المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تاسعا إقامة الحدود في المساجد واتخاذها موضعا لسماع القضايا والخصومات] - فصول ومسائل تتعلق بالمساجد

[ابن جبرين]

الفصل: ‌[تاسعا إقامة الحدود في المساجد واتخاذها موضعا لسماع القضايا والخصومات]

[تاسعًا إقامة الحدود في المساجد واتخاذها موضعًا لسماع القضايا والخصومات]

تاسعًا: إقامة الحدود فيها: واتخاذها. موضعًا لسماع القضايا والخصومات التي تقع بين المتنازعين، حيث أنه ولابد سيحصل ضجيج وأصوات عالية، وكلمات نابية، فإن كلاً من الخصمين عادة يعيب الآخر ويثلبه، ويذكره بأقبح الصفات من الكذب، والافتراء، والظلم، والعدوان، ويقابله الآخر بمثل ذلك أو أشد، فيلزم من ذلك عادة امتهان المساجد بذكرهم هذه الصفات الذميمة المبنية على المبالغة أو الظن الخاطئ، وذلك مما ينافي كرامة المسجد ومكانته في النفوس، وهكذا ما يحصل عند إقامة الحدود في المسجد من احتشاد الخلق هناك لمجرد الفرجة والنظر، ويكون من بينهم السفهاء والأطفال، وأهل الجهل والفساد، فيحصل ازدحام ورفع أصوات، وارتكاب مفاسد وأخطاء تنافي شرف المسجد ومكانته في النفوس، ويحصل تشويش على من يصلي أو يقرأ أو يتعبد، وسواء كانت الحدود قتلاً أو رجمًا، أو جلدًا أو قطع طرف أو نحو ذلك.

وقد ورد النهي عن إقامة الحدود في حديث واثلة عند ابن ماجه، وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة ومعاذ عند الطبراني، وإن كانت ضعيفة كما سبق، ولكن يقوّي بعضها بعضًا، مما

ص: 66

يدل على أن لها أصلا لكن قد ورد ذكر الرجم في المصلىّ كما في البخاري وغيره (1) . والمراد به: الموضع الذي في البقيع يصلى فيه على الجنائز، والمعنى أن إقامة الحد عليه كانتَ قريبا من ذلك المصلى، ولم يكن محوطًا، وليمر فيه علامة المسجد.

وهكذا ما في الحديث أن ذلك الرجل اعترف بالزنا في المسجد، وكرَّر اعترافه، وأمر برجمه (2) إنما فيه الحكم عليه في المسجد، وقد ورد عن بعض السلف أنهم حكموا بين الميم في المسجد.

قال البخاريِ في كتاب الأحكام من صحيحه (باب من قضى ولاعن في المسجد) ولا عن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان باليمين على زيد بن ثابت عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجًا من المسجد (3) ثم روى حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين، قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد (4) .

(1) هو في صحيح البخاري برقم 5270، 6820. ومسلم برقم 1691 (16) .

(2)

هو في الحديث المذكور عن أبي هريرة وجابر وفيه أنه قرر الاعتراف أربع مرات.

(3)

هكذا في فتح الباري 13 / 154.

(4)

هو في صحح البخاري برقم 7166، ورواه قبل ذلك برقم 423.

ص: 67

وذكر الحافظ في الفتح أن أثر شريح وصله ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد، قال: رأيت شريحًا يقضي في المسجد وعليه برنس خز (1) . وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة، أنه رأى شريحًا يقضي في المسجد (2) .

وأثر الشعبي وصله سعيد الخزومي في جامع سفيان، من طريق عبدا لله بن شبرمة: رأيت الشعبي جلد يهوديًا في قرية في المسجد. وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان (3) . وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس، قال: رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد (4) .

وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من طريق أبي الزناد قال: كان سعد بن إبراهيم، وأبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، وابنه، ومحمد بن صفوان، ومحمد بن مصعب

(1) رواه ابن سعد في الطبقات 6 / 140 بإسناده عن إسماعيل وابن أبي شيبة في المصنف 6 / 513 برقم 1874 لكنه من إضافة المحقق نقلا عن فتح الباري.

(2)

هو في مصنف عبد الرزاق برقم 1731، وزاد: ورأيت أنا ابن أبي ليلى يقضي في المسجد.

(3)

رواه عبد الرزاق في المصنف برقم 1704.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3 / 516 برقم 1873.

ص: 68

ابن شرحبيل يقضون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر جماعة آخرون (1) . ثم ذكر أن الرحبة بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، والراجح أن لها حكم المساجد فيصبح فيها الاعتكاف، وكل ما يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد.

والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد فقد أخرى ابن أي شيبة من طريق المثنى بن سعيد قال: رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد (2) . وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلّوا ركعتين قبل أن يجلسوا (3) . تْم نقل الحافظ عن ابن بطال قال: استحب القضاء في المسجد طائفة، وقال مالك: هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس، لإمكان الاحتجاب، قال: وبه قال أحمد

(1) كذلك نقل ذلك الحافظ في الفتح 13 / 155.

(2)

في مصنف ابن أبي شيبة 6 / 513 حدثنا ابن مهدي عن المثنى عن سعيد قال: رأيت الحسن وزرارة ابن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارج المسجد.

(3)

نقله الحافظ في الفتح 3 / 155 عنه.

ص: 69

وإسحاق، وكره ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم ببن عبد الرحمن أن لا تقضى في المسجد، فإنه يأتيك الحائض والمشرك (1) .

وقال الشافعي: أحب إلى أن يقضي في غير المسجد لذلك (2) . وقال الكرابيسي: " كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك، فيدخل المسلم المسجد، ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره" اهـ.

وقد علم أن القضاء في ذلك الزمان هو مجرد سماع قول الخصمين، ثم الفصل بينهما بكلمة أو كلمتين، وتنتهي القضية بدون مجادلات، ورفع أصوات، وتسجيل توقيعات، كما في هذه الأزمنة، وقد يكون سبا حكمهم في المسجد عدم توفر بناء خاص بالمحاكم، حيث أن القاضي يجلس في بيته، وقد يضيق بالخصوم المنزل، فيحتاج إلى الجلوس في المسجد، وقد يكون العذر هو

(1) روى ابن أبي شيبة 6 / 512 برقم 1871 عن حصين قال: كتب عمر بن عبد العزيز: لا يقعدن قاض في المسجد، يدخل عليه فيه المشركون فإنهم نجس قال تعالى: إنما المشركون نجس.

(2)

هكذا نقله الحافظ في الفتح 13 / 155.

ص: 70

تمكن المرأة والضعيف من الوصول إليه للإدلاء بالحجة، وسماع الدعوى، وتحذير الكاذب من امتهان المسجد بالحلف الفاجر.

وأما في هذه الأزمنة وبالأخص في هذه المملكة فقد خصص محاكم مهيئة للجلوس فيها، وإحضار الخصومة، وتيسر للمظلوم والضعيف الوصول إلى القاضي، وعلى هذا تنزه المساجد عن هذه المرافعات، والجدال والنزاع، حتى يعرف للمساجد مكانتها وشرفها.

ص: 71