الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكلام في الكيفية]
والمقصود أن نصوص الكتاب والسنه قد نطقت، بل قد تواترت بإثبات علو الله على خلقه، وأنه فوق سماواته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله لا يعلم كيفيته إلا هو.
فإن قال السائل: كيف استوى على عرشه؟
قيل له؛ كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا؟
قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته. قيل: ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، فكيف تطالبني بكيفية استوائه على عرشة وتكليمه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ وإذا كنت تقر بأن له ذاتا حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فاستواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، ولا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل
الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل، صفات سائر الذوات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات. فإذا كانت ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فصفات الخالق لا تشبه صفات المخلوقين.
وكثير من الناس يتوهم في كثير من الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في محاذير.
ومنها: أنه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
ومنها: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته.
ومنها: أن يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها
الرب، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسمائه وآياته.
[الاستواء ومعناه]
ومثال ذلك أن النصوص كلها قد دلت على وصف الإله تبارك وتعالى بالفوقية وعلوه على المخلوقات واستوائه على عرشه، وليس في كتاب الله والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجا عنه ولا مباينه ولا مداخله، فيظن المتوهم أنه إذا وصف الله تعالى بالاستواء على العرش كان الاستواء كاستواء الإنسان على ظهر الفلك والأنعام؛ كقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [الزخرف: 12، 13] . فيخيل لهذا الجاهل بالله وصفاته أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
بل هو غني عن العرش وغيره، وكل ما سواه مفتقر إليه، فكيف يتوهم أنه إذ كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه؟! تعالى الله عن ذلك وتقدس.
وأيضا فقد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقرا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضا فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجا إلى عرشه أو خلقه، أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس يستلزم في المخلوقات، وكذلك قوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» ، وقوله في رقية المريض:«ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك» .
فمن توهم من هذه النصوص أن الله في داخل السماوات فهو جاهل ضال باتفاق العلماء.
فلو قال القائل: العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء،
ولم يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة، فإن السماء يراد به العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها.
قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] .
وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] .
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى كان المفهوم من قوله "إنه في السماء" أنه في العلو وأنه كان فوق كل شيء، وكذا الجارية لما قال لها:"أين الله؟ " قالت: في السماء، وإنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها.
وإذا قيل: العلو - فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم إلا الله، كما لو قيل العرش في السماء كان المراد أنه عليها.
كما قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137، والنحل: 36] .
وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] .
وقال عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] .
وبالجملة فمن قال: إن الله في السماء، وأراد أنه في جوف السماء، بحيث تحصره وتحيط به - فقد أخطأ وضل ضلالا بعيدا. وإن أراد بذلك أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فقد أصاب.
[إجماع أهل العلم على إثبات العلو]
وهذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، ومن لم يعتقد ذلك كان مكذبا الرسل، متبعا غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه، نافيا له، ولا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يسأله ويقصده، وهذا قول الجهمية.
والله تعالى قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا
الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط بالله: يالله، إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة. بل قد فطر الله على ذلك جميع الأمم في الجاهلية والإسلام؛ إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.
قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها في جاهليتها وإسلامها، معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء، فهو سبحانه قد أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه استوى على عرشه استواء يليق بجلاله، ويناسب كبرياءه، وهو غني عن العرش وعن حملة العرش، والاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ كما قالته أم سلمة، وربيعة، ومالك. وهذا مذهب أئمة المسلمين، وهو الظاهر من لفظ "استوى" عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السليمة، التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل.
وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين، حيث قال: من زعم أن
"الرحمن على العرش استوى" خلاف ما يقر في نفوس العامة، فهو جهمي.
فإذا الذي أقره الله في فطر عباده وجبلهم عليه أن ربهم فوق سماواته.
وقد جمع العلماء في هذا الباب مصنفات كبارا وصغارا، وسنذكر بعض ألفاظهم في آخر هذه الفتوى إن شاء الله تعالى.
وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا عن أئمة الدين - حرف واحد يخالف ذلك.
ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه في كل مكان، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها.
بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول:«ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: اللهم اشهد» ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث.