الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقيدة أهل السنة في الصحابة
15 (وقل: إن خير الناس بعد محمد
…
وزيراه قدماً ثم عثمان الأرجح)
16 (ورابعهم خير البرية بعدهم
…
عليٌ حليف الخير بالخير منجح)
17 (وإنهم للرهط لا ريب فيهم
…
على نجب الفردوس بالنور تسرح)
18 (سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحة
…
وعامر فهرٍ والزبير الممدح)
19 (وقل خير قولٍ في الصحابة كلهم
…
ولا تك طعاناً تعيب وتجرح)
20 (فقد نطق الوحي المبين بفضلهم
…
وفي الفتح آي للصحابة تمدح)
هذا مختصر لمعتقد أهل السنة في الصحابة، ومع اقتضاء المنظومة الاختصار إلا أن الناظم قد أتى منه بالشيء الكثير، وبدأه بذكر التفاضل بينهم رضي الله عنهم أجمعين.
(قل) أي يا صاحب السنة ويا من يريد لنفسه المعتقد الصحيح، معتقد أهل السنة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية، قل وأنت منشرح الصدر غير شاك ولا مرتاب:
(إن خير الناس بعد محمد) أي أفضل الناس وأزكاهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والناظم هنا يقرر من هم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: إن خير الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم (وزيراه قدماً) وهما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، و (الوزير)
في اللغة هو العوين للملك والذي يحمل عنه أثقاله ويشير عليه ويعينه، ولذا وصف الناظم أبا بكر وعمر بأنهما وزيران له صلى الله عليه وسلم.
(قدماً) اسم زمان من القدم، أي هما وزيران له منذ بداية الدعوة، لأن نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانت قديمةً، وقد جاء في حديث يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي إلا كان له وزيران من أهل الأرض ووزيران من أهل السماء فوزيرا السماء هما جبريل وميكال ووزيرا الأرض أبو بكر وعمر"1، ولكن الحديث ضعيف، وله طريقان آخران ضعيفان، لكن ثبت في فضلهما وخيريتهما أحاديث.
روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ: "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، فقلت: ثم من؟ فقال عمر بن الخطاب"2.
وليسا أفضل هذه الأمة فحسب بل هما أفضل الناس بعد النبيين والمرسلين كما في الحديث: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين".
وهو مروي عن غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وأنس بن مالك وجابر وأبو سعيد، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه3.
1 الترمذي برقم (3680)، والحاكم في المستدرك (2/290) وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي برقم (3680) .
2 البخاري برقم (3662) ، ومسلم برقم (2348) .
3 انظر السلسلة الصحيحة برقم (824) .
وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "كنا زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"1، وروى البخاري عن محمد بن الحنيفة قال: قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ "أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، قال: وخشيت أن يقول عثمان، قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين"2، وقد تواتر هذا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب _ رضي الله تعالى عنه ـ بل جاء عنه أنه قال:"لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"3؛ وذلك لأنه افترى الكذب عندما قدم علياً على الوزيرين.
والنصوص الواردة في تفضيل أبي بكر وعمر كثيرة جداً، أوردها أهل العلم في الكتب التي تعتني بمناقب الصحابة، وتفضيل أبي بكر وعمر على الصحابة كلهم محل اتفاق بين أهل العلم، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال:"من فضل علياً على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضي مبتدع فاسق".
(ثم عثمان) أي ثم يأتي بعد هذين الوزيرين عثمان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ ذو النورين وثالث الخلفاء الراشدين صاحب المناقب الكثيرة والفضائل العديدة.
1 البخاري برقم (3655) .
2 البخاري برقم (3671) .
3 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (1219) .
(الأرجح) أفعل تفضيل، أي الأرجح في الميزان، فعثمان رضي الله عنه هو ثالثهم في الفضل على الأرجح، وكأن الناظم يشير إلى خلاف وقع بين السلف، وأقوالهم في ذلك ثلاثة ذكرها شيخ الإسلام: منهم من قدم عثمان وهو قول الأكثرين من أئمة السلف ومنهم من قدم علياً، ومنهم من توقف، والذي استقر عليه أمر أهل السنة: أن ترتيبهم في الفضل هو كترتيبهم في الخلافة.
قال:
(ورابعهم خير البرية بعدهم
…
على حليف الخير بالخير منجح)
أي رابع الصحابة في الفضل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (خير البرية) أي خير الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان. و (البرية) من: برأ الله الخلق يبرؤهم أي خلقهم.
وعليٌ هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبو السبطين صاحب المناقب الكثيرة، وقد أشار الناظم إلى بعض فضائله.
(حليف) أي المحالف للخير الذي حليفه الخير دائماً يحظى بالخير وينال الخير ويحصله أي أنه دائماً ملازم للخير.
(بالخير منجح) من النجاح، وهو تحصيل المقصود والظفر به.
وفي بعض النسخ (بالخير يمنح) ، وفي نسخة (بالخير ممنح) أي أنه يعطي الناس ويمنحهم، ففيه وصفه بالسخاء والجود والكرم.
(وإنهم للرهط لا ريب فيهم
…
على نجب الفردوس بالنور تسرح)
أي هؤلاء المذكورين من الصحابة الخلفاء الأربعة، وكذلك الذين سرد أسماءهم في البيت الآتي، (للرهط) وهم عشيرة الرجل، ويطلق على ما دون العشرة، وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وفي بعض النسخ (والرهط) ولعله الأقرب، ويكون الضمير في قوله (وإنهم) عائداً على الأربعة والرهط معطوف عليه، والمقصود بهم الستة المذكورون في البيت الذي بعده.
(لا ريب فيهم) لا تهمة ولا شك فيهم وفيما سينالونه من الله من الفضل ولا شك في منزلتهم عند أهل السنة، ولا ريب في أنهم من أهل الجنة.
(على نجب) جمع نجيب وهو أكرم المال وأنفسه، والمراد أنهم يسرحون في الجنة على نجب الفردوس وهي النوق الكريمة والخيل الكريمة يروحون عليها ويغدون في الجنة، روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة"1.
وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة بن الحصيب عن أبيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من خيل؟ قال: "إن
1 مسلم برقم (1892) .
أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت إلا فعلت"، قال: وسأله رجل فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، قال: "إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك" 1 وسنده ضعيف، لكنه جاء من طريق أخرى مرسلاً بسند صحيح، وله شاهد من حديث بريدة رضي الله عنه فيرتقي بذلك إلى درجة الحسن، كما في السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله (برقم 3001) .
ويقصد الناظم رحمه الله بهذا أن هؤلاء مقطوع لهم بالجنة شهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك.
(الفردوس) اسم من أسماء الجنة، وهو اسم لأعلى الجنة وأوسطها وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"2.
(بالنور تسرح) أي بمن عليها من أهل النور والوضاءة والبهاء والحسن، (تسرح) أي تذهب حيث شاء راكبها، وفي بعض النسخ (في
1 الترمذي برقم (2543) .
2 أخرجه البخاري برقم (6987) .
الخلد تسرح) والخلد هي الجنة؛ لأنها دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. وفي هذا أن أهل الجنة يتزاورون فيها ويغدون ويروحون لتتم لذتهم وليكمل أنسهم وسرورهم، نسأل الله الكريم من فضله.
ثم قال:
(سعيد وسعد وابن عوف وطلحة
…
وعامر فهر والزبير الممدح)
هذا تفسير وبيان للرهط بذكر أسمائهم، وهؤلاء الستة مع الأربعة الخلفاء هم العشرة المبشرون بالجنة كما بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت الصحيح. فهم الرهط الذين لا ريب في دخولهم الجنة، ولا ريب أنهم على نجب الفردوس في جنة الخلد يسرحون، وقد ورد في بشارتهم بالجنة أحاديث، منها ما رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" 1، وفي الترمذي وابن ماجه عن سعيد بن زيد مثله.2
1 الترمذي برقم (3747) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (50) .
2 الترمذي برقم (3748) ، وابن ماجه برقم (133) .
قال الناظم:
للمصطفى خير صحب نص أنهم
…
فيجنة الخلد نصاً زادهم شرفاً
هم طلحة وابن عوف والزبير مع
…
أبي عبيدة والسعدان والخلفاء
(سعيد) هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل، ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنهما ـ، (وسعد) هو ابن أبي وقاص، (وابن عوف) هو عبد الرحمن، (وطلحة) هو ابن عبيد الله، (وعامر فهر) هو أبو عبيدة عامر بن الجراح الفهري القرشي، (والزبير) هو ابن العوام.
(الممدح) أي: الذي له المدائح الكثيرة، والمدائح الكثيرة لهؤلاء جميعاً ومن أعظم هذا المدح تبشيرهم بالجنة، وينظر في مناقب هؤلاء على الخصوص كتاب (الرياض النضرة في مناقب العشرة) للمحب الطبري.
(وقل خير قولٍ في الصحابة كلهم ولا تك طعاناً تعيب وتجرح)
ولما ذكر الناظم هؤلاء تكلم عن الصحابة عموماً فقال: (وقل خير قول في الصحابة كلهم) أي لا يكن قولك الخير وكلامك الحسن خاصاً بهؤلاء الذين ذكروا بل قل خير قول في الصحابة جميعهم، فكلهم عدول أهل فضل ونبل.
والصحابي: هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، فكل من كان بهذه الصفة فهو من الصحابة وقل فيه خير قول، ولما ذكر الله في سورة الحشر المهاجرين والأنصار قال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10) .
فذكر الله لمن جاء بعدهم صفتين هما: سلامة الصدر وسلامة اللسان، وهكذا يجب أن يكون صاحب السنة تجاه الصحابة فلا يحمل عليهم في قلبه غلاً ويكون سليم اللسان فلا يقدح فيهم ولا يخوض فيما شجر بينهم بل يقول عنهم ما يزيد حبهم في القلوب. والناظم رحمه الله أشار إلى تحقيق هاتين الصفتين بقوله:(وقل خير قول) وقد مر معنا أن القول إذا أطلق يشمل قول القلب وقول اللسان، ويكون المعنى قل فيهم خير قول بقلبك بأن يكون سليماً من الغل والحقد ولا يحمل تجاههم إلا الخير، وبلسانك بأن يكون سليماً من الطعن والقدح ولا تتكلم عنهم إلا بالخير.
(ولا تك طعاناً تعيب وتجرح) لما أمر ورغب صاحب السنة في أن يقول في الصحابة خير قول، حذره من أن يقع في الطعن والتجريح لأي أحد منهم، (طعاناً) أي كثير الطعن، والمقصود النهي عن الطعن في الصحابة، وليس المقصود النهي عن المبالغة في الطعن، فقد يأتي على وزن (فعال) ملا يراد به المبالغة كقوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: من الآية46) . أي: ليس بذي ظلم، وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "ليس المؤمن بالطعان
ولا اللعان ولا الفاحش والبذيء" 1 أي ليس بذي طعن وليس بذي لعن، هذا مع عموم المسلمين، فكيف بالأمر مع الصحابة المعدلين.
(تجرح) الجرح هو الكلم، فالخوض فيما شجر بين الصحابة والنيل منهم ليس دأب أهل السنة ولا من منهجهم، بل هو شأن أهل الأهواء وسبيل أهل الضلال.
والناظم هنا يقرر عدالة الصحابة ومكانتهم، الذين شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وسماع الروحي منه غضاً طرياً كما أنزل، فهم عدول ثقات، وهم حملة الدين ونقلته للأمة، يقول ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ:"من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
ومن هنا يعلم أن أي طعن في الصحابة فإنما هو طعن في الدين؛ لأن الطعن في الناقل طعن في المنقول؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا الدين، ولذا ما من حديث نرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا والواسطة بيننا وبينه أحد الصحابة، فالطعن فيهم طعن في الدين، ولذا يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق؛ لأن الدين حق، والقرآن حق وإنما نقل لنا ذلك الصحابة فهؤلاء أرادوا
1 أخرجه أحمد في المسند برقم (3839) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (320) .
الجرح في شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة وهم بالجرح أولى وهم زنادقة".
فتكفير الصحابة وتكذيبهم دسيسة من دسائس اليهود وليس المقصود به الطعن في الصحابة ذاتهم، وإنما المقصود الحيلولة بين الناس وبين الدين، فعندما يروج الروافض أن أبا هريرة رضي الله عنه كذاب أو غيره من الصحابة فإن من انطلت عليه هذه الدعاية ينصرف عن الدين ولا يثق به ولا يطمئن لعدم ثقته بمن نقله، وأي ثقة تبقى في دين يرمى حملته بالكذب ويتهمون بالكفر، وبهذا يعرف مراد القوم.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سب الصحابة أشد التحذير وأمر بالإمساك عن القدح فيهم أو الطعن.
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".1
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا".2 والمراد: إذا ذكروا بغير الجميل.
فالصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لا يذكرون إلا بالخير والجميل والإحسان مع الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، خلاف ما يفعله ذوو القلوب المنكوسة والعقول المعكوسة من خوضٍ في الصحابة أو بعضهم طعناً وتنقصاً وسباً وتجريحاً. ففعلوا نقيض ما أمروا به، واقترفوا ضد ما دعوا إليه.
1 البخاري برقم (3673) ، ومسلم برقم (2541) .
2 أخرجه الطبراني في الكبير برقم (1448) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (34) .
روى مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت لعروة بن الزبير: "يا ابن أخي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم".1 نعوذ بالله من الزيغ والبهتان، ونسأله سبحانه ألا يجعل في قلوبنا غلاً لأحد من أهل الإيمان، وأن يغفر للصحابة الأبرار العدول الأخيار ولكل من اتبعه بالخير والإحسان.
ثم إن الناظم لما بين مكانة الصحابة وحث على قول الخير فيهم وحذر من الطعن فيهم قال مبيناً الدليل على ما ذكر:
(فقد نطق الوحي المبين بفضلهم
…
وفي الفتح آي للصحابة تمدح)
ما سبق هو تقرير لمعتقد أهل السنة في الصحابة، وهذا البيت فيه دليل ذلك المعتقد؛ ولذا فإن المنظومة على اختصارها ذكرت فيها المباحث بأدلتها، وقوله: (فقد نطق
…
) من قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية:29) .
(الوحي) هو القرآن الكريم كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(المبين) الواضح البين الذي لا لبس فيه ولا غموض، والمبين للشرائع والأحكام، والموضح لطريق الحق والهدى من الباطل والضلال.
1 مسلم برقم (3022) .
(بفضلهم) الجار والمجرور متعلق بالفعل نطق، والقرآن مليء بالأدلة التي تبين فضل الصحابة ومن ذلك ما أشار إليه الناظم رحمه الله بقوله:
(وفي الفتح آي للصحابة تمدح) ، وفي نسخة (في الصحابة تمدح) يشير إلى أن الوحي مليء بالأدلة الدالة على فضل الصحابة، وينبه في الوقت نفسه على كثرة الآيات في سورة الفتح التي تمدح الصحابة وتبين فضائلهم، وعند تأمل هذه السورة نجد مواضع كثيرة فيها مشتملة على مدح الصحابة: ففي أول السورة قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (الفتح:4) ثم بعدها بآيات قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح:10) .
ثم ذكر حال المخلفين من الأعراب، ثم قال:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:18)، ثم بعدها بآيات قال:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الفتح:26) .
ثم ختم السورة بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: من الآية29) .
فكل هذه الآيات في فضل الصحابة، بل الآية الأخيرة فيها ذكر فضل الصحابة في القرآن، وبيان فضلهم في التوراة والإنجيل، بذكر مثلهم في التوراة وهو أنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ومثلهم في الإنجيل وهو أنهم:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار} .
وهذه الآية احتج بها بعض السلف منهم الإمام مالك على كفر الروافض؛ لأن الله يقول: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .
وبهذا أنهى الناظم الكلام عن الصحابة؛ حيث بين مكانتهم وفضلهم، وحذر من الطعن فيهم والجرح لهم، وقرر بإيجاز عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.