المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التحذير من الرأي، ومن القدح في الحديث وأهله - التحفة السنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

الفصل: ‌التحذير من الرأي، ومن القدح في الحديث وأهله

‌التحذير من الرأي، ومن القدح في الحديث وأهله

31 (ودع عنك أراء الرجال وقولهم

فقول رسول الله أزكى وأشرح)

32 (ولا تك من قومٍ تلهوا بدينهم

فتطعن في أهل الحديث وتقدح)

(ودع) أي: اترك، واحذر، واجتنب.

(آراء الرجال وقولهم) أي لا تبن دينك وعقيدتك على الآراء المتكلفة والأقوال المحدثة بل ابنها على الكتاب والسنة ففيهما السلامة والعصمة، وقد جاء عن السلف رحمهم الله نقول كثيرة في التحذير من الآراء وذم الرأي وأهله، من ذلك قول عمر –رضي الله تعالى عنه-:"إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء الدين، أعيتهم السنة أن يحفظوها فأعملوا عقولكم".1

وقال علي -رضي الله تعالى عنه-: "لو كان الدين يأخذ بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره".2

والمراد بالرأي هنا أي الرأي المذموم القائم على الحدس والظن والعقل المجرد مع تعطيل النصوص وإهمالها والصدود عنه والإعراض، وهو الرأي

1 الدارقطني في سننه برقم (12) .

2 أبو داود برقم (162) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (162) .

ص: 110

الذي أحدثت به البدع، وأنشأت به الضلالات، وعطلت به الأسماء والصفات، فمثل هذه الآراء العاطلة والتقريرات الباطلة لا ينبغي لمسلم أن يرعيها باله، بل الواجب أن تطرح وأن يحذر منها وأن لا يغتر بتزيين أهل الباطل لها.

يقول الأوزاعي رحمه الله: "عليك بالأثر وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم".

قوله (آراء الرجال) ذكر الرجال هنا لا مفهوم له، فالرأي الباطل مذموم سواء كان من الرجال أو النساء، ولكن ذكر الرجال؛ لأنهم أصحاب الرأي في الغالب.

(فقول رسول الله) أي الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم.

(أزكى) أي: أطهر وأنقى وأخلص، وفي بعض النسخ (أولى) أي: بالأخذ والتقديم.

(وأشرح) أي للصدر وللفؤاد والقلب وأدعى للطمأنينة. والناس يوم القيامة لا يسألون إلا عن ذلك كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:65) فلا يسألون عن آراء الرجال وأقوالهم، وإنما يسألون عما جاءتهم به رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه.

قوله: (ولا تك من قوم

) إلخ

ص: 111

هذا البيت في غاية التناسق مع الذي قبله حيث أشاد الناظم في البيت الأول ضمناً بحملة السنة ونقلة الحديث من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فهؤلاء هم خير الناس وأفضلهم، فليس عندهم آراء منطقية ولا فلسفات عقلية ولا أقوال متكلفة، وإنما الذي عندهم تمسك بالنصوص والتزام بالسنة النبوية، ثم حذر في هذا البيت من طريق أهل اللهو والباطل الذين يطعنون في هؤلاء الأئمة والأفذاذ والعلماء الأمجاد فقال:

(ولا تك) أي احذر أن تكون يا صاحب السنة ويا من هداك الله إلى لزوم هدي خير الأمة.

(من قوم تلهوا بدينهم) أي ممن اتخذوا دينهم لهواً ولعباً. وهذا شامل لأهل البدع وأهل الفسق والفجور؛ فإن الجميع يشتركون في ذلك بين مقل ومستكثر بسبب جهلهم بالسنة، ومن جهل شيئاً عاداه.

(فتطعن في أهل الحديث وتقدح) وهذه نتيجة اتخاذ الدين لهواً ولعباً: السخرية بأهل الحق والتهكم بالمتمسكين بالسنة والوقعية في أهل الخير والفضل والنبل، وهذه هي حيلة المفاليس في كل زمان وأوان.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} (المطففين:29-31) .

ولو كان القوم أهل حق وحجة لنافحوا عنه بالبرهان ولقابلوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ولكن لا حيلة للعاطل المفلس إلا التهكم والسخرية

ص: 112

والاستهزاء، ومن علامات أهل الأهواء والبدع الوقيعة في أهل الحديث والأثر. وهذا من أعظم العقوق وأشد اللؤم، إذا أهل الحديث لم يأتي منهم إلا الأيادي البيضاء والجميل والإحسان.

قال بعض أهل العلم في بيان فضل أهل الحديث وبيان بعض مآثرهم ومناقبهم:

جزى الله أصحاب الحديث مثوبة

وبوأهم في الخلد أعلى المنازل

فلولا اعتناهم بالحديث وحفظه

ونفيهم عنه ضروب الأباطل

وإنفاقهم أعمارهم في طلابه

وبحثهم عنه بجد مواصل

لما كان يدري من غدا متفقهاً

صحيح حديث من سقيم وباطل

ولم يستبن ما كان في الذكر مجملاً

ولم يدري فرضاً من عموم النوافل

لقد بذلوا فيه نفوساً نفيسة

وباعوا بحظ أجل كل عاجل

فحبهم فرض على كل مسلم

وليس يعاديهم سوى كل جاهل

سأل الله أن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يرفع درجاتهم في عليين، وأن يجعل لهم لسان صدق في الآخرين، وأن يغفر لنا ولهم أجمعين.

ص: 113

خاتمة النظم

33 (إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه

فأنت على خيرٍ تبيت وتصبح)

لما أنهى الناظم منظومته وقد جمع فيها أهم أصول عقيدة أهل السنة، ختم بهذا البيت؛ ليؤكد فيه على أهمية هذا المعتقد، وأهمية المحافظة عليه.

فقوله: (إذا مااعتقدت الدهر

الخ) أي: إذا كنت يا صاحبي على هذه العقيدة المأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهلها المتمسكين بها، المحافظين عليها فأنت على خير ما بقيت على هذا المعتقد.

(إذا) أداة شرط لما يستقبل من الزمان، و (ما) زائدة.

(اعتقدت) الاعتقاد مأخوذ من العقد، وهو الربط؛ لأن أمور العقيدة لابد من ربط القلب عليها بحيث يكون الإيمان بها جازماً بلا شك ولا ارتياب، فإن وجد الشك والريب فما ثم عقيدة. قال الله تعالى:{إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) أي: أيقنوا ولم يشكوا.

ص: 114

(الدهر) أي مدة حياتك وطوال عمرك، وفي هذا أن المعتقد لا ينفع إلا إذا بقي عليه العبد إلى أن يتوفاه الله، كمال قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) ، وقال صلى الله عليه وسلم في الدعاء للميت:"اللهم من أحييتهم منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".1

(يا صاح) مرخم صاحب، أي: يا صاحبي، وهذا من لطف الناظم رحمه الله وحسن تودده وكريم نصحه رحمه الله وغفر له وجزاه خير الجزاء وأوفره.

(هذه) الإشارة هنا إلى الأصول العظيمة المذكورة في هذه المنظومة، وهي أصول جليلة مبنية على الكتاب والسنة، من تمسك بها نجا ومن انحرف عنها كان من الهالكين.

(فأنت) أي: كائن. وهو واقع في جواب الشرط.

(على خير تبيت وتصبح) وفي نسخة (تمسي وتصبح) أي ما دمت على هذه الأصول مقيماً، وبها متمسكاً فصباحك ومساؤك ونومك واستيقاظك كله في خير وعلى خير. وفي هذا إشارة إلى أن المعتقد الصحيح يورث السلامة والخير في كل حال، ويثمر العواقب الحميدة والخير المستمر

1 أبو داود برقم (3201) ، وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (3201) ، وانظر أحكام الجنائز (ص 157) .

ص: 115

وحسن المآل، ويدعو إلى الطاعات الصالحة والأخلاق الحميدة والآداب الكريمة وخير الأعمال.

وفي هذا أيضاً دعوة إلى الثبات على هذا المعتقد الحق والحذر من التلون والتنقل كما هو الحال عند أهل الأهواء. أما أهل السنة فعقيدتهم ثابتة وإيمانهم راسخ ويقينهم مستمر بتوفيق من الله عز وجل. ثبتنا الله جميعاً على الإيمان، ورزقنا حسن الختام.

وبهذا أنهى رحمه الله هذه المنظومة، وهي على وجازتها حوت أصول المعتقد، وأسس الإيمان، وما لم يذكر فيها يدل عليه ما ذكر، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.

ص: 116

خاتمة

وفيها التنبيه على أمرين:

الأول: عدد أبيات هذه المنظومة ثلاثة وثلاثون بيتاً فقط، رواها عنه غير واحد من تلاميذه دون زيادة على ذلك، منهم:

1-

الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين.

قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء وفي العلو: "أنشدنا أبو العباس أحمد بن عبد الحميد، قال: أنشدنا الإمام أبو محمد بن قدامة سنة ثمان عشر وست مائة، أخبرتنا فاطمة بنت علي الوقاياتي أخبرنا علي بن بيان، أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري حدثنا أبو حفص بن شاهين أنشدنا أبو بكر بن أبي داود لنفسه هذه القصيدة وجعلها محنته."1 وذكر الأبيات.

2-

الإمام أبو بكر بن محمد بن الحسين الآجري.

قال رحمه الله في كتابه الشريعة: "أملى علينا أبو بكر ابن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاث مائة

"2 وذكر الأبيات.

1 سير أعلام النبلاء (13/233) ، والعلو (2/1220) .

2 الشريعة (5/2563) .

ص: 117

3-

عبيد الله الفقيه.

قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: "أنبأنا علي المحدث عن عبيد الله الفقيه قال: أنشدنا أبو بكر ابن أبي داود من حفظه لنفسه"1 وذكر الأبيات.

4-

أبو بكر أحمد بن إبراهيم.

قال أبو الحسن علي بن محمد المعافري المالقي في كتابه الحدائق الغناء:

"قرأت على أبي الحسين أحمد بن حمزة بن علي بن الحسن بدمشق عن أبي العز أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن كادش السلمي العكبري قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري قال: أنشدنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم قال: أنشدنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث لنفسه في السنة رحمه الله."2 وذكر الأبيات.

ولم يزد جميع هؤلاء فيما ذكروه من أبيات هذه المنظومة على ثلاثة وثلاثين بيتاً.

وقد جاء في آخر كتاب السنة لابن شاهين3 بعد نهاية الكتاب –وهو من لحق بعض النساخ- إيرادٌ لهذه المنظومة مع زيادة سبعة أبيات بعد الأبيات المتعلقة بالعشرة المبشرين بالجنة، فأصبح مجموع أبيات المنظومة بهذه

1 طبقات الحنابلة (2/53) .

2 الحدائق الغناء (ص 176) .

3 انظر الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة (ص 255) .

ص: 118

الزيادة أربعين بيتاً.

والأبيات المزيدة هي:

(وسبطي رسول الله وابني خديجة

وفاطمة ذات النقا أمدح)

(وعائش أم المؤمنين وخالنا

معاوية أكرم به ثم امنح)

(وأنصاره والمهاجرون ديارهم

بنصرتهم عن كبة النار زحزحوا)

(ومن بعدهم فالتابعون لحسن ما

حذوا فعلهم قولاً وفعلاً فأفلحوا)

(ومالك والثوري ثم أخوهم

أبو عمر الأوزاعي ذاك المسبح)

(ومن بعدهم فالشافعي وأحمد

إماما هدى من يتبع الحق يفصح)

(أولئك قوم قد عفا الله عنهم

وأرضاهم فأحبهم فإنك تفرح)

ولا شك في أن هذه الأبيات المزيدة ليست لابن أبي داود رحمه الله؛ إذ جميع من رووا هذه القصيدة من تلاميذه لم يذكروا هذه الزيادة، ومن بينهم ابن شاهين رحمه الله كما تقدم في رواية الذهبي للمنظومة من طريقه وليس فيها هذه الزيادة، مما يدل على أنها زيدت في القصيدة بعد.

ثم وجدت أن ثلاثة من هذه الأبيات قد زادها ابن البناء رحمه الله كما نبه على ذلك السفاريني في شرحه لهذه المنظومة.

قال رحمه الله في كتابه لوائح الأنوار السنية: "هذه الثلاثة أبيات وأولها قوله: وعائش أم المؤمنين، وثانيها: وأنصاره والمهاجرون ديارهم، وثالثها: ومن بعدهم والتابعون

ليست من كلام الناظم الذي هو الإمام الحافظ

ص: 119

أبو بكر ابن أبي داود، بل من كلام العلامة المحقق ابن البناء من أئمة علمائنا".1

وعلى هذا فتبقى أربعة أبيات هي مزيدة على النظم ولا يدرى من زادها، لكننا نقطع أنها ليست لابن أبي داود رحمه الله تعالى، ولا تصح نسبتها إليه.

أما معاني هذه الأبيات فلا شك في حسنها وأهميتها، على ضعف في تراكيبها وأوزانها، حتى إن القارئ لها ليدرك بمجرد قراءتها أنها مقحمة مزيدة.

الثاني: ابن أبي داود صاحب هذا النظم إمام من أئمة السلف وعلم من أعلام الأمة مشهود له بالفضل والإمامة والعلم، بل كان رحمه الله من بحور العلم وأوعية السنة وحفاظ الحديث. وقد سبق أن أشرت في صدر هذا الشرح إلى طرف من النقول عن بعض الأئمة في الثناء عليه وبيان إمامته وفضله وحفظه وإتقانه.

ورأيت هنا أن من المناسب الإشارة إلى بعض ما قيل فيه بغير حق سواء مما ثبت عن قائله أو لم يثبت؛ لتبرئة ساحة هذا الإمام والدفاع عنه، فإن مما يتقرب به إلى الله عز وجل الذب عن إعراض علماء المسلمين وتبرئتهم مما ينسب إليهم زوراً وباطلاً أو على غير وجهه الصحيح، ونسأل الله أن

1 لوائح الأنوار السنية (2/105) .

ص: 120

يبارك في جميع علمائنا المتقدمين منهم والمتأخرين وأن يجزيهم خير الجزاء وأوفره.

وأهم ما وقفت عليه منسوباً إلى ابن داود أمران:

أولاً: نسبة الكذب إليه، وهي نسبة لا تصح ولا تثبت.

قال ابن عدي: "حدثنا علي بن عبد الله الداهري سمعت أحمد بن محمد ابن عمر بن كركرة سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله كذاب. قال ابن صاعد كفانا ما قال أبوه فيه".1

وهذا إسناد غير ثابت، قال المعلمي رحمه الله:"الداهري وابن كركرة لم أجد لهما ذكراً في غير هذا الموضع، وقول ابن صاعد "ما قال أبوه فيه" إن أراد هذه الكلمة فإنها كانت بلغته هذا السند فلا نعلمه ثابتاً، وإن كان له مستند آخر فما هو، وإن كان أراد كلمة أخرى فما هي".2

قال ابن عدي: "ولولا شرطنا لما ذكرته3

وهو معروف بالطلب، وعامة ما كتبه مع أبيه، وهو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فما أدري أيش تبين له منه".4

1 الكامل في ضعفاء الرجال (4/265-266) .

2 التنكيل للمعلمي (1/298) .

3 أي لولا شرطه في كتابه من أن يذكر كل من تكلم فيه وإن الكلام غير قادح.

4 الكامل في ضعفاء الرجال (4/266) .

ص: 121

هذا إن ثبت، وثبوته محل نظر كما تقدم، وقد شكك الحافظ الذهبي في ثبوت هذا، وأشار إلى بعض المحامل التي يمكن أن يحمل عليها إن صح.

قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ: "أما قول أبيه فيه فالظاهر أنه إن صح عنه فقد عنا أنه كذاب في كلامه لا في الحديث النبوي، وكأنه قال هذا وعبد الله شاب طري ثم كبر وساد".1

وقال في سير أعلام النبلاء: "قلت: لعل قول أبيه فيه إن صح أراد الكذب في لهجته لا في الحديث فإنه حجة فيما ينقله، أو كان يكذب ويوري في كلامه، ومن زعم أنه لا يكذب أبداً فهو أرعن، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب، ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى".2

وذكره رحمه الله في كتابه الميزان وقال: "إنما ذكرته لأنزهه".3

وخلاصة القول أن نسبة هذا إليه محل نظر بل ليس عليه مستند صحيح، وإن ثبت فهو محمول على أمور لعلها كانت منه في مرحلة الشباب في حديثه وكلامه الخاص، لا في ما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شأنه أجل وقدره أنبل من ذلك. بل هو معدود عند أهل العلم في كبار الحفاظ ومن الأئمة العدول الثقات. فمن حاول لمزه بهذا فإنما يزري على نفسه، لاسيما إن كان مبنياً على الهوى والشنآن والباطل، وقد مر معنا قوله رحمه الله

1 تذكرة الحفاظ (2/772) .

2 سير أعلام النبلاء (13/231) .

3 ميزان الاعتدال (4/116) .

ص: 122

في منظومته السنية:

(ولا تك من قوم تلهوا بدينهم

فتطعن في أهل الحديث وتقدح)

ثانياً: نسب إليه رحمه الله شيء من النصب. والمراد بالنصب أي: نصب العداء لآل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه رحمه الله شيء من ذلك، بل ثبت عنه ضد ذلك ونقيضه، وهو ولاء آل البيت ومحبتهم والثناء عليهم وذكر فضائلهم ومآثرهم. بل لم يتحقق في ترجمته من الذي نسبه إلى النصب وما حجته على ذلك، إلا أن هذه التهمة ألصقت به في حياته رحمه الله وبرأ نفسه منها ولم يجعل من رماه به في حل.

قال أحمد بن يوسف بن الأزرق: "سمعت أبا بكر بن أبي داود غير مرة يقول: كل من بيني وبينهم شيء أو قال: كل من ذكرني بشيء فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب".1

وخير شاهد ودليل على سلامته من هذه التهمة قصيدته هذه التي بين أيدينا، والتي أبان فيها عقيدة أهل السنة والجماعة، فقد قال فيها بعد أن ذكر الخلفاء الثلاثة:

(ورابعهم خير البرية بعدهم

علي حليف الخير بالخير منجح)

وقد جاء عنه أنه قال في تمام هذه القصيدة: "هذا قولي، وقول أبي، وقول أحمد بن حنبل رحمه الله، وقول من أدركنا من أهل العلم، وقول من لم ندرك من أهل العلم ممن بلغنا قوله، فمن قال عليَ غير ذلك فقد كذب".

1 تاريخ بغداد (9/468) .

ص: 123

وعلى كلٍ فقد أطبق أهل العلم على إمامة ابن أبي داود وفضله وتوثيقه والاحتجاج به وعده من أئمة السلف الأجلاء ومن العلماء الثقات النبلاء، فلم يبقى أي معنى للطعن فيه أو التقليل من شأنه وقدره ونبله، وللإمام المعلم رحمه الله كلام نفيس وتحقيق متين في تبرئة ابن أبي داود مما نسب إليه من النصب وغيره، أجاد فيه وأفاد، وأحسن الدفاع عن هذا الإمام الجليل والذب عنه، فجزاه الله خيراً على نصحه ودفاعه عنه وعن غيره من أئمة المسلمين، ورحم الله ابن أبي داود وغفر له ولجميع علماء المسلمين وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه هو الغفور الرحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 124