُبكي هذا الآن"(3).

فإن قال قائل: فنفرض أن الكلام فيمن اجتهد في دفع الوجد، فلم يقدر عليه، وغَلَبَه الأمر، فمِن أين يدخل الشيطان؟

فالجواب: أنا لا ننكر ضعف بعض الطباع عن الدفع، إلا أن علامة الصادق أنه لا يقدر على أن يدفع، ولا يدري ما

(1) أي الكعبة المشرفة، وكانت تُدعى بَنِيَّةَ إبراهيم عليه السلام، لأنه بناها، وقد كثر قَسَمُهم بربِّ هذه البنية.

(2)

"السابق" ص (364).

(3)

"السابق" ص (362).

ص: 26

يجري عليه، فهو من جنس قوله عز وجل:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].

فإن قيل: فهل في حق المخلص نقص بهذه الحالة الطارئة عليه؟

قيل: نعم، من وجهين:

أحدِهما: أنه لو قوي العلمُ أمسك.

والثاني: أنه قد خولف به طريق الصحابة والتابعين، ويكفي هذا نقصًا" (1).

(1)"السابق" ص (364 - 365).

ص: 27