الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إثبات رؤية الله تعالى
(وقل يتجلى الله للخلق جهرةً
…
كم البدر لا يخفى وربك أوضح)
(وليس بمولودٍ وليس بوالدٍ
…
وليس له شبهٌ تعالى المسبح)
(وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا
…
بمصداق ما قلنا حديث مصرح)
(رواه جريرٌ عن مقال محمدٍ
…
فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح)
الرؤية حق دل عليها الكتاب والسنة المتواترة، وأجمع عليها المسلمون، ولا ينكر الرؤية إلا الجهمية الضلال ومن تأثر بهم، وقد قال بعض السلف مثل الشافعي: من أنكر رؤية الله حري أن يحرم منها.
(وقل) الخطاب موجه لصاحب السنة ومن يريد إتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم أمره واقتفاء أثره، وأما صاحب الهوا والآراء والمنطق وغير ذلك فإنه لا يقيم للسنة وزناً ولا يرفع بها رأساً ولا يعبأ بها.
قل يا صاحب السنة غير متردد ولا شاك: (يتجلى) التجلي هو الظهور والبيان أي يظهر (الله للخلق) والمراد بالخلق المؤمنون، فهم الذين ينعم عليهم سبحانه يوم القيامة برؤيته ويكرمهم بالنظر إليه، بل إن رؤيتهم له سبحانه هي أجل مقاصدهم وأعظم غاياتهم وأهدافهم، ومن دعائهم: "اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء
مضرة ولا فتنة مضله" وهو دعاءٌ ثابت عن النبي1 صلى الله عليه وسلم من حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أما الكفار فلا يرونه كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين:15)
ولئن كان حجب الكفار عن رؤية الرب العظيم نوعاً من العقوبة، فإن تمكين المؤمنين منها أجل هبة وأعظم عطية.
(جهرة) أي عياناً جهاراً ليس بينهم وبين الله ما يحجبهم عنه (كما البدر لا يخفى) البدر: هو القمر ليلة الرابع عشر عندما يمتلئ نوراً، وعندما لا يكون بيننا وبينه سحاب، فإن المؤمنين يرونه جميعاً ولا يحتاجون إلى تضام وتزاحم لرؤيته شأن الأشياء الدقيقة، وكذلك لا يتضارون في رؤيته فلا يحصل لأحد ضرر في رؤيته، وكل ذلك يؤكد أن الرؤية تكون حقيقة وبيسر وسهولة، فإن الشمس والقمر يراهما الناس بأبصارهم رؤيةً حقيقية دون عنت أو مشقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر
…
" 2، والكاف للتشبيه ولكن ليس التشبيه هنا للرب بالقمر أو الشمس ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما التشبيه هنا للرؤية بالرؤية؛ لأن الكاف دخلت على الرؤية وهي فعل العبد، فالتشبيه للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، أي كما أن رؤية القمر تكون للناس حقيقةً عياناً بأبصارهم، فكذلك رؤية الله تكون حقيقية عياناً بأبصارهم.
1 أخرجه النسائي في سننه برقم (1305) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (1304) .
2 أخرجه البخاري برقم (554) ، ومسلم برقم (633) .
(كما) الكاف للتشبيه، و (ما) زائدة، أي كالبدر.
(وربك أوضح) القمر مخلوق من مخلوقات الله ومع ذلك يراه الناس ليلة البدر عياناً بياناً بدون ضيم وضرر ونحو ذلك، فكيف بالرب الخالق تعالى؟! فإنه أوضح من كل شيء سيراه المؤمنون بأبصارهم عياناً على الحقيقة.
قوله: (وربك) أي: أيها المخاطب بهذا النظم، وهو رب الخلائق أجمعين، رباهم بنعمه لا رب لهم سواه ولا خالق لهم غيره.
وربوبيته لخلقه نوعان: عامة وخاصة؛ فأما العامة بالخلق والرزق والإنعام والصحة ونحو ذلك من الأمور التي هي عامةً في المؤمن الكافر والبر والفاجر، وأما الخاصة فهي التربية على الإيمان والهداية للطاعة والتوفيق للعبادة وهذه مختصة بالمؤمنين.
قال:
(وليس بمولودٍ وليس بوالدٍ
…
وليس له شبه تعالى المسبح)
هذا البيت ذكره الناظم بعد إثبات الرؤية لله؛ ليبين به أن إثباتها حقيقة لا يستلزم تشبيه الله بالمولود أو بالوالد، ولا يستلزم التشبيه؛ لأن أهل السنة يثبتون الصفات على وجهٍ يليق بالله تعالى، والإضافة تقتضي التخصيص في الصفة التي تضاف إلى الله ليست كالصفة التي تضاف إلى المخلوق، فعندما تضاف الصفة إلى الله فإنها تليق بكمال الله، وإذا أضيفت إلى المخلوق فإنها تليق بضعفه ونقصه.
ومن هنا يعلم أن مقالة التعطيل أساسها التمثيل، فالمعطل بلغ درجة التعطيل لما مثل، فلم يفهم من الصفة التي أضيفت إلى الله إلا عين الصفة التي يعلمها من المخلوق، فكل معطل سائر تحت هذا الوهم الفاسد كما قال أحد هؤلاء يصف المتكلمين:"أناس مضوا تحت التوهم يظنون أن الحق معهم ولكن الحق ورائهم"، هذا ذكره الذهبي عن أبي حيان التوحيدي، ثم قال:"وأنت حامل لوائهم".
يقولون: لو أثبتنا الرؤية لله حقيقة، لأثبتنا له الجسمية ولشبهناه بالمخلوق الحادث؛ لأن الرؤية لا تقع إلا على ذي جسم، وهذا قياس فاسد، حيث قاسوا الله بالمخلوق، ولهذا قال السلف:"ولا يقاس بخلقه"، فالناظم جاء بهذا البيت؛ ليزيل التوهم الذي قد يأتي، وهذا التوهم جاء بعد مقالة الجهمية، وأما قبلها فلا وهم، فإن الصحابة لم يخطر ببالهم شيء من ذلك.
أي مع أنه يُرى يوم القيامة حقيقة بالأبصار (ليس بمولودٍ وليس بوالدٍ) أي لم يتفرع عن غيره ولم يتفرع عنه غيره وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 3،4) .
(وليس له شبه) أي: الله سبحانه وتعالى، والشبه هو المثيل والنظير، والله لا شبيه له ولا مثيل له ولا نظير افي أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله.
قال الله تعالى: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: من الآية11)
وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: من الآية65)
وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص:4)
وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: من الآية22) .
ويؤخذ من هذا أن إثبات الصفات لا يقتضي التمثيل فإن التمثيل أمر آخر غير إثبات الصفات.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: "المشبه الذي يقول يد كيدي وسمع كسمعي
…
والله يقول: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "، فالذي يثبت الصفات لله على الوجه الذي يليق به ليس بمشبه، وإنما المشبه الذي يشبه صفات الله بصفات خلقه، وأهل السنة مطبقون على ذم هؤلاء المشبهة، وأن مقالتهم مقالة كفر وضلال.
والمعطلة يرمون أهل السنة بالتشبيه، إما لأنهم لم يفهموا مقالتهم، أو أنهم أصحاب أغراض سيئة وقصد فاسد.
(تعالى) أي عن الشبيه والنظير أي ارتفع قدره وجل شأنه وتعاظم أن يكون له شبيه أو نظير فهو ينزه الله عن ذلك.
والتعالي من العلو وهو الرفعة، وهو ثابت لله ذاتاً وقدراً وقهراً.
(المسبح) أي المنزه؛ لأن التسبيح في اللغة التنزيه، وهذا التسبيح عبادة مقربة لله ورد الأمر بها في مواطن كثيرة، بل جاء الترغيب والحث على الإكثار من التسبيح في الأوقات المختلفة، ورتب على القيام به الأجور العظيمة والثواب الجزيل وفي الحديث: "من قال حين يصبح سبحان الله
وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" 1 وهو كلام حبيب إلى الرحمن كما في الحديث "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم" 2 وفي الحديث:"أحب الكلام إلى الله: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "3.
وتسبيح الله يكون عما لا يليق به.
وأما المعطلة فيفهمون من التسبيح تنزيه الله عن الصفات، ولذا يقولون: سبحان المنزه عن الصفات، قال أحد أهل العلم:"فانظروا إلى تسبيح الجهمية كيف أدى بهم إلى التعطيل"، فهذا التسبيح أدى بهم إلى الزيغ والضلال.
ولا يجوز لمسلم أن يسبح الله عما جاءت به المرسلون، وإنما يجب تسبيح الله عما جاء به أعداء الرسل المخالفون لهم، ولذا قال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: أعداء الرسل {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (الصافات: 180-181) ، نزه نفسه عما يصفه به أعداء الرسل؛ لأنه يتضمن التشبيه والتعطل، وسلم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه في حق الله من النقص والعيب.
1 أخرجه البخاري برقم (6405) ، ومسلم برقم (2691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري برقم (6406) ، ومسلم برقم (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 أخرجه مسلم برقم (2137) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
ومن أسماء الله (القدوس والسلام) وهما من أسماء التنزيه، فينزه الله عن أن يوصف بصفات نقص أو أن يوصف بالنقص، وينزه سبحانه عن أن يشبه أحداً من خلقه أو يسببه أحدٌ من خلقه، وينزه سبحانه عن أن يوصف بما لا يليق به، أما أوصافه سبحانه اللائقة بجلاله وكماله فليس من التسبيح في شيء نفيها وتعطيلها.
قال: "وقد ينكر الجهمي
…
"
(قد) عندما تدخل على المضارع فإن لها أحولاً بحسب الساق، أحياناً تكون للتقليل، وأحياناً للتكثير، وأحياناً للتحقيق والتأكيد، وهنا المراد التحقيق والتأكيد، فيقول: حقيقة مقالة الجهمية إنكار رؤية الله، ولذا يقول الإمام أحمد رحمه الله:"من ينكر الرؤية فهو جهمي".
(والجهمي) أي المتأثر بالجهم بن صفوان شيخ الطريقة وأستاذ القوم.
(هذا) أي رؤية الله، ولما ذكر مقالة الجهمية بدأ بالرد عليهم فقال:(وعندنا) أي نحن معاشر أهل السنة والجماعة (بمصداق ما قلناه) أي بتصديق الذي قلناه وهو إثباتنا للرؤية (حديث مصرح) ليس بالتخرصات والآراء، بل بالنصوص من الكتاب أو السنة.
(مصرح) أي صحيح الدلالة على إثبات الرؤية، وفي نسخة أخرى:(حديث مصحح) أي صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنيان يكمل أحدهما الآخر، فالحديث في الرؤية مصحح من قبل الأئمة، بل هو متواتر، نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول،
المجمع عليها عند العلماء بالحديث وسائر أهل السنة"1. ومصرح بإثبات الرؤية لله سبحانه، فلم يبق لمبطلٍ متعلق.
(رواه جرير عن مقال محمد) أي رواه الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة.
روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال:"أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا" 2، يعيني الفجر والعصر.
هذا ما أشار إليه الناظم هنا، وحديث الرؤية حديث متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة منهم: أبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله وغيرهم رضي الله عنهم، والواجب الوقوف عند الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء منها المتواتر أو الآحاد، لكن أهل التعطيل لا يقيمون لها وزناً ولا يرفعون لها رأساً، بل يشمئزون من ذكرها ويتكلفون في دفعها وردها.
وبعد أن رد الناظم على الجهمية قال: (فقل) أي يا صاحب السنة (مثل ما قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مثل ما يقوله الجهمية المعطلة النفاة.
1 مجموع الفتاوى (6/421) .
2 تقدم (ص28) .
(في ذاك) أي في الرؤية، أو في صفات الله عموماً، فكأن الناظم هنا يعطي منهجاً دقيقاً هو سبيل النجاة؛ أن يقول السني في صفات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا معنى ما قاله الإمام أحمد رحمه الله:"نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث".
(تنجح) أي بذلك يكون نجاحك، والنجاح هو الظفر ونيل المقصود وهو هنا الظفر بفضل الله، وتحقيق المعتقد الحق، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
إثبات صفة اليدين لله تعالى
10 (وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه
…
وكلتا يديه بالفواضل تنفح)
هذا البيت عقد لإثبات هذه الصفة العظيمة صفة اليدين لله تعالى على وجه يليق بجلاله، وأهل السنة يثبتون اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله دون تشبيهٍ بيدي المخلوق، بل يقولون: لله يدان حقيقيتان لا تشبهان يدي المخلوق، وهذا شأنهم في إثبات جميع الصفات فهم عند الإثبات يحذرون من منزلقين خطيرين هما: التعطيل والتمثيل، فمنهجهم في الصفات يقوم على أصلين هما: الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل، فأهل السنة يثبتون اليد لله بلا تمثيل لها بصفة المخلوق وينزهون الله عن النقص، ولكن دون تعطيل له عن إثبات اليد الحقيقية اللائقة بجلاله وكماله.
ويضاد هذا المنهج الذي يقوم عليه مسلك أهل السنة في إثبات الصفات منهجان منحرفان:
الأول: إثباتٌ بتمثيل، وهم المشبهة اللذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه وأهل السنة ليسوا مشبهةً إذ التشبيه منهج ضلال وكفر؛ لأن من يقول عن ربه إن يده كيده وسمعه كسمعه وبصره كبصره فهو إنما يعيد صنماً من الأصنام ووثناً من الأوثان.
الثاني: تنزيه بتعطيل، وهم المعطلة الذين يجحدون صفات الله وينفونها بحجة تنزيه الله عن مماثلة خلقه، وهم أقسام كثيرة: منهم من يعطل الأسماء والصفات، ومنهم من يعطل الصفات دون الأسماء، ومنهم من يعطل بعض الصفات دون بعض. ومعطل الصفات عابد للعدم، ولذا قيل: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً. وهذان المنهجان وما تفرع عنهما يجمعهما وصف جامع هو الإلحاد في أسماء الله وصفاته، وقد أمرنا الله تعالى أن نذر هذا المنهج وتوعد أهله بأشد الوعيد في قوله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)
الممثلة يقولون في اليد: يد كأيدينا فلم يثبتوا لله يده التي تليق به، والمعطلة يقولون: يلزم من إثباتها التمثيل فلا نثبت لله يداً حقيقيةً. ولهذا "فكل معطل ممثل وكل ممثل معطل".
"كل معطل ممثل"؛ لأن تعطيله للصفات إنما قام على ساق التمثيل، فما جحد اليد إلا لأنه توهم أول الأمر أن إثباتها لله حقيقة يلزم منه التشبيه فنفى عن الله اليد، فهو لما يقرأ قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص: من الآية75) ، لا يفهم منه إلا يد المخلوق وهذا يدفعه إلى تنزيه الله، ولا سبيل عنده إلى تنزيه الله إلا بنفي هذه اليد عن الله، وعلى هذا مضى عامة معطلة الصفات يعطلونها؛ لأنهم لا يفهمون من المضاف إلى الله إلا عين ما يرونه ويشاهدونه في
المخلوق. ولهذا يصرح بعضهم بهذا فيقولون: "لا نعقل يداً إلا عين ما نراه في الشاهد"، فهم فروا من شر ووقعوا في شر أخبث منه، ثم إنهم لما عطلوا صفة الله نتيجة للتمثيل الذي هم مرضى به انتقلوا به إلى تمثيل آخر، فمثلوا الله إما بالمعدومات أو الجمادات أو الممتنعات بحسب نوع تعطيلهم، ويظهر من هذا أن كل معطل ممثل مرتين مرة قبل التعطيل ومرة بعده، فكل تعطيل محفوف بتمثيلين.
"وكل ممثل معطل": من يمثل صفة الله بصفة خلقه فهو معطل وليس معطلاً مرة واحدة بل معطل ثلاث مرات، فالذي يقرأ قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: من الآية75)، ثم يفهم منها يد كأيدينا وقع في التعطيل ثلاث مرات:
1-
كونه عطل الله عن صفة اليد الحقيقية اللائقة به التي لا تشبه يد المخلوقين.
2-
كونه عطل هذا النص وهو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: من الآية75) عن مدلوله، ومدلوله إثبات يد حقيقية تليق بالله، وصرفه إلى إثبات يد تشبه يد المخلوقين.
3-
كونه عطل النصوص الكثيرة في القرآن النافية للتشبيه كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (لشورى: من الآية11) .
ولم يسلم من التعطيل والتمثيل أحد من الطوائف برمتها غير أهل السنة والجماعة، ومن سواهم معطلة ممثلة في الوقت نفسه، وإن كان يزعم كل واحد منهم في ظاهر قوله أنه غير معطل أو غير ممثل.
والناظم بدأ إثبات صفة اليد بالرد على الجهمية، والجهمية هم أساس الشر ورأس البلاء في تعطيل الصفات، ولذا فكل معطل جهمي، وكل معطل شيخه الأول الجهم بن صفوان؛ لأنهم ورثوا منه تركة التعطيل ولكنهم في أخذهم عنه يتفاوتون، فبعضهم أخذ منه بحظ وافر، وبعضهم أخذ منه دون ذلك.
(وقد ينكر الجهمي) أي يجحد السائر على منهج الجهم والمتأثر بشبهه، و (قد) هنا للتأكيد والتحقيق.
(أيضاً) أي مع إنكاره للصفات الأخرى.
(يمينه) أي ثبوت اليمين واليد لله تعالى. وهنا سؤال: كيف أنكر الجهمية اليمين واليد لله مع أن اليد ثابتة في القرآن والسنة بمئات النصوص، ووصفت بصفات كثيرة لا تجعل من يقرأ تلك الأدلة يتردد في إثباتها لله، بل قد وصفت اليد بصفات تصل إلى مائة صفة، مثل الطي والقبض والبسط والأخذ والإعطاء وغير ذلك من الصفات، كلها تؤكد إثبات هذه الصفة لله حقيقةً على الوجه اللائق به.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف غرس الجهم في نفوس من تأثر به عدم إثبات اليد لله؟ وقبل مقالة الجهم كان كل من يقرأ آيات الصفات في القرآن لا يفهم منها إلا الصفات الحقيقية اللائقة بالله، ويعلم ذلك بالنظر إلى العوام الذين لم يلتقوا بالجهمي أو أي متكلم، فإذا تليت عليهم آية في الصفات لا يفهمون منها إلا الصفة الحقيقية.
فدبر الجهم خطة وبدأ بتعقيد القواعد الكليات لجحد الصفات، فهو لا يستطيع أن يأتي إلى الناس رأساً ويقول لهم: ليس لله يد، فجاء بألفاظ مجملة ونزه الله عنها، وجعل تنزيه الله عنها أصولاً كليةً عند هؤلاء، ثم توصل إلى إنكار الصفات من خلال ذلك، حيث جاء بلفظ الجسم والحيز والجهة، فقال مثلاً: هل الله جسم؟ فأخذ يقرر أن الله ليس بجسم ولا يوصف بالجسمية، فلما قرر ذلك ومكنه من نفوسهم أخذ يقرر فيهم ما يريد فقال: لو أثبتنا لله اليد أثبتنا له الجسمية ولو أثبتنا له الجسمية شبهناه بخلقه ومن ثم غرس فيهم تعطيل الصفات.
ولكن واجهته مشكلة وهي النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي تصادم تقريره، فدلهم على التحريف، وبهذا توصل الجهم إلى تقرير إنكار صفات الله لدى من استهوتهم شبهته واستفزهم ضلاله وباطله من ذوي الجهل وقلة البصيرة في الدين.
(اليمين) صفة ثابتة لله، فالله له يدان حقيقيتان، وفي رواة لمسلم إثبات يدين لله: يمين وشمال، ومن أهل العلم من صوب أن لفظ الشمال لم يثبت وإنما الثابت (الأخرى) بدل الشمال، وعلى كلٍ فهذه الرواية ليست معارضة لقوله صلى الله عليه وسلم:"وكلتا يدي ربي يمين" 1؛ لأن أهل العلم وضحوا أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "وكلتا يدي ربي يمين" نفي توهم النقص؛ لأنه قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن الشمال أو الأخرى أنقص من اليمين.
1 أخرجه مسلم برقم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
واليمين ثابتة لله في القرآن والسنة، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)، وفي هذه الآية رد بين على المعطلة الذين قالوا إن إثبات اليد لله يلزم منه تشبيه الله بالخلق. فيقال لهم: كيف يفهم عاقل تأمل هذه الآية أنه يلزم من إثبات اليد لله حقيقة تشبيه الله بالمخلوق وقد وصفت يده سبحانه بهذه العظمة والكمال.
ويرد عليهم بأنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة والمسمى، هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين الخالق والمخلوق؟ (وكلتا يديه) وفيه إثبات اليدين لله حقيقةً على الوجه اللائق به، وهذا التنصيص بأن له يدين جاء في القرآن والسنة، قال تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: من الآية64) .
وفي الحديث: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض". رواه البخاري ومسلم1.
وهذه الآية والحديث من أقوى الأدلة في الرد على من قال يده قدرته، فيقال لهم: هل لله قدرتان؟ وبإجماع أهل الإسلام أنه ليس لله قدرتان، وتفسيرها بالنعمة أيضا مردود؛ لأنه لا يقول أحد إن لله نعمتين بل نعمه
1 البخاري برقم (7411) ، ومسلم برقم (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
كثيرة، وماذا يقول هؤلاء في الحديث؟ هل يقولون وبقدرته الأخرى أو بنعمته الأخرى أو ماذا يقولون؟!
ولا يعارض ثبوت اليدين لله أن اليد قد جائت في بعض النصوص بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (يّس:71)
وكذلك جائت مفردة كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الملك:1)
لأن لغة العرب تتسع للأخبار عن المثنى بالجمع أو المفرد، وقد ورد ذلك في القرآن كما في قوله تعالى:} فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا { (التحريم: من الآية4) ،وما زال العرب يقولون رأيتك بعيني، وسمعتك بأذني، والمراد عينيَّ وأذنيَّ، فلا تعارض إذاًَ بين الألفاظ الواردة. ومثله تماماً في قول العين.
(وكلتا يديه بالفواضل) الفواضل جمع فاضلة، وهو الخير والجود والكرم والعطاء، قال الله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: من الآية64)
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"1.
1 تقدم (ص 40)
(تنفح) والنفح العطاء، وفي بعض النسخ (تنضح) ، والنضح هو الرش والسقي، والمقصود أنه يعطي الجزيل ويكرم عباده ويعطيهم العطاء الواسع، كما في الحديث: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار
…
"
واليد من صفات الله الذاتية، والناظم عندما يذكر إنكار الجهمية لليد يشير بذلك إلى إنكارهم للصفات الذاتية الأخرى كالوجه والقدم والعين والساق ونحوها فمضمون كلامه الرد عليهم في إنكارهم بقية الصفات الذاتية؛ لأنًّ القول في الصفات واحد.
وصفات الله نوعان:
ذاتية وضابطها: هي التي لا تنفك عن الذات، ولا تعلق لها بالمشيئة.
وفعلية وهي: التي تتعلق بالمشيئة.
ولا فرق عند أهل السنة والجماعة بين الصفات من حيث الإثبات فكلها حق تثبت لله كما وردت ويؤمن بها كما جائت بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
تقدم (ص 41)