الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا
(53)
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان ما تجب رعايته على الناس من حقوق نساء النبي إثر بيان ما تجب مراعاته عليه من حقوقهن (لا تدخلوا بيوت النبي) هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن منه. وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب)، وفي لفظ أنه قال عمر:(يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب)، فأنزل الله آية الحجاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله:(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية.
وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجُب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشياً، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب قال:(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية وأخرج بن سعد عن أنس قال نزل الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، وذلك سنة خمس من الهجرة، وحجب نساءه من يومئذ، وأنا ابن خمس عشرة سنة، وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، وقال: نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وبه قال قتادة والواقدي، وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث.
وفي الآية دليل على أن البيت للرجل ويحكم له به فإن الله أضافه إليه إضافة ملك، وأما إضافته إلى الأزواج في قوله (ما يتلى في بيوتكن) فهي إضافة محل بدليل أنه جعل فيها الإذن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والإذن إنما يكون من المالك، واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يسكن فيها نساؤه بعد موته هل هي ملك لهن أو لا؟ على قولين، فقالت طائفة: كانت ملكاً لهن بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لهن ذلك في حياته، الثاني: أن ذلك كان إسكاناً كما يسكن الرجل أهله، ولم يكن هبة وامتدت سكناهن بها إلى الموت، وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي، وغيرهما. فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال:[لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤمنة عاملي فهو صدقه] هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم ترثها عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكاً وإنما كان لهن سكنى حياتهن. فلما توفين جعل ذلك
زيادة في المسجد الحرام الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين إلى سبيلهن فزيد إلى أصل المال فصرف لمنافع المسلمين مما يعم نفعه الجميع والله الموفق كذا قاله القرطبي.
وأعلم أن قالون همز النبي حيث وقع إلا في موضعين من هذه السورة أحدهما هذه الآية والثاني قوله: (إن وهبت نفسها للنبي) فأبدلها ياء في الوصل وهمزها في الوقف كما ذكره الشاطبي، ولم يسهلها كما سهل غيرها لأنه رأى الإبدال هنا جارياً على القياس فيه فرجحه لموافقته لغيره ولأنه أفصح من التسهيل ولذلك أنكر على من قال يا نبىء الله بالهمزة وهذا مما لا غبار عليه فلله در التنزيل، وما فيه من دقائق التأويل.
(إلا أن يؤذن لكم) استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذوناً لكم، أي إلا مصحوبين بالإذن أو إلا بأن يؤذن لكم أو إلى وقت أن يؤذن لكم وقوله:(إلى طعام) متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء أي إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام.
(غير ناظرين إناه) انتصاب غير على الحال، والعامل فيه يؤذي، أو مقدر.
أي: ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين منتظرين، وإناه نضجه وإدراكه، يقال: أنى يأنى إناً إذا حان وأدرك.
قال الرازي: في الآية إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز. فنقول: المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى الطعام فلما هو مذكور في سبي النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام، ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم
بغير إذن وقال ابن عادل: الأولى أن يقال المراد هو الثاني، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: إلى طعام من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته (صلى الله عليه وسلم) بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذي نزل فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي (صلى الله عليه وسلم) فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله.
قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام، ثم بين سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال:
(ولكن إذا دعيتم) وأذن لكم فادخلوا، وفيه تأكيد بليغ للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن، وقال ابن العربي: وتقدير الكلام ولكن إذا دعيتم وأذن لكم.
(فادخلوا) وإلا فنفس الدعوة لا يكون إذناً كافياً في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه، قال الرازي: فيه لطيفة وهي أنه في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً، ولا بالدعاء، فقال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين إذا قيل لكم لا تدخلوا
فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا وقوله: إلا أن يؤذن لكم يفيد الجواز، وقوله: ولكن إذا دعيتم فادخلوا يفيد الوجوب، فليس تأكيداً بل هو مفيد فائدة جديدة.
(فإذا طعمتم) أي أكلتم الطعام يقال: طعم بكسر العين يطعم بفتحها طعماً كفهم، وطعماً كقفل، وفي الخطيب إذا أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً (فَانْتَشِرُوا) أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل، ولا تدخلوا هاجمين.
(ولا) تمكثوا (مستأنسين لحديث) يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدث به، يقال: أنست به أنساً من باب علم، وفي لغة من باب ضرب، والأنس بالضم اسم منه واستأنست به وتأنست به إذا سكن القلب ولم ينفر (إن ذلكم) أي الانتظار أو المكث والاستئناس للحديث وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله تعالى:(عوان بين ذلك)، أي إن ذلك المذكور من الأمرين.
(كان) في علم الله (يؤذي النبي) لأنهم كانوا يضيقون عليه المنزل وعلى أهله، ويتحدثون بما لا يريده، قال الزجاج: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل إطالتهم كرماً منه فيصبر على الأذى في ذلك فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدباً لهم ولمن بعدهم.
(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي يستحيي أن يقول لكم: قوموا أو أخرجوا (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة.
قرأ الجمهور: يستحيي بيائين وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي وهذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء وعن عائشة قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: إذا طعمتم فانتشروا؛ ثم ذكر سبحانه أدباً آخر متعلقاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال.
(وإذا سألتموهن) أي أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم)(متاعاً) أي شيئاًً يتمتع به من الماعون وغيره والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف.
(فاسألوهن) المتاع (من وراء حجاب) أي من وراء ستر بينكم وبينهن فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، متنقبة كانت أو غير متنقبة.
(ذلكم) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره قوله:
(أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي أكثر تطهيراً لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه فإن مجانبة ذلك أحسن بحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
(وما كان) أي ما صح ولا استقام (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) بشيء من الأشياء كائناً ما كان ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب.
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته أو فواقه لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات قال ابن عباس في الآية: نزلت في رجل هَمَّ أن يتزوج بعض نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد موته.
قال سفيان: وذكروا أنها عائشة.
وعن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا؟ ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وعن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض
النبي (صلى الله عليه وسلم) لتزوجت عائشة، فنزلت. وعن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة لأنه قال إذا توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة.
قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال.
وعن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) لو قد مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تزوجت عائشة وأم سلمة فأنزل الله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) الآية وعنه أن رجلاً أتى بعض أزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): [لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا] فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكراً، ولا قالت لي. قال النبي (صلى الله عليه وسلم):[قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وأنه ليس أحد أغير مني] فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده. فأنزل الله هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً توبة من كلمته.
وعن أسماء بنت عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة فأتت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: إن أسماء متزوجة علياً فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم)، ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله، والذي جرى عليه الرملي في شرح المنهاج أن من عقد عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) تحرم على غيره سواء دخل بها صلى الله عليه وسلم أو لا، وأما حكم إمائه فمن دخل بها منهن حرمت على غيره وإلا فلا.
(إن ذلكم) أي نكاح أزواجه من بعده (كان عند الله عظيماً) أي ذنباً عظيماً، وخطباً هائلاً شديداً وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه، وسر قلبه، واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
(إن تبدوا شيئاًً) أي تظهروه على ألسنتكم (أو تخفوه) في صدوركم (فإن الله كان بكل شيء عليماً) يعلم كل شيء من الأشياء ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم، وفي هذا وعيد شديد لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها، قال أبو أمامة بن سهل في الآية: إن تكلموا به فتقولون نتزوج فلانة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله، ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال:
(لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على غيرهن من النساء الاحتجاب منهم في رؤية وكلام، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية وهذا ضعيف جداً، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة: من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال: إنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض من
ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم.
(ولا نسائهن) هذه الإضافة تقتضي أن يكون بالنساء المؤمنات لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة، فيجب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاب عنهن كما يجب على سائر المسلمات أي ما عدا ما يبدو عند المهنة أما هو فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات ولهذا قيل: هو خاص، أي لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقيل عام في المسلمات والكتابيات.
(ولا ما ملكت أيمانهن) من العبيد والإماء أن يروهن ويكلموهن من غير حجاب وقيل: الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد والخلاف في ذلك معروف، وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية، ثم أمر سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل:
(واتقين الله) في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا من الاحتجاب أي أن يراكن أحد غير هؤلاء. قال ابن عباس: في الآية أنزلت هذه فىِ نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
(إن الله كان على كل شىء) من أعمال العباد (شهيداً) لم يغِب عنه شىء من الأشياء كائناً ما كان فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته، والشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
(إن الله وملائكته يصلون على النبي) هذه الآية شرف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وموته، وأظهر بها منزلته عنده تعالى، والضمير في: يصلون راجع إلى الله وإلى الملائكة، وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحداً، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما سمع الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله، ووجه ذلك أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد وهذا الحديث ثابت في الصحيح، وثبت أيضاًً في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم منادياً ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله والملائكة واحداً، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه (صلى الله عليه وسلم) فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك، وهذا أحسن ما قيل في الجمع.
وقالت طائفة في هذه الآية حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره
في ضمير واحد، ولا يرد أيضاًً ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة، ومن ملائكته الدعاء، فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون، ويقال على القول الأول: إنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين، وذلك بأن يراد بقوله يصلون: يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره وحكى البخاري عن أبي العالية: أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء، وروى الترمذي في سننه: عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
وقال عطاء بن أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى: سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته، وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه، وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) هل هي واجبة؟ أو مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع الاقرطبي في تفسيره فقال قوم من أهل العلم: إنها واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة، وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يصل عليه.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) في تشهد الصلاة المفروضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصاب أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم،
وهو قول جمهور أهل العلم، قال: وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة ابن يحيى، ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته، قال الطحاوي: لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي، وقال الخطابي؛ وهو من الشافعية: إنها ليست بواجبة في الصلاة، قال: وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له في ذلك قدوة، انتهى.
وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل ابن حيان وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيراً، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية وقد جمع الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكر فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وفي شرحه على المنتقى، ورسالتي: هداية السائل إلى أدلة المسائل، ما يشفي ويكفي وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ قال قولوا: الحديث، فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب، وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان.
واعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم:[من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً] فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة، والمكرمة النبيلة، وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما منها: ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها، والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك أو على محمد أو على النبي، أو اللهم صل على محمد وسلم ومن أراد أن يصلي ويسلم عليه بصفة من
الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إليها فذلك أكمل وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة، وسيأتي بعضها، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل.
وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه وسلمت عليه أو الصلاة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ونسلم عليه، وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعاراً ْعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفاً كريماً، وكّلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه وهذا الجواب ضعيف جداً.
وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم أو نحو ذلك مما يؤدي معناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعاراً له يختص به دون غيره فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته، كما يجوز لنا أن نقول اللهم ارحم فلاناً أو رحم الله فلاناً، وبهذا قال الجمهور من العلماء مع اختلافهم؛ هل هو محرم؟ أو مكروه كراهة شديدة؟ أو مكروه كراهة تنزيه؟ على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس: كما رواه عنه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار.
وقال في المواهب: لم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم انتهى وقال في الأنموذج ومن خواصه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن ولا
غيره صلاة من الله تعالى على غيره صلى الله عليه وسلم فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء انتهى. وقال قوم: إن ذلك جائز لقوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، ولقوله:(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)، ولقوله:(هو الذي يصلي عليكم وملائكته).
ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلّ عليهم فأتاه أبيّ بصدقته فقال: اللهم صلّ على آل أبي أوفى، ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن نطلقه على غيره، وأما قوله تعالى:(هو الذي يصلي) إلخ وقوله: (أولئك عليهم صلوات) فهذا ليس فيه إلا إن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله (صلى الله عليه وسلم) مرة واحدة عشر صلوات وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعة الله في حقنا. بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله، وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شعار له فكذا لفظ السلام عليه.
وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم، والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه:(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه يا موسى: سألوك هل يصلي ربك؟ فقال: نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل الله على نبيه:(إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية أي يبركون، وعنه أن صلاة الله على النبي هي المغفرة إن الله لا يصلي، ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له.
(يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) أي ادعوا له بالرحمة وقولوا: اللهم
صلّ على محمد أو صلى الله على محمد فإنكم أولى بذلك، وعن ابن عباس أنه قرأ: صلوا عليه كما صلى الله عليه (وسلموا تسليماً) أي حيوه بتحية السلام، وقولوا اللهم سلم على محمد، أو انقادوا لأمره انقياداً والأول أولى، ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي، وهو الاحتياط وعليه الجمهور.
قال أبو السعود: وهذه الآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقاً أي من غير تعرض لوجوب التكرار، وقال القسطلاني قيل: هي مستحبة وقيل: واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة وعليه الشافعي وهو رواية عن أحمد وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين لمحل منها. وقيل: تجب في خارج الصلاة وقيل: كلما ذكر وقيل: في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره فيه وقيل: تجب في العمر مرة واحدة وقيل: تجب في الجملة من غير حصر وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد. وتسليماً مصدر مؤكد قال الإمام ولم تؤكد الصلاة لأنها مؤكدة بقوله: إن الله وملائكته إلخ وقيل: إنه من الاحتباك فحذف عليه من أحدهما والمصدر من الآخر وقال بعض الفضلاء: إنه سئل في منامه لم خص السلام بالمؤمنين دون الله والملائكة؟ ولم يذكر له جواباً؟.
قلت: وقد لاح لب فيه نكتة سرية أي شريفة، وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي والأذية إنما هي من البشر فناسب التخصيص بهم، والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكر بعده قاله الشهاب.
وأقول: هذه الآية من باب الاكتفاء على حد قوله: سرابيل تقيكم الحر والمعنى: إن الله وملائكته يصلون على النبي ويسلمون، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة القرآنية وغيرها تسليم الله تعالى على غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والصلحاء، والنكتة التي ذكرها الشهاب لا تخلو عن تكلف وبعد تأمل. وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: (إن الله وملائكته) الآية قلنا: يا رسول الله
قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما، كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه أن رجلاً قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله وجميع التعليمات
الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولاً عن الشافعي، كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من قال: إن هذه التعليمات الواردة عنه (صلى الله عليه وسلم) في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملاً لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان عند نزول الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وآله وسلم قال: صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني، ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال:
(إن الذين يؤذون الله ورسوله) قيل المراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي ليعم هذا القدر الإيذاء الحقيقي في حق الرسول، والمجازي في حقه تعالى، لاستحالة حقيقة التأذي عليه سبحانه، قال الواحدي قال المفسرون: هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد، فقالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسول الله وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وقالوا: مجنون، شاعر، كذاب، ساحر وبه قال ابن عباس.
قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء، وقال عكرمة الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقال جماعة إن الآية على حذف مضاف والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، وقيل: معنى الأذية الإلحاد في أسمائه وصفاته وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومنه ترك الاتباع، وفعل التقليد لآراء الرجال
وإيثاره عليه.
(لعنهم الله) معنى اللعنة الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك (في الدنيا والآخرة) لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم مصاحبة لهم.
(وأعد لهم) مع ذلك اللعن (عذاباً مهيناً) يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة، لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة، عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) حين اتخذ صفية بنت حي، وروي عنه: أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة، ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال:
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) بوجه من وجوه الأذى من قول، أو فعل ومعنى قوله:(بغير ما اكتسبوا) إنه لم يكن ذلك بسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به وقيل: يقعون فيه ويرمونهم بغير جرم، فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبوه مما يوجب عليه حداً أو تعزيراً أو نحوهما فذلك حق أثبته الشرع، وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضرب فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال:
(فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) أي ظاهراً واضحاً لا شك في كونه من البهتان والإثم، وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم. قيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه. وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء وهن كارهات، وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده، أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال الجوهري: لجلباب الملحفة، وقال الشهاب إزار واسع يلتحف به، وقيل: القناع وقيل: هو كل ثوب يستر جميع بدن المرأة من كساء وغيره كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال: (لتلبسها أختها من جلبابها) قال الواحدي قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى، وبه قال ابن عباس، وقال الحسن: تغطي نصف وجهها، وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، وقال البرد: يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، و (من) للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز عن الأمة.
(ذلك) أي إدناء الجلابيب وهو مبتدأ وخبره (أدنى) أقرب (أن يعرفن) فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله ذلك إلخ أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن لبسن لبسة تختص بالحرائر.
قال السبكي: في الطبقات الكبرى إن من أئمة الشافعية أحمد بن عيسى
شارح التنبيه استنبط من هذه الآية أن ما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام والعمة ولبس الطيلسان حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم، وبذلك يعرفون فيلتفت إلى فتاواهم وأقوالهم انتهى. ومنه يعلم أن تمييز الأشراف بعلامة أمر مشروع أيضاًً انتهى.
أقول ما أبرد هذا الاستنباط وما أقل نفعه، لا سيما بعد ما ورد في السنة المطهرة من النهي عن الإسراف في اللباس وإطالته، وقد منع عن ذلك سلف الأمة وأئمتها فأين هذا من ذاك؟ وإنما هو بدعة أحللها علماء السوء ومشايخ الدنيا ولذا قال علي القاري في معرض الذم:" لهم عمائم كالأبراج، وكمائم كالأخراج " وأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وما ذكره من أن زي العلماء والأشراف سنة رده ابن الحاج في المدخل بأنه مخالف لزيهم في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خير القرون، فإن قيل إنهم به يعرفون، قيل إنهم لو بقوا على الزي الأول عرفوا به أيضاًً لمخالفته لما عليه غيرهم الآن وأطال في إنكار ما قالوه، وقد بسطنا القول على ذلك في حجج الكرامة بالفارسية أيضاًً فراجعه.
(وكان الله غفوراً) لما سلف من ترك إدناء الجلابيب (رحيماً). بهن أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما يخفين علينا فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال عمر: كذا وكذا فأوحي إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.
وعن أبي مالك قال: كان نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) يخرجن لحاجتهن بالليل وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فَيَؤبْن فقيل ذلك للمنافقين فقالوا: إنما
نفعله بالإماء فنزلت هذه الآية: (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، يقول ذلك أحرى أن يعرفن.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة، وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها هكذا في الرواية بلفظ: من السكينة، وليس لها معنى فإن المراد تشبيه الأكسية السود الغربان لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رؤوسهن الطير.
وعن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت: (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهن الغربان.
وعن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها.
قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع تتشبهين بالحرائر ألقي القناع، قلت: ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد، والأمة، والخامل، والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هاجراتهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار لا فصل بين الحرة والأمة.
وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيمان - للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأُمرن أن يخالفن بزيهن
عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهن طامع، ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال:
(لئن لم ينته المنافقون) عما هم عليه من النفاق (والذين في قلوبهم مرض) أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب (والمرجفون في المدينة) عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم.
قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشىء واحد، والمعنى أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين فهو على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهما
…
م وليث الكتيبة في المزدحم
والواو مقحمة. وقيل الموصوف متغاير ومتعدد، فكان من المنافقين قوم يرجفون وقوم يتبعون النساء للريبة، وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة. من قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض)، والمرض هو الزنا والإرجاف في اللغة إشاعة الكذب والباطل، يقال: أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة، وهي الزلزلة، يقال: رجفت الأرض أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفاً، والرجفان الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافاً لاضطرابه، والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار فتوعدهم الله سبحانه بقوله:
(لنغرينك بهم) أي لنحرشنك ولنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك، قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله الآتي:
(ملعونين أينما ثقفوا) إلخ فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما
قيل في الآية، وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله ملعونين إلخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسوله (صلى الله عليه وسلم) بقتالهم ولا تسليط له عليهم، وقد قيل: إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة لنغرينك بهم، جواب القسم.
(ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) وإنما عطف بثم لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه يعني أنها للتفاوت الرتبي والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها، وأعظم وأشد عندهم، والمعنى لا يساكنونك في المدينة إلا جواراً قليلاً حتى يخرجوا أو يهلكوا.
(ملعونين أينما ثقفوا) أي مطرودين أينما وجدوا وأدركوا (أخذوا وقتلوا تقتيلاً) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا، والتشديد يدل على التكثير وقيل: إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى، وقيل معنى الآية: أنهم إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون ملعونون.
وقد فعل بهم صلى الله عليه وسلم هذا فإنه لما نزلت سورة براءة جمعوا، فقال: النبي (صلى الله عليه وسلم): " يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد ".
(سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي سن الله ذلك في الأمم الماضية وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين وهو منتصب على المصدر قال الزجاج: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا.
(ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف، يجريها الله مجرى واحداً في الأمم لإثباتها على أساس الحكمة التي عليها يدور فلك التشريع، وقال الخطيب: أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
(يسألك الناس عن الساعة) أي عن وقت حصولها ووجودها وقيامها، قيل السائلون عنها هم أولئك المنافقون والمرجفون والمشركون واليهود لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعه استبعاداً وتكذيباً، أو امتحاناً، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوارة وسائر الكتب (قل إنما علمها عند الله) يعني أنه سبحانه قد استأثر به ولم يطلع عليه نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرباً.
(وما يدريك) أي ما يعلمك ويخبرك يا محمد (لعل الساعة تكون قريباً) أي في زمان قريب وانتصاب قريباً على الظرفية والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم، أو الوقت مع كون التأنيث ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره من الناس وفي هذا تهديد عظيم للمستعجلين وإسكات للممتحنين والمشركين؛ ولمن يثبت علم المغيبات للأنبياء والصلحاء وغيرهم من الخلق.
(إن الله لعن الكافرين) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (وأعد
لهم) في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا (سعيراً) أي ناراً شديدة التسعّر
(خالدين فيها) أي في السعير لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم (أبداً) بلا انقطاع وهذا تأكيد لما استفيد من خالدين (لا يجدون ولياً) يواليهم ويحفظهم من عذابها (ولا نصيراً) ينصرهم ويخلصهم منها.
(يوم تقلب وجوههم في النار) أي اذكر قرىء تقلب بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول وقرىء بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه وبضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم وقرىء بفتح التاء واللام على معنى تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية هو تقلبها تارة على جهة منها وتارة على جهة أخرى ظهراً لبطن أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى أو تبديل جلودهم بجلود أخرى وخصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة فحينئذ.
(يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) الجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل يقولون: متحسرين على ما فاتهم أو حال من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون وهذه الألف في (الرسولا) والتي تأتي في (السبيلا) هي الألف التي تقع في الفواصل، وتسميها النحاة ألف الإطلاق، لإطلاق الصوت كقوافي الشعر، وفائدتها الوقوف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة.
(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا) وقرىء ساداتنا بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع وسادة جمع على غير قياس سواء جعل جمعاً لسيد أو سائد والجملة معطوفة على الجملة الأولى، والعدول إلى الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمراً كقولهم السابق، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضرباً من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة، والمراد بالسادة
والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا، ويقتدون بهم. وقال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر والأول أولى. ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة، والتعبير عنهم بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم، ومزيد البلادة، وشدة التعصب.
(فأضلونا السبيلا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله وبرسله والسبيل هو التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا:
(ربنا آتهم ضعفين من العذاب) أي مثل عذابنا مرتين للضلال والإضلال وقال قتادة عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال (والعنهم لعناً كبيراً) أي كبيراً في نفسه شديداً عليهم وقرىء بالمثلثة أي كثيراً لعدد عظيم القدر شديد الموقع.
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) بقولهم إن به أدرة أو برصا أو عيبا، وسيأتي بيان ذلك، وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم من أن يدخلوا في شىء من الأمور التي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى، وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية فحكى النقاش: أن أذيتهم محمداً صلى الله عليه وسلم قولهم: زيد بن محمد، وقال أبو وائل: إنه صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وعن ابن مسعود مثله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه، ثم قال:[رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر]. أخرجه
البخاري ومسلم وغيرهما، وقيل: نزلت في زيد بن ثابت، وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس.
(فبرأه) أي طهره (الله مما قالوا) وأظهر براءته لهم وما مصدرية أو موصولة وأيهما كان، فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤداه، وهو الأمر المعيب وأذى موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شىء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أُدْرَةٌ، وإما آفة وإن الله عز وجل أراد أن يبرىء موسى مما قالوا فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً].
وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس وقال ابن عباس: قال له قومه إنه آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله: (فبرأه الله مما قالوا) الآية.
وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة أن الله أوحى إلى موسى أني متوف هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال موسى: إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نم عليه، قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما قبض
رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء.
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل، وكان هارون أَأْلَف بهم وألين لهم، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه (وكان عند الله وجيهاً) أي عظيماً ذا وجاهة، والوجيه العظيم القدر الرفيع المنزلة، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، وقيل: مستجاب الدعوة، وقيل: الوجاهة أنه كلمه تكليماً، وقرأ عبد الله بالموحدة من العبودية، وهي حسنة، قاله الكرخي.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) في كل أمر من الأمور (وقولوا قولاً سديداً) أي صواباً وحقاً قال قتادة ومقاتل: يعني في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحل، وقال عكرمة: إن القول السديد: لا إله إلا الله، وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين الناس، والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولاً سديداً في جميع ما يأتونه ويذرونه فلا يخص ذلك نوعاً دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم، فالمقام يفيد هذا المعنى لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولاً يخالف قول أهل الأذى.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: [صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ثم قال: على مكانكم اثبتوا ثم أتى الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله، وأن تقلن قولاً سديداً]، ثم ذكر الله سبحانه ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال:
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
(يصلح لكم أعمالكم) أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديكم إليه، ويوفقكم فيه، أو يتقبلها (ويغفر لكم ذنوبكم) أي يجعلها مكفرة مغفورة (ومن يطع الله ورسوله) في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية.
(فقد فاز فوزاً عظيماً) أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً ونال خير الدنيا والآخرة وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، ثم لا فرغ سبحانه من بيان ما هو لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال:
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي خفن من الأمانة أن يؤدينها فيلحقهن العقاب، أو خفن من الخيانة فيها، واختلف في تفسير الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب، قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور، وقد اختلف في تفاصيل بعضها فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال.
وقال أبيّ ابن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شىء من دينه غيرها، وقال ابن عمر: أول ما خلق الله من الإنسان فرجة، وقال هذه أمانة أستودعكها فلا تلبسها إلا بحق فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا؟ فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد، وأوهن من بيت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شىء كان في أول هذا العالم.
وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأى فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك تفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا تلتفت إلى غيره. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت:
وما فيها؟ فقال لها إن أحسنت آجرتك، وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك، فقال قد تحملتها. وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير.
وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا، قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة لأمره ساجدة له، وقيل: المراد بالعرض هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل أي أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل).
وقيل: إنا عرضنا بمعنى عارضنا أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها، وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام وإن أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضاً تحريف لا تفسير، وقد قيل: إن المراد بالأمانة العقل، والراجح ما قدمناه عن الجمهور وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع، ولا موافقته لما تقتضيه التعريف بالأمانة.
عن ابن عباس في الآية قال: لأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
وعنه في الآية قال: عرضت على آدم فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب، وعنه: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً، ولا معاهداً في شيء لا في قليل ولا في كثير، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف.
وإنما أتى في قوله فأبين إلخ بضمير كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السموات على المذكر وهو الجبال.
(وحملها الإنسان) أي التزم بحقها وهو آدم بعد عرضها عليه؛ قيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الأجرام وأقواه وأشده أن يحتمله ويشتغل به فأبى حمله وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته.
قال الزجاج: معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة. وقيل: معنى حملها كُلِّفْها وألْزِمْها أو صار مستعداً لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر، عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم.
(إنه كان ظلوماً جهولاً) أي وهو في ذلك الحمل ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير أو جهول بأمر ربه كما قال الحسن، وقيل ظلوماً حين عصى ربه، جهولاً لا يدري ما العقاب
في ترك الأمانة. وقيل: ظلوماً جهولاً حيث حمل الأمانة ولم يف بها، وضمنها ولم يف بضمانها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم وفي تفسير الآية أقوال أخر والأول أولى وهو قول السلف.
(ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع وعلى هذا فجملة (إنه كان ظلوماً جهولاً) معترضة بين الجملة، وغايتها الإيذان بعدم وفائه بما تحمله، قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهور آدم وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها والالتفات إلى الاسم الجليل أولاً لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار في موضع الإضمار ثانياً في قوله:
(ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكلٍ من مقامي الوعيد والوعد حقه والله أعلم. أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. قال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك. فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب.
(وكان الله غفوراً) أي كثير المغفرة للمؤمنين التائبين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم من الأمانة وغيرها حيث عفا عن فرطانهم.
(رحيماً) بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم، مكرماً لهم بأنواع الكرم وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الأمانة وذكر رفعها عن القلوب عند قرب الساعة فلا نطول بذكرها.