الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم مرتكب الكبيرة والتحذير من مذهبي الخوارج والمرجئة
26 (ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا)
…
(فكلهم يعصي وذو العرش يصفح)
27 (ولا تعتقد رأي الخوارج إنه)
…
(مقال لمن يهواه يردي ويفضح)
28 (ولا تك مرجياً لعوباً بدينه)
…
(ألا إنما المرجي بالدين يمزح)
هذه الأبيات تشتمل على بيان حكم مرتكب الكبيرة، وهي أول المسائل التي نشب فيها الخلاف بين فرق الأمة. فنشأت مذاهب الخوارج والمعتزلة والمرجئة، والناظم في هذه الأبيات بين أولاً قول أهل السنة القول الحق، ثم ذكر قول الخوارج محذراً منه.
بدأ بالقول الحق فقال: (ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا
…
) ، (لا) ناهية. والمعنى: لا تعتقد كفر أهل الصلاة وإن عصوا كما في الحديث: "من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا" 1، وفي قوله (أهل الصلاة) إشارة إلى كفر تارك الصلاة وأن من لا يصلي فهو كافر ليس بمسلم، والأدلة على كفر تارك الصلاة في الكتاب والسنة كثيرة جداً، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
1 البخاري برقم (391) .
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) . وقال تعالى مخبراً عن أصحاب الجحيم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (المدثر:42،43) .
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله –رضي الله تعالى عنهما- قال قال رسول الله صلى عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".1
وفي المسند وغيره عن بريدة –رضي الله تعالى عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبنهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".2
وفي المسند وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف".3
وروى الترمذي عن عبد الله بن شفيق قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"4.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
1 مسلم برقم (82) .
2 أحمد في المسند برقم (23325) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4143) .
3 أحمد في المسند برقم (6576) ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "بإسناد حسن" مجموع فتاواه (10/278) .
4 الترمذي برقم (2622) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2622) .
(وإن عصوا) سواء ارتكبوا كبائر أو صغائر، فلا يجوز تكفيرهم بذلك، فهو رحمه الله يتحدث عن حكم المسلم المصلي إذا ارتكب معاصي دون الكفر فإنه لا يكفر ولا يخرج من الدين، أما إذا وقع في كفر أو شرك فأمر آخر، أما هنا فالناظم يتكلم عن أهل الصلاة إذا وقع من أحدهم ذنوب دون الشرك بالله فإنه لا يجوز تكفيره باتفاق أهل السنة والجماعة مادام يعلن إسلامه ولم يأت بأمر مكفر، أما إذا جاء بأمر مكفر فإنه يكفر، وفي عامة كتب الفقه يعقد باب حكم المرتد، وفيه تبين الأمور التي من قالها أو فعلها كفر وارتد عن الإسلام، ولشيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رسالة نافعة مختصرة بعنوان (نواقض الإسلام) ذكر فيها أموراً عشرة ينتقض بفعل أي واحد منها الإسلام.
ثم في تكفير المعين لابد من إقامة الحجة عليه فإذا أقيمت عليه الحجة فإنه حينئذ يكفره أهل العلم؛ لأنهم أعلم بأحوال الناس ومن يستحق منهم التكفير ومن لا يستحق، وأما عامة الناس فشأنهم الاستفادة من أهل العلم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} (التحريم: 8)
والخطاب للمطيع والعاصي وناداهم جميعاً باسم الإيمان، وفي هذا دليل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر.
وكذلك قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) والاقتتال من كبائر الذنوب. ومع ذلك سماهم مؤمنين فدل ذلك على أن
ارتكاب الكبائر لا يخرج من الملة.
وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} (البقرة:178) وهذه وردت في شأن القاتل، فسمى القاتل أخاً لوالي المقتول والأخوة هنا أخوة الدين، فدل ذلك على أن القتل وغيره من كبائر الإثم لا ينتقل به المسلم من الدين.
ولما كانت المنظومة مختصرة لا يمكن استيعاب الأدلة فيها اكتفى الناظم بالإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" 1، ولهذا قال:(فكلهم يعصي) فإذا كان تكفير أهل المعاصي سائغاً فلا يبقى أحد عندئذ على الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في هذا الحديث الذي أشار إليه الناظم أ، كل بني آدم خطاء. وفي الحديث الآخر قال:"لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم"2.
(وذو العرش يصفح) كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) . وهذا فيه دلالة على عظيم عفو الله، وجميل صفحه، وسعة مغفرته، وكمال رحمته، وأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، فمن تاب تاب الله عليه، والحسنات ماحية للذنوب، والمصائب كفارات، والله ذو الفضل العظيم.
1 الترمذي برقم (2499) ، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2499) .
2 الحاكم في المستدرك برقم (7623) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (967) .
(ذو العرش) ما يقال فيه (ذو) شأنه شأن المضافات إلى الله وهي على نوعين:
1-
إضافة الصفة إلى الموصوف كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ} (الرحمن:78) . فالجلال والإكرام وصفان لله عز وجل.
2-
إضافة المخلوق إلى الخالق ومنه قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ} (غافر: 15) فالعرش مخلوق من مخلوقات الله وهذه الإضافة تقتضي التشريف والتكريم.
والعرش هو أكبر المخلوقات، وهو سقفها وهو على المخلوقات كالقبة. والعرش الحقيقي وهو في اللغة سرير الملك كما في قوله:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل:23) أي ملكة سبأ.
وعرش الرحمن له قوائم كما في الحديث: "فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" 1، وله حملة وهم من الملائكة وعددهم ثمانية {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة:17) ، وهناك ملائكة حافون من حول العرش. وصفات العرش كثيرة.
ويجب الإيمان بوجود العرش ولا يجوز الخوض فيه بالتأويلات الفاسدة، بل نؤمن بأنه عرش حقيقي عظيم كريم مجيد، ونؤمن بجميع صفاته الواردة في القرآن والسنة، ونؤمن بأن الله مستو عليه استواءً يليق بجلاله كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) .
1 البخاري برقم (4638) ، ومسلم برق (2374) .
أما أهل الكلام فلا يؤمنون بالعرش بل يؤولونه بتأويلات فاسدة. وكذلك يحرفون معنى الاستواء، فقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ما من كلمة من هذه الآية إلا وقد حرفها هؤلاء، ولهم شبه بها يجحدون الاستواء، من أعظمها: لو كان الله مستوياً على العرش للزم أن يكون محتاجاً إليه. وأساس هذه الشبهة قياس الخالق بالمخلوق وفهم الصفة المضافة إلى الله على ضوء فهم الصفة المضافة إلى المخلوق. فهم وجدوا أن المخلوق إذا استوى على شيء يكون محتاجاً إليه كما قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (الزخرف:12،13) ، فلو غرق الفلك لغرق من عليه ولو سقطت الدابة لسقط من عليها، فدل على احتياجه إلى الفلك والأنعام وإلى كل ما يستوي عليه، ثم جاءوا إلى قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ولم يفهموا من الاستواء المضاف في الآية إلى الله إلا عين استواء المخلوق وقالوا يلزم من إثبات ذلك احتياجه إلى العرش، فبناء على هذه الشبهة التي في عقولهم، نفوا استواء الله على العرش، وبعد ذلك هم أمام أحد خيارين: إما أن يقولوا الله ليس فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه، وإما أن يقولوا الله في كل مكان، فهم فروا من شر ثم وقعوا في شرور أعظم وبلاء أشد.
وعوداً على مرتكب الكبيرة فالقول الحق فيه أنه لا يكفر، ولا يقال إنه مؤمن كامل الإيمان، وإنما يقال مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته أو يقال مؤمن ناقص الإيمان.
ثم انتقل الناظم إلى ذكر قولين باطلين في المسألة فقال:
(ولا تعتقد رأي الخوارج
…
)
(لا تعتقد) لا تؤمن ولا تدن. (رأي الخوارج) عبر عنه بأنه رأي؛ لأنه رأي من نتائج عقولهم ومن نسج أفكارهم لا يقوم على دليل من الكتاب والسنة.
والخوارج إنما سموا بذلك لأمرين:
1-
أنهم خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكفروه وناصبوه العداء.
2-
أنهم خرجوا على السنة ففارقوها سواء فيما يتعلق بولي الأمر أو بالمسائل الأخرى.
فالناظم يحذر من الخوارج وقد صحت الأحاديث في التحذير منهم قال الإمام أحمد صحت من عشرة أوجه. فهو يحذر من رأي الخوارج عموماً، ومن رأيهم في مرتكب الكبيرة خصوصاً، فإن مذهبهم في مرتكب الكبيرة أنه بذلك يكون كافراً خارجاً من الملة وهو يوم القيامة من المخلدين في النار أبد الآباد.
والمعتزلة قالوا بقول الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة واختلفوا في شيء واحد. فاتفقوا أنه يخرج من الإيمان وأنه يخلد يوم القيامة في النار. وخالفوهم في مسألة التنصيص على أنه كافر فقالت المعتزلة ليس بمؤمن وليس بكافر بل هو في منزلة بين المنزلتين فحقيقة قولهم: ليس عنده شيء من الإيمان ولم يدخل في الكفر. وفي الحقيقة مؤدى المذهبين واحد.
(إنه مقال لمن يهواه) هذا تعبير دقيق؛ لأن هذه الفرق والمذاهب في حقيقة أمرها مجرد أهواء بها يتركون الكتاب والسنة؛ ولذا جاء في الحديث "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء"1، فهو يمتلئ قلبه بالهوى فيعمى بصره ولا يهتدي إلى حق ولا يبصر نصاً ولا حديثاً بل يمضي في هواه. والذي يهوى مقال الخوارج لا يحصل من ورائه إلا الخسران والخزي والفضيحة ولهذا قال الناظم:(يردي ويفضح) ، فمآل من يهوى هوى الخوارج الخسران والردى في الدنيا والآخرة، وكذلك يفضح ويخزى ولا أعظم من هذا الخزي بأن يكفر المسلمين ويترك الملحدين، ويتسلط على أهل الإسلام ويسلم منه عباد الأوثان.
ثم انتقل إلى قول المرجئة فقال: (ولا تك مرجياً
…
)
ما وصف به الناظم المرجئة من أحسن ما يوصفون به فإن المرجئة يمزجون بالدين ويلعبون به، وكلما غلا المرء في الإرجاء كان مزحه ولعبه بالدين أكبر فغلاة المرجئة يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والإيمان عندهم المعرفة فقط. فأي مزح ولعب بالدين أكبر من هذا، وأي فتح لباب المعاصي والموبقات أعظم من هذا. ينقل عن أحد المرجئة أنه مر على رجل يشرب الخمر، فشتمه المخمور، فقال المرجي: أهذا جزائي وقد جعلتك مؤمناً كامل الإيمان.
1 رواه ابن أبي عاصم في السنة بهذا اللفظ برقم (69) ، وقد صححه الألباني في تحقيقه للسنة.
والإرجاء في اللغة: التأخير، قال تعالى:{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (لأعراف:111) .
وإنما سمي المرجئة بذلك لأنهم أخروا العمل عن الإيمان وقالوا العمل ليس جزءا من الإيمان.
ثم افترق المرجئة إلى فرق، قسم قالوا: الإيمان المعرفة فقط.
وقسم قالوا: إنه مجرد التصديق.
وقسم قالوا: إنه مجرد النطق.
وقسم قالوا: إنه مجرد النطق والاعتقاد.
وهم متفاوتون في الإرجاء، متفوقون على إخراج العمل من مسمى الإيمان. وبقدر حظهم من الإرجاء والغلو فيه يستحقون من الوصف الذي ذكره الناظم.
ووجه اللعب والمزح بالدين على ضوء هذه العقيدة: أن الفاسق إذا قيل له: إيمانك مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فهل يقبل على الدين؟ أم أنه سيقول إذا كان إيماني تاماً كاملاً وهذه حالي مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فما الحاجة إلى الالتزام بالدين، فتكون النتيجة إذاً هي اتخاذ الدين لهواً ولعباً، والغلاة من المرجئة يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وهذا قول في غاية الخبث والفساد، وهو سبيل لترك الصلوات ومنع الزكاة وترك الصيام والحج وغير ذلك من الطاعات وذريعة لفعل الفواحش
والموبقات، ولا يرتاب عاقل أن هذا لعب بالدين، وأي عبث أفظع وأشد من هذا العبث.
وعلى كلٍ فهذه الأبيات الثلاثة اشتملت على بيان أقوال الطوائف في مرتكب الكبيرة، وهي ثلاثة أقوال: قول أهل السنة والجماعة وهو قول عدل وسط، وقولان متناقضان.