المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني.المصيب في العقليات واحد - التحف الربانية في جواب الأسئلة اللمدانية

[يحيى الشاوي]

الفصل: ‌المطلب الثاني.المصيب في العقليات واحد

‌المطلب الثاني.

المصيب في العقليات واحد

مع اختلاف أهل السنة كالأشعري

والرازي في الأحوال نفيا وإثباتا

ومنها أي الأسئلة قول العلماء: إن المصيب في العقليات واحد مع اختلاف أهل السنة كالأشعري والرازي (1) في الأحوال نفيا وإثباتا، والصعلوكي (2) في تعدد العلم والقدر، فمن المصيب

(1) الرازي الفخر محمد بن عبد الله (544 - 606 هـ = 1150 - 1220 م): إمام، مفسر. من تصانيفه:" معالم أصول الدين "، " لوامع البيان في شرح أسماء الله الحسان ". ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان ج4/ 126، السبكي التاج، طبقات الشافعية ج5/ 35.

(2)

الصعلوكي محمد بن سليمان (296 - 369 هـ = 908 - 980 م): فقيه شافعي، عالم بالأدب والتفسير. قال الصاحب بن عباد: ما رأينا مثله، ولا رأى مثل نفسه. رويت عنه فوائد. انظر السبكي، طبقات الشافعية ج2/ 161 - 164. الثعالبي، يتيمة الدهر ج4/ 299.

ص: 90

ومن المخطئ، مع أن المصيب واحد، ومن يتبع في هذا الخلاف ومن لا يتبع هذا تمام السؤال.

المصيب واحد كأصول الدين بخلاف الظنيات، كالفقه، وذلك أن العلماء اختلفوا هل لله في كل نازلة حكم، أو لا حكم له إلا ما يحكم به المجتهد؟ وعلى الأول هل له عليه دليل أم لا؟ وهل الدليل ظني أم قطعي؟

قال بكل إمام، فعلى أنه لا حكم له، كل مجتهد مصيب؛ لأنه لا حكم له إلا ما يحكم به المجتهد، وكذا على أنه لا دليل للعذر، وعلى أن عليه دليلا ظنيا كذلك؛ لأنه يقتضي ظن المجتهد، وعلى أن له دليلا قطعيا لا بد من مصادفته، والمصادف هو المصيب وغيره المخطئ، واستشكل كون حكمه تعالى هو ما يحكم به المجتهد فإنه ينبني على كون أحكامه حادثة، وهو مذهب اعتزالي.

ومذهب الأشاعرة أن الأحكام قديمة، فكيف تتبع حكم المجتهد، بل يجب عليه أن له حكما، وأن حكم المجتهد تابع له.

أجيب بأن تبعية الأحكام نظر المجتهد من حيث تعليقه التنجيزي به وبمقلديه. وتحقيق المقام أن الأشعري ذهب إلى أن الثابت في الأزل قبل وجود المجتهدين واجتهادهم تعلق بما يتعين بالاجتهاد؛ لأن علمه تعالى محيط بما سيتعين، فإذًا الحكم الثابت تعلق بحكم معين في حق كل مجتهد، وهو ما علم تعالى أنه يقع عليه اجتهاد المجتهد، ثم إذا وقع الاجتهاد وحصل من

ص: 91

المجتهد الحكم تعلق حينئذ تعلقا تنجيزيا به وبمقلديه، وتنوع ظنون المجتهدين يكشف عن تنوع الأحكام.

وقد قرر أن تنوع الأحكام اعتباري في الأزل عند الجمهور. وعند أبي سعيد فيما يزال هذا محصل الجواب، وانظر ابن أبي شريف. ونقل قبله الدليل على أنه تابع لحكم المجتهد، موافقات عمر (1) حيث يحكم من رأيه، وينزل القرآن بموافقته، وكذا ما في البخاري من قضية أبي قتادة (2) فيمن قتله يوم حنين، فأخذ رجل سلبه بما عرف به، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم إرضاء أبي قتادة عن السلب. فقال أبو بكر رضي الله (3) عنه: لا، ها الله إذًا، لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله

(1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه (40 ق هـ - 23 هـ = 584 - 644 م): ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين. صحابي جليل. لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاروق. انظر ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة الترجمة:5738. وكيع، أخبار القضاة ج1/ 105.

(2)

أبو قتادة الحارث بن ربعي (54 هـ = 674 م): صحابي جليل، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة وهو ابن 70 سنة. انظر النووي، تهذيب الأسماء واللغات ج2/ 58. ابن الجوزي أبو الفرج، صفة الصفوة ج1/ 183.

(3)

أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان (51 ق هـ - 13 هـ = 573 - 634 م): أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم. له في الصحيحين 142 حديثا. انظر ابن سعد، الطبقات الكبير ج9/ 26 - 28. أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء ج4/ 93. ومما كتب في سيرته: أبو بكر الصديق لمحمد حسين هيكل، والشيخ علي الطنطاوي.

ص: 92

ورسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق، فأعطه إياه (1)

".

ومن تتبع المروي في السنة من ذلك ظفر بما يفيد مجموعه التواتر المعنوي. اهـ.

فإذا علمت هذا ظهر وجه الفرق بين العقليات وغيرها. فإن العقليات قطعية، وحكم الله فيها واحد، فلا يمكن أن يكون المصيب فيها إلا واحدا، والعقلي ما لا يتوقف على السمع، والإجماع على هذا، أي إن المصيب فيها واحد.

ومن ثم كان نافي الإسلام أو بعضه كافرا آثما مخطئا ثبت ما نفاه بدليل سمعي كالحشر والحساب، أو ثبت بعقلي، كنافي توحيد الباري بالقدم، بأن أثبت قدم الأفلاك أو نحوها. اهـ. ابن أبي شريف (2) وخالف الجاحظ (3)

(1) جزء من حديث رواه البخاري 8/ 29 في المغازي، باب قوله تعالى:(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) ومالك في الموطأ 2/ 454 - 455 في الجهاد، باب ما جاء في السلب في النفل عن أبي قتادة.

(2)

ابن أبي شريف محمد بن محمد (822 - 906 هـ = 1419 - 1501 م): عالم بالأصول من فقهاء الشافعية. من أهل بيت المقدس، مولدا ووفاة. له تصانيف منها:" الدرر الجوامع بتحرير جمع الجوامع "، " الفوائد في حل شرح العقائد "، " المسامرة على المسايرة " انظر ابن العماد، شذرات الذهب ج 8/ 29

العماد الحنبلي، الأنس الجليل ج2/ 706

(3)

الجاحظ عمرو بن بحر (163 - 255 هـ = 780 - 869 م): كبير أئمة الأدب، رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، مولده ووفاته في البصرة. له تصانيف كثيرة منها:" كتاب الحيوان "، " فضيلة المعتزلة "، " صياغة الكلام "" البيان والتبيين "

انظر محمد كرد علي: أمراء البيان ص 311 - 487. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 12/ 252

ولأبي حيان التوحيدي كتاب في أخباره: تقريظ الجاحظ. ولحنا الفاخوري: الجاحظ

ص: 93

والعنبري (1). فعذر المخطئ في العقليات قيل: مطلقا، وقيل: بشرط كونه مسلما، والإجماع على خلاف قولهما قبل ظهورهما.

هذا تلخيص ما في المسألة، وبه تعرف إذا اختلف قائلان في مسألة عقلية، فمن كان بعدهما إن ظهر له خطأ أحدهما تعين إلغاء قوله، والأخذ بالأصوب، وإنما يتعين بالنظر في دليله أهو صحيح أم فاسد؟ وفي لوازم قوله أمضرة أم لا؟

وإن لم يتعين له المخطئ بمخالفة العقل، والمخالفة إجماع أو نحو ذلك من موجبات الخطأ صح له القول بأيهما شاء، وبحكميهما في الدروس مرجحا لما ظهر له ترجيحه، أو مساويا بينهما. وإن لم يكن من بعد المختلفين من أهل النظر، بل من أهل التقليد المحض فهو وما قلد.

فإن قلد المصيب كان مثله، وإن قلد المخطئ فهو مثله. فالأول كالسني، والثاني غيره. هذا غاية ما يمكن في المقام.

(1) العنبري عبد الله بن الحسن (105 - 168 هـ = 723 - 785 م): قاض، من الفقهاء العلماء بالحديث. من أهل البصرة. قال ابن حيان من سادتها فقها وعلما. انظر ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب ج7/ 7. سيد المرصفي، رغبة الآمل ج4/ 165.

ص: 94

أما ما طلبتم مني من تعيين المصيب من المخطئ في أئمة أهل السنة فهيهات هيهات الدخول بين أنياب الحيات لوجوه:

أحدها: إني لست من أهل الاجتهاد حتى أخوض تلك الفيافي والوهاد.

وثانيها: بتقدير اقتحامي وعظيم اجترامي، أو بتقدير أني في مراتبهم العالية، وأن غياهبي كأنوارهم الزاكية، أكون كواحد منهم واجتهادي كاجتهادهم، فما هو أولى بالصواب منهم؛ إذ اجتهادي وحكمي أن المصيب الأشعري مثلا دون الرازي (1) لا يحتم بطلان قول الرازي؛ إذ غاية أمري أني على موافقة الأشعري، وتعدد القائلين للقول لا يوجب تخطئة مخالفهم.

وثالثها: إن اجتهادي إن وقع، يكون داخلا في قولهم المصيب، واحد في العقليات، وليس معنى قولهم: إن المصيب واحد إن له دليلا يعين به، قصرت عقولكم عنه. وعند العلماء ضابط يعلم به المحق من المبطل، بل قصدهم إن المختلفين في العقليات لا يكونان معا على صواب، والمصيب معين عند

(1) الرازي الفخر محمد بن عمر (544 - 606 هـ = 1150 - 1210 م): إمام مفسر، واحد زمانه في المنقول والمعقول وعلوم الأوائل. من تصانيفه:" مفاتيح الغيب "، " محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين "، " المسائل الخمسون في أصول الكلام "، " المحصول في الأصول "

انظر السبكي، طبقات الشافعية ج5/ 33. ابن حجر لعسقلاني، لسان الميزان ج4/ 426

ص: 95

الله والآخر مخطئ عنده. أما أنه يعني بالاجتهاد فلا، إذ الاجتهاد في المصيب يعمه الخلاف فيكون أيضا مصيبا أو مخطئا لكن خلاف أئمة أهل السنة في العقليات إن لم تلزمهم لوازم استحالية فلا ضرر عليهم وعلى متبعهم، وكذا بعض مسائل تنسب للمعتزلة، ولا لوازم فاسدة لها، ولذلك ترى أئمة الحق لا يتحاشون عن اتباعهم وموافقتهم في أمثال ذلك، كما سبق في نفي الأحول، فإن أول من ذكرها الجبائي، وأبو هاشم.

ورابعها: بتقدير أن المرجح كما طلبتم أنا أو مثلي بظنكم الجميل فإنه يرجح وترجيحه معقول ويعين، وتعيينه عليه التعويل، ويكون مصيبا قطعا تسليما جدليا لو تعرض لما طلبتم لاحتاج إلى مجلدات لا تسعه؛ لكثرة مسائل الخلاف وانتشارها، فلا بد من التعرض لكل مسألة، وتعيين من يتبع ومن يترك.

هذا إذًا يقال يكاد يشبه المحال، وظني أنكم ظننتم أن للحق ضابطا يعرف به، أعيّنه لكم، فتضبطون به تعيين المحق، وهذا غير صحيح؛ إذ لو كان له ضابط لعلمه أهل الخلاف الأول، فما كانوا يختلفون أصلا، بل كانوا يكونون عارفين بالحق؛ لمعرفة ضابطه، وهذا كالمستحيل لتوالي الأعصار والأمصار على الخلاف في العقليات وغيرها، وقد كانت الصحابة يخطّئ بعضهم بعضا، والسلف من بعدهم كذلك، فأزل التعب من نفسك، واعرف قدر ما وصل مني إليك، والله أعلم.

ص: 96