الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
(19)
(فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العاقبة فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن من المفاوز والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر.
فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر ابن الحرث: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية قرأ الجمهور: ربنا بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضاًً باعد وقرىء: بعد بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار، وقرىء: ربنا بالرفع وباعد بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر، والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وقال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً وأشراً، وكفراً للنعمة، وقرىء: ربنا بالرفع وبعد بفتح العين مشدّدة والمعنى على هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعّد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء.
فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله: لقد تقطع بينكم
وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا، قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداهما أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم بأنهم: دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه:
(وظلموا أنفسهم) حيث كفروا بالله وطغوا وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم وعبرة لمن بعدهم، والأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر كما في القاموس. والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، وأمرهم وشأنهم واعتباراً بحالهم وعاقبتهم.
(ومزقناهم كل ممزق) أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق بحيث لا يتوقع بعده عود اتصال، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك إن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول: تفرقوا أيدي سبأ، وذهبو أيادي سبأ، والأيدي ههنا بمعنى الأولاد لأنهم يعتضد بهم، وفي المفصل الأيدي الأنفس كناية أو مجاز، قال في الكشف: وهو أحسن. قال الشعبي: فلحقت الأنصار يعني الأوس والخزرج بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخراعة بتهامة، وكان الذي قدم منهم المدينة عمر بن عامر وهو جد الأنصار، ولحق آل خزيمة بالعراق.
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم (لآيات) بينات وعبراً ظاهرات ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من هو كثير الصبر عن المعاصي، والشكر لله على نعمه وخص الصبار والشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) قرىء بتخفيف صدق ونصب ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي صدق وظن ظنه أو صدق في ظنه أو على الظرفية، والمعنى أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، وقرىء: صدّق بالتشديد وظنه بالنصب على أنه مفعول به، وقال أبو علي الفارسي: أي صدق الظن الذي ظنه قال مجاهد: ظن ظناً فصدق ظنه فكان كما ظن وقرىء صدق بالتخفيف، وإبليس بالنصب وظنه بالرفع وقد أجاز هذه القراءة الفراء، وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل صدق وإبليس مفعوله، والمعنى أن إبليس سوّل له ظنه شيئاًً فيهم فصدق ظنه فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس، قيل: وهذه الآية خاصة بأهل سبأ والمعنى أنهم غيروا وبدلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم.
وقيل هي عامة أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله قاله مجاهد والحسن. قال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه. قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصى وإنما ظن ظناً فكان كمن ظن بوسوسته، وعن ابن عباس في الآية قال: قال إبليس: إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً وإني خلقت من
نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، قال: فصدق ظنه عليهم.
وانتصاب (إلا فريقاً من المؤمنين) على الاستثناء، وفيه وجهان أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين لأن كثيراً من المؤمنين يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ولم يسلم منه إلا فريق وهم الذين قال الله فيهم:(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وقيل: المراد به المؤمنون كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين على أن تكون من بيانية.
(وما كان له عليهم من سلطان) أي من تسلط عليهم أي لم يكرههم على الكفر وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل: الضمير في عليهم يعود على من صدق عليهم ظن إبليس وعلى الفريق المؤمنين، وقيل السلطان القوة، وقيل الحجة، والاستثناء في قوله:
(إلا لنعلم) منقطع والمعنى لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم، وقال الفراء: المعنى إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل: إلا لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياؤنا والملائكة وقرىء، ليعلم على البناء للمفعول والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا، وقيل: إلا لنعلم موجوداً ما علمناه معدوماً، والتغير على المعلوم لا على العلم، وقيل: هو متصل مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان له تسلط عليهم بحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا ليتميز.
(من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً (وربك على كل شيء حفيظ) أي محافظ عليه فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز، قال مقاتل: علم كل شيء من الإيمان والشك.
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) قرىء: قلِ بكسر اللام على أصل التخلص من التقاء الساكنين وبضمها اتباعاً لضمة العين، والدال بينهما
حاجز غير حصين لسكونها، وهما قراءتان سبعيتان وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لكفار قريش أو للكفار على الإطلاق هذا القول، ومفعولا زعمتم محذوفان. أي: زعمتوهم آلهة لدلالة السياق عليهما، قال مقاتل يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سِني الجوع، ثم أجاب سبحانه عنهم فقال:(لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) أي ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع ولا دفع ضر في أمر من الأمور، وذكر السموات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرف الموجودات الخارجية.
(وما لهم فيهما من شرك) أي ليس للآلهة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف (وما له منهم من ظهير) أي وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمور السموات والأرض ومن فيهما، بل هو المتفرد بالإيجاد فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم لا من عداهم من غير المستحقين لها.
قيل: والمراد بقوله لا تنفع الشفاعة أنها لا توجد أصلاً إلا لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها، قرأ الجمهور: أذن بفتح الهمزة أي أذن له الله سبحانه لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرىء على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وهذا تكذيب لقولهم (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ثم أخبر الله سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم فقال:
(حتى إذا فزّع عن قلوبهم) قرىء مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله سبحانه، وقرىء مبنياً للفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلتا القراءتين بتشديد، الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفريغ إزالة الفزع وقرىء مخففاً وقرىء: فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ، والمعنى فرغ الله قلوبكم أي كشف عنها الخوف، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أفر نقع من الأفر نقاع وهو التفرق قال قطرب معنى فزع أخرج ما فيها من الفزع وهو الخوف وقال مجاهد كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة وقال ابن عباس فزع جلى وهو التفرق والمعنى أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام كائناً من كان إلا أن يأذن الله سبحانه للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى: وهم من خشيته مشفقون، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصيراً ويحدث شيء من أقدار الله. فإذا سرى عنهم.
(قالوا) للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن (ماذا قال ربكم) أي ماذا أمر الله به (قالوا) أي ليقولون لهم قال القول (الحق) وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم (وهو العلي الكبير) فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى، وقيل: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله دون الجمادات والشياطين، وقيل إن الذين يقولون ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم والذين أجابوهم هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء وقال الحسن وابن زيد ومجاهد معنى الآية حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار؛ وقيل إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة، وقيل: كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه
عن ابن عباس قال: لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة
ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحق، وقد علموا أن الله لا يقول إلا حقاً.
قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خروا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاًً عنه قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعه كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، الحديث]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن مسعود قال: [إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفاة فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق] أخرجه أبو داود، والصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض وفي معناه أحاديث، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكت المشركين ويوبخهم فقال:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
(قل من يرزقكم من السموات والأرض) أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة، والرزق من السماء هو المطر وما ينتفع به من الشمس والقمر والنجوم، والرزق من الأرض هو النبات والمعادن ونحو ذلك، ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام، ولا تقبل عقولهم نسبة هذا الرزق إلى آلهتهم وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك فقال:
(قل الله) أي هو الذي يرزقكم من السموات والأرض ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ومن هو على الضلالة فقال:
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) والمعنى أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرازق ويخصونه بالعبادة والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضرر لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل عاقل أن من عبد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى وهم المسلمون وفريق الضلالة وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب
به: قد أنصفك صاحبك.
قال المبرد: ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه: أحدنا كاذب وقد عرف أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطىء انتهي. وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه.
قال المبرد: (أو) عند البصريين على بابها وليست للشك لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. قيل: أو إياكم معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، أو أنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ويجوز العكس، وهو كون المذكور خبر الثاني، وخبر الأول محذوفاً كما في قوله:(والله ورسوله أحق أن يرضوه)، ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف وأدخل فيه وأبعد من الجدل والمشاغبة فقال:
(قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) أي: إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع، ولا ينالني من كفركم وترككم لإجابتي ضرر، وهذا كقوله سبحانه:(لكم دينكم ولي دين)، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص والطاعة المحضة وأعمال الكفار من المعصية البينة والإثم الواضح، من الإنصاف ما لا يقادر قدره، والمقصود المهادنة والمتاركة، وقد قيل: نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف، ثم أمره سبحانه بأن يهددهم بعذاب الآخرة لكن على وجه لا تصريح فيه فقال:
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
(قل يجمع بيننا ربنا) أي يوم القيامة (ثم يفتح بيننا بالحق) أي يحكم ويقضي بيننا فيثيب المطيع ويعاقب العاصي (وهو الفتاح) أي الحاكم بالحق القاضي بالصواب (العليم) بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. قيل وهذه أيضاًً منسوخة بآية السيف، ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة أخرى ليظهر بها ما هم عليه من الخطأ فقال:
(قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي القلبية فيكون شركاء هو المفعول الثالث، ويجوز أن تكون هي البصرية ويكون شركاء منتصباً على الحال، وأريد بأمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه صلى الله عليه وسلم إظهار خطأهم وإطلاعهم على بطلان رأيهم، أي أرونيها لأنظر أي صفة فيها اقتضت إلحاقها بالله تعالى في استحقاق العبادة، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزامهم الحجة، ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء وأبطل ذلك فقال:
(كلا بل) أي ارتدعوا عن دعوى المشاركة بل المنفرد بالإلهية (هو الله العزيز) بالقهر والغلبة (الحكيم) بالحكمة الباهرة.
(وما أرسلناك إلا كافة للناس) في انتصاب كافة وجوه: فقيل: إنه منتصب على الحال من الكاف في أرسلناك قال الزجاج: أي وما أرسلناك إلا جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة،
كعلامة. قال أبو حيان: إن اللغة لا تساعد عليه لأن كف ليس معناه جمع بل معناه منع، يقال كف يكف أي منع يمنع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر، ومنه الكف لأنه يمنع من خروج ما فيه، وقيل إنه منتصب على المصدرية، والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية، والمراد أنها صفة مصدر محذوف أي إلا رسالة كافة، وقيل إنه حال من الناس، والتقدير:(وما أرسلناك إلا للناس كافة)، ورد بأنه لا يتقدم الحال من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب، ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون، وممن رجح كونها حالاً من المجرور بعدها ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والتقوى ورده الزمخشري وقال خطأ، وقال المحلي: بل هو الصحيح، وقيل المعنى إلا ذا كافة أي ذا منع فحذف المضاف، قيل: اللام في للناس بمعنى إلى أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعاً لهم بالإنذار والإبلاع أو مانعاً لهم من الكفر والمعاصي.
عن قتادة قال: أرسل الله محمداً إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " أخرجه البخاري ومسلم. وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
(بشيراً ونذيراً) حال أي مبشراً لهم بالجنة أو بالفضل لمن أقر ومنذراً لهم من النار أو بالعدل لمن أصر (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
(ويقولون متى) يكون (هذا الوعد) الذي تعدوننا به وهو قيام الساعة أخبرونا به (إن كنتم صادقين) قالوا: هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم فقال:
(قل لكم ميعاد يوم) أي ميقات يوم، وهو يوم البعث، وقيل وقت حضور الموت وقيل: أراد يوم بدر لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان، وميعاد مصدر بمعنى الوعد، أو اسم زمان قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
(لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه بالاستمهال ولا تتقدمون عليه بالاستعجال، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه، وهذا جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوا بسؤالهم من التعنت والإنكار، ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار ونوعاً من أنواع كفرهم فقال:
(وقال الذين كفروا) يعني مشركي العرب (لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه) أي بما أنزل قبل القرآن من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل أو القيامة أو الجنة والنار، يعني أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة فقال:
(ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والمعنى محبوسون في موقف الحساب، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عجيباً وحالاً فظيعاً (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعاضدين متناصرين متحابين، ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال:
(يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) وهم الرؤساء المتبوعون (لولا أنتم) صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله (لكنا مؤمنين) بالله مصدقين لرسوله وكتابه.
(وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا) مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه (أنحن صددناكم عن الهدى)؟ أي أمنعناكم عن الإيمان (بعد إذ جاءكم) الهدى قالوا: هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصدّ لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم فقالوا:
(بل كنتم مجرمين) أي مصرين على الكفر كثيري الإجرام عظيمي الآثام.