الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع.
الرضى والمحبة والإرادة
.
ومنها أي الأسئلة قولكم في الرضى والمحبة والإرادة: هل الجميع بمعنى، أو بين الإرادة وما قبلها من المحبة والرضى تباين؟
وأقول بحول من به الفكر يجول: قال المقترح في الإرشاد (1): ومما اختلف فيه الأئمة إطلاق محبة الكفر والرضى به، فمن الأصحاب من منع ذلك قصدا منه إلى أن المحبة والرضى إرادة الإنعام، أو نفس الإنعام، ومنهم من قال: المحبة والرضى عبارة عن الإرادة. وقوله: {ولا يرضى لعباده الكفر} (2) يريد خصوص العباد. ولا شك أن الرضى والمحبة يطلقان على الإرادة، ويطلقان على رقة وتحنن، وتعقب ذلك في مقتضى العادة إرادة
(1) انظر تقي الدين المقترح، شرح الإرشاد ص 76
(2)
الزمر: الآية: 7.
إحسان بمن تحنن عليه، ثم إن كانت المحبة هي الإرادة لا يجوز أن يقال: إن الباري محبوب لأوليائه؛ لأنه لا يصح أن يكون مرادا. فإن الإرادة إنما تتعلق بمتجدد من حيث إنه متخصص ببعض وجوه الجواز، ويتعالى عن ذلك الأزلي ويتقدس.
والتحقيق في هذا الفصل أن المحبة بمعنى الإرادة. والإرادة أيضا لفظ مشترك يطلق على الشهوة والميل، ويطلق على القصد، فأما القصد فلا يصح أن يتعلق به تعالى. وأما الميل فقال إمام الحرمين (1): يستحيل أن يمال إليه، وقرر ذلك بأن الميل إنما يتعلق بالحظوظ البشرية، ولا حظ للعبد في نفس الذات، وهذا لا يصح، بل يجد الإنسان ميلا لمن أحسن ولا يحسن في الحقيقة إلا هو، فمن لاحظ نعمه وأدام ذكرها في قلبه، وعرف إحسانه إليه، فيضطر إلى معرفة ثبوت ميل في ذاته، يحسه في نفسه كما يحس آلامه ولذاته. وقد نجد الواحد منا يميل لعالم زاهد سمع بذكر كماله وجوده، وإن لم ينله منه إحسان. فثبت أن الميل لا يمتنع أن يتعلق بالله تعالى فتأمله، انتهى كلام المقترح.
فحصل منه أن الرضى والمحبة شيء واحد، وهما الإرادة في قول، أو أخص منها بمعنى إرادة الإنعام في قول آخر، أو نفس الإنعام المفعول بالقدرة في آخر، فهي ثلاثة أقوال، وعلى الآخرين فلا إشكال في قوله:{ولا يرضى لعباده الكفر} (2) أي لا
(1) انظر إمام الحرمين، الشامل ص 59.
(2)
الزمر، الآية:7.
يريد الإنعام عليهم بسببه، أو لا ينعم عليهم، وعلى الأول وهو اتحاد الجمع. قد يقال كيف نفى عنه الرضى بالكفر، أي: إرادته مع أنه يريد الكفر، إذ هو بإرادته وقدرته خلافا للمعتزلة؟
أجاب عنه المقترح بما سبق وهو أنه لا يريده لعباده المعظمين بالإضافة إليه، أي: لا يريد الكفر لأوليائه، وإنما يريده لغيرهم. وكذا أبو بكر قال بعد كلام طويل في قوله:{ولا يرضى لعباده الكفر} أي: لا يرضاه لهم دينا وشرعا، فإنه وخيم للعاقبة، كثير المضرة كمن يشتري عبدا معينا، فيقول له صاحبه: لا أرضاه لك عبدا.
ثم الرضى والسخط يتقابلان تقابل التضاد، ثم السخط ليس محمولا إلا على ذم في الحال وعقاب في المآل، كذلك الرضى محمول على مدح في الحال وثواب في المآل. انتهى كلامه.
فظهر أن الرضى عنه ليس غير الإرادة، ثم ذكر في بياض الجواب عن احتجاج المعتزلة تخصيص الإرادة بالحيز، قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (1) وسائر الآيات في الإرادة محمول على كلمات ذكرها الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنه (2) إن الله تعالى أراد بنا، وأراد
(1) النساء، الآية:27.
(2)
الصادق جعفر بن محمد الباقر (80 - 148 هـ = 699 - 769 م): سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. من أجلاء التابعين، وله منزلة رفيعة في العلم. مولده ووفاته بالمدينة. له " رسائل " مجموعة في كتاب، ورد ذكرها في كشف الظنون، يقال: إن جابر بن حيان قام بجمعها. انظر الموسوي، نزهة الجليس ج2/ 35. ابن الجوزي أبو الفرج، صفة الصفوة ج2/ 94
…
منا. فما أراده منا أظهره لنا، وما أراده بنا طواه عنا، فما لنا اشتغل بما أراده منا عن ما أراده بنا.
ومعنى ذلك أنه أراد بنا ما أمرنا به، وأراد منا ما علمه، فكانت الإرادة واحدة، ويختلف حكمها باختلاف وجه تعلقه بالمراد، وهي إذا تعلقت بثواب سميت رضى ومحبة، وإذا تعلقت بعقاب سميت سخطا وغضبا، كذلك إذا تعلقت بالمراد على وجه تعلق الأمر قيل: أراد به ما أمر، وإذا تعلقت بالمنع مطلقا بالتخصيص والتغير من غير التفات إلى كسب العبد حتى تكون إرادة لنا، وإرادة منا قبل إرادة الكائنات بأسرها، ولم نقل أراد منا وأراد بنا، بل أرادها على ما هي عليه من التجدد والتخصيص بالوجود دون العدم.
فإذا أفعال العباد من حيث إنها أفعالهم أما أن يقال تتعلق الإرادة على الوجه الذي ينسب للحق إيجادا وتخصيصا، وعلى وجهي أراد بنا وأراد منا، أراد بنا ما أمرنا به دينا وشرعا، واعتقادا ومذهبا. وأراد منا ما علم سابقه وعاقبه وفاتحه وخاتمه.
ودل على صحة هذا المعنى قوله: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم} (1) أي لم يشأ
(1) السجدة، الآية:13.
الهداية ليحق لقول على مقتضى العلم السابق. وقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (1) أي لأمرهم بالعبادة، وقيل: ليخضعوا ويستسلموا، كقوله:{وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} (2) انتهى.
وقال قبله: وكل ما ورد في القرآن من إرادة الخبر المخصوص بأفعال العباد مثل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3)، {ولكن يريد ليطهركم} (4) إلى غير ذلك. فهو محمول إما على ثناء أو مدح في الحال، وإما على ثواب ونعمة في المآل والأفعال، وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلق إلا بما هو متجدد من حيث إنه متجدد، ولا متجدد إلا وهو فعل الباري، وذلك ينسب للعبد كما بينا في خلق الأعمال، واختص الأمر بأفعال العباد على الحقيقة دون الوجوب التي تنسب للحق فلم يجب تلازم الأمر والإرادة. وقد يرد الأمر بمعنى الإرادة بمعنى الأمر، فيكون الإطلاق باشتراك في اللفظ، وكان المشركون تمسكوا بمثل هذا الاشتراك حيث أخبر التنزيل عنهم بقوله:{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} (5) أراد بذلك المشيئة بمعنى الأمر لأجل هذا
(1) الذاريات، الآية:56.
(2)
آل عمران، الآية:83.
(3)
البقرة، الآية:185.
(4)
المائدة، الآية:6.
(5)
الأنعام، الآية:148.
طالبهم بإخراج العلم بذلك، وإظهار الحجة على ما ادعوه من كتبهم. وقال:
{إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (1) إذ لم يرد بذلك أمر ولا وجدوا في كتبهم تكليفا ثم رد عليهم بإثبات المشيئة بمعنى التخصيص بالوجود والتصريف للأمر، فقال:{فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} (2) انتهى.
فعلم من مجموع كلامه أن الرضى والسخط يرجعان للإرادة وهي واحدة، ويختلف حكمها وتسميتها باختلاف المراد. واتفق الجميع على اتحاد المشيئة والإرادة حادثة. وقد ذكر اتحادهما المقترح، وأبو بكر، والشيرازي (3) والسعد التفتازاني ناسبا التحالف بينهما لبعض المبتدعة. وعلم من كلامهم أن الرضى والمحبة أيضا شيء واحد، وأن السخط والعداوة، والبغض والكراهية هي أيضا متحدة، وهي مقابلة الرضى والمحبة، وهي حيثيات للإرادة من حيث المتعلق، أو هي الإرادة على ما سبق. ونعني بالكراهية
(1) الأنعام، الآية:116.
(2)
الأنعام، الآية:149.
(3)
الشيرازي محمود بن مسعود، قطب الدين (634 - 710 هـ = 1236 - 1311 م): قاض، عالم بالعقليات، مفسر. من كتبه:" فتح المنان في تفسير القرآن "" شرح مختصر ابن الحاجب "
…
انظر ابن حجر العسقلاني. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج4/ 339. طاش كبرى زادة، مفتاح السعادة ج1/ 164
الشرعية؛ إذ لا يخفى أن العقلية نقيض الإرادة فكيف تكون عينها أو نوعها!.
وعلم من كلام أبي بكر أن كل ما نفى الله إرادته فمعناه راجع لنفي الأمر به، لما علمت من صحة إطلاق الإرادة على الأمر، وبه يندفع ما تمسك به المعتزلة من قوله:{ولا يرضى لعباده الكفر} (1) على أن الرضى هو الإرادة. وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (2)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3)، {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (4){وما الله يريد ظلما للعباد} (5)، {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} (6)، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (7).
وهذا كله منحوت من أبي بكر. وقال في موضع آخر: فما وقع بالإرادة على وفق الأمر كان مرادا بالتخصيص والتجديد، مرضيا بالمدح والثواب، وما وقع على خلاف الأمر. ولكن لا يكون إلا على وقف العلم سمي مرادا بالتخصيص والتجديد، مسخوطا وغير مرضي بسبب الذم والعقاب. انتهى.
(1) الزمر، الآية:7.
(2)
النساء، الآية:27.
(3)
البقرة،، الآية:185.
(4)
الأنفال، الآية:67.
(5)
غافر، الآية:31.
(6)
الأنعام، الآية:148.
(7)
الذاريات، الآية:56.
وقال الشيرازي في كتاب الحدود الكلامية ما نصه (1): فصل الإرادة والمشيئة، والمحبة والرحمة، والإحسان والولاية، كلها بمعنى واحد وهي الإرادة، فإذا قلنا: إنه راض أو محب أو مختار أو شاء فالمراد به مريد لإدخالهم الجنة والإنعام عليهم في الدنيا، وكذا كراهته وسخطه وغضبه وعداوته، جميع ذلك بمعنى واحد تتعلق بجميع متعلقاتها، وهي كالكلام أمر ونهي، وخبر واستخبار، ووعيد، وهو واحد، وإنما نصفه بهذه الأشياء؛ تعظيما له وإجلالا واتباعا له حيث يقول:{يريد الله ليبين لكم} (2)، {فعال لما يريد} (3){ولو شاء ربك ما فعلوه} (4){رضي الله عنهم} (5)، {وربك يخلق ما يشاء ويختار} (6)، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (7)، {الله الرحمن الرحيم} (8)، {الله ولي الذين آمنوا} (9)، {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} (10)، {وغضب الله عليهم} (11)،
(1) انظر الشيرازي، كتاب الحدود الكلامية ص 92.
(2)
النساء، الآية:26.
(3)
البروج، الآية:16.
(4)
الأنعام، الآية:112.
(5)
المجادلة، الآية:22.
(6)
القصص، الآية:68.
(7)
المائدة، الآية:54.
(8)
الفاتحة، الآية:1.
(9)
البقرة، الآية:257.
(10)
التوبة، الآية:46.
(11)
الفتح، الآية:6.
و {أن سخط الله عليهم} (1)، {فإن الله عدو للكافرين} (2) انتهى كلامه.
فأنت تراه أيضا جعل الجميع بمعنى واحد وهي الإرادة، وإنما اختلف باعتبار الحيثيات وجهات التعلق، ثم إن سياقه للآية، وهي قوله:{ولكن كره الله انبعاثهم} (3) في مساق الكراهة التي تشملها الإرادة، قد يشكل من حيث المعنى على خلافه، إذا لو أراد انبعاثم لانبعثوا. فإذا لم يرد انبعاثهم فهي نقيض الإرادة العقلية، فكيف تذكر في جزئياتها، ولا يصح أن يراد الكراهة الشرعية للخروج؛ لأنه مأمور به لقتال العدو، فلا يصح إلا أن يريد بها من حبه لا كراهة، إذ هي إردة، ولذلك قال:{وقيل اقعدوا مع القاعدين} (4) فتأمله ترشد والله المعين.
(1) المائدة، الآية:80.
(2)
البقرة، الآية:98.
(3)
التوبة، الآية:46.
(4)
التوبة، الآية:46.