المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة الأحزاب (هي ثلاث وسبعون آية) قال ابن عباس: - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١١

[صديق حسن خان]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌سورة الأحزاب (هي ثلاث وسبعون آية) قال ابن عباس:

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة الأحزاب

(هي ثلاث وسبعون آية)

قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله وعن زر قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قلت: ثلاثاً وسبعين آية فقال: قط؟ لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة: أو أكثر من سورة البقرة: ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. فرفع فيما رفع. قال ابن كثير: وإسناده حسن.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد يا أيها الناس: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ". وقد روي عنه نحو هذا من طرق.

ص: 39

وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.

قال النسفي: وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.

ص: 40

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

ص: 41

(يا أيها النبي) أي: يا أيها المخبر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلغ خطابنا، وإنما لم يقل: يا محمد كما قال: يا آدم، يا موسى، تشريفاً له، وتنويهاً بفضله، وتصريحه باسمه في قوله: محمد رسول الله ونحوه، لتعليم الناس بأنه رسول الله ليلقبوه بذلك، ويدعوه به.

(اتق الله) أي: دم على ذلك وازدد منه، فهو باب واسع، وعرض عريض، لا يدرك مداه، ولا ينال منتهاه.

(ولا تطع الكافرين) من أهل مكة، ومن هو على مثل كفرهم (والمنافقين) الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكافرين: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أرفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها، قال: والمنافقين عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.

(إن الله كان عليماً حكيماً) في أي: كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: " ودل بقوله هذا على أنه كان يميل إليهم يعني النبي صلى الله عليه وسلم استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى أن الله عز وجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما

ص: 41

نهاك عنهم، لأنه حكيم " ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، والمعنى: أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحاً أو فساداً لكثرة علمه، وسعة حكمته.

ص: 42

(واتبع) في جميع أمورك (ما يوحى إليك من ربك) من القرآن ولا تتبع شيئاًً مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحت، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك.

(إن الله كان بما تعلمون خبيراً) تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليه، وتأكيد لموجبه، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: بما تعلمون على قراءة الجمهور بالفوقية على الخطاب، وقرىء بالتحتية، والواو ضمير الكفرة والمنافقين، أي: إنه خبير بمكايدهم؛ فيدفعها عنك.

ص: 42

(وتوكل على الله) أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه (وكفى بالله وكيلاً أي حافظاً يحفظ من توكل عليه، وقيل: كفيلاً برزقك، وقال الزجاج: لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً، ثم ذكر سبحانه مثلاً توطئة وتمهيداً لما يتعقبه من الأحكام القرآنية التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال:

ص: 42

(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وقيل: هي مثل ضربه الله للمظاهر، أي: كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان وكذلك لا يكون الدعي ابن الرجل، وقيل كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب بكذا فنزلت الآية برد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام؛ كما لا يجتمع قلبان، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلاً للعلم و (من) زائدة وقال: في جوفه لأنه معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني ومنبع القوى بأسرها؛ فيمتنع

ص: 42

تعدده لأنه يؤدي إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل القوى وغير أصل لها.

عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه: إلا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم، فنزل (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

وعنه بلفظ: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة، فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وعنه أيضاًً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه: ذا القلبين فأنزل الله هذا في شأنه.

(وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) قرىء اللائي بياء ساكنة بعد همزة وبياء ساكنة بعد ألف محضة قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها وتظاهرون مضارع ظاهر، وقرىء مضارع تظاهر والأصل تتظاهرون وقرىء تظهرون والأصل تنظهرون، وأخذ ذلك من لفظ الظهر كأخذ لبى من التلبية، وإنما عُدّي بمن لأنه ضُمّن معنى التباعد، كأنه قيل: متباعدين من نسائكم بسبب الظهار، كما تقدم في تعدية الإيلاء بمن في البقرة.

والظهار أصله أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، والمعنى ما جعل الله نساءكم اللاتي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور، وإنما تجب به الكفارة بشرطه، وهو العود كما ذكر في سورة المجادلة بقوله: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي نفسه بأن يخالفوه بإمساك المظاهر منها زمناً يمكنه أن يفارقها فيه أو لا يفارقها، لأنه مقصود المظاهر وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه قاله الكرخي.

(وما جعل أدعياءكم) أي: وكذلك ما جعل الأدعياء الذين تدعون أنهم أبناؤكم (أبناءكم) والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابناً لغير أبيه

ص: 43

فهو فعيل بمعنى مفعول ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعاً لفعيل، المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل؛ نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام لأن أصله دعيو فأدغم إلا أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فَعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى، ومريض ومرضى، ونظير هذا في الشذوذ قولهم: أسير وأسارى، والقياس أسرى، وقد سمع فيه الأصل قاله السمين.

(ذلكم) أي ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء (قولكم بأفواهكم) أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه، ولا تأثير له في الخارج، فلا تصير المرأة به أمه، ولا ابن الغير به إبناً، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة.

وقيل: الإشارة راجعة إلى الادعاء أي: ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له بل هو مجرد قول بالفم؛ إذ الابن لا يكون إلا بالولادة وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل، فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس، ويرث ميراثه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة، فلما تزوج زينب -وكانت تحت زيد- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، ونسخ بها التبني.

قال النحاس: وهذا من نسخ السنة بالقرآن. قال القرطبي: أجمع أهل التفسير على أن هذا القول أنزل في زيد بن حارثة.

(والله يقول الحق) الذي يحق اتباعه لكونه حقاً في نفسه، لا باطلاً، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم (وهو يهدي السبيل) أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق، وتراث قول الباطل والزور، ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال:

ص: 44

(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6))

ص: 45

(ادعوهم لآبائهم) للصلب وانسبوهم إليهم، ولا تدعوهم إلى غيرهم؛ أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: أدعوهم لآبائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.

(هو أقسط عند الله) تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير راجع إلى مصدر: ادعوهم ومعنى أقسط: أعدل، أي أعدل من كل كلام يتعلق بذلك فترك الإضافة للعموم، كقوله: (الله أكبر، أو أعدل من قولكم: هو ابن فلان، ولم يكن ابنه لصلبه، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقاً، من القسط بمعنى العدل، وانظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث وصل الجمل الطلبية. ثم فصل الخبرية عنها، ووصل بينها؛ ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها، ثم فصل بالطلبية ثم تمم الإرشاد للعباد فقال:

(فإن لم تعلموا آباءهم) تنسبونهم إليهم (فإخوانكم) أي فهم إخوانكم (في الدين ومواليكم) فقولوا: أخي ومولاي، ولا تقولوا: ابن فلان حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة، قال الزجاج: مواليكم، أي أولياؤكم في الدين.

وقيل المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً فقولوا: موالي فلان

ص: 45

(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) أي إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه (ولكن) الإثم.

(ما تعمدت قلوبكم) وهو ما قلتموه على طريقة العمد، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك، قال قتادة: لو دعوت رجلاً بغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس بخلاف الحال في زيد فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمداً عصى بقوله هذا، عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " أخرجه البخاري ومسلم.

(وكان الله غفوراً رحيماً) يغفر للمخطىء ويرحمه، ويتجاوز عنه. أو غفور للذنوب، رحيماً بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلاً لغير أبيه خطأً، أو قبل النهي عن ذلك، أو على سبق اللسان؛ ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة، وخصوصية جليلة؛ لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال:

ص: 46

(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي هو أحق بهم، وأرأف، وأشفق في كل ما دعاهم إليه من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم.

وقيل: المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل هي خاصة بالقضاء أي هو أولى بهم من

ص: 46

أنفسهم فيما قضى بينهم، وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه. وقيل: أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله بالمؤمنين رؤوف رحيم.

وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين، والأول أولى.

وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ".

وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ".

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت علياً فنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وقال، يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من كنت مولاه فعليّ مولاه. "

(وأزواجه) صلى الله عليه وسلم سواء دخل بهن أو لا وسواء مات عنهن أو طلقهن (أمهاتهم) أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزَّلات منزلتهن في استحقاق التعظيم، فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن تحريماً مؤبداً، وبالتعظيم لجنابهن لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن، كما في حق سائر الأجانب، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء (1) المؤمنين،

(1) إن أبسط مبادىء اللغة تقتضي شمول الذكران والإناث للتغليب، وهي قضية من البداهة حيث

⦗ص: 48⦘

لا تحتاج إلى هذه الفنقيلات اللجوج فإذا قال الله " يا أيها الذين آمنوا " تناول نداؤه اللائي آمن، وإذا قال:" إنما المؤمنون إخوة " دل على إخوة المؤمنات فأزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنات كما هن أمهات ذكران المؤمنين. المطيعي.

ص: 47

ولا بناتهن أخوات المؤمنين ولا إخوتهن أخوال المؤمنين.

وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، قال: ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم، وقرأ ابن عباس بعد لفظ أنفسهم، وهو أب وأزواجه أمهاتهم.

عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أمه، فقالت:" أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ". وعن أم سلمة قالت أنا: " أم الرجال منكم والنساء ".

وعن بجالة قال: مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حكّها، فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال:

(وأولو الأرحام) جمع رحم وهو القرابة (بعضهم أولى) أي أحق (ببعض) في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره.

ويحتمل أن يكون النسخ بآية الأنفال وهو قوله: (وأولو لأرحام بعضهم

ص: 48

أولى ببعض في كتاب الله) قال الشهاب: وهذا الاحتمال أولى، لأن سورة الأنفال متقدمة نزولاً على هذه السورة فنسبة النسخ إليها أولى، وتكون هذه الآية مؤكدة لتلك، وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين؛ وقيل معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر.

(في كتاب الله) أي هذه الأولوية وهذا الاستحقاق كائن وثابت فيه والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن، أو آية المواريث (من المؤمنين والمهاجرين) المعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أو أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب.

وقيل إن معنى الآية: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من كونهن كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى (إلا) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا.

(أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز، قاله قتادة، والحسن، وعطاء، ومحمد بن الحنفية قال ابن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني، فالكافر وليّ في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له، قال في الخازن: إن الله لما نسخ التوارث بالحلف، والإخاء، والهجرة، أباح أن يوصي الرجل لمن تولاه بما أحب من ثلث ماله، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به وضمن (تفعلوا) معنى توصلوا أو تسدوا، فعُدّي بإلى. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة (كان ذلك) أي نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات (في الكتاب) أي في اللوح المحفوظ، أو في التوراة أو في القرآن (مسطوراً) مكتوباً.

ص: 49

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9))

ص: 50

(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق الأنبياء أو التقدير كان هذا الحكم مكتوباً في الكتاب ووقت أخذنا، قاله السمين، قال قتادة أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً على أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم وأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته، وإلى الدين القيم، وأن يبلغوا رسالات ربهم، وذلك حين أخرجوا من صلب آدم كالذر -وهو جمع ذرة- وهي أصغر النمل وهي صغيرة جداً، بحيث إن نحو الأربعين منها أصغر من جناح بعوضة- والميثاق هو اليمين، وقيل هو الإقرار بالله والوصية والأمر، والأول أولى، وقد سبق تحقيقه، ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال:

(ومنك) خصوصاً (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم أصحاب الشرائع المشهورة، والكتب المذكورة، ومن أولي العزم من الرسل وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى، وتقديم نوح في آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، لأنها سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا صلى الله عليه وسلم من العهد الحديث وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبة للمقصود

ص: 50

من بيان أصالة الدين وقدمه، قاله الكرخي. ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال:

(وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا أو ما أخذه الله عليهم من عبادته والدعاء إليها، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين: فأخذه عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانية مغلظاً شديداً، ومثل هذه الآية قوله:(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).

أخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: (ميثاقاً غليظاً، ودعوة إبراهيم قال: وابعث فيهم رسولاً منهم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام.

وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال وآدم بين الروح والجسد، وعنه قال: قيل يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، أخرجه البزار والطبراني، وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الآية: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم. أخرجه ابن عساكر، وابن مردويه، وأبو نعيم.

وعن ابن عباس قال ميثاقهم عهدهم، وعنه قال إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.

ص: 51

(ليسأل) أي لكي يسأل (الصادقين عن صدقهم) في تبليغ الرسالة إلى قومهم تبكيتاً للكافرين بهم، وفي هذا وعيد لغيرهم لأنهم إذا كانوا يسألون

ص: 51

عن ذلك فكيف غيرهم؟ وقيل ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين). وقوله (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم). وقيل فعل ذلك ليسأل. وقيل: عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل. وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثاني بذكر مسببه وهو قوله:

(وأعد للكافرين) وقيل التقدير أثاب الصادقين، وأعد للكافرين وقيل: المعنى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين، وأعد للكافرين (عذاباً أليماً) قاله السمين، وقيل: الكلام قد تم عند قوله عن صدقهم وجملة (وأعد) مستأنفة لبيان ما أعده للكفار.

ص: 52

(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله) الكائنة (عليكم) هذا تحقيق لما سبق من الأمر بالتقوى بحيث لا يبقى معه خوف من أحد (إذ) أي حين.

(جاءتكم جنود) والمراد بها جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوه إلى المدينة وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وكانت بعد حرب أحد بسنة (1) وهم أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة ابن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة قاله ابن اسحق. وقال ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك كانت في سنة أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها.

(1) الصحيح أنها وقعت بعد أحد بسنتين أي في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال على التحديد أما غزوة أحد فكانت في السنة الثالثة من الهجرة وبين الغزوتين حدثت أحداث تتخم هذين العامين كيوم الرجيع ورهط عضل والقارة واستشهاد زيد بن الدثنة وخبيب وأصحابهما بماء هذيل ثم بئر معونة ثم إجلاء بني النضير في السنة الرابعة وغزوة ذات الرقاع وغزوة بدر الآخرة ثم غزوة دومة الجندل ثم الخندق. المطيعي.

ص: 52

أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا. وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه.

فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله ويقولون: إن بيوتنا عورة. وما هي بعورة فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون. ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى مر عليّ وما عليّ جنة من العدو، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال: حذيفة؟ فتقاصرت إلى الأرض فقلت: بلى يا رسول الله -كراهية أن أقوم- قال قم، فقال: إنه كان في القوم خبر فأتني بخبر القوم؟ قال: وأنا من أشد القوم فزعاً وأشدهم قراً فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه. ومن خلفه، وعن يمينه. وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته. قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي فما أجد منه شيئاًً، فلما وليت قال يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئاًً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل، الرحيل، ثم دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل، الرحيل، لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم

ص: 53

جنود الآية).

وعن ابن عباس في قوله: إذ جاءتكم جنود، قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب (فأرسلنا عليهم ريحاً) قال مجاهد هي ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، وهي ريح تهب من الشرق، وكانت باردة شديدة جداً، ومع هذا لم تتجاوزهم. ويدل على هذا ما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله:" نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس.

وعنه قال لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب فقالت انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل الله عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور، فذلك قوله فأرسلنا عليهم ريحاً الآية، وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه، وللشعراء تفنن بها كثير يعرفه كل من له إلمام بدواوينهم.

(وجنوداً لم تروها) وهي الملائكة، وكانوا ألفاً، ولم يقاتلوا، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب. قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبيرهم في جوانب العسكر، حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه يا بني فلان هلم إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم النجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال (وكان الله بما تعملون) أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه (بصيراً) وقرىء يعملون بالتحتية أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.

ص: 54

(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12))

ص: 55

(إذ جاءوكم من فوقكم) أي اذكر إذ جاءوكم من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف ابن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك، وبنو النضير. وعن عائشة في الآية قالت كان ذلك يوم الخندق (ومن أسفل منكم) أي من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وسيدهم أبو سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل.

(وإذ) معطوف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير (زاغت الأبصار) أي مالت وعدلت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب، وقيل شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة (وبلغت القلوب الحناجر) جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، وقيل رأس الغلصمة، والغلصمة رأس الحلقوم، وقيل هي منتهى الحلقوم، والحلقوم مجرى الطعام والشراب وقيل مجرى النفس؛ والمريء مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم وقال الراغب رأس الغلصمة من خارج، والمعنى ارتفعت القلوب عن مكانها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت، كذا قال قتادة، وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها، قال الفراء والمعنى

ص: 55

أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد الخوف أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره.

(وتظنون بالله الظنونا) المختلفة، فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف ذلك. وقال الحسن ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن، فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الاطلاق، أعم من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً.

واختلف القراء في الألف في الظنونا، فأثبتها وصلاً ووقفاً جماعة وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وجميع المصاحف في البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتٌ وتمسكوا أيضاًً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وأيضاًً أن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وقفاً، للحاجة إليها، وقد تثبت وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرىء بحذفها في الوصل والوقف معاً لأنها لا أصل لها، وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها، وأما الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقولهم: أجريت الفواصل مجرى القوافي غير معتد به، لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تشبه بها، وقرىء بإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مجرى القوافي في ثبوت ألف الإِطلاق ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قاله السمين وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: الرسولا والسبيلا، كما يأتي في آخر هذه السورة.

ص: 56

(هنالك ابتلي المؤمنون) ظرف مكان يقال للمكان البعيد: هنالك كما يقال للقريب هنا، وللمتوسط: هناك. أي في ذلك المكان الدحض وهو

ص: 56

الخندق، وقد يكون ظرف زمان، أي عند ذلك الوقت ابتلوا وهو منصوب بابتلى، وقيل: بتظنون، واستضعفه ابن عطية، والمعنى: إن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر وغيرها ليتبين المؤمن من المنافق وامتحنوا بالصبر على الإِيمان.

(وزلزلوا زلزالاً شديداً) قرأ الجمهور زلزلوا بضم الزاى الأولى؛ وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور زلزالاً بكسر الزاي الأولى وقرأ عاصم، والجحدري، وعيسى بن عمر بفتحها، وهما لغتان.

قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح نحو قلقلته قلقالاً وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال، بمعنى مصلصل، وزلزال بمعنى مزلزل قال ابن سلام معنى زلزلوا حركوا بالخوف تحريكاً شديداً بليغاً.

وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: المعنى أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.

ص: 57

(وإذ يقول المنافقون) يعني: معتب بن قشير، وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه (والذين في قلوبهم مرض) هو الشك والريبة أي أهل الشك والاضطراب، قيل هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم:(ما وعدنا الله ورسوله) من النصر والظفر أو فتح فارس والروم (إلا غروراً) أي: باطلاً من القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلاً من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكي عن هؤلاء كالتفسير للظنون المذكورة، أي كان ظن هؤلاء هذا الظن كما كان ظن المؤمنين النصر، وإعلاء كلمة الله.

ص: 57

(وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14))

ص: 58

(وإذا قالت طائفة منهم) قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين وقال السدي هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقيل هم أوس بن قيظي وأصحابه.

والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله:

(يا أهل يثرب لا مقام لكم) أي لا موضع، ولا مكانة إقامة لكم؛ أو لا إقامة لكم ههنا في العسكر. قرىء (مقام) بفتح الميم وبضمها على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى الأولى هو اسم مكان، وهما سبعيتان.

قال أبو عبيدة يثرب اسم الأرض ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها، قال السهيلي وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل.

وقيل يثرب اسم لنفس المدينة، ولم تصرف للعلمية ووزن الفعل فإنها على وزن يضرب.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد.

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هى طابة، هى طابة، هي طابة ". ولفظ أحمد: إنما هي طابة وإسناده ضعيف. وكأنه صلى الله عليه وسلم كره هذه اللفظة لما فيها من التثريب وهو التقريع، والتوبيخ.

(فارجعوا) أمروهم بالهرب من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول

ص: 58

الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع (1) والخندق بينهم وبين القوم فقال هؤلاء المنافقون ليس ههنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وسلع جبل خارج المدينة قريب منها بينها وبين الخندق، وقيل: المعنى ارجعوا عن الإيمان إلى الكفر، وقيل عن القتال، والأول أولى (ويستأذن فريق منهم النبي) في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة، وبنو سلمة.

(يقولون إن بيوتنا عورة) أي ضائعة سائبة، ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو، وقال ابن عباس نحلية نخشى عليها السرق. وعن جابر نحوه.

قال الزجاج يقال: عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عورة وعورة وهي مصدر. قال مجاهد، ومقاتل، والحسن قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، فأطلقت على المختل، والمراد ذوات عورة وقرىء عورة بكسر الواو أي قصيرة الجدران.

قال الجوهري: العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب، قال النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين منه موضع الخلل، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:

(وما هي بعورة) فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به فقال:

(إن يريدون إلا فراراً) أي ما يريدون إلا الهروب من القتال، وقيل المراد ما يريدون إلا الفرار من الدين.

(1) جبل حول المدينة يلي هضبة بني حرام، وهضبة بني النجار وفيها منزل حسان بن ثابت الذي لجأ إليه النساء والأطفال من آل البيت وكانوا يشرفون من هذا البيت على منازل بني قريظة.

المطيعي.

ص: 59

(ولو دخلت عليهم من أقطارها) يعني بيوتهم، أو المدينة. والأقطار النواحي، جمع قطر وهو الجانب والناحية، والمعنى لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعاً لا من بعضها هذه العساكر المتحزبة، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم. وهتكت حرمهم ومنازلهم.

(ثم سئلوا الفتنة) من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم (لآتوها) أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة، يعنى إدخال بني حارثة أهل الشام (1) على المدينة، ومعنى الفتنة هنا إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله، أو الرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن قرىء لآتوها بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، وبالقصر أي لجاؤوها وفعلوها، وهما سبعيتان.

(وما تلبثوا بها) أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة (إلا) تلبثاً (يسيراً) حتى يهلكوا كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة، ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب، وعدم الفرار عنه فقال:

(1) عندما دخلت جيوش بني أمية الحجاز ودحرت جيوش عبد الله بن الزبير وقتلته في الكعبة صلبته وحرقته ومثلت به، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لسبع خلت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين.

المطيعي.

ص: 60

(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19))

ص: 61

(ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) أي حلفوا من قبل غزوة الخندق، ومن بعد بدر أن لا يولوا ظهورهم فراراً من العدو، بل يثبتوا على القتال حتى يموتوا شهداء، وهم قوم لم يحضروا وقعة بدر. قال قتادة وذلك أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن.

(لا يولون الأدبار) أي لا ينهزمون وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا نولي (وكان عهد الله مسؤولاً) عنه ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازي على ترك الوفاء به.

ص: 61

(قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) لأنه لا بد لكل إنسان من الموت إما حتف نفسه أو بقتل بالسيف في وقت معين، سبق به القضاء وجرى به القلم، فمن حضر أجله مات أو قتل، فرّ أو لم يفر.

(وإذاً لا تمتعون). أي: وإن نفعكم الفرار مثلاً فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع (إلا) تمتعاً أو زماناً (قليلاً) بعد فراركم إلى أن تنقضي

ص: 61

آجالكم، وكل آت قريب، قرىء: تمتعون بالفوقية والتحتية وبحذف النون.

ص: 62

(قل من ذا الذي يعصمكم) أي يجيركم (من الله إن أراد بكم سوءاً؟) أي هلاكاً أو هزيمة أو نقصاً في الأموال وجدباً ومرضاً (أو) يصيبكم بسوء إن (أراد) الله (بكم رحمة)؟ يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية وإطالة عمر، وهذا على حد قوله: (علفتها تبناً وماء بارداً، وليس معمولاً للسابق، وهو: يعصمكم، لعدم صحة المعنى عليه.

وفي السمين قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من الشر؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام، وأجرى مجرى قوله: (متقلداً سيفاً ورمحاً، وحمل الثاني على الأول لما في العصمة من منع المنع. قال الشيخ: أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف، أي يمنعكم من مراد الله، قلت: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جمل؟ انتهى.

(ولا يجدون لهم من دون الله) أي غيره (ولياً) يواليهم وينفعهم ويدفع الضرر عنهم (ولا نصيراً) ينصرهم من عذاب الله

ص: 62

(قد يعلم الله المعوقين منكم) يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.

(والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) قال الواحدي: قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا لهم: ْما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل: إن القائل لهذه المقالة اليهود، ومعنى هلم: أقبل وأحضر، اسم فعل أمر: وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث وعند غيرهم من العرب كبني تميم فعل أمر، يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام، والمعنى: ارجعوا إلينا واتركوا محمداً فلا تشهدوا

ص: 62

معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، وقيل: تعالوا إلينا لتستريحوا يعني أن يهود المدينة طلبوا المنافقين ليستريحوا، وخوفوا المؤمنين ليرجعوا، وهلم هنا لازم، وفي الأنعام متعد لنصبه مفعوله، وهو شهداءكم، بمعنى أحضروهم، وههنا بمعنى احضروا وتعالوا، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاًً، وحذف مفعوله فإنه قال: هلموا إلينا أي قربوا أنفسكم إلينا.

(ولا يأتون البأس) أي الحرب والقتال (إلا) إتياناً (قليلاً) خوفاً من الموت ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون، وقيل: المعنى لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير اكتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً.

ص: 63

(أشحة) أي بخلاء (عليكم) لا يعاونونكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله قاله مجاهد وقتادة، وقيل: أشحة بالقتال معكم، وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي. العامة على نصب: أشحة، وفيه وجهان.

أحدهما: أنه منصوب على الذم.

والثاني: على الحال من ضمير: يأتون قاله الزجاج أو هلم إلينا قاله الطبري، وقرىء بالرفع أي هم أشحة وهو جمع شحيح، وهو جمع لا يقاس عليه، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء، وظنين، وأظناء، وضنين، وأضناء، وقد سمع أشحاء وهو القياس، والشح، البخل وتقدم في آل عمران قاله السمين.

(فإذا جاء الخوف) من قبل العدو قاله السدي أو منه صلى الله عليه وسلم قاله ابن شجرة (رأيتهم) أي أبصرتهم (ينظرون إليك) في تلك الحالة خوفاً من القتال على القول الأول، ومن النبي صلى الله عليه وسلم على الثاني (تدور أعينهم) يميناً

ص: 63

وشمالاً لذهول عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة، وقيل لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة، وذلك سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه.

(كالذي يغشى عليه من الموت) أي كدوران عين الذي قرب من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل إليه، ويذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره دارت عيناه ودارت حماليق عينيه.

(فإذا ذهب الخوف سلقوكم) أي استقبلوكم (بألسنة حداد) أي ذربة تفعل كفعل الحديد يقال: سلق فلان فلاناً بلسانه إذا أغلظ له في القول مجاهراً، قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغاً، قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق: الأذى قال ابن عباس: معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، قال قتادة: المعنى بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون. أعطونا فإنا قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لساناً، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم، قال النحاس وهذا قول حسن.

(أشحة على الخير) أي على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام، وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله قاله السدي، ويمكن أن يقال معناه إنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات.

(لم يؤمنوا) إيماناً خالصاً بل هم المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (فأحبط الله أعمالهم) أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها لأنها لم تكن أعمالاً صحيحة تقتضي الثواب حتى يبطلها الله وتحبط، قال مقاتل أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان، أو المراد أبطل تصنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعاً لمنفعة دنيوية أصلاً (وكان ذلك) الإحباط لأعمالهم أو كان نفاقهم (على الله يسيراً) هيناً بإرادته.

ص: 64

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22))

ْ

ص: 65

(يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب أي قريشاً وغطفان واليهود باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، ولم ينهزموا ففروا إلى داخل المدينة، وذلك لما نزل بهم من الفشل والروع والفرق والجبن.

(وإن يأت الأحزاب) مرة أخرى بعد هذه المرة، والذهاب (يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية لما حل بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية وسكنها.

(يسألون عن أنبائكم) وأخباركم وما آل إليه أمركم، وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال، لفرط جبنهم وضعف نياتهم (ولو كانوا فيكم) أي معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال (ما قاتلوا) معكم (إلا) قتالاً (قليلاً) خوفاً من العار وحمية على الديار، أو رياء من غير احتساب.

ص: 65

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي قدوة صالحة، يقال: لي في فلان أسوة أي لي به اقتداء، والأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء اسم يوضع موضع المصدر يقال: ائتسى فلان بفلان أي اقتدى به، قال الجوهري: الأسوة والإِسوة بالضم والكسر والجمع أسى وإسى، وقد قرىء بهما وهما سبعيتان وهما أيضاًً لغتان كما قال الفراء وغيره.

وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، والمعنى اقتدوا به اقتداء حسناً، وهو أن تنصروا دين الله وتوازروا رسوله، ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح وشج وجهه، وجاع بطنه، وقتل عمه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فصبر، وواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضاًً، واستنوا بسنته، وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً فهي عامة في كل شيء؛ ومثلها:(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله: (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).

عن ابن عمر قال في الآية: هذا في جوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استدل بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده، نعم فيه دلالة على لزوم الاتباع، وترك التقليد الحادث الذي أصيب به الإسلام، أي مصيبة وهل هذه الأسوة على الإيجاب أو على الاستحباب، فيه قولان، قال القرطبي يحتمل أن تحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.

(لمن كان يرجو الله) أي حسنة كائنة لمن يرجو الله والمراد أنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، يعني يرجون ثوابه ولقاءه (واليوم الآخر) أي أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى.

ص: 66

(وذكر الله) أي ولمن ذكر الله في جميع أحواله ذكراً (كثيراً) وجمع بين الرجاء لله والذكر له فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال:

ص: 67

(ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الإشارة بهذا إلى ما رأوه من الجيوش أو إلى الخطب الذي نزل، والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشاراً بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود وأن يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و (ما) في (ما وعدنا) هي الموصولة أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم:

(وصدق الله ورسوله) أي ظهر صدق خبرهما ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول بعد قوله (ما وعدنا الله ورسوله)، هو قصد التعظيم، وأيضاًً لو أضمرهما لجمع بين ضميري الله ورسوله في لفظ واحد وقال صدقاً، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث [بئس خطيب القوم أنت]، لمن قال ومن يعصهما فقد غوى، وأما قوله صلى الله عليه وسلم [من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما]، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقول، قاله السمين.

(وما زادهم) ما رأوه من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم (إلا إيماناً) بالله (وتسليماً) لأمره، قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا ذلك قال علي بن سليمان رأي يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي؛ والمعنى ما زادهم الرؤية إلا إيماناً بالرب؛ وتسليماً للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز، وعن ابن عباس قال: في الآية أن الله قال لهم في سورة البقرة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء)، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله فتأول المؤمنون ذلك فلم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً.

ص: 67

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)

ص: 68

(من المؤمنين) المخلصين (رجال صدقوا) أي أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق (ما عاهدوا الله عليه) أي وفِّوا بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله، وهم المنافقون، وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا.

أخرج البخاري وغيره عن أنس قال: [نرى هذه الآية نزلت في أنس ابن النضر]، وأخرج ابن سعد، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: " غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه؟ لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ قال يا أبا عمرو أين؟ قال واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين طعنة وضربة ورمية، ونزلت هذه الآية، وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه. وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه، والنسائي وغيرهما.

ص: 68

وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثم قال: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه، وقد تعقب الحاكم، في تصحيحه الذهبي، كما ذكر ذلك السيوطي.

ولكنه قد أخرج الحاكم حديثاً آخر وصححه، وأخرجه أيضاًً البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولاً على طريقه، فقرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة، ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله، وقسمهم إلى قسمين فقال:

(فمنهم من قضى نحبه) أي فرغ من نذره، ووفّى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد، وقال ابن عمر: أي مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان. والنحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به وأوجبه على نفسه، والقتل، والموت. قال ابن قتيبة قضى نحبه أي: قتل. وأصل النحب: النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي قتل. والنحب أيضاًً الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب العهد، ومعنى الآية أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفّوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر.

أخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي،

ص: 69

فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي أنا قال: هذا ممن قضى نحبه.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه.

وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه ".

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ". أخرجه سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن المنذر وغيرهم.

وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله، وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه.

وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن عليّ إن هذه الآية نزلت في طلحة.

وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا.

(ومنهم من ينتظر) قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وأمثالهم فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة.

(وما بدلوا تبديلاً) أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا.

ص: 70

(ليجزي الله) اللام يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم أو بما بدلوا أو بمحذوف كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله (الصادقين بصدقهم) بوفائهم بالعهد.

(ويعذب المنافقين إن شاء) إذا لم يتوبوا (أو يتوب عليهم) بما صدر عنهم من التغيير والتبديل إن تابوا، جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها، ومفعول إن شاء وجوابها محذوفان أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ولم يتوبوا عنه.

(إن الله كان غفوراً) لمن تاب منهم بقبول التوبة (رحيما) بمن أقلع عما كان عليه من النفاق بعفو الحوبه ثم رجع سبحانه، إلى حكاية بقية القصة وما امتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال:

ص: 71

(وردَّ الله الذين كفروا) وهم الأحزاب كأنه قيل؛ وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا (بغيظهم) الباء للسببية (لم ينالوا خيراً) المعنى أن الله ردهم بغيظهم لم يشف صدورهم، ولا نالوا خيراً في اعتقادهم وهو الظفر بالمسلمين، أولم ينالوا خيراً أي خير، بل رجعوا خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر، وغرم النفقة.

(وكفى الله المؤمنين القتال) بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة (وكان الله قوياً) على كل ما يريده إذا قال له: كن فيكون (عزيزاً) قاهراً غالباً لا يغالبه أحد من خلقه: ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته.

روى البخاري عن سلمان بن صرد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انجلى الأحزاب يقول: " الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم ".

ص: 71

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)

ص: 72

(وأنزل الذين ظاهروهم) أي عاضدوهم وعاونوهم على رسول الله

صلى الله عليه وسلم (من أهل الكتاب) وهم بنو قريظة فإنهم عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب وكانت في آخر ذي (1) القعدة سنة خمس.

وقيل: سنة أربع (من صياصيهم) جمع صيصية وهي الحصون، وكل شيء يتحصن به فهو صيصية؛ ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله وصياصي البقر والظباء: قرونها لأنها تمنع بها، ويقال لشوكة الحائك الذي يسوي بها السدي واللحمة: صيصية.

وأخرج أحمد، وابن مردوول، وابن أبي شيبة عن عائشة خرجت يوم الخندق أقفو الناس فإذا أنا بسعد بن معاذ رماه رجل من قريش يقال له ابن الفرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى

(1) مر لنا في تفسير قوله تعالى: " إذ جاءتكم جنود " تحقيق أن الغزوة وقعت في شوال من السنة الخامسة وكان المصنف قد ذكر أنها في الرابعة وهنا يرجح المصنف أنها في الخامسة في شهر ذي القعدة بل في آخره وقد اتفقنا معه في السنة هنا وخالفناه هناك ويبدو أنه تحقق من التاريخ بعد كتابة ما مر قبل وللمصنف العذر لا سيما وأن من القائلين بوقوعها في السنة الرابعة علماء تتقاصر الأعناق دون مطاولتهم مثل الإمام النووي وغيره ومع هذا أقوال مرجوحة لا تثبت أمام التحقيق.

المطيعي.

ص: 72

تقر عيني من قريظة.

فبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال، ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامه؛ ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر ببقية من أدم فضربت على سعد في المسجد.

قالت فجاء جبريل وإن على ثناياه لوقع الغبار، فقال أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح.

أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأْمَته وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة.

فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحكم فيهم.

قال فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.

فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.

(وقذف في قلوبهم الرعب) أي: الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي، وهي معنى قوله:(فريقاً تقتلون) هو منهم.

(وتأسرون فريقاً) قرىء الفعلان بالتحتية وبالفوقية فيهما على الخطاب وبالفوقية في الأول وبالتحتية في الثاني فالفريق الأول هم الرجال والفريق الثاني هم النساء، والذرية. والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم، ووجه تقديم المفعول في الأول وتأخيره في الثاني. أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.

ص: 73

وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين فقيل: كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة، وقيل سبعمائة، وقيل ثمانمائة، وقيل تسعمائة وكان المأسورون سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة.

ص: 74

(وأورثكم أرضهم) أي عقارهم وخيلهم (وديارهم) أي منازلهم وحصونهم (وأموالهم) أي الحلي والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير والنقود والأمتعة.

(و) أورثكم (أرضاً لم تطؤها) بعد لقصد القتال، واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد، ومقاتل إنها خيبر، أولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها فوعدهم الله بها. قال سليمان الجمل: وأُخذت بعد قريظة بسنتين أو ثلاث لأن خيبر كانت في السابعة في المحرم وهي مدينة كبيرة ذات حصون ثمانية وذات مزارع ونخل كثير، بينها وبين المدينة الشريفة أربع مراحل. انتهى ملخصاً وتمام هذه القصة في سيرة الحلبي.

وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة والمضي (1) لتحقق وقوعه (وكان الله على كل شيء قديراً) أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشر، ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين.

(1) هكذا في الأصل ويبدو أن بها تصحيفاً فتكون: (والمعنى الخ) والمقصود على هذا أن صيغة الخبر جاءت تشمل الماضي والمستقبل لتحقق وقوع التوريث لأرض الأعداء وديارههم وأخرى لم يطأوها.

المطيعي.

ص: 74

(يا أيها النبي قل لأزواجك) قيل هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قال الواحدي قال المفسرون: إن أزواج النبي صلى الله عليه

ص: 74

وسلم سألنه شيئاًً من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن شهراً وأنزل الله آية التخيير هذه، وكن يومئذ تسعاً: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وسودة، وهؤلاء من نساء قريش، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.

واختلف في عدة أزواجه صلى الله عليه وسلم وترتيبهن وعدة من مات منهن قبله، ومن مات هو عنهن، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، والمتفق على دخوله بهن إحدى عشرة امرأة، كذا في المواهب وقد بسط الكلام عليهن في المقصد الثاني منه جداً فارجع إليه إن شئت.

(إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) أي سعتها ونضارتها ورفاهيتها وكثرة الأموال والتنعم فيها (فتعالين) أي أقبلن إليّ بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين.

(امتّعْكن) أي أعطيكن المتعة (وأسرحكن) أي أطلقكن قرأ الجمهور في الفعلين بالجزم جواباً للأمر. وقيل أن جزمهما على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يكون قوله فتعالين اعتراضاً بين الشرط والجزاء، وقرىء بالرفع فيهما على الاستئناف (سراحاً جميلاً) المراد به هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة.

ص: 75

(وإن كنتن تردن الله ورسوله) أي تردن رسوله، وذكر الله للإيذان بجلالة محمد صلى الله عليه وسلم عنده تعالى (والدار الآخرة) أي الجنة ونعيمها (فإن الله أعد للمحسنات منكن) أي اللاتي عملن عملاً صالحاً (وأجراً عظيماً) لا يمكن وصفه، ولا يقادر قدره، وذلك بسبب إحسانهن وبمقابلة صالح عملهن.

ص: 75

وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأول

أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني: أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، وبهذا قال علي والحسن وقتادة، والراجح الأول.

واختلفوا أيضاًً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا، لا واحدة ولا أكثر. وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وبه قال الحسن والليث وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك.

والراجح الأول، لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعده طلاقاً، ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقاً. ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة بمجرد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة. واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية؟ أو بائنة؟.

فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي.

وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك، والراجح الأول؛ لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به. وقد أمره بقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات، وليس لهذا القول وجه.

ص: 76

وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.

وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك فقال عمر. يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت في عنقها؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة.

فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقلن نساؤه: " والله لا نسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا المجلس ما ليس عنده "، وأنزل الله الخيار فبدأ بعائشة فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي. فيه حتى تستأمري أبويك قالت ما هو؟ فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية فقالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال إن الله لم يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت فبدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى تمام الآية، فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل ما فعلت، ثم لما اختار نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إياه أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيماً لحقهن فقال:

ص: 77

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32))

ص: 78

(يا نساء النبي من يأت منكن) من بيانية لأنهن كلهن محسنات (بفاحشة) أي معصية (مبينة) أي ظاهرة القبح، واضحة الفحش، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن فهو كقوله تعالى: لئن اشركت ليحبطن عملك، وقيل: المراد بالفاحشة: النشوز وسوء الخلق، وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي، وإذا وردت منعوتة فهي عنوق الزوج، وفساد عشرته. وقالت فرقة: قوله هذا يعم جميع المعاصي، وكذلك الفاحشة كيف وردت.

(يضاعف لها العذاب ضعفين) أي يعذبهن الله مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن، وارتفاع منزلتهن، ولأن ما قبح من سائر النساء كان منهن أقبح، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذا فضل حد الأحرار على العبيد.

وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع

ص: 78

الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. وقرىء يضعف على البناء للمفعول، وفرق أبو عمرو وأبو عبيد بين يضاعف ويضعف فقالا: يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين قال النحاس: هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة، والمعنى في: يضاعف ويضعف واحد، أي يجعل ضعفين، وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير.

قال قوم: لو قدر الله الزنا من واحدة -وقد أعاذهن الله عن ذلك- لكانت تحد حدَّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحد قال تعالى:(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرئين، وقال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة، كما إن إيتاء الأجر مرتين في الآخرة وهذا حسن لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتين بفاحشة توجب حداً.

وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانتا في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به ضعفين هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن تكون أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هو حال الناس عليه بحكم حديث عبادة بن الصامت، وهذا أمر لم يرد في أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا حفظ تقريره.

(وكان ذلك) أي تضعيف العذاب (على الله يسيراً) هيناً لا يتعاظمه ولا يصعب عليه، فليس كونكن تحت النبي (صلى الله عليه وسلم) وكونكن جليلات شريفات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حتى يتعذر عليه تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهن وأعوانهن أو شفعائهن وإخوانهن.

ص: 79

(ومن يقنت) قرىء بالتحتية وكذا يأت منكن حملاً على لفظ من في

ص: 79

الموضعين، وقرىء بالفوقية حملاً على المعنى، والقنوت الطاعة أي يطع.

(منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين) يعني أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلاً ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثاً، لأن المراد إظهار شرفهن ومرتبتهن في الطاعة والمعصية، يكون حسنتهن كحسنتين وسيئتهن كسيئتين ولو كانت كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن، قيل الحسنة بعشرين حسنة، وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.

(وأعتدنا لها) زيادة على الأجر مرتين (رزقاً كريماً) جليل القدر، قال المفسرون: هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس، ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحاً فقال:

ص: 80

(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النساء لأن (أحد) لفظ عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة، وقد يقال على ما ليس بآدمي، كما يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف.

قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي، ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال:

ص: 80

(إن اتقيتن) الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى، فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى لا لمجرد اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء. وقيل إن جوابه قوله:

(فلا تخضعن بالقول) والأول أولى، والمعنى: لا تُلِن القول عند فخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، لا ترققن الكلام قال ابن عباس يقول: لا ترخصن بالقول، ولا تخضعن بالكلام. وعنه قال: مقارنة الرجال بالقول فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة وهي قوله:

(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي فجور وشهوة أو شك وريبة، أو نفاق.

والمعنى لا تقلن قولاً يجد المنافق والفاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن.

(وقلن قولاً معروفاً) عند الناس أي حسناً مع كونه خشناً بعيداً من الريبة على سنن الشرع لا ينكر منه سامعه شيئاًً، ولا يطمع فيكن أهل الفسق والفجور بسببه، أو قولاً يوجبه الإسلام والدين عند الحاجة إليه ببيان من غير خضوع. وقيل: القول المعروف ذكر الله تعالى والأول أولى.

ص: 81