المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم البكاء في الصلاة - عودوا الى خير الهدي

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌حكم البكاء في الصلاة

‌حكم البكاء في الصلاة

(1)

يرى الحنفية أن البكاء في الصلاة إن كان سببه ألمًا أو مصيبة فإِنه يُفسِد الصلاة، لأنه يعتبر من كلام الناس، وإن كان سببه ذكر الجنة أو النار فإِنه لا يفسدها، لأنه يدل على زيادة الخشوع، وهو المقصود في الصلاة، فكان في معنى التسبيح أو الدعاء. ويدل على هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "أنه كان يصلي بالليل، وله أزيز كازيز المرجل من البكاء"(2).

وعن أبي يوسف أن هذا التفصيل فيما إذا كان على أكثر من حرفين، أو على حرفين أصليين، أما إذا كان على حرفين من حروف الزيادة، أو أحدهما من حروف الزيادة والأخر أصلي؛ فلا تفسد في الوجهين معًا، وحروف الزيادة عشرة يجمعها قولك: أمان وتسهيل (3).

(1)"الموسوعة الفقهية"(8/ 170 - 171).

(2)

حديث: "كان يصلي بالليل وله أزيز

" أخرجه أبو داود (1/ 557 - ْط. عزت عبيد دعاس)، والنسائي (3/ 13 - ط. المكتبة التجارية)، وصححه الألباني.

(3)

"تبيين الحقائق"(1/ 155، 156) ط. دار المعرفة، و"فتح القدير"

(1/ 281، 282) - ط. دار صادر.

ص: 28

وحاصل مذهب المالكية في هذا: أن البكاء في الصلاة إما أن يكون بصوت، وإما أن يكون بلا صوت، فإِن كان البكاء بلا صوت؟ فإِنه لا يبطل الصلاة، سواء كان بغير اختيار، بأن غلبه البكاء تخشعًا أو لمصيبة، أم كان اختياريًّا ما لم يكثر ذلك في الاختياري.

وأما إذا كان البكاء بصوت، فإِن كان اختياريًّا فإِنه يبطل الصلاة، سواء كان لمصيبة أم لتخشع، وإن كان بغير اختياره، بأن غلبه البكاء تخشعًا لم يبطل؛ وإن كثر، وإن غلبه البكاء بغير تخشع أبطل (1).

هذا، وقد ذكر الدسوقي أن البكاء بصوت، إن كان لمصيبة أو لوجع من غير غلبة أو لخشوع فهو حينئذ كالكلام، يفرق بين عمده وسهوه، أي فالعمد مبطل مطلقًا، قل أو كثر، والسهو يبطل إن كان كثيرا، ويسجد له إن قل (2).

(1)"حاشية الشيخ علي العدوي على مختصر خليل"، وهي بهامش الخرشي (1/ 325)، ط. دار صادر، و"جواهر الإكليل"(1/ 63)، و"مواهب الجليل"(2/ 33).

(2)

"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 284) - ط. دار الفكر.

ص: 29

وأما عند الشافعية، فإِن البكاء في الصلاة على الوجه الأصح إن ظهر به حرفان فإِنه يبطل الصلاة، لوجود ما ينافيها، حتى وإن كان البكاء من خوف الآخرة. وعلى مقابل الأصح: لا يبطل لأنه لا يسمى كلامًا في اللغة، ولا يفهم منه شيء، فكان أشبه بالصوت المجرد (1).

وأما الحنابلة فإنهم يرون أنه إن بان حرفان من بكاءٍ، أو تأوه خشية، أو أنين في الصلاة لم تبطل، لأنه يجري مجرى الذكر، وقيل: إن غلبه وإلا بطلت، كما لو لم يكن خشية، لأنه يقع على الهجاء، ويدل بنفسه على المعنى كالكلام، قال أحمد في الأنين: إذا كان غالبًا أكرهه، أي من وجع، وإن استدعى البكاء فيها؛ كره كالضحك، وإلا فلا (2).

وقال شيخ الإسلام ما مختصره: "وما يحصل عند الذكر المشروع من البكاء، ووجل القلب، وأقشعرار الجسوم؛ فمن

(1)"نهاية المحتاج"(2/ 34)، و"حاشية قليوبي وعميرة"(1/ 187)، و"مغني المحتاج"(1/ 195).

(2)

"الفروع"(1/ 370، 371).

ص: 30

أفضل الأحوال التي جاء بها الكتاب، أما الاضطراب الشديد والغَشْيُ والصَّيَحان (1)؛ فإن كان صاحبه لم يعلم ما هو عليه لم يُلَمْ، وسببه قوة الوارد مع ضعف القلب، والقوة والتمكن أفضل، كما هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما السكون قسوةً وجفاء؛ فهذا مذموم" (2) اهـ.

وقد سئل الإمام المجدد عبد العزيز بن باز- قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه- عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء.

فأجاب رحمه الله تعالى:

"لقد نصحت كثيرا من اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي، لأن هذا يؤذي الناس، ويشق عليهم، ويشوش على المصلين وعلى القارئ، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن لا يُسمع صوتُه بالبكاء، وليحذر، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له أن لا يؤذي أحدًا بصوته، ولا يشوش عليهم، ومعلوم أن بعض الناس ليس ذلك باختياره، بل

(1) الصَّيَحان، محركةً: الصوت بأقصى الطاقة.

(2)

"مختصر الفتاوى المصرية" ص (100).

ص: 31

يغلب عليه من غير قصد، وهذا معفو عنه إذا كان بغير اختياره، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ، يكون لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه كان إذا قرأ لا يُسمِعُ الناسَ من البكاء، وجاء عن عمر أنه يُسْمَع نَشيجُه من وراء الصفوف، ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عز وجل، فإذا غلبه البكاء من غير قصد؛ فلا حرج" اهـ.

وسئل -رحمه الله تعالى- عن حكم ترديد الإمام لبعض آيات الرحمة أو العذاب؟

فأجاب:

"لا أعلم في هذا بأسًا لقصد حث الناس على التدبر والخشوع والاستفادة، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه ردد قوله تعالى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] رددها كثيرا عليه الصلاة والسلام.

فالحاصل أنه إذا كان لقصدٍ صالح، لا لقصد الرياء؛ فلا مانع من ذلك، لكن إذا كان يرى أن ترديده لذلك قد

ص: 32

يزعجهم، ويحصل به أصوات مزعجة من البكاء، فترك ذلك أوْلى حتى لا يحصل تشويش (1)، أما إذا كان ترديد ذلك لا يترتب عليه إلا خشوع وتدبر وإقبال على الصلاة، فهذا كله خير" (2) اهـ.

(1) وقد قال صلى الله عليه وسلم "ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة" أو قال: في الصلاة، رواه أبو داود رقم (1332)، ففيه نهي المصلي عن أذية إخوانه بكل ما يشوش عليهم في الصلاة.

(2)

نقله عن سماحته الشيخ عبد الله اللحيدان قي رسالته "البكاء عند قراءة القرآن"(39 - 40).

ص: 33