الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الإسلام
شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله
تأليف
عبد القادر شيبة الحمد
عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
[الجزء الثالث]
باب الاعتكاف وقيام رمضان
1 -
عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
[المفردات]
الاعتكاف: هو الاحتباس والمراد به الاحتباس فى المسجد والمقام فيه للصلاة وتلاوة القرآن وذكر اللَّه عز وجل.
قيام رمضان: أى صلاة التهجد والتراويح فى ليالى رمضان.
قام رمضان: أى قام فى لياليه مصليا.
إيمانا: أى تصديقا بوعد اللَّه بالثواب عليه.
واحتسابا: أى طلبا للأجر من اللَّه تعالى لا رياء ولا سمعة.
غفر اللَّه ما تقدم من ذنبه: أى تجاوز اللَّه تعالى له عما مضى من سيئاته.
[البحث]
جاء فى رواية لمسلم من طريق الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُرَغَّب فى قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك فى خلافة أبى بكر
وصدرا من خلافة عمر على ذلك" وجاء فى رواية للبخارى من طريق ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" قال ابن شهاب: فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك فى خلافة أبى بكر، وصدرا من خلافة عمر رضى اللَّه عنهما وعن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه ليلة فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط، فقال عمر: إنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أفضل، ثم عزم فجمعهم على أبى بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعم البدعة هذه. والتى ينامون عنها أفضل من التى يقومون. -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب قيام رمضان.
2 -
أن قيام رمضان من أعظم أسباب مغفرة الذنوب.
3 -
ينبغى لمن صلى بالليل فى رمضان أن يحرص على إخلاص النية للَّه وأن يكون عمله طلبا للأجر من اللَّه.
2 -
وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر: أى العشر الأخير من رمضان، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" متفق عليه.
[المفردات]
شد مئزره: هو كناية عن اجتهاده فى العبادة، وانشغاله عن التلذذ بالزوجات.
وأحيا ليله: أى لم ينم أكثر ليله بسبب ما يقوم به من الصلاة وذكر اللَّه.
وأيقظ أهله: أى ونبه أهله وزوجاته إلى القيام للصلاة والعبادة.
[البحث]
قوله: أى العشر الأخير من رمضان" هذا ليس فى الصحيحين ولا فى واحد منهما، ويبدو أنه تفسير من المصنف، وكان عليه أن يشير إلى ذلك، وقد قال فى فتح البارى فى قوله: إذا دخل العشر أى الأخير" وصرح به فى حديث على عند ابن أبى شيبة والبيهقى من طريق عاصم بن ضمرة عنه اهـ واللفظ الذى ساقه هنا هو لفظ البخارى أما لفظ مسلم عنها رضى اللَّه عنها فقد قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشد المئزر" وليس فى قوله: شد المئزر" تحريم الرفث فى الليالى العشر وإنما هو كناية عن شدة الاشتغال عن النساء بذكر اللَّه فى ليالى العشر الأخير، وقد صرح القرآن الكريم
بحلية ذلك فى ليلة الصيام ومنها ليالى العشر، وقد جرت العادة بأن المشغول بأمر هام يشد مئزره على حد قول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
عن النساء ولو باتت بأطهار
وقد روى مسلم فى صحيحه من حدثنا عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العشر الأواخر ما لا يجتهد فى غيرها" وهذا الحديث وإن كان من رواية عبد الواحد بن زياد فقد صححه مسلم لشواهده على عادته رحمه الله كما قال الحافظ فى الفتح. وإنما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العشر الأخير من رمضان التماسا لليلة القدر.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب إحياء ليالى العشر الأخير من رمضان.
2 -
استحباب ايقاظ الأهل لإحياء العشر الأخير من رمضان.
3 -
وعنها رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللَّه عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه.
[المفردات]
وعنها: أى وعن عائشة رضى اللَّه عنها.
يعتكف: أى يلزم المسجد.
[البحث]
إنما كان يعتكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى فى رمضان التماسا لليلة القدر، ولقد كان يعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط حتى أعلمه، اللَّه عز وجل أن ليلة القدر فى العشر الأواخر من رمضان فاعتكف العشر الأواخر لذلك فقد روى مسلم فى صحيحه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط فى قبة تركية على سُدَّتها حصير قال فأخذ الحصير بيده فنحاها فى ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إنى اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لى: إنها فى العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه، قال: وإنى أريتها ليلة وتر، وأنى أسجد صبيحتها فى طين وماء فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء. ولفظ البخارى فى صحيحه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فى العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاما، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال: من كان اعتكف معى فليعتكف العشر الأواخر،
وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها فى العشر الأواخر، والتمسوها فى كل وتر فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فبصرت عيناى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب الاعتكاف فى المساجد فى العشر الأواخر من رمضان.
2 -
استحباب الحرص على التماس ليلة القدر.
3 -
جواز اعتكاف النساء فى المساجد إذا لم تحدث بسبب ذلك فتنة.
4 -
وعنها رضى اللَّه عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" متفق عليه.
[المفردات]
وعنها: أى وعن عائشة رضى اللَّه عنها.
إذا أراد أن يعتكف: أى إذا عزم على الاعتكاف.
صلى الفجر: أى الصبح.
ثم دخل معتكفه: أى دخل مكان اعتكافه من المسجد.
[البحث]
لفظ البخارى عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعتكف فى كل رمضان فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذى اعتكف فيه، وفى لفظ للبخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يعتكف فى العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلى الصبح ثم يدخله" أما لفظ مسلم من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضُرب: الحديث.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن للمعتكف أن يدخل المسجد بعد صلاة الفجر ويبدأ اعتكافه.
2 -
وأنه لا بأس باتخاذ مكان معين فى المسجد للاعتكاف فيه.
5 -
وعنها رضى اللَّه عنها قالت: إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليُدخِلُ علىَّ رأسه وهو فى المسجد فَأرَجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا" متفق عليه. واللفظ للبخارى.
[المفردات]
وعنها: أى وعن عائشة رضى اللَّه عنها.
فَأرَجِّلُه: أى أمشطه وأدهنه.
لحاجة: أى للبول والغائط.
[البحث]
قال البخارى فى كتاب الاعتكاف من صحيحه: باب الحائض ترجل المعتكف ثم ساق بسنده إلى عائشة رضى اللَّه عنها قالت كان النبى صلى الله عليه وسلم يصغى إلىَّ رأسه وهو مجاور فى المسجد فأرجله وأنا حائض" ثم قال البخارى: باب لا يدخل البيت إلا لحاجة ثم ساق حديث الباب، ثم قال: باب غَسل المعتكف وساق بسنده إلى عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يباشرنى وأنا حائض، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض" أما مسلم فقد ساقه فى كتاب الحيض من صحيحه عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يُدنى إلىَّ رأسه فأُرَجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاحة الإِنسان" وقد فسر الزهرى حاجة الإنسان هنا بالبول والغائط وقد أجمع أهل العلم على أن المعتكف إذا خرج لهذه الحاجة لا يبطل اعتكافه.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز استعانة المعتكف بزوجته فى غسل رأسه وترجيله.
2 -
أن خروج بعض البدن كالرأس من المسجد لا يبطل الاعتكاف ما دامت رجلا المعتكف فى المسجد.
3 -
جواز خروج المعتكف للبول والغائط.
4 -
أنه لا يصح الاعتكاف إلا فى المسجد.
6 -
وعنها رضى اللَّه عنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه. ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا فى مسجد جامع" رواه أبو داود، ولا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره.
[المفردات]
وعنها: أى وعن عائشة رضى اللَّه عنها.
السنة على المعتكف: أى المشروع فى حق المعتكف.
لما لا بدَّ له منه: أى للحاجة الضرورية التى لا يمكن استغناؤه عن الخروج لها.
[البحث]
أورد أبو داود هذا الأثر فى باب المعتكف يعود المريض قال: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن عبد الرحمن يعنى ابن إسحاق عن الزهرى عن عروة عن عائشة أنها قالت: السنة على المعتكف الخ الحديث. ثم قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه: قالت: السنة. قال أبو داود: جعله قول عائشة اهـ قال الحافظ فى الفتح: وجزم الدارقطنى بأن القدر الذى من حديث عائشة قولها "لا يخرج إلا لحاجة" وما عداه ممن دونها اهـ.
7 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" رواه الدارقطنى والحاكم، والراجح وقفه أيضا.
[المفردات]
ليس على المعتكف صيام: أى ليس من شرط الاعتكاف أن يكون المعتكف صائما.
إلا أن يجعله على نفسه: أى إلا أن يلتزم به بنذر أو أن يتطوع به.
[البحث]
قال الدارقطنى: حدثنا محمد بن إسحاق السوسى من كتابه حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن نصر الرملى ثنا محمد بن يحيى بن أبى عمر ثنا عبد العزيز بن محمد عن أبى سهيل عم مالك بن أنس عن طاؤس عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" رفعه هذا الشيخ وغيره لا يرفعه اهـ لكن المجد ابن تيمية أخرجه فى المنتقى بلفظ هذا الحديث ثم قال: رواه الدارقطنى وقال: رفعه أبو بكر السوسى وغيره لا يرفعه اهـ وفى كتاب التعليق المغنى على الدارقطنى لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى: لكن فى التنقيح: والشيخ هو عبد اللَّه بن محمد الرملى اهـ ويظهر أن المجد ابن تيمية ذكر عبارة الدارقطنى بالمعنى مفسرا الشيخ بأنه أبو بكر السوسى شيخ الدارقطنى أما عبد اللَّه بن محمد الرملى فهو شيخ شيخه. وعلى كل حال فعبد اللَّه بن محمد
ابن نصر الرملى قال ابن القطان: لا أعرفه، قال صاحب التعليق المغنى: وذكره ابن أبى حاتم فقال: يروى عن الوليد بن الموقرى روى عنه موسى بن سهل لم يزد على هذا. وروى أبو داود عن أبى أحمد عبد اللَّه بن محمد الرملى حدثنا الوليد فلا أدرى: أهم ثلاثة أم اثنان أم واحد: والحالة فى الثلاثة مجهولة انتهى، ثم قال: ورواه البيهقى وقال: تفرد به عبد اللَّه بن محمد الرملى، ثم قال أبو الطيب محمد شمس الحق: وصحح البيهقى وقفه وقال: رفعه وهم اهـ.
8 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رجالا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر فى المنام فى السبع الأواخر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت فى السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها فى السبع الأواخر" متفق عليه.
[المفردات]
أروا ليلة القدر فى المنام فى السبع الأواخر: أى قيل لهم فى المنام إنها فى السبع الأواخر.
ليلة القدر: هى ليلة مباركة جعلها اللَّه تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرا من ألف شهر وفيها بَدأ نزول القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيها يفرق كل أمر حكيم {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .
تواطأت: أى توافقت.
فى السبع الأواخر: أى فى الليالى السبع الأواخر من رمضان.
متحريها: أى ملتمسها وطالبها بالعمل الصالح فيها والضراعة إلى اللَّه عز وجل والتماس الخير عنده.
[البحث]
قصة تواطؤ رؤيا الصحابة ليلة القدر فى السبع الأواخر رواها البخارى فى كتاب صلاة التراوج من صحيحه باللفظ الذى أورده المصنف هنا وقد أخرجها البخارى فى كتاب التعبير من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن أناسا أروا ليلة القدر فى السبع الأواخر، وأن أناسا أروا أنها فى العشر الأواخر، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: التمسوها فى السبع الأواخر" وقد روى البخارى من حديث عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر: فى تاسعة تبقى، فى سابعة تبقى فى خامسة تبقى" وقد تقدم فى بحث الحديث الثالث من أحاديث هذا الباب ما رواه مسلم من حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه وفيه: ثم أتيت فقيل: إنها فى العشر الأواخر" وفى لفظ البخارى هناك من حديث أبى سعيد: فالتمسوها فى العشر الأواخر، والتمسوها فى كل وتر" والواقع أنه لا معارضة بين التماسها فى السبع الأواخر والتماسها فى العشر الأواخر والتماسها فى بعض ليالى العشر الأواخر، فالبعض والسبع كلها داخلة فى جملة العشر الأواخر وهو الأظهر لما تقدم من حديث
عائشة رضى اللَّه عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. وما تقدم من حديثها أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللَّه، وما رواه البخارى من حديثها رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: تحروا ليلة القدر فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان وما رواه مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما بلفظ: من كان يلتمسها فليلتمسها فى العشر الأواخر" وفى لفظ آخر لمسلم من حديث ابن عمر: التمسوها فى العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقى" هذا وبعض العوام يعتقد أن ليلة القدر هى لحظة سريعة يستجاب فيها الدعاء وعندها يبرق نور فى السماء ويسمونها طاقة القدر" وهو تحريف للكلم من بعد مواضعه. فإن اللَّه تعالى أشار إلى أنها ليلة كاملة وأنها تستمر حتى مطلع الفجر.
[ما يفيده الحديث]
1 -
التماس ليلة القدر فى العشر الأواخر من رمضان.
2 -
إذا ضعف الإنسان عن التماسها فى العشر الأواخر فلا ينبغى أن يضعف عن التماسها فى السبع.
3 -
ينبغى الحرص على قيام ليلة القدر وكثرة الدعاء فيها.
4 -
جواز الاستناد إلى الرؤيا فى الاستدلال على الأمور الوجودية إذا لم تخالف القواعد الشرعية.
9 -
وعن معاوية بن أبى سفيان رضى اللَّه عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى ليلة القدر "ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف فى تعيينها على أربعين قولا أوردتها فى فتح البارى.
[المفردات]
والراجح وقفه: أى على معاوية رضى اللَّه عنه.
على أربعين قولا أوردتها فى فتح البارى: الذى أورده المصنف فى الفتح البارى هو ستة وأربعون قولا.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ ثنا أبى، أخبرنا شعبة عن قتادة أنه سمع مطرفا عن معاوية بن أبى سفيان عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ليلة القدر قال: ليلة سبع وعشرين" وقد رجح الحافظ وقفه على معاوية رضى اللَّه عنه، وقد روى مسلم فى صحيحه ما يفيد أن أبى ابن كعب رضى اللَّه عنه كان يجزم أنها ليلة سبع وعشرين كذلك كما روى مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رجلا رأى ليلة القدر ليلة سبع وعشرين كما روى مسلم عن عبد اللَّه بن أنيس رضى اللَّه عنه يقول إنها ليلة ثلاث وعشرين وكل هذه الأخبار الموقوفة لا تؤكد أنها ليلة سبع وعشرين أو ثلاث وعشرين بخصوصها وقد أخفاها اللَّه عز وجل كما أخفى ساعة الإجابة يوم الجمعة ليقع الجد والاجتهاد فى طلبها. واللَّه أعلم.
10 -
وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرأيت إن علمت أى ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولى اللهم إنك عفو تحب العفو فاعْفُ عنِّى" رواه الخمسة غير أبى داود وصححه الترمذى والحاكم.
[المفردات]
ما أقول فيها: أى أىُّ الدعاء أحَبُّ أن أدعو اللَّه به فيها.
العفو: الصفح والمغفرة.
[البحث]
قال الترمذى فى أبواب الدعوات من جامعه: حدثنا قتيبة بن سعيد نا جعفر بن سليمان الضبعى عن كهمس بن الحسن عن عبد اللَّه بن بريدة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قلت يا رسول اللَّه أرأيت إلخ الحديث، ثم قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب الحرص على تحرى ليلة القدر.
2 -
استحباب الدعاء بهذا المأثور فى ليلتها.
11 -
وعن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى" متفق عليه.
[المفردات]
لا تشد الرحال: أى لا تسافروا، فالرحال جمع رحل، والرحل للبعير كالسرج للفرس، وشد الرحال كناية عن السفر.
المسجد الحرام: هو البيت العتيق بمكة المكرمة ومسجده المحيط به. والحرام بمعنى المحرم.
ومسجدى هذا: يعنى المسجد النبوى بالمدينة المنورة.
والمسجد الأقصى: هو بيت المقدس بإيلياء بفلسطين. خلصه اللَّه تعالى من أسر اليهود لعنهم اللَّه وطهره من رجسهم وسمى الأقصى لأنه أبعد من مسجد المدينة المنورة عن مكة المكرمة
[البحث]
قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى: قوله لا تشد الرحال" بضم أوله بلفظ النفى والمراد: النهى عن السفر إلى غيرها قال الطيبى: هو أبلغ من صريح النهى كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به اهـ وقد جاء فى رواية لمسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه يخبر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدى ومسجد إيلياء" وقد أشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى حكمة اختصاص هذه المساجد الثلاثة بجواز شد الرحال إليها بأنها تتضاعف
الصلاة فيها فإن الصلاة فى مسجد مكة بمائة ألف صلاة وفى مسجد المدينة بألف صلاة وفى المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة فقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" وروى الإمام أحمد من طريق عطاء عن عبد اللَّه بن الزبير قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى هذا وقد صححه ابن حبان. وروى البزار والطبرانى من حديث أبى الدرداء رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: الصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة فى مسجدى بألف صلاة، والصلاة فى بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار إسناده حسن قال الحافظ فى الفتح: وفى هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ثم قال: واختلف فى شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجوينى: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضى حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة. ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبى بصرة الغفارى على أبى هريرة خروجه إلى الطور وقال له: لو أدركتك
قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنّه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه. أبو هريرة اهـ.
أما السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم فغير داخلة فى هذا النهى بإجماع علماء المسلمين لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ولقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل اللَّه له به طريقا إلى الجنة" وقد أوجب اللَّه تعالى على المختلفين فى شئ أن يرجعوا إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
والرد إلى اللَّه تعالى هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه فى حياته وإلى سنته بعد مماته صلى الله عليه وسلم، ولا سعادة ولا نجاة إلا باتباع هذين النورين فإن خير الحديث كتاب اللَّه وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء فى لفظ لمسلم فى صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصارى رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة كما روى مسلم فى صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنهما قال: هجَّرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا فى آية، فخرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرف فى وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم فى الكتاب" كما روى مسلم فى صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبى بعثه اللَّه فى أمته قبلى، إلا كان له فى أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخْلُفُ من بعدهم خُلُوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" كما روى أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه
بسند صحيح عن العرباض بن سارية رضى اللَّه عنه قال: "وعظنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: كأن هذه موعظة مُوَدِّع فأوصنا فقال: "أوصيكم بتقوى اللَّه، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعَضَّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" ولا شك أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم اللَّه تعالى لصحبة حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولإقامة دينه، وكانوا أعرف الناس بما يقرب العبد إلى اللَّه تعالى، ولم ينقل بسند صحيح ولا حسن عن واحد منهم رضى اللَّه عنهم أنه شد الرحال لزيارة قبر نبى من الأنبياء أو قبر صالح من الصالحين، أو سافر للصلاة فى مسجد غير هذه المساجد الثلاثة التى وردت فى حديث هذا الباب، وحتى مسجد قباء الذى ورد فى فضل الصلاة فيه حديث صحيح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينقل أن واحدا منهم رضى اللَّه عنهم سافر إليه من بلد بعيد للصلاة فيه، وإنما يذهب إليه من كان فى المدينة أو قريبا منها مما لا يحتاج إلى شد الرحال، وقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأتى قباء كل سبت راكبا
وماشيا كما روى الترمذى وابن ماجه والبيهقى وقال الترمذى: حديث حسن من حديث أسيد بن ظهير الأنصارى رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال "من تطهر فى بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كعمرة" ولا شك أن كل خير فى اتباع من سلف، وكل شر فى ابتداع من خلف ونسأل اللَّه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا الخطل، وأن يعصمنا من الزلل، وأن يختم لنا بخير. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبحمده تعالى انتهى الجزء الثالث من فقه الإسلام وكان الفراغ من تحريره بالمدينة المنورة فى ضحى الأحد 19 من شعبان 1401 هـ ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب الحج إن شاء اللَّه تعالى.