المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[معنى: ظاهرها غير مراد] - التحفة المدنية في العقيدة السلفية

[حمد بن ناصر آل معمر]

الفصل: ‌[معنى: ظاهرها غير مراد]

[معنى: ظاهرها غير مراد]

واعلم أن كثيرا من المتأخرين يقولون: هذا مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها: إقرارها على ما جاءت مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل، فإن قول القائل: ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين. فلا شك أن هذا غير مراد. ومن قال هذا فقد أصاب، لكن أخطأ في إطلاق القول: إن هذا ظاهر النصوص، فإن هذا ليس هو الظاهر، فإن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة؛ إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري وننزه ذاته المقدسة عن الأشياء من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها، أو نشبهها، أو نكيفها، أو نمثلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى الاستواء الاستيلاء، ولا معنى نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا نزول رحمته ونحو ذلك، بل نؤمن بأنها صفات حقيقة، والكلام فيها كالكلام في الذات يحتذى فيه حذوه، فإذا كانت الذات تثبت إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.

ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها ولا يدري ما أراد الله

ص: 56

ورسوله منها، ولكن يقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ويعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله وأنها بمنزلة {كهيعص} ، {حم عسق} ، {المص} ، وظن أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يعلمون حقيقة قوله تعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، ونحو ذلك - فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف.

وهذا الظن يتضمن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات، ويروون حديث النزول وأمثاله ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أريد به، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعرف معناه، فمن ظن أن هذه عقيدة السلف فقد أخطأ في ذلك خطأ بينا.

بل السلف رضي الله عنهم أثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهدى

ص: 57

بين ضلالين، خرج من مذهب المعطلين والمشبهين كما خرج اللبن:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] .

[ما وصف به نفسه ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم]

وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات فلا نعطل ولا نمثل، ولا نؤول، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر؛ ولا نقول: له أيد كأيدي المخلوقين، ولا أن له وجها كوجوههم، ولا سمعا وبصرا كأسماعهم وأبصارهم. بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازا، ليست كصفات المخلوقين، فكذلك قولنا في وجهه ويديه وكلامه واستوائه.

وهو سبحانه قد وصف نفسه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه:{الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] .

ص: 58

إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات كسورة (الإخلاص) وأول (الحديد) وأول (طه) وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب ويكره، ويمقت ويرضى ويغضب، ويأسف ويسخط، ويجيء ويأتي، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة، وقدرة وإرادة، وسمعا وبصرا، ووجها ويدا، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه.

ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه. وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكل هذه الصفات تساق مساقا واحدا، وقولنا فيها كقولنا في صفة العلو والاستواء، فيجب علينا الإيمان بكل ما نطق به الكتاب والسنة من صفات الرب جل وعلا، ونعلم أنها صفات حقيقية لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فلا نمثل ولا نعطل. وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله يجب الإيمان به، سواء

ص: 59

عرفنا معناه أو لم نعرفه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن عامته منصوص عليه في الكتاب والسنة.

[ما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ]

وأما ما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظ أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل منه، وإن أراد باطلا رد عليه، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى.

كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فيقول بعض الناس: ليس في جهة، ويقول آخر: بل هو في جهة.

فإن هذه الألفاظ مبتدعة في النفي والإثبات، وليس على أحدهما دليل من الكتاب ولا من السنة، ولا من كلام الصحابة والتابعين، ولا أئمة الإسلام، فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله سبحانه وتعالى في جهة؛ ولا قال: إن الله ليس في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز.

والناطقون بهذه الألفاظ قد يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فإذا قال: إن الله في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد أن الله سبحانه في جهة تحصره وتحيط به؟ أم تريد أمرا عدميا، وهو

ص: 60

ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات؟

فإن أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورا في المخلوقات، فهذا باطل.

وإن أردت أن الله تعالى فوق المخلوقات بائن عنها فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه، بل هو العالي عليها المحيط بها، وقد قال تعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» فمن تكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقار، كيف تحيط به وتحصره.

ومن قال: إن الله ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟

فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله يصلى له ويسجد، ومحمد لم يعرج بذاته إليه، فهذا معطل.

وإن قال: مرادي ينفي الجهة أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب، ونحن نقول به.

ص: 61

وكذلك من قال: إن الله متحيز، إن أراد أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد أنه محتاز عن مخلوقات بائن عنها عال عليها فقد أصاب.

ومن قال: إنه ليس بمتحيز؛ إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد بذلك أنه ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل العالم ولا خارجه فقد أخطأ، فإن الأدلة كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته عالٍ عليها، قد فطر الله على ذلك الأعراب والصبيان؛ كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز:"عليك بدين الأعراب والصبيان"، أي: عليك بما فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده على الحق؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولود يولد على الفطرة» الحديث.

ص: 62

فصل

[في إثبات اليد]

وأما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فاعلم أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع:

مفردا كهذه، وكقوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] .

وجاء مثنى كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وكقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] .

وجاء مجموعا كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] .

ص: 63

فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعل بالباء إليها، فقال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .

وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها، ولم يعد الفعل بالباء، فلا يحتمل {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، فإن كل أحد يفهم من قوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ما يفهمه من قوله: عملنا وخلقنا؛ كما يفهم ذلك من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .

وأما قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت الباء، فالفعل قد يضاف إلى يد

ص: 64

ذي اليد، والمراد الإضافة إليه؛ كقوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .

وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى "يده" مفردة أو مثناة، فهو ما باشرته يده.

ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده؛ وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده.

فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الموقف يأتون آدم، فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء» فذكروا أربعة أشياء كلها خصائصه.

ص: 65

وكذلك «قال آدم لموسى عليهما السلام في محاجته له: (اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده» ) . وفي لفظ آخر: ( «كتب الله لك التوراة بيده» ) وهو من أصح الأحاديث.

وكذلك في الحديث المشهور: ( «إن الملائكة قالوا: يا رب، خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» ) .

وأيضا فإن لو كان قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} - مثل قوله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ؛ لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف قالوا:«أنت أبو البشر خلقك الله بيده» ، فعلموا أن لآدم تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين.

ص: 66

«أعظم من الجبل» متفق على صحته.

وقال نافع بن عمر: سألت ابن أبي مليكة عن "يد الله": أواحدة أو اثنتان؟ فقال: بل اثنتان.

وقال عبد الله بن عباس: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم.

وقال ابن عمر وابن عباس: أول شيء خلق الله القلم، فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمين، فكانت الدنيا وما فيها من عمل معمول في بر وبحر ورطب ويابس فأحصاه عنده.

وقال ابن وهب، عن أسامة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]

ص: 69

قال: «مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة» .

وهذه النصوص التي ذكرنا هي غيض من فيض، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .

ص: 70