الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفة الكلام
(وقل غير مخلوق كلام مليكنا
…
بذلك دان الأتقياء وأفصحوا)
(ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً
…
كما قال أتباع لجهمٍ وأسجحوا)
(ولا تقل القرآن خلق قرأته
…
فإن كلام الله باللفظ يوضح)
لعل الناظم بدأ بهذه الصفة قبل غيرها من الصفات؛ لمناسبة السياق، وذلك أنه بدأ في البيتين الأولين بذكر التمسك بالكتاب والسنة، فلما ذكر وجوب التمسك بالقرآن، بدأ بذكر أبيات فيها ذكر عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على الذين خالفوا الحق وباينوه وجانبوا معتقد أهل السنة فيه، فهذه الأبيات فيها بيان موجز لمعتقد أهل السنة في هذه المسألة، وردٌ على أصناف من أهل البدع، وهم طوائف عديدة، أشار الناظم إلى بعضهم فبدأ رحمه الله بالكلام في هذه المسألة بقولة:(وقل غير مخلوق كلام مليكنا)
(قل) الخطاب لصاحب السنة المتمسك بالكتاب والسنة، أي: قل معتقداً مؤمناً بهذا الأمر غير شاكٍ فيه ولا مترددٍ؛ لأن القول إذا أطلق فإنه يشمل قول القلب وقول اللسان، ومن ذلك قوله تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (البقرة: من الآية136) أي: قولوا ذلك بقلوبكم إيماناً واعتقاداً وبألسنتكم نطقاً وتلفظاً.
(غير مخلوق كلام مليكنا) وهذا فيه إثبات أمرين يتعلقان بصفة الكلام:
الأمر الأول: أن الكلام صفة لله، فالقرآن كلام الله وليس كلام أحد من المخلوقين، وإضافته إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، بخلاف المعتزلة الذين قالوا هو من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والمضافات إلى الله تعالى نوعين: مضاف إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مثل سمع الله وبصر الله وقدرة الله وكلام الله وعلم الله، وضابطه ما إذا كان المضاف وصفاً لا يقوم إلا بموصوف، ومضاف إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق مثل عبد الله وأمة الله وناقة الله وبيت الله، وضابطه ما إذا كان المضاف عيناً قائماً بنفسه.
وهكذا الشأن فيما قال فيه "من الله" فقد يكون منه وصفاً، وقد يكون منه خلقاً. فقوله تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: من الآية13) . القول وصف للرب سبحانه ونعت من نعوته.
وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} (الجاثية: من الآية13) . ما في السماوات وما في الأرض جميعاً هو من الله خلقاً وإيجاداً.
وفي هذا الباب ضل طائفتان: المعتزلة حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة خلق وإيجاد؛ ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بأن كلام الله مخلوق، وغلاة الصوفية حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة وصف؛ ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بالحلول ووحدة الوجود تعالى الله عما يصفون.
والحق وسط بين ذلك، والحاصل أن إضافة الكلام إلى الله عز وجل من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
وعندما يقال كلام مليكنا هذا يتمضن الأصل في الصفات، وهو أن ما يضاف إلى الله من الصفات يثبت له على وجه يليق به، وهذا تضمنه قوله (كلام مليكنا) أي هي صفة لله تليق به ولا تشبه صفات المخلوقين، فهو سبحانه له الكمال في ذاته وصفاته. ولذا قال بعض السلف: إذا أردت أن تعرف الفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين فهو كالفرق بين الخالق والمخلوق.
والقاعدة عند أهل العلم: أن الإضافة تقتضي التخصيص، فعندما يضاف الكلام إلى الله فأنه يخصه ويليق بجلاله وكماله، وعندما يضاف الكلام إلى المخلوق فيخصه ويليق بعجزه ونقصه، ولا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة والمسمى. هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين المخلوق والخالق.
الأمر الثاني: قوله: (غير مخلوق) ، وهذا فيه رد وإبطال لقول من قال إن كلام الله مخلوق من المخلوقات التي أوجدها الله بقدرته، فالناظم بين بطلان هذا المعتقد بقوله:(غير مخلوق) ، والقول بخلق القرآن هو معتقد الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
والجهمية يصرحون بهذا ويقولون: القرآن مخلوق والكلام مخلوق ولا يقولون هو كلام الله، ولهذا حاول شيخهم تحريف قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: من الآية164) . إلى نصب لفظ الجلالة فراراً من إضافة الكلام إلى الله.
وأما المعتزلة فيضيفون الكلام إلى الله ولكنهم يجعلونه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والأشاعرة والكلابية أيضاً يقولون بخلق القرآن، ولكن لا يصرحون بذلك، ويقولون: الكلام نوعان كلام نفسي ليس بحرف ولا صوت وهذا يضيفونه إلى الله، أما الكلام اللفظي الذي يشتمل على الحرف والصوت والذي هو القرآن فهو مخلوق، وهو عبارة أو حكاية عن كلام الله وليس كلام الله بل هو مخلوقٌ من جمل سائر المخلوقات، وبذلك يلتقون مع الجهمية.
فالناظم بقوله: (غير مخلوق) أبطل جميع هذه المقالات.
فالقرآن كلام الله حقيقة، وهو بحرف وصوت سمعه جبريل من الله عز وجل، وألفاظه ومعانيه كلام الله، ليس كلام الله ألفاظه دون معانيه، ولا معانيه دون ألفاظه.
وقوله (مليكنا) فيه إثبات صفة الملك لله. فالله مالك الملك، والملك كله لله.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:26) .
والمخلوق إذا ملك شيئاً فإنما هو بتمليك الله له، فالله مالك الدنيا والآخرة، والملك من معاني الربوبية؛ لأن الربوبية لها معانٍ منها: السيد والمطاع والملك.
قوله رحمه الله (بذلك) : الإشارة هنا إلى ما تقدم في الشطر الأول من بيان المعتقد الحق في كلام الله.
(دان الأتقياء) : أي آمنوا واعتقدوا ذلك، والأتقياء: دانوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فهذا معتقدهم الذي لا يحيدون عنه، والنقول عنهم في ذلك كثيرة، فاللالكائي رحمه الله عقد فصلاً في (شرح الاعتقاد) في بيان أن كلام الله غير مخلوق وسمي أكثر من خمسمائة نفس من هؤلاء، وبعضهم يروي عنهم ذلك بالإسناد، كلهم يقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر والنقول عنهم في هذا المعنى كثيرة جداً.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
…
بل قد حكاه قبله الطبراني
قوله: (الأتقياء) : اختيار هذه الصفة لأهل السنة في غاية الجودة والدقة، فالتقوى: هي الوقاية بأن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه، فتقوى الله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضب الله وسخطه وقاية تقيه بفعل الأوامر وترك النواهي، ولهذا أفضل ما فسرت به التقوى قول طلق بن حبيب رحمه الله:" التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
قال ابن القيم رحمه الله: " وهذا من أحسن ما عرفت به التقوى"، وقال الذهبي في ترجمته:"وقد أحسن وأجاد"، وكذلك شيخ الإسلام أشاد بهذا التعريف، وكذا ابن رجب.
فهؤلاء الأعلام ـ أعني أئمة أهل السنةـ اتقوا الله بلزوم السنن والطاعات وبترك النواهي والمحدثات، وأعظم ما تركوه وابتعدوا عنه الكفر والبدع والمحدثات والتي منها القول بخلق القرآن وإضافةً إلى ما فيه من كفر وضلال فقد ترتب عليه من المفاسد والأخطار عند من قال به شيء كثير؛ ولذلك ترتب على قول الجهمية به امتهان لكلام الله وعدم مبالاة به؛ لأنه بزعمهم مخلوق من المخلوقات.
(وأفصحوا) : أي إضافة إلى أنهم دانوا بذلك واعتقدوه بقلوبهم فقد أفصحوا به وصرحوا به وأبانوه وقرروه في المجالس ووضحوه، وانصروا له، ولا سيما عندما يعلن أهل الباطل باطلهم ويصرحون بضلالهم.
ولهذا ينقل عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه كان كل جمعة يقف ويقول القرآن كلام الله غير مخلوق خلافاً لقول الباقلاني، وذلك حتى لا يظن من يأتي بعدنا أننا على معتقده؛ وذلك لأنه كان في عصره، نقل ذلك عنه شيخ الإسلام في (شرح العقيدة الأصفهانية) .
وهذا أي الإفصاح قد مضى عليه أهل السنة في تآليفهم، فما تجد كتاباً مؤلفاً في الاعتقاد إلا وفيه التصريح بذلك والإفصاح به، بل أفردوا في ذلك كتباً ومصنفات.
قال:
(ولاتك في القران بالوقف قائلاً
…
كما قال أتباع لجهمٍ وأسجحوا)
بعد أن أنهى الناظم الكلام على المسألة الأولى بدأ يرد على طائفة من طوائف الجهمية، وهم الواقفة.
معلوم أن مذهب أهل السنة هو أنهم يفصحون ويصرحون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومذهب الجهمية يصرحون فيه بضد ذلك وهو أن القرآن مخلوق، ونشأ على إثر عقيدة الجهمية هذه بدعة الواقفة، فنشؤوا متأثرين ببدعة الجهمية الذين قالوا القرآن مخلوق، وبدؤوا ينشرون ذلك بين الناس، وأخذوا يثيرون الشبه، وأهل السنة يردون عليهم، ففي هذه الأجواء نشأ الواقفة الذين تأثروا بالجهمية ـوهم قوم شكاك ـ فقالوا القرآن كلام الله ولا يقال مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما قالوا ذلك لتأثرهم ببدعة الجهمية ودخولها في نفوسهم، ولذلك لم يستطيعوا الإفصاح بالمعتقد الحق وهو أن القرآن غير مخلوق، ولذا قال الإمام أحمد:" الواقفة جهمية"، والناظم أيضاً يقول ذلك فقد وصفهم بأنهم:"أتباع لجهم"، وبعض أهل العلم قال: هم شر من الجهمية، ووجهه: أن معتقد الجهمية مصرح فيه بالباطل، وهو أن القرآن مخلوق، فنقده وبيان فساده للناس بالحجج والبراهين سهل، ولكن لما يأتي الواقفة ويقررون مذهبهم على أنه من باب الورع ويقفون في هذه الصفة، فهذا من أخطر ما يكون على العوام، فيظنون أن في قولهم شيئاً من الوسطية والاعتدال، والواجب الإفصاح بالمعتقد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. وعدم الإيمان به أو التوقف والتردد كله زيغٌ وضلال، والله يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: من الآية15) . والتوقف عن الإيمان بالحق نوعٌ من الشك والريب.
(جهم) : هو ابن صفوان، رأس من رؤوس الجهمية، وقد ذكر أهل العلم أن منشأ هذا التعطيل: أن الجهم أخذه عن الجعد بن درهم عن أبان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد عن لبيد بن الأعصم اليهودي وهو أخذ ذلك عن يهود اليمن، هذه هي سلسلة هذا الضلال متصلة باليهود، ومن هنا يعلم أن أساس التعطيل هم اليهود كما أنهم هم أساس الرافضة.
(أسجحوا) أسجح بالشيء أي لانت به نفسه، فأتباع جهم لانت نفوسهم ومالت قلوبهم إلى هذا المعتقد، وفي نسخة (أسمحوا) وهو بمعناه أي: سمحت نفوسهم باعتقاد هذا القول وتقريره رغم فساده وبطلانه.
ثم قال: (ولا تقل القرآن خلق قرأته
…
) أي لا تقل قراءتي بالقرآن مخلوقة، وهذا فيه الرد على بدعة أخرى غير بدعة الواقفة، ألا وهي بدعة اللفظية الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق، أو تلاوتي بالقرآن مخلوقة أو قراءتي بالقرآن مخلوقة.
ومنشأ هذه البدعة هي بدعة الجهمية نفسها، وشبهتهم هي شبهة الجهمية؛ لأن اللفظ والتلاوة والقراءة كلها مصادر تحتمل أحد أمرين:
تحتمل الملفوظ والمتلو والمقروء وهو كلام الله وهذا غير مخلوق، وتحتمل حركة اللسان والشفاه والحنجرة وصوت الإنسان وهي مخلوقة، فعندما يقال لفظي بالقرآن مخلوق يحتمل أحد هذين. فاللفظية هم ـ كما قرر أهل العلم ـ جهمية؛ وإنشاؤهم لهذه البدعة إنما كان لتقرير مذهب الجهم من طريق آخر وشبهة أخرى؛ للتلبيس على الناس، فهو عندما يقول "لفظي
بالقرآن مخلوق" يرجع إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن، ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره: "اللفظية جهمية". أي: من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو قائل بقول الجهم.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع"؛ لأن قوله (لفظي بالقرآن مخلوق) يحتمل أمرين أحدهما مخلوق وهو حركة اللسان والآخر غير مخلوق وهو كلام الله، وباطل أن يقال إن كلامه سبحانه مخلوقٌ.
وعندما يقول (لفظي بالقرآن مخلوق) يحتمل أيضاً أمرين أحدهما حركة اللسان وباطل أن يقال هذا غير مخلوق، والآخر المتلو المقروء وهذا غير مخلوق، ولذا كان الصواب التفصيل، فإن قصد به الملفوظ فهو كلام الله غير المخلوق، وإن أراد حركة اللسان والحنجرة وصوت العبد فهو مخلوق، فالصوت صوت القاري والكلام كلام الباري، والكلام إنما يضاف إلى من قاله ابتداءً لا إلى من قاله إبلاغاً وأداءً، ولذا قال الإمام أحمد:"القرآن كلام الله حيثما توجه" أي سواءً حفظ في الصدور، أو كتب في السطور، أو تلي بالألسن، أو سمع بالآذان.
والعلة في نهي الناظم عن قول اللفظية هي المبينة في قوله: (فإن كلام الله باللفظ يوضح)، وهذا معنى قول أهل السنة: القرآن كلام الله ألفاظه ومعانيه ليس كلام الله اللفظ دون المعنى ولا المعنى دون اللفظ، واللفظ به يوضح المعنى، ويبين المراد، ويجلي المقصود.