المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس.أقسام الحكم العقلي - التحف الربانية في جواب الأسئلة اللمدانية

[يحيى الشاوي]

الفصل: ‌المطلب الخامس.أقسام الحكم العقلي

‌المطلب الخامس.

أقسام الحكم العقلي

.

ومنها قولكم: الكلام يتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي، وهل بكل دلالة من دلالته يدل على الجميع، أو لا يدل على جميع الحكم العقلي إلا لبعض منها؟ وإن قلتم بدلالة البعض منها ما هو هذا البعض؟ هذا تمام سؤالكم.

كلامكم هذا يحتمل إرادة السؤال عن دلالة. وهذا ظاهر كلامكم في مبداه. ويحتمل كلامكم السؤال عن الكلام هل هو محصور في الدلالة على أقسام الحكم العقلي فلا يخرج عنها، أو بعضه يخرج عنها، ويدل على شيء آخر. وهذا ظاهر آخر كلامكم.

وأقول بحول من به الفكر يجول: إن كلام الحق عند أهل الحق هو المعنى القائم بالذات لا يوصف بالكل ولا بالبعض. ودلالته هي تعلقه، والتعلق عدمي؛ إذ هو إضافي، وقد علمتم

ص: 126

الخلاف في وصفه في الأزل بكونه أمرا نهيا خبرا إلى آخرها أم لا؟ الأول للجمهور، والثاني للكلابي، والحجاج طويل بين الفريقين.

وقد علمتم أيضا الخلاف في كونه صفة واحدة لها حيثيات تسمى بها أمرا نهيا خبرا إلخ

أم هي صفات قولان لمن تقدم أيضا، وليس للكلام تعلق إلا الدلالة. والدلالة محصورة في الأقسام الثلاثة؛ إذ ليس وراءها شيء يدل عليه من القضايا كالدلالة على ذات فرعون (1) وغيره، على أنه أيضا لا بد في كل من ذلك من رجوعه إلى أحد الأقسام الثلاثة في حد ذاته. فإن بينا على أنه صفة واحدة فهو من حيث تعلقه بمطلوب أمر وبمتروك نهي إلى غير ذلك.

وكل دلالة دلت على قسم وليست الدلالة عليه هي عين الدلالة على القسم الآخر المتعلق أمر إضافي يختلف بالمتعلقات، فليس التعلق بشيء هو عين التعلق بغيره، كما في تعلق الإرادة، أو القدرة بوجود عمرو، فإنه ليس عين تعلق تلك الصفة بوجود زيد فكذا الكلام، فتعلقه باستحالة المستحيل كإلهين مثلا هو عين تعلقه بوجوب واجب، أو جوازه أي: دلالته

(1) فرعون: هو اسم لكل من ملك مصر. وفرعون هذا صدر منه ما لم يصدر من أحد من الكفار والمرتدين، ولا من قائدهم إبليس. منها إنكار العبودية، وادعاؤه الربوبية فأهلكه الله بغرقه في النيل مع أتباعه. وذكر في مواضع من الكتاب العزيز.

ص: 127

على ذلك. فكيف يعم تعلق واحد جميع أقسام الحكم؟ إنما يقال الذي تعلق بالجميع وهو الكلام واحد أي: وصف واحده يتعدد. وإن تعدد تعلقه كالقدرة مثلا أي: يتعدد إلى سبع صفات. والتعلقات لا تحصى؛ إذ هي تعدد المدلولات، أعني جزئيات الأقسام الثلاثة فبطل صحة اتحاد الدلالة، أي التعلق بحيث يكون تعلق واحد يعم الأقسام.

فإن كان هذا قصدكم فقد علمتم الجواب عنه، ولم يبق لقولكم ما هو البعض موقع؛ إذ التعلقات على عدد المتعلقات وهي اعتبارية. منها أزلية وهو التعلق الصلاحي، ومنها غير أزلية وهو التنجيزي، هذا على المعتمد، أو هي كلها، أي التعلقات حادثة، وعلى كل: فلا معنى للتبعيض في هذه التعلقات التي لا تتناهى، وهي حيثيات لوصف لا يكيف، ولا يوصف ببعضية، إذ هو وصف كالقدرة، فكيف يعقل فيه تبعيض، أو في تعلقه الذي لا يتناهى يطمع السائل بتحديده وتعيينه؟

وإن كان قصدكم الثاني عما احتمله سؤالكم، أي: كون الكلام محصورا في الدلالة على أقسام الحكم العقلي، أم يخرج عنها، فقد علمتم أيضا أن الكلام لا يوصف بكلية ولا بعضية، فلا يمكن تبعيض بعض لعدم إمكان التبعيض فضلا عن تعيينه.

فإن الكل ما عمَّ أجناسا، أو أنواعا، أو أفرادا. والكلام سبع صفات لا كل في كل صفة، أو هو صفة واحدة فلا كل أيضا، ثم إن دلالته لا تخرج عن أقسام الحكم العقلي وهو ليس كلا

ص: 128

أيضا حتى تقول بعضه يدل على جميع أقسام الحكم العقلي دون البعض الآخر.

وإن قصدتم التبعيض في الدلالة فهي غير محصاة، ولا يعنيكم تبعيضها قصدكم ولا تعيين ذلك البعض، ولا يمكن خروج الدلالة عن الثلاثة بأن لا يدل أصلا، أو يدل على أمر وراء الثلاثة مثلا. وليس يمكن عدم دلالته أصلا، إذ دلالته هي وصف الكلام، وهذا الوصف نفسي له على المشهور.

والنفسي لا يختلف كما لا يمكن خروجه عن الأقسام الثلاثة إلى شيء آخر ليس هنا غيرها حتى يخرج الكلام إليه في دلالته. وبعد ثبوت هذا كله انسد باب طلب تعيين البعض، إذ لا كل ولا كيفية في الصفات، بل العجز عن الإدراك إدراك.

والحاصل أن هذه من البديهيات هذا إن كان قصدكم الكلام النفسي القائم بذاته فإن كان قصدكم ما بين دفتي المصحف فهو ظاهر التبعيض ومع ذلك لا يخرج عن الأقسام الثلاثة؛ لانحصار المعقولات فيها، وكل آية تدل على مدلولها قصدا أو ضمنا، كقوله:{والله خلقكم وما تعملون} (1)، {لا تتخذوا إلهين اثنين} (2)، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (3) إلى غير ذلك، ولا يحتاج إلى نقل في هذه:

(1) الصافات، الآية:96.

(2)

النحل، الآية:51.

(3)

الشورى، الآية:11.

ص: 129

وكيف يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وكتب أهل السنة مملوءة بالدلالة على ما ذكرناه، والعقل فيه كاف، ومن الأمثلة ما ذكرتم من قول اليفرني في الصفات. منها قسم يتعلق بالمعدوم الممكن، ويستمر إلى حين حدوثه.

وقال قبله: ولا تتعلق به في حال وجوده. وعنى بهذا القسم القدرة والإرادة. قال: وهذا التعلق قديم يستحيل عليه التغيير، والعدم سألتم فيه عن تعلق القدرة بالموجود في حال وجوده، وقلتم: هل هذا التعلق صلاحي أم تنجيزي؟

فأقول بحول من به الفكر يجول: أما التعلق المذكور المستمر إلى حين الوجود فهو الصلاحي قطعا؛ لوجوه: منها أنه قديم، والقديم هو الصلاحي للقدرة باتفاق، وكذا الإرادة على رأي. وقد أخذ من قرنها مع القدرة، وذكر التعلق لهما بلا تفصيل اتحادهما فيه، فيكون صلاحيا.

ومنها أنه ذكر أنه ثابت قبل وجود الممكن. والتنجيزي صدور الممكنات. وكيف يكون الصدور قبل المصدور؟ فهو لم يذكر التنجيزي أصلا على أن الصدور في الحقيقة وصف للصادر لا للمصدور كمن أخرجته فخرج. فالخروج للخارج لا لمن أخرجه، لكن من حيث وقوعه به ثبتت بينهما العلاقة فيذكر منسوبا للصفات.

ومنها أنه قال: لا يتغير، والصدور يتغير ضرورة ومشاهدة،

ص: 130

أي يعدم ذلك الصدور بعد أن كان. وهذا بديهي.

وأما سؤالكم عن عدم تعلق القدرة بالموجود الممكن في حالة استمرار وجوده. فما ذكره اليفرني فيه هو عين الحق والصواب، فلا يصح غيره في العقول والألباب. فإن القصد إلى إيجاد موجود تحصيل حاصل وهو في الحال.

فإن قلت: من أي وجه من أوجه الاستمالة هو؟

قلت: هو من باب اجتماع النقيضين؛ لأن القصد إلى إيجاده يقضي بعدمه. والفرض أنه موجود، فقد اجتمع في القضية الوجود والعدم والنفي والإثبات وذلك محال. ومثل ما ذكره اليفرني ذكره الشيرازي في الحدود.

قال: فصل: يوصف المحدث بأنه محدث في حال حدوثه، وهو حال تعلق القدرة به. وأما إذا وجد، وأتى عليه زمان لا يوصف بالحقيقة؛ لأنه محدث، بل كان محدثا.

وإنما توصف الموجودات اليوم أنها محدثة على طريق المجاز، والاتساع، وإلا فالحقيقة ما ذكرته. وقد قال قبله المحدث إما لوجوده أو لا، أو الكائن بعد أن لم يكن، أو الموجود بعد إن لم يكن. انتهى (1).

ووجه الدليل أنه في وجوده في ثاني الأزمنة، وما بعدها لم يسمه محدثا، وما ذلك إلا لعدم تعلق القدرة به وإحداثها إياه.

(1) انظر الشيرازي، كتاب الحدود ص 62.

ص: 131

فلو كان في كل زمان يقع للموجود أحداث لما كان في تسميته محدثا في ثاني الأزمنة مجازية فاعلمه.

وقد نقل كلام اليفرني المحقق المراكشي وقبله، وهذا ونحوه مما أذكره لكم عن الغير وفاء بشرطكم النص، وإلا فالمعقول هو الكافي للفحول، وتوجيه الحكم بالعقل هو أقوى ما عليه التعويل.

فإن قلت: هذا ممكن خرج عن قدرته.

قلنا: هو غير ممكن أي إيجاده مع فرض إيجاده فليس من متعلقات القدرة.

فإن قلت: هو وإن لم يمكن إيجاده بما ذكرت فتتعلق به القدرة على معنى أنه في قبضته من حيث توجه الإعدام.

قلنا: إن فرضنا المسألة فرضا وهميا، أو بواسطة علم من صادق أنه يعيش مثلا كذا فالقدرة لا تتعلق بإعدامه لعارض العلم، ويصير مستحيل العدم واجب الوجود بالعارض. وذلك لا يدفع الجواز الأصلي، ولا يخرجه عن تعلق القدرة من حيث ذاته بقطع النظر على مشاهدة الوجود، وعارض العلم ينفي العدم.

وإن لم يعتبر هذا الوهم فالقدرة لا تتعلق بإيجاده. أما بإعدامه فتتعلق، ثم إنها تتعلق به حال وجوده صلاحية للإعدام، وتحيزا في الإمداد بأعراض الحياة.

فإن قلت: فهل للقدرة في ذلك عمل ما؟

ص: 132

قلنا: نعم في كل عدمي إيجاده وإعدامه كتجرد الأعراض، والرزق، وسائر البسط، والمحن والنوم والغفلة والأمانة، ونحو ذلك؛ إذ الأمانة ليست إعداما للذات إنما هي إعدام للحياة قط والله أعلم.

ومنها سؤالكم عن الاقتداء بالأنبياء في السكوت فهو على وجهين: إما على معنى أخذ الحكم بنفي الحرمة فيما فعل بحضرتهم، وسكتوا عنه؛ إذ هم عليهم الصلاة والسلام لا يقرون أحدا على باطل، كسكوته صلى الله عليه وسلم عمن ذبح الضب بحضرته فأخذ منه (1) أنه يباح، فاقتدينا به في ذلك، أي أخذنا من سكوته الحكم بالجواز.

والوجه الثاني: أن نقتدي في سكوته على معنى نسكت عمن سكت عنه، وإن كان المسكوت عنه عاصيا في فعله، أو كافرا فيقع منا الاقتداء في عين السكوت، لا في كون المسكوت عنه جائزا كسكوته صلى الله عليه وسلم عمن لم يتم صلاته في الركوع في قضية معلومة حصل للمصلي فيها عدم إقامة الأركان، وهو ساكت عنه حتى أكمل، فقال له:" صل كأنك لم تصل". (2).

(1) رواه البخاري 9/ 466 في الذبائح، باب الضب، ومسلم في الصيد، باب إباحة الضب، مالك في الموطأ 2/ 268 في الاستئذان، باب ما جاء في أكل الضب عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(2)

جزء من حديث رواه الترمذي رقم 302 في الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة. وأبو داود رقم 857. في الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. وهو حديث حسن عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه.

ص: 133

فعل ذلك ثلاثا وهو يسكت حال الفعل، وبينه بعد الفراغ وبعد الثلاثة قال له الأعرابي: يا رسول الله، علمني فإني لا أحسن غير هذا، فأخبره صلى الله عليه وسلم بقوله:" اركع حتى تطمئن راكعا " إلخ

والقضية معلومة.

وكسكوته صلى الله عليه وسلم عن ذمي يجتاز لمصلاه فنسكت كما سكت. فالسكوت إذا على قسمين:

إن كان المسكوت عنه جائزا اقتدينا به في السكوت بأن نسكت عمن فعل جائزا، واقتدينا به في السكوت عنه بعملنا له، أو اعتقادنا حليته.

وإن كان السكوت عنه ممنوعا سكتنا فقط كما سكت.

فإن قلت: أما الأول فظاهر صحة سكوته صلى الله عليه وسلم عنه، فكيف سكوته فيما بعده؟

قلنا: أما في المصلي فإن السكوت المعقب بالتنبيه على حرمة الفعل لا يوجب لبس جوازه، فمن ثم كان صلى الله عليه وسلم فعله مع ما فيه من الفائدة الإرشادية بأن العلم نفيس يبذل للسائلين، فلذلك لم يعلمه صلى الله عليه وسلم حتى سأله.

وفيه معاقبة من يقدم على الأمر بلا علم فلذلك أتعبه، ثم بعد الفراغ يقول له أعد. مع ما في البذل لمن لم يسأل من خوف التعنت، والاستكبار، فأرشد أمته لأحسن الأمور صلى الله عليه وسلم.

ص: 134

وأما في الذمي فسكوته غير موهم لما تقرر من وجوب الإيمان ومنع الكفر، والرضى مع شهرة معاقدة الجزية مع الذميين على ذلك، مع ما في الجزية من الفوائد الدنيوية الموصلة للإعانة على الأخرى من أخذ المال. والأخروية من رجاء الإسلام لهم باطلا عنهم محاسن الإسلام، أو من ذراريهم إلى آخر الدهر، بخلاف استيصالهم قتلا، فإنه لا يرى معه شيء من ذلك، فتوافقت شريعته السمحاء، وخلقه الحسن. وكان بالمؤمنين رحيما صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وبما سبق تعلم معنى أنه لا يسكت على باطل فتدبره.

كمل هذا التقييد المبارك بحمد الله على قدر الاستطاعة، وقد جمعته من دواوين عدة في أقرب مدة، وذلك نحو اليومين والحمد لله، وأرجو به أن يكون لي من إجرامي جُنّة، وإلى محبته سلما، ولا غنًى لي عن فضله، كدخول الجنة، فأساله أيها الناظر في هذا التقييد الدعاء لي عن ظهر غيب بسد الخلل من كل عيب، وأن يكفينا هم الدنيا وعذاب الآخرة، وأن يلبسنا ملابس أهل عنايته الفاخرة.

وأقدم إليكم جامعه صلى الله عليه وسلم في ذلك عند كل مطالعة ومراجعة فيه، وهذا لمنه منكم، ومن الله أطلب المزيد. وأوصيكم أيها الأحبة إن عرضت لكم مسائل فراجعونا بها؛ للمشاركة معكم في الأجر، وطلب حط شيء من الوزر الذي أثقل الظهر، ولا تظنوا فينا أن يمسنا من ذلك ملل وضجر، بل ما يقدم منكم في هذا المعنى نعده تحفة مهداة، وطرفة من الأحبة معطاة. قال ذلك جامعه المتطفل على

ص: 135

باب سيده الكريم بالتشبه بمن علق بالثريا مع أنه في حضيض أسفل الثرى مع طائفة ريا.

اللهم يا منقذ من لا حيلة له أقدم إلينا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ومحبيه وعمران بن حصين (1).

وصفوان بن سليم، وسائر الأحبة أن تكسوني سوة الرضى من ملابس أهل الرضا، وأن تقينا من نار لظى فإن فضلك عريق والمتشفع بهم فوق ما أطلت برضاك عنهم، ولو كانت الطلبات والحاجات على قدر الأعمال الصالحات لما طمعت في حظه نملة؛ لكونه ممن إذا رأى الخير قال نم له. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله كما لا نهاية لكمالك وعد كماله.

(1) عمران بن حصين (ت 52 هـ = 672 م): من علماء الصحابة. كان معه راية خزاعة يوم فتح مكة. وبعثه عمر رضي الله عنه إلى أهل البصرة ليفقههم. وولاه زياد قضاءها. وهو مسن اعتزل حرب صفين. له في كتاب الحديث 130 حديثا. انظر الذهبي، تذكرة الحفاظ ج1/ 28. ابن حجر العسقلاني، تهذيب ج8/ 125

ص: 136