الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث.
التعلق التنجيزي والصلاحي للإرادة
.
ومنها قولكم: ما وجه قول من قال في الإرادة لها تعلقات صلاحي وتنجيزي، كالقدرة؛ لأن الله تعالى إن كان لا يريد في الأزل فليس بمريد، والعقيدة أن الأشياء من أزله، ثم وقعت فيما لا يزال على حسب مراده في أزله مع أن التفتازاني (1) جزم بأنها ليس لها إلا تعلق واحد تنجيزي قديم كالعلم. هذا تمام السؤال.
وأقول بحول من به الفكر يجول: إن الذي ذكرتموه سيأتي في أثناء الكلام ما يعضده، وما ذكرتموه من ارتفاع الصفة بارتفاع تعلقها التنجيزي، سيأتي رده بالسمع والبصر والقدرة؛ لأنه يلزم بمقتضى إلزامكم أن يقال الصالح لأن يقدر ليس بقادر، ونحن نمنع أنه صالح لأن يريد ويقدر مثلا، بل هي حاصلة حقيقة.
(1) انظر السعد التفتازاني، شرح المقاصد ج 2/ 342 - 343.
والصلاحية في التعلق لا في الصفة، وإن ألزموا رفع العلم عند القول بصلاحية تعلقه فلا يلزم في غيره للفارق الآتي بينه وبين غيره.
وحقيقة الصلاحية ما قاله ابن عرفة في شامله الكلامي (1): التعلق الصلاحي: طلب الصفة أمرا زائدا لذاتها لا بقيد وجوده لوجودها، والتنجيزي حصول متعلق الصفة وصدوره. فالصفة محققة الوجود، وطلبها إن تأخر مطلوبه؛ فصلاحي، وإلا فتنجيزي، ألا ترى أن السمع والبصر على ما حققه الأئمة إنما يتعلق بالموجود بذاته تنجيزا وذلك التعلق قديم، وتعلق بذواتنا بعد وجودنا تنجيزا، وذلك التعلق حادث، ولم يتعلق بنا في الأزل لا صلاحا ولا تنجيزا، ولم يوجب ذلك رفع السمع والبصر من أصلهما.
والحاصل أن عدم حصول مطلوب الصفة لا يوجب رفعها كما في القدرة. وقد قال السنوسي في حد الإردة: صفة يتأتّى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، كما قال في القدرة يتأثر بها إيجاد الممكن وإعدامه، ولا معنى للتعلق الصلاحي إلا هذا التأتي، ولأجل كون مذهبه في العلم أنه تنجيزي. قال صفة ينكشف بها المعلوم إلى آخره (2).
فإن قلت: قد علمت أن مذهب الرازي في العلم أنه له
(1) انظر ابن عرفة، الشامل.
(2)
انظر السنوسي، شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى ص 83، وما بعدها.
تعليقين صلاحيا وتنجيزيا، ومن ثم شاع العلم بالوقوع تابع للوقوع.
قال الشريف زكرياء (1) مثل: إذا قصدت إلى كتب ألف فعلمك بها قبل وقوعها بأنها ستكتب على صورة كذا، ولم تعلم بأنها وقعت، وهذا هو التعلق الصلاحي. فإذا كتبتها علمت بوقوعها في محلها. وهذا هو التعلق التنجيزي وهو التابع للوقوع.
وقال: إن العلم بالشيء قبل الوقوع علم بأنه سيكون، والعلم بعد الوقوع علم بأنه كان. والعلم بما سيكون غير العلم بما كان غير، فمهما تعلقان؛ الأول صلاحي، والثاني تنجيزي حادث.
أجاب الأشعري (2) بأنا لا نسلم أن العلم بما سيكون، غير العلم بما كان غير، بل واحد تنجيزي قديم علم الأشياء، وانكشفت قبل كونها فكانت على ما علم، ولم يتجدد شيء في العلم، والذي يختلف ويتجدد ويوصف بأنه سيكون، ثم يوصف بأنه كان هو المعلوم؛ لأنه يقال في الشيء قبل وجوده سيكون
(1) الشريف زكرياء بن محمد الأنصاري (823 - 926 هـ = 1420 - 1520 م): شيخ الإسلام. قاض ومفسر من حفاظ الحديث. له مصنفات كثيرة، منها:" غاية الوصول " في أصول الفقه. " لب الأصول " اختصره من جمع الجوامع. " شرح إيساغوجي"
…
انظر نجم الدين الغزي، الكواكب السائرة ج1/ 196. علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة ج 12/ 62
(2)
انظر الأشعري أبو الحسن، مقالات الإسلاميين ج2/ 82
وبعده كان، والعلم واحد، مثلا لو أخبرنا صادق بقدوم زيد كرسول مثلا، وعلمنا ذلك وفرضنا بقاء ذلك العلم، يعني لكون علمنا عرضا لا يبقى، لكن بغرض بقائه؛ ليطابق المثال الممثل به، ثم قدوم زيد لم يزدنا مشاهدة قدومه على ما علمنا شيئا، فدل ذلك على أنه ليس للعلم إلا تعلق واحد تنجيزي قديم وما يوجد في حقنا من زيادة العلم بما كان على العلم بما سيكون إنما هو لنقض علمنا. بخلاف علمه، وعلم الصادق، والعلم من الصادق.
قال الأشعري: ولا يصح أن يكون العلم يتعلق تعلقا صلاحيا، فإن الصالح لأن يعلم ليس بصالح، انتهى كلامه.
ومحل محط السؤال منه هذا الأخير، وإنما ذكرته برمته؛ لما احتوى عليه من الأبحاث الرائقة فأنت تراه جعل الصلاحية للعلم توجب رفعه بقوله؛ لأن الصالح لأن يعلم ليس بعالم، وعلى قياسه يأتي ما ذكره السائل: بأن الصالح لأن يريد ليس بمريد، لكنه مشكل عقلا، فإن الصلاحية لا تقتضي رفع الصفة كما في القدرة، فكيف التقصي عن هذا المضيق؟
فالجواب بفضل الملك الوهاب: أن العلم ليس له حصول إلا حصول الانكشاف، فإن لم يحصل الانكشاف؛ فلا علم كما في الشاهد، فإن من لم يحصل له الانكشاف، هنا لمسألة من مسائل الفقه ونحوه لا يسمى عالما بخلاف الإرادة والقدرة، فإن حقيقتهما صفة يتأتى بها كذا. والتأتي حاصل في الأزل؛ فافترق العلم بهذا من غيره.
فإن قلت: كيف يصنع الرازي القائل بالصلاحية في العلم، وهي تقتضي رفعه كما ذكره الأشعري؟
قلت: هذا ونحوه مما قال فيه السعد (1) في الكلام على التكوين حيث وقعت إلزامات توجب مخالفة البديهيات لأكابر المشايخ.
قال: فليلتمس لهم أحسن المخارج، ولا ينسب إليهم مما هو مخالف للبديهية كمخالفة الأشعري والرازي في الوجود، فيحمل نفي الأشعري له على أنه ليس موجودا في الخارج عن الذهن بمعنى إنه على حدة، والذات على حدة كالبياض الموجود خارجا، ويحمل إثبات الرازي على التعلق للماهية في الذهن، وكذا نحوه، حتى يصح محلا لنزاع العقلاء. انتهى.
وعلى قياسه يقال هنا: إن الرازي سمى تعلق العلم صلاحيا نظرا لعدم حصول المعلوم، وإن كان العلم في ذاته ثابتا متقررا، والأشعري راعى أن حقيقة العلم الانكشاف، وإن لم يحصل تعلق تنجيزي، بل صلاحي؛ كانت الذات صالحة لأن تعلم لعدم تنجيز الانكشاف، والصالح لأن يعلم ليس بعالم فوجب تنجيز الانكشاف، وإن تأخر المنكشف كعلمنا بالساعة فإنه تنجيزي، وإن كانت متأخرة، وتأخرها لا يقدح في حصول الانكشاف فاختلافهما على لحظتين، وكذا سائر الخلافيات بين أكابر
(1) انظر السعد التفتازاني، شرح المقاصد ج1/ 190
العلماء وإلزام بعضهم بعضا، والله أعلم.
فالإرادة على مذهب الجمهور لها تعلقان كما مر.
فإن قلت: إن الإرادة صفة تخصيص، فإن كان تعلقها صلاحيا؛ لزم أنه في الأزل لم يخصص ما يقع فيما لا يزال بل هي قابلة لكل من المتقابلين، ولم يقع في الأزل تحتم أحدهما مضافا وقوعه لوقته، والأحاديث والآثار، وأقوال العلماء طافحة بنفوذ المشيئة، ووقوع الاستيلاء على ما أرادوا لعقل قاض بذلك أيضا، وتحتمه وقوع الشيء هو معنى تعلق الإرادة التنجيزي في الأزل، فوجب أن لها تعلقا واحدا تنجيزيا، كما أشير إليه في السؤال في الأول، وكما ذكر السائل عن التفتازاني أنه جزم بأن لها تعلقا تنجيزيا، فكيف يعقل مع ذلك كله أن لها تعلقا صلاحيا، وإنما التتنجيزي في الأزل؟
قلت: لا شك في متانة هذا الإيراد، ولم أر مفصحا عنه من العباد إلا عبارات متلاطمة تحدث بها إشكاليات متراكمة، فقد ذكر ابن أبي شريف مثل ما في السؤال.
قال: إن تبدل الشقاوة والسعادة باعتبارها في اللوح المحفوظ، أو باعتبار الصحف التي تنقلها الملائكة منه، فتكتب على كل مولود ما وقع فيه من الأمر، أما الحكم الأول فلا يتبدل أصلا. انتهى منه (1).
(1) انظر السعد التفتازاني، شرح المقاصد ج1/ 239
وهذا يشعر بالتنجيزي القديم. وأجمع الناس على أن ما شاء الله كان.
وقد ذكر السنوسي وغيره في دليل ثبوت الإرادة، وعدم إغناء القدرة عنها: أن الممكنات بالنسبة إلى القدرة على حد سواء، فلولا الإرادة خصصته بأحد المتقابلين لما وقع دون مقابله.
قال: ولا يغني عن الإرادة في ترجيح وقوع أحد الجائزين العلم بتحتم المعلوم فلا يقع خلافه.
لأنا نقول: إن التخصيص للممكن بأحد الوجوه تأثير فيها، والعلم ليس من صفات التأثير، والقدرة عامة كما علمت، فلا تصلح للتخصيص فتحتمت الإرادة، انتهى من شرحه للكبرى.
فظاهره أنها لها تعلق تنجيزي من حيث لم يعممها كالقدرة، بل جعلها متعلقة بالأمر على ما يقع بعد، ففي الأزل أراد وقوع أحد الجائزين به لا عن الآخر، وأثرت الندرة على وفق ذلك، وهذا يشعر بالتعلق التنجيزي القديم.
وقد نقل أبو بكر (1) عن جميع الأشعرية في الرد على المعتزلة، حيث زعمت أن الإرادة حادثة. قالوا: لأنها لو كانت قديمة لعمت كل ممكن. ومن جملة ذلك أن يريد زيد حركة، ويريد عمرو سكونا فوجب أن يكون القديم مريدا لإرادتيهما، ومراديهما، وما هو مراد يجب وقوعه فيؤدي إلى اجتماع الضدين
(1) انظر أبو بكر الباقلاني، الإنصاف ص 36
في حالة واحدة. قال: قالت الأشعرية: الصفة القديمة يجب عموم تعلقها على الإطلاق لكل متعلق أم يجب عموم تعلقها بما يصح أن يكون متعلقا لها.
فإن كان الأول فغير مستمر في الصفات، فإن العلم يتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي، والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن، والإرادة لا تتعلق إلا بالمتجدد، فالعلم أعم والقدرة أخص منه، والإرادة أخص من القدرة، والعموم والخصوص لا يزيد ولا ينقص فيما لا يتناهى من المعلومات والمقدورات والمرادات، فعمّ تعلق الصفة بما لا يتناهى مما يليق بكل قسم.
ولو كان الإيجاد بالقدرة على نعت الإيجاب لو وجد كل ما تعلقت به القدرة فيوجد ما لا يتناهى وهو محال، بل الإرادة هي المخصصة بالوجود المتعلقة بحال المتجدد.
وأما إلزامكم تعلق إرادة القديم بالضدين في حالة واحدة فلسنا نسلم أن هاهنا إرادتين، بل ما يقع في معلوم الرب أنه يقع، فهو المراد وصاحبه المريد، وما وقع في العلم أنه لا يقع، فهو تمنٍّ وصاحبه المتمني، ويجوز تعلق الوصف القديم لمعنيين: أحدهما إرادة الآخر ثمن وشهوة.
وبتقدير أنها أرادت إن قلتم معاشر المعتزلة: إن إرادة الإرادتين تستلزم إرادة المرادين حتى يلزم الجمع بين الضدين. فالله تعالى إنما أراد إرادتهما من حيث وجودهما وتجددهما لا من حيث مراديهما وهو كإرادته للقدرة لا تكون إرادة للمقدور، وقدرته على الإرادة لا تكون قدرة على المراد على أصلكم في أن العبد يخلق أفعاله ويريدها إن كانت شرا؛ إذ لا ينسب الشر للرب.
وكعلمه بعلم زيد، وشر عمرو، وظن خالد، وجهل بكر لا يكون اعتقادا لمعتقداتهم حتى يوصف بمتعلقات صفاتهم.
والسر في ذلك أن الإرادة القديمة لا تتعلق بوجه واحد، وهو المتجدد من حيث إنه حادث متجدد مختص بالوجود دون العدم، ووقت دون وقت، والإرادتان يشتركان في التجدد فينسبان إليه من جهة التجدد والتخصيص، وهما من هذا الوجه ليسا ضدين، ولم تتعلق الإرادة بضدين.
ولو قيل: تتعلق الإرادتين جميعا من حيث الوقوع والتجدد، وبأحد المرادين وهو الواقع منهما في المعلوم، وتتعلق بعدم وقوع الآخر فهي إرادة لوقوع أحدهما، وكراهة لوقوع الآخر كان ذلك أيضا صوابا، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1)، أي: يريد خلاف العسر، كما قال:{أتنبئون الله بما لا يعلم} (2)، أي: يعلم خلافه حتى لا يكون النفي داخلا في الإطلاق انتفى، أي: إن العلم مطلق التعلق، فلو لم يؤوّل الآية لانتفى العلم عن بعض، فأوّل بما ذكر؛ ليحصل به التعلق ولا يخرج عنه أمر.
وقال بعد هذا في الرد على من زعم الأمر والإرادة: قالت الأشعرية: لسنا نسلم أن كل أمر بشيء مريد له حصولا، بل كل أمر بالشيء عالم بحصوله، مريد له حصولا، أمر يعلم حصول ضده لا يكون مريدا لحصوله، فإن الإرادة
(1) البقرة الآية: 185
(2)
يونس الآية: 18
على خلاف العلم تعطيل الإرادة، وتغيير لأخص وصفها.
وقد بينا: إن أخص وصفها التخصيص، وحكمها أن تتعلق بالمتجدد من المقدورات والمتخصص من المرادات.
فإذا علم الأمر أن المأمور لا يحصل ولا يتجدد ولا يتخصص يستحيل أن يرده، فإنها حينئذ توجد ولا متعلقا لها، وتتعلق ولا أثر لتعلقها، ولو أن الإرادة من خاصيتها أنها تتعلق بالممكن فقط كالقدرة؛ لكان جائز أن تتعلق بخلاف المعلوم.
ومن العجب أن متعلق القدرة أعم من متعلق الإرادة، فإن الممكن الجائز من حيث هو ممكن متعلق القدرة، والمتجدد من جملة الممكنات هو متعلق الإرادة. والمتجدد أخص من الممكن.
وقد قال بعض المخالفين: إن خلاف المعلوم غير مقدور، والقدرة أعم فإذا لم يتعلق الأعم بخلاف المعلوم كيف يتعلق الأخص الذي هو الإرادة؟ اهـ.
وقد اشتهر وذاع وكثر دورانه على الألسنة من عقائد السنوسي وغيره: أن إيمان أبي لهب (1) غير مراد؛ إذ لو أراده وهو لم يقع لكان مغلوبا.
(1) أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب (ت 2 هـ = 624 م): عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أشد الناس عداوة للمسلمين في الإسلام. وفيه الآيات: {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} انظر الذهبي، تاريخ الإسلام ج1/ 84 - 169. السهيلي، الروض الأنف ج1/ 625، ثم ج2/ 78 - 79
…
وقد قال بعض المعتزلة لمجوسي: أسلمْ.
فقال المجوسي: إن الله لم يرد إسلامي.
فقال المعتزلي: أراده، ولكن الشياطين لا يتركونك.
فقال: أنا إذًا أكون مع الشريك الأغلب.
فقال المعتزلي: ما ألزمني أحد مثل هذا الإلزام.
نقل هذه الحكاية السعد (1) فظهر من هذا كله أن الله أراد في أزله ما وقع فيما لا يزال، ولا يعارض هذا إلا من سبق من أن الإرادة صفة يتأتى بها التخصيص، فأما من تحمل ذلك على قولين في المسألة ولا إشكال، وليس ذلك ببعيد في مؤلفين إنما يستبعد استبعادا في مؤلف واحد يذكر الحقيقة جازما بها، ولم يحك خلافها، ثم يذكر في مساق آخر ما خلاف تلك الحقيقة دون تصريح بحكاية قولين، مثلا كالإمام السنوسي فإنه ذكر في حقيقتها الثاني إلخ
…
.
وهذا مشعر بالصلاحي، ثم يقول في كبراه (2) وغيرها: تأثير لقدرة عام لولا تخصيص الإرادة، وهذا مشعر بالتنجيزي لها في الأول على ما علم الله.
وكذا قال: إن الخلاف المعلوم غير مراد. وكذا قال غيره كإيمان أبي لهب خلافا للمعتزلة، وما سبق عن أبي بكر (3)
(1) انظر السعد التفتازاني.
(2)
انظر السنوسي، شرح أم البراهين ص 102
(3)
الباقلاني، الإنصاف.
فصريح في أنها تتعلق بجميع الممكنات، ومنه يؤخذ أن تعلقها تنجيزي قديم، وكذا كلام السنوسي في كبراه، وكذا نزاعهم في إيمان أبي لهب فإن هذه كلها تشعر بخصوص التعلق وتنجيزه أزلا، إلا أن يحمل كلامهم على التنجيزي الحادث؛ إذ فيه تكون الإرادة خاصة التعلق، وتخصص الشيء لتؤثر فيه القدرة؛ فتكون القدرة من حيث ذاتها أعم؛ لقبولها لفعل كل واحد بدلية، لولا إرادة تخصصها.
وعلى هذا فيكون صلاحي الإرادة ثابتا، وتكون به قابلة لجميع الممكنات. ويدل له من كلام أبي بكر ما نقلناه عنه من قوله: إن كل آمر بالشيء علم به مريد حصوله إلخ
…
فدل على تعلق الإرادة الذي يتكلم فيه. اهـ. خاص إنما هو في التنجيزي.
وجواب ثان هو: إن الإرادة عامة التعلق من حيث ذاتها خاصة بالمتجدد، مضمونة للعلم، ونزاعنا مع المعتزلة في الإرادة لا يدفع هذين الجوابين، إذ هم على ناحية أخرى من حدوث الإرادة، وأنها تابعة للأمر. فليس من سلك ما نحن فيه من القدم حتى نطالبهم بالتعلق القديم التنجيزي أو الصلاحي، والله أعلم، ثم الأحاديث الدالة على الحتم في الأزل، وجفاف القلم بما لاق فهو من حيث العلم، فلا يعارض الثاني الذي قلناه.
ومعنى قولنا: إيمان أبي جهل غير مراد
…
أي لكون الإرادة على وفق الأمر، خلافا للمعتزلة. أما إرادته بالتأتي فنحن قائلون به كما سبق وهم مصرحون به.
وأما الصدور فلا قائل به منا ومنهم، ومحط الخلاف من حيث التبعية للأمر فتكون منجزة
عليه الإرادة، كتنجيز الأمر من حيث التكليف عنهم، وعندنا لم ينتجز الإرادة، وإلا وقع في ملكه ما لا يريد، وما ذكرتموه عن السعد من التعلق التنجيزي القديم الإرادة فإن كان في غير العقائد فالناقل مصدق، وأما فيها ففيه استرواحات في مواضع:
ومنها قوله: الإرادة والمشيئة عبارة عن صفة في الحي توجب تخصيص أحد المقدورين في أحد الأوقات بالوقوع، مع استواء النسبة إلى القدرة. انتهى (1).
ومنها قوله: تعلق القدرة مضموما إلى الإرادة يتخصص، فدل هذا منه على خصوصها وعموم القدرة.
وهذا إنما يظهر في التعليق القديم وإلا فالتنجيزي، لا عموم لكل منهما فيه، أن القدرة لا تتعلق تنجيزا إلا بأحد المتقابلين دون الآخر في حالة تعلقها بمقابله وكذا الإرادة.
وبهذا المعنى يظهر لك ضعف ما سبق في الجواب عن كونه خاصة بأنه في التنجيزي فتأمله.
والذي تعقله الذهن ما في الجواب الثاني إما كون الإرادة لم تخصص في الأزل، وإما هي متأتية، أي: قابلة لأن تخصص، وإن كان ظاهر كلام السنوسي أو صريحه. وإنما عين فيما لا يزال المرادات، فإنما وقع في أذهاننا تقيد لمشايخنا غير متعقل عنده، والصواب ما سبق.
(1) انظر السعد التفتازاني، شرح العقائد النسفية ص 74 - 75
ويمكن جواب ثالث: وهو أن ما علم وقوعه أراده في الأزل ولم يرد غيره، لكن لعدم وقوع المراد سمي هذا التعلق صلاحيا من حيث إن المراد لم يقع. وبعد وقوعه تنجز ما أرادوا التعلق إضافة اعتبارية لا يضر اختلافها تسمية من حيث المتعلق، وهو واضح.
وإن كان لا يجري مع الحقيقة التي ذكرها السنوسي في المقدمات (1) إلا بتأويل إطلاق التأتي عليه من حيث عدم حصول المراد، فتأمله.
فإن قلت: كيف يجمع بين ما للسنوسي في غير كبراه من تعلقها بجميع الممكنات، وبين ما له في كبراه. وللسعد، وأبي بكر تصريحا من هذين بتعلقها بالمتجدد، وأنها أخص من القدرة تعلقا؟
قلت: يمكن، إن ذلك اختلاف قول، ويمكن التوفيق بضم الإرادة إلى العلم أو اعتبارها مستقلة. فعلى الأول لا تعلم دون الثاني، وإنما أطلت الكلام؛ لأن مسألة الإرادة متشعبة، وقصدت ومبدأ الأجر منكم، أُذكّر نفسي بما قيده لكم، فلا تصرفوا الذهن عن ذرة منه. فإن كل ذرة منه تساوي درة، والله الموفق.
وأما سؤالكم: هل تتعلق الإرادة بأقسام الحكم العقلي؟ ففي ما ذكرته قبلُ ما يدفع هذا، وقد حصل منه أن تعلق الإرادة أخص من تعلق القدرة أو مساويا، وقد تقرر لكم وسبق فيما نقلناه قبلُ
(1) انظر السنوسي، شرح المقدمات ص 61
أن الإرادة صفة تأثير، وكيف التأثير في القديم بالإيجاد، وهو تحصيل حاصل أم بالإعدام، وعدم القديم مستحيل، وأيضا كل ما تعلق به القصد فهو مسبوق بعدم، ومن ثم احتاجت الفلاسفة عند دعوى قدم العالم إلى نفي الصفات؛ لعدم تصور دعوى القدم مع الإرادة، وكذا تعلقها بالمستحيل مستحيل؛ لأن إيجاده محال، وإعدامه تحصيل حاصل.
وأيضا تقدر في أي ما موضع أن مجرد التخصيص ينافي القدم فكل ما هو مخصص حادث. وأيضا لو تعلقت الإرادة به لتعلقت القدرة، ويكون قادرا على أن يتخذ ولدا وصاحبة؟ وعلى إعدام نفسه وهذا غير معقول.
وأما قولكم كما صرح بذلك بعض الأئمة قد وقع في عبارة بعض الكبار، فيلتمس له أحسن المخارج، كما قال بعض الأئمة في باب التنزيه: سبحان من خص نفسه بالقدم والبقاء، وغيره بالموت والفناء.
فيفهم من قوله: خصص نفسه بذلك على معنى أنه استحق ذلك لذاته لا بمقتضى غيره. وإطلاق التخصيص بهذا المعنى مجاز فلا يطلق إلا بعلاقة، أما فهمه على أنه تعلقت إرادته بذلك للتأثير فلا يصح عقلا ونقلا، هذا في التعبيير بأن الله خصص نفسه بالقدرة والبقاء مثلا، كما ذكرتم، فإن التخصيص التأثير، وذلك لا يعقل في الواجب والمستحيل.
أما الإرادة بالتأثير فقد ذكر المديوني (1) في كونها تتعلق بجميع ما تعلق به العلم.
(1) انظر المديوني، شرح عقائد السلالجي ص 9
فقال: واختلف هل تتعلق الإرادة بما تعلق به لعلم، فكما يقال: علم الواجب والجائز والمستحيل، كذلك يقال: أراد الواجب أن يكون واجبا، وأراد المستحيل أن يكون مستحيلا، وأراد الجائز أن يكون جائزا.
وقيل: إن الإرادة تتعلق بما تتعلق به القدرة وهو الجائز فقط، انتهى كلام المديوني في شرحه للسلالجي.
فإن قلت: ما معنى تعلق الإرادة على القول الأول؟
قلت: على معنى الرضى والمحبة، والمعنى: رضي الله بالواجب أن يكون واجبا، ورضي بالمستحيل أن يكون مستحيلا، وكذا الجائز، وهذا القول أعني عموم الإرادة للأقسام الثلاثة بالمعنى الذي ذكرناه ثابت لأهل السنة، كما نقله الشيخ زكرياء ()(1) وهو لازم للمعتزلة، بمعنى آخر من حيث حكموا بإغناء العلم عنها؛ فتكون لغير التأثير، كالعلم فلا يمتنع عموم تعلقها للأقسام الثلاثة أبدا بخلافها عندنا، والله أعلم. وقد ()(2).
ومن الأسئلة قولكم: هل خلق الله للعالم دفعة جائز كما هو العقيدة أم مستحيل، كما توهمه بعض الطلبة؟
أقول بحول من به الفكر يجول: الحق ما نسبته وهما للطلبة، وإن خلق العالم دفعة مستحيل لوجهين:
(1) ما بين القوسين جملة غير واضحة.
(2)
وقع هنا سقط مقداره سطرين وكتبه الناسخ بالهامش لكن مبتور الآخر
أحدهما: ما صرح به الأئمة، وقد سبق لكم فيما نقلناه عن أبي بكر في مسألة الإردة أن المقدورات والمرادات غير متناهية. والعلم وإن تعلق بأقسام ثلاثة فهو غير زائد على المقدور، والمراد؛ لأن العموم والخصوص فيما لا يتناهى لا يتفاوت، وحصول ما لا نهية له دفعة مستحيل؛ لاستحالة دخول ما لا نهاية له في الوجود لا اقتضائه من حيث خلقه دفعة الفراغ، ومن حيثب تناهيه يقتضي عدم الفراغ، واجتماع النقيضين محال، والقدرة لا تتعلق بالمحال فلا نقص في تعلقها؛ لأن النقص لو جاء من حيث خروج ما يصح توجهها إليه، أما ما لا تتوجه إليه كالمحال فلا.
الوجه الثاني: إن العالم فيه متقابلات فلو حصل كل ذلك دفعة للزم اجتماع الأضداد من جملة المقدورات الطول والقصر، ووقوعها دفعة يستلزم ذلك محالا عقلا.
وأيضا من جملة العالم أنفاس أهل الجنة ونعيمهم، وعذاب أهل النار المخلد. فلو جاز إيقاع العالم دفعة لبطل معنى التخليد ونحوه، واجتمع النقيضان اجتماعا ذاتيا لا عرضيا، كما يستحيل تعارض الأخبار، وقد عدّ من جهالات أبي الهذيل العلاف القدري أنه يفرغ من خلق العالم حتى يجد ما يخلق، وقد ذكر ذلك ابن العربي (1) وغيره ممن تعرض لهذه الطوائف
(1) ابن العربي الحاتمي الأندلسي محمد بن علي، (560 - 638 هـ = 1165 - 1240 م): فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم. له مصنفات كثيرة، منها:" فصوص الحكم "، " شرح أسماء الله الحسنى "، " التدبيرات الإلهية في المملكة الإنسانية ". انظر ابن القاضي، جذوة الاقتباس ص 175. الذهبي ميزان الاعتدال ج 3/ 108
…
الضالة. ولو كان جائز الوقوع دفعة لما عد من جهالاته، إذ الجائز ما لا يلزم على فرض وقوعه محال. وهذا بديهي، فتأمله، والله أعلم.
المذكور فضائح كثيرة منها هذه المقالة الشنيعة، وهي ما ذكرته عنه آنفا من تناهي مقدورات الباري، ثم إذا انقضت مقدوراته لا يقدر على شيء، وإلا كان ذلك الوقت فني نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار لا يقدر الباري عند فناء نعيمهم على ذرة، وكذا في عذاب أهل النار، وتفنى قدرة أهل الجنة حتى لو مد واحد من أهل الجنة يده إلى شيء من ثمارها، وجد ذلك الوقت لم يقدر الباري سبحانه أن يوصل تلك الثمرة إلى يده، ولا على أن يوصل يده إليها. وأهل لجنة كلهم يبقون خمودا ساكنين، لا يقدرون على حركة، وينقطع عذاب أهل النار في ذلك الوقت. وهذا قول منه يبطل الرغبة والرهبة، ويبطل فائدة الوعود والوعيد، وقصد بعض أصحابه إخفاء هذه البدعة وما قدر؛ لأنها مشهورة عنه وقد ذكرها في كتاب الحجج من الكتب التي صنفها على الدهرية، وطرفهم بهذه المقالة إلى تمهيد إلحاد الدهرية، وطول ألسنتهم على المسلمين بارتكاب هذه البدعة. اهـ. من كتاب الملل، والله أعلم (1).
(1) انظر الشهرستاني، الملل والنحل ج1/ 49
فقد علمت منه أن المقدورات تتحقق فيها أنها غير متناهية، وغير المتناهي لا يتصور القول بخلقه دفعة للجمع بين النقيضين. وممن نص على تناهي المقدورات إمام الحرمين (1) في الإرشاد، وكذلك السلالجي (2) في مختصره وعقد المحلول فقال: والدليل على عدم تناهي المقدورات جواز وقوع أمثال ما وهم، والجائز لا يقع لنفسه وفي قصر القدرة عليه استحالة وقوعه.
وذلك يؤدي إلى الاستحالة، والإمكان فيما علم فيه الإمكان، وهكذا القول في المعلومات والمرادات والمدركات ومتعلقات الكلام. انتهى.
قال الخفاف (3) هذا استدراك على الوحدانية بأن يعرض القائل إلهين عدم العجز بعدم توجه قدرة الثاني لما توجهت له قدرة الأول.
فأجاب الشيخ بأن المقدورات لا تتناهى، وستدل لما ذكر. وبيانه: لو فرضنا تناهي المقدورات في عشرة مثلا. وأما ما وراءها فلا يقال هل القدرة منفية، فيكون مسلوب القدرة وعاجزا، وليس بإله أم باقية فيكون قادرا على أمثال ما وقع
(1) انظر إمام الحرمين، الإرشاد ص 1896 وما بعدهما.
(2)
المديوني، شرح عقائد السلالجي ص 19
(3)
الخفاف زكرياء بن داود (ت 286 هـ = 899 م): حافظ للحديث مفسر. له التفسير الكبير. انظر الذهبي، تذكرة الحفاظ ج2/ 22.
وأمثال أمثاله إلى غير نهاية؛ لأن القدرة صالحة باقية؛ لإيقاع الجائزات إلى غير تناهٍ.
وعلى قول الخصم من قصر قدرة أحد الإلهين على عشرة مثلا استحالة وقوع أمثالها؛ لقصر القدرة، ويلزم من فرض بقاء القدرة جواز وقوع أمثال ما وقع إلى غير نهاية، فهو يستلزم الجمع بين الاستحالة والإمكان في قضية واحدة كما ذكره أبو عمرو (1) اهـ.
فالحق أحق أن يتبع، فهذه هي العقيدة، وإن كانت قبل عندكم وهما، فهي الآن المعتمد، والله الموفق.
(1) أي السلالجي.