الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي
رضي الله عنه
روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري عن أبي شعيب وأبي ثور، وكلاهما عن محمد بن إدريس رحمه الله، قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم، مثل سفيان ومالك وغيرهما - الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي، يقول وقد سئل عن الصفات وما يؤمن به، فقال: لله أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف أحد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، وأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها؛ ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه؛ كما نفى سبحانه التشبيه عن نفسه، فقال:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب عباده، انتهى.
ومعلوم أن المقضي في الأرض والقضاء فعله سبحانه للتضمن لمشيئته وقدرته. وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.
ذكر قول الإمام أحمد بن حنبل
رضي الله عنه
قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا يوسف بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قلت لأبي: ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، لا يخلو شيء من علمه.
قال الخلال: وأخبرني الميموني، قال: سألت أبا عبد الله عمن قال: إن الله ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور على الكفر.
وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ما معنى قوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ،
وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] ؟
قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] .
وقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل، قال: إن الله معنا، وتلا:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ؟
قال: يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلا قرأت عليه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} بالعلم معهم، وقال في سورة (ق) :{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقول: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، أقول هذا، ولا أجاوزه إلى غيره.
فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية.
قلت: فكيف تقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} ؟
قال: علمه في كل مكان، وعلمه معهم، وقال: أول الآية يدل على أنه علمه.
وقال في موضع آخر: وإن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وإنه غير مختلط بشيء من خلقه، هو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه.
وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه الخلال، وقال: كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله ابن الإمام أحمد، وكتبه عبد الله من خط أبيه، قال فيه:(باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش)، وقد قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ؟
قلنا لهم: ما أنكرتم أن يكون الله على العرش، فقالوا: هو تحت الأرض السابعة كما هو تحت العرش، وفي السماوات، وفي الأرض.
قال أحمد: فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء؛ أجسامكم وأجوافكم والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها شيء من عظمته، وقد أخبرنا الله عز وجل أنه في السماء، فقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} الآيتين [الملك: 16 و 17] .
وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] .
وقال أيضا في الكتاب المذكور: ومما أنكرت الجهمية الضلال أن الله على العرش، وقد قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54، وغيرها] .
ثم ساق أدلة القرآن، ثم قال: ومعنى قوله {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام:3]، يقول: هو إله من في السماوات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علمه مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك لقوله تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .
قال الإمام أحمد: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير، وفيه شيء، كان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع ما خلق علما من غير أن يكون في شيء مما خلق.
قال: مما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] .
فقالوا: إن الله معنا وفينا، فقلنا لهم: قطعتم الخبر من أوله؛ لأن الله افتتح الخبر بعلمه وختمه بعلمه.
قال أحمد: وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس شيئا؟ فيقول: نعم، فقل له: فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه، فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه؛ كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم؛ كفر أيضا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم؛ رجع عن قوله أجمع. وهو قول أهل السنة.
قال أحمد: وقلنا للجهمية: حين زعمتم أن الله في كل مكان أخبرونا
عن قول الله عز وجل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] : أكان في الجبل بزعمكم، فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى له، بل كان سبحانه على العرش، فتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا ما رآه قط قبل ذلك.
انتهى كلام الإمام أحمد الذي نقلناه من كتاب الرد على الجهمية.
وروى الخلال عن حنبل، قال: قال أبو عبد الله، يعني أحمد: نؤمن أن الله على العرش بلا كيف بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يجده حاد، وصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية.
وقال حنبل أيضا: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى: «إن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا» ، و «إن الله يرى في الآخرة» ، و «إن الله يضع قدمه» ، وأشباه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد: (ليس كمثله شيء) في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة "ليس
يشبهه شيء"، وصفاته غير محدودة ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ونؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد، إلا بما وصف به نفسه، سميع بصير، لم يزل متكلما، عليم غفور، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73، وغيرها] ، {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116 و109، وغيرها] .
فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وهو:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102 وغيرها] ، وهو سميع
بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا نتعدي القرآن والحديث، تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة.
قلت له: المشهبة ما تقول؟
قال: من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي - فقد شبه الله بخلقه. انتهى.
وكلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا كثير، فإنه امتحن بالجهمية.
رضي الله عنه وعن إخوانه من أئمة الدين.
فصل
قد بينا فيما تقدم عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أسكنه الله الفردوس يوم المآب، وبينا عقيدته هو وأتباعه عقيدة السلف الماضين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين الذين رفع الله منارهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق الآخرين.
فشيخنا رحمه الله وأتباعه- يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتجاوزون القرآن والحديث؛ لأنهم متبعون لا مبتدعون، فلا يكيفون ولا يشبهون ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقة منزهة عن التشبيه والتعطيل؛ كما أنه سبحانه له ذات حقيقة منزهة عن التشبيه والتعطيل. فالقول عندهم في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذاته ذات حقيقة لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقة لا تشبه الصفات، وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين، وهو مخالف لاعتقاد المشبهين واعتقاد المعطلين، فهو كالخارج
{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] ، فهو وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.
فلما قررنا عقيدتنا في أول الجواب، وأوردنا على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة - أتبعنا ذلك بفصل ذكرنا فيه بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، يؤيد ما ذكرناه، ويحقق ما قلناه؛ لأنهم مصابيح الدين وقدوة العالمين، وهم أهل اللغة الفصحاء واللسان العربي، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا نزول القرآن ونقلوه إلينا وفسروه، فهم قد تلقوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون؛ فتعلموا من الصحابه ألفاظ القرآن ومعانيه، فنقلوا عنهم تأويله كما نقلوا تنزيله، ونقلوا الأحاديث الواردة في الصفات، ولم يتأولوها كما تأولها النفاه، بل أثبتوها صفات حقيقة لرب العالمين، منزهة عن تعطيل المعطلين وتشبيه المشبهين. فإن الصحابة رضي الله عنهم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، وهم سادات الأمة وكاشفو الغمة، فالمسلمون بهديهم يهتدون، وعلى منهاجهم يسلكون، ثم إنا لما نقلنا كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم أتبعناه بفصل ذكرنا فيه كلام الأئمة الأربعة، أئمة المذاهب المتبعة؛ ليتبين صحة ما قلناه وما إليهم نسبناه، ويعلم من كان قصده الحق أن الأئمة على عقيدة واحدة مجمعون، وللسلف الصالح متبعون، فلما تبين ما قلناه، واتضح ما قررناه أحببت أن أختم هذا الجواب بفصل أذكر فيه بعض ما قاله العلماء بعدهم؛ ليعلم الواقف على هذا الجواب أن هذا الاعتقاد الذي ذكرناه هو اعتقاد أهل
السنة والجماعة قاطبة متقدميهم ومتأخريهم؛ لأن إجماعهم حجة قاطعة لا تجوز مخالفته، فكيف وقد شهدت له النصوص القرآنية والسنة النبوية، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] .
فصل
قال الإمام حافظ الشرق وشيخ الإسلام، عثمان بن سعيد الدارمي، في كتاب النقض على بشر المريسي -قال الذهبي: وهو مجلد سمعناه من أبي حفص بن القواس - قال فيه:
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين على أن الله فوق عرشه فوق سماواته، لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض.....، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم وتشقق السماوات لنزوله.....، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو أمره وعذابه، فقوله {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] ، وإنما هو أمره وعذابه.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وقد ذكر الحلول:
ويحك، هذا المذهب - أنزه لله من السوء عن مذهب من يقول: هو بكماله وجماله وعظمته وبهائه فوق عرشه فوق سماواته، فوق جميع الخلائق، في أعلى مكان، وأظهر مكان؛ حيث لا خلق هناك ولا إنس ولا جان، أي الحزبين أعلم بالله وبمكانه، وأشد تعظيما وإجلالا له.
وقال في هذا الكتاب: علمه بهم من فوق عرشه محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه
…
ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض.
وقال في موضع آخر: والقرآن كلام الله، وصفة من صفاته، خرج منه كما شاء أن يخرج، والله بكلامه وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته غير مخلوق، وهو بكماله على عرشه.
وقال في موضع آخر، وقد ذكر حديث البراء بن عازب الطويل في شأن الروح وقبضها، وفيه: فتصعد روحه حتى تنتهي إلى السماء السابعة،
وذكر الحديث، ثم قال: وفي قوله: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] دلالة ظاهرة أن الله فوق السماء؛ لأنه لو لم يكن فوق السماء لما عرج بالأرواح والأعمال، ولما أغلقت أبواب السماء عن قوم، وفتحت لآخرين.
وقال في موضع آخر: ولكنا نقول: رب عظيم وملك كبير، نور السماوات والأرض، وإله السماوات والأرض، على عرش مخلوق عظيم فوق السماء السابعة، دون ما سواها من الأماكن، من لم يعرفه بذلك كان كافرا به وبعرشه.
قال: وقد اتفقت كلمة المسلمين والكافرين على أن الله في السماء، وعرفوه بذلك، إلا المريسي وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث.
وساق حديث حصين: (كم تعبد؟) قال: ستة في الأرض وواحدا في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(من الذي تعده لرغبتك ورهبتك؟) قال: الذي في السماء.
وقال أيضا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية [أين الله؟] : فيه تكذيب لمن يقول هو في كل مكان، وأن الله لا يوصف بأين، بل يستحيل أن يقال "أين هو؟ "، والله فوق سماواته بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبده.
هذا كله كلام عثمان بن سعيد في كتابه المذكور، وهو قال فيه أبو الفضل القراب: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن البويطي، والحديث عن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأثنى عليه أهل العلم.
وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي
في جامعه
لما روى حديث أبي هريرة -وهو حديث منكر، قاله الذهبي - (( «لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله» )) ، قال: معناه لهبط على علم الله، قال: وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه.
وقال في حديث أبي هريرة ( «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه» ) : قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، قالوا: ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم ولا نقول كيف، هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك، قالوا في هذه الأحاديث:"أمروها بلا كيف".
وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وفسروها على غير ما فسرها أهل
العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وأن معنى اليد هاهنا النعمة.
وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيدي أو مثل يدي أو سمع كسمعي، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع وكسمع، فهذا لا يكون تشبيها، قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . هذا كله كلام الترمذي.
وقال الإمام
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري
في كتاب (صريح السنة) : وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر.
وقال في تفسيره الكبير في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، قال: علا وارتفع.
وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] ،
عن الربيع بن أنس: إنه يعني ارتفع. وقال في قوله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37]، يقول: وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول ويدعي أن له ربا في السماء أرسله إلينا.
وتفسيره هذا مشحون بأقوال السلف على الإثبات.
وقال في كتاب (التبصير في معالم الدين) : القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا، وذلك نحو إخباره أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، وأن له وجها بقوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ، وأن له قدما بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«حتى يضع رب العزة فيها قدمه» ، وأنه يضحك بقوله:«لقي الله وهو يضحك إليه» ،
وأنه " «يهبط إلى سماء الدنيا» "، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له إصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم:«ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن» ؛ فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله به نفسه ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية - لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها.
ذكر هذا الكلام عنه أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل) .
ومن أراد معرفة أقوال السلف التي حكاها عنهم في تفسيره فليطالع كلامه عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقوله:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5] .
وقال إمام الأئمة
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة
:
من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة.
ذكر قول إمام الشافعية في وقته
أبي العباس بن سريج
رضي الله عنه
ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة، فقال:
الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وصلى الله على محمد المصطفى وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل.
سألت -أيدك الله بتوفيقه- بيان ما صح لدي من مذهب السلف وصالحي الخلف في الصفات الواردة في الكتاب والسنة، فاستخرت الله وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء، وهو أبو العباس بن سريج رحمه الله، وقد سئل عن مثل هذا السؤال، فقال:
أقول وبالله التوفيق:
حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الأفكار أن تحيط، وعلى الألباب أن تصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة؛ والسنة والجماعة، من السلف الماضين والصحابة والتابعين، من الأئمة المهديين الراشدين المشهورين إلى زماننا هذا: أن جميع الآي الواردة عن الله في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله وفي صفاته التي صححها أهل النقل - يجب على المرء المسلم الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله كما أمر، وذلك مثل: قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ،
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] .
ونظائرها مما نطق به القرآن: كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، والكلام، والعين، والنظر، والإرادة، والرضا، والغضب، والمحبة، والكراهة، والعناية، والقرب، والبعد، والسخط، والاستجابة، والدنو كقاب قوسين أو أدنى، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء، وقوله للملائكة، وقبضه وبسطه، وعلمه، ووحدانيته، وقدرته، ومشيئته، وصمدانيته، وفردانيته، وأوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، وحياته، وبقائه، وأزليته، ونوره، وتجليه، والوجه، وخلق آدم بيده، ونحو قوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16 و 17] .
وسماعه من غيره، وسماع غيره منه، وغير ذلك من صفاته المذكورة في كتابه المنزل، وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته: كغرس جنة الفردوس بيده وشجره طوبى بيده، وخط التوراة بيده،
والضحك والتعجب، ووضعه القدم، وذكر الأصابع، والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وكغيرته، وفرحه بتوبة العبد، وأنه ليس بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، وحديث القبضتين، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من حثياته فيدخلهم الجنة، وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قوما لم يعملوا خيرا قط، وحديث ( «إن الله خلق آدم على صورته» )، وفي لفظ:( «على صورة الرحمن» ) ، وإثبات الكلام بالحرف والصوت، وكلامه للملائكة ولآدم ولموسى ومحمد وللشهداء، وللمؤمنين عند الحساب، وفي الجنة، ونزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكون القرآن في المصاحف، وما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغني بالقرآن، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه، وحديث معراج الرسول صلى الله عليه وسلم ببدنه ونفسه.
وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا، مما صح عنه اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن - أن نقبلها، ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نفسرها، ولا نكيفها، ولا نشير إليها بخواطر القلوب، بل نطلق ما أطلقه الله،
ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون والأئمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة، ونجمع على ما أجمعوا عليه، ونمسك عما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهرها، لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية، والملحدة، والمجسمة، والمشبهة والكرامية والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب، والقول سنة، وابتغاء تأويله بدعة.
هذا آخر كلام أبي العباس بن سريج الذي حكاه أبو القاسم الزنجاني في أجوبته.
ذكر قول الإمام الطحاوي إمام الحنفية في وقته في
الحديث والفقه ومعرفة أقوال السلف، قال في
عقيدته المعروفة عند الحنفية:
ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنفية، وأبي يوسف، ومحمد رضي الله عنهم.
نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة، ليس بمخلوق، فمن سمعه وزعم أنه كلام البشر فقد كفر؛ والرؤية لأهل الجنة حق، بغير إحاطة ولا كيفية،
وكل ما جاء في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه - حجبه مرامه خالص التوحيد وصحيح الإيمان. ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل، ولم يصب التنزيه.
إلى أن قال: والعرش والكرسي حق، كما بين في كتابه، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه.
وذكر سائر الاعتقاد.
ذكر قول الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب
إمام الطائفة الكلابية
وكان من أعظم الناس إثباتا للصفات والفوقية وعلو الله على عرشه، منكرا لقول الجهمية، وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب، وأن القرآن معنى قائم بالذات، وهو أربع معان، وَنَصَرَ
طريقته: أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وخالفه في بعض الأشياء، ولكنه على طريقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه، كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه، إن شاء الله تعالى.
حكى ابن فورك في كتابه المجرد فيما جمعه من كلام ابن كلاب أنه قال: وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا هو في العالم ولا خارجا منه، فنفاه نفيا مستويا؛ لأنه لو قيل له: صفه بالعدم؛ لما قدر أن يقول أكثر من هذا، ورد أخبار الله أيضا، وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول.
ثم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته أعلمهم (بالأين)، واستصوب قول القائل: إنه في السماء، وشهد له بالإيمان عند ذلك. وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون (الأين) ويحيلون القول به.
قال: ولو كان خطأ لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فتوهمي أنه محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي إنه في كل مكان لأنه هو الصواب، دون ما قلت. كلا، فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه من الإيمان، بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله؛ ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته.
وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق بذلك وشاهد له، وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين
منه ولا أوكد؛ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا، فنقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء. أفصح أو أومى بيده أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح ولا يشير إلى غير ذلك، ولا رأينا أحدا إذا عن له دعاء إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية، يسأل عن ربه، فيقول: في كل مكان، كما يقولون. وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وخمسون رجلا معه! نعوذ بالله من مضلات الفتن.
انتهى كلامه.
ذكر قول الإمام أبي الحسن الأشعري صاحب
التصانيف إمام الطائفة الأشعرية
قال في كتابه الذي سماه (اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين) ، فذكر فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، إلى أن قال:
ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث:
جملة قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله
وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .
وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علما، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر» كما جاء الحديث.
ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء.
إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملون ويروونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.
وذكر الاستواء في هذا الكتاب المذكور في باب هل الباري تعالى في مكان دون مكان فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة منها قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء؛ وإنه على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له يدين؛ كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ثم قال: وقالت المعتزلة: "استوى على عرشه" بمعنى استولى، وتأولوا اليد بمعنى النعمة، وقوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي: بعلمنا. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب جمل المقالات:
هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة:
جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من الله وما تلقاه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:5]، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأن له وجها كما قال:
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ. من قال بالوقف أو باللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق، ويقولون: إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون.
ثم ساق بقية قولهم. وقال في هذا الكتاب: وقالت المعتزلة: إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى. هذا نص كلامه.
وقال في الكتاب أيضا: وقالت المعتزلة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : يعني استولى. قال: وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي: بعلمنا.
فالأشعري رحمه الله إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية، وصرح بخلافه، وأنه خلاف قول أهل السنة.
وقال الأشعري أيضا في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] .
وقال حكاية عن فرعون: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] ،
كذب موسى في قوله إن الله فوق السماوات.
وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات، قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] ؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكان كل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السماوات؛ وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات.
قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى "استوى" استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، وذهبوا في الاستواء إلى
القدرة، فلو كان كما قالوا؛ كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة، لأنه قادر على كل شيء، وكذا لو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول أن الله مستو على الأخلية والحشوش، فبطل أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء.
وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك.
وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي.
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينتسب إليه الأشاعرة اليوم؛ لأنه إمام الطائفة المذكورة - كيف صرح بأن عقيدته في آيات الصفات وأحاديثها اعتقاد أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين. ولم يحك تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بمعنى النعمة، والعين بمعنى العلم إلا عن المعتزلة والجهمية. وصرح أنه خلاف قوله؛ لأنه خلاف قول أهل السنة والجماعة، ثم تجد المنتسبين إلى عقيدة الأشعري قد صرحوا في عقائدهم، ومصنفاتهم من التفاسير وشروح الحديث بالتأويل الذي أنكره إمامهم، وبين أنه قول المعتزلة والجهمية، وينسبون هذا الاعتقاد إلى الأشعري وهو قد أنكره ورده، وأخبر أنه على عقيدة السلف من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وأنه على عقيدة الإمام أحمد كما سيأتي لفظه بحروفه إن شاء الله.
وأعجب من هذا - أنهم يذكرون في مصنفاتهم: أن عقيدة السلف أسلم وعقيدة الخلف أعلم وأحكم! فسبحان مقلب القلوب كيف يشاء، كيف يجتمع في قلب من له عقل ومعرفة أن الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأنهم الذين شاهدوا التنزيل، وعلموا التأويل، وأنهم أهل اللغة الفصحاء واللسان العربي، الذين نزل القرآن بلغتهم، وأنهم الراسخون في العلم حقا، وأنهم متفقون على عقيدة واحدة، لم يختلف في ذلك اثنان، ثم التابعون بعدهم سلكوا سبيلهم، واتبعوا طريقهم، ثم الأئمة الأربعة، وغيرهم مثل الأوزاعي والسفيانين وابن المبارك وإسحاق، وغيرهم من أئمة الدين الذين رفع الله قدرهم بين العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، كل هؤلاء على عقيدة واحدة مجمعون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، ثم بعد معرفته لهذا وإقراره يقوم في قلبه أن عقيدة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف؟! فسبحان من يحول بين المرء وقلبه، فيهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
وكيف يكون الخالفون أعلم من السابقين؟! بل من زعم هذا فهو لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين حقيقة المعرفة المطلوبة، فإن هؤلاء الذين يفضلون طريقة الخلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:
{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] .
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع الاحتمالات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة كما قدمناه، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وكيف يكون الخلف أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من أهل العلم والإيمان، الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى؟ فنسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا ولإخواننا المسلمين من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.
وإنما ذكرنا هذا في أثناء كلام أبي الحسن الأشعري، لأن أهل التأويل اليوم الذين أخذوا بطريقة الخلف ينتسبون إلى عقيدة الأشاعرة، فيظن من لا علم عنده أن هذا التأويل طريقة أبي الحسن الأشعري، وهو رضي الله عنه قد صرح بأنه على طريقة السلف، وأنكر على من تأول النصوص كما هو مذهب الخلف، وذكر أن التأويل مذهب المعتزلة والجهمية.
قال الإمام الذهبي في كتاب (العلو) : قال الأستاذ أبو القاسم
القشيري: سمعت أبا علي الدقاق، يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه، يقول: مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري، فكان يقول شيئا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) :
فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، موافقة في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتابه (الإبانة) فإنه قال:
الحمد لله الواحد العزيز، الماجد المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد.
وساق خطبة رد فيها على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، وبين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة، إلى أن قال:
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة - فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟
قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما وري عن الصحابة
والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله؛ وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى مستو على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن له وجها كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وأن له يدين كما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائده: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] ، وأن من زعم أن اسم الله غيره
كان ضالا، وأن الله علما كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، ونثبت لله قدرة، ونثبت له السمع والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والخوارج والجهمية.
ونقول: إن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وإنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وإن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له؛ كما قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره.
ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن كان كافرا، وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقول: إن الكافرين؛ إذا رآه المؤمنون - هم عنه محجوبون؛ كما قال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] .
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا،
وندين أن الله تعالى مقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم.
ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، وإن الله يقرب من عباده كيف شاء؛ كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وكما قال:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8] .
إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، ونحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه بابا وشيئا شيئا.
ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. انتهي.
قال شمس الدين الذهبي رحمه الله: فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن ولزموها لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ذكر قول أبي الحسن علي بن مهدي الطبراني
المتكلم، تلميذ الأشعري
قال في كتاب (مشكل الآيات) له في باب قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] :
اعلم أن الله فوق السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء؛ كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعني علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعني علا في الجو، فوجد فوق رأسي.
فالقديم جل جلاله عال على عرشه. يدلك على أنه في السماء عال على عرشه: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وقوله:{يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] .
وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه،
مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق أى استوى عليها، قال: ويدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه، دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان أى استولى، إذا تمكن بعد أن لم يكن متمكنا. فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء.
ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] ؟
قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] بمعنى على الأرض، وقال:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] .
فإن قيل: ما تقولون في قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام:3] ؟
قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في "السماوات"، ثم يبتدئ:{وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ، وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق ملك، لدل على ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما.
ذكر قول الإمام الزاهد
أبي عبد الله ابن بطة
قال في كتاب (الإبانة) وهو ثلاثة مجلدات: باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه.
أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين على أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه، فأما قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] فهو كما قالت العلماء.
واحتج الجهمي بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فقال: معنا وفينا، وقد فسر العلماء أن ذلك علمه، ثم قال تعالى في آخرها:{أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال إنه علمه، فذكره عن
الضحاك، والثوري، ونعيم بن حماد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وكان ابن بطة من كبار الأئمة رضي الله عنه؛ سمع من البغوي وطبقته، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
ذكر قول الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني
،
شيخ المالكية في وقته
قال في أول رسالته المشهورة في مذهب الإمام مالك:
وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه. قال الإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد لما ذكر قوله "وأنه تعالى فوق عرشه المجيد": معنى "فوق" و"على" واحد عند جميع العرب، ثم ساق الآيات والأحاديث، إلى أن قال: وقد تأتي لفظة "في" في لغة العرب بمعنى "فوق"؛ كقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] .
قال أهل التأويل: يريد فوقها. وهو قول مالك مما فهمه عن التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله في السماء، يعني فوقها، فكذلك قال الشيخ أبو محمد أنه
فوق عرشه، ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته بائن عن جميع خلقه، بلا كيف، وهو بكل مكان بعلمه لا بذاته، فلا تحويه الأماكن؛ لأنه أعظم منها. انتهى كلام الشارح.
وذكر ابن أبي زيد في كتاب الفرد في السنة - تقرير العلو، واستواء الرب على العرش بذاته، وقرره أتم تقرير.
وقال في مختصر المدونة: وأنه تعالى فوق عرشه بذاته، فوق سماواته دون أرضه.
قال الحافظ الذهبي لما ذكر قول ابن أبي زيد: (وأنه تعالى فوق عرشه المجيد) : قد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي.
وكذلك أطلقها يحيى بن عمار واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له، فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك والحمادين، وابن عيينة وابن المبارك والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال في أخبار شتى: إن الله في السماء السابعة على العرش بنفسه. وكذا قال أبو الحسن الكرخي الشافعي تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته
…
على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.
وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ والشيخ عبد القادر الجيلي والفتى عبد العزيز القحيطي وطائفة.
والله تعالى خالق كل شيء بذاته ومدبر الخلائق بذاته بلا معين ولا مؤازر، وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه معنا وبين كونه فوق العرش، فهو معنا بالعلم وهو على العرش كما أعلمنا حيث يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] .
وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء كما قدمنا، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام.
وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير، وكان غاية في معرفة الأصول، وقد نقموا عليه في قوله بذاته، فليته تركه.
انتهى كلام الذهبي.
ذكر قول القاضي
أبي بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري
قال في كتابه (التمهيد في أصول الدين) وهو من أشهر كتبه:
فإن قال قائل: فهل تقولون: إن الله في كل مكان؟ قلنا: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] .
ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، والمواضع القذرة التي يرغب عن ذكرها، تعالى الله عن ذلك.
ثم قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] : المراد أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض؛ كما تقول العرب: فلان نبيل مطاع في المصرين، أي عند أهلهما، وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] : يعني بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم تعالى.
وقوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] محمول على هذا التأويل.
وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني أنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم، وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال قياسا على هذا: إن الله بالقيروان ومدينة السلام ودمشق، وإنه مع الثور والحمار، وإنه مع الفساق ومع المصعدين إلى حلوان؛ قياسا على قوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] ، فوجب التأويل على ما وصفنا أولا.
ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق؛ لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا. وقوله:
{ثُمَّ اسْتَوَى} [الأعراف: 54] يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه. ثم قال: باب، فإن قال قائل: ففصلوا لنا صفات ذاته من صفات أفعاله لنعرف ذلك.
قيل له: صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، وهي: الحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والبقاء، والوجه، واليدان، والعينان، والغضب، والرضاء. وصفات فعله هي: الخلق، والرزق، والعدل، والإحسان، والتفضل، والإنعام، والثواب، والعقاب، والحشر، والنشر، وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها. ثم ساق الكلام في الصفات.
وقال في كتاب (الذب عن أبي الحسن الأشعري) : كذلك قولنا في جميع المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله؛ إذ صح من إثبات اليدين والوجه والعينين، ونقول: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا؛ كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه.
إلى أن قال: وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير؛ كما روي عن
الزهري، وعن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا فقد تعدى وابتدع وضل. انتهى.
قال الحافظ شمس الدين الذهبي لما ذكر كلامه هذا: فهذا نص هذا الإمام، وأين مثله في تبحره وذكائه وتبصره بالملل والنحل، فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب ونفي الصفات وردها، صم بكم، غتم عجم، يدعون إلى العقل ولا يكونون على النقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ذكر قول الإمام أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الأندلسي الطلمنكي المالكي
قال في كتاب (الأصول)، وهو مجلدان: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته.
وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله على العرش على الحقيقة لا على
المجاز. ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان.
ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، فإن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء.
هذا لفظه في كتابه، فانظر إلى حكاية إجماع المسلمين من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وأطلق هذه اللفظة غير واحد من أئمة السنة، وحكاها كثير من العلماء عن الأئمة الكبار؛ كما تقدم عن الحافظ أبي نصر السجزي وغيره، فكيف نقموها على ابن أبي زيد وحده؛ لما ذكرها في رسالته كما ذكره الذهبي.
وكان الطلمنكي هذا من كبار الحفاظ وأئمة القراء بالأندلس، عاش بضعا وثمانين سنة، وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ذكر قول شيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل
بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني
قال في رسالته في السنة:
ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون - أن الله فوق سبع سماواته على عرشه كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وإمامنا الشافعي احتج في (المبسوط) في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة بخبر معاوية بن الحكم، «فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة السوداء ليعرف أهي مؤمنة أم لا، فقال لها: "أين ربك؟ " فأرشات إلى السماء إذ كانت أعجمية، فقال: "أعتقها، فإنها مؤمنة» ". حكم بإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
كان الصابوني هذا فقيها محدثا، وصوفيا واعظا، كان شيخ نيسابور في زمانه، له تصانيف حسنة، سمع من أصحاب ابن خزيمة والسراج، وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
ذكر قول الإمام العالم العلامة حافظ المغرب إمام
السنة في زمانه أبي عمر يوسف بن عبد الله بن
عبد البر النمري الأندلسي صاحب (التمهيد،
والاستذكار) والتصانيف النفيسة
قال في كتاب (التمهيد) في شرح الحديث الثامن لابن شهاب:
حديث النزول هذا صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان وليس على العرش.
والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] .
ومعنى {مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني على العرش. وقد تكون "في" بمعنى "على". ألا ترى إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2]
أي على الأرض، وكذلك قوله:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] .
وهذا يعضده قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ، وما كان مثله في الآيات، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة.
وأما دعواهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل "استوى" استولى فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغلبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على الحقيقة حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه.
قال أبو عبيدة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: علا، وتقول العرب استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، أي: انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.
قال ابن عبد البر: والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل في كتابه، فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} الآية [الزخرف: 13]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] .
وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الله بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : "استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان".
فالجواب: أن هذا حديث منكر، ونقلته مجهولون ضعفاء. فأما عبد الله بن داود الواسطي، وابن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا؟! أما سمعوا قول الله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37] .
فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبا.
فإن احتج بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وبقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام:3]، وبقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، زعموا أن الله في كل مكان بنفسه وبذاته تبارك اسمه وتعالى جده.
قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في
الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود أهل السماء، وفي الأرض إله معبود أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعد الظاهر.
وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض. فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين لها مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى. هذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، وقد «قال صلى الله عليه وسلم للأمة السوداء:"أين الله؟ " فأشارت إلى السماء، ثم قال لها:"من أنا؟ " قالت: رسول الله قال: "فاعتقها فإنها مؤمنة» ". فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء.
قال: وأما احتجاجهم بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]
فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية.
قال: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وذكر سنيد عن الضحاك في هذه الآية، قال:(هو على العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا) .
قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله.
وقال عبد الله بن مسعود: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء أخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تبارك وتعالى على العرش يعلم أعمالكم. وقد ذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب الاستذكار.
وقال أبو عمر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] : هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال أيضا: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقه لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود.
قال الحافظ الذهبي: صدق والله، فإن من تأول سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم.
ولقد كان أبو عمر بن عبد البر من بحور العلم ومن أئمة الأثر، قل أن ترى العيون مثله، واشتهر فضله في الأقطار. مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن ست وتسعين سنة.
ذكر قول الإمام أبي القاسم
عبد الله بن خلف المقرئ الأندلسي
قال في (شرح الملخص) لما ذكر حديث النزول:
وفي هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة ولا تكييف، كما قال أهل العلم، ودليل قولهم: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وقوله:{لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 2، 3] ، والعروج هو الصعود.
قال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان.
يريد بقوله "في السماء"، أي: على السماء. إلى أن قال: وكل
ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، لأن الاستيلاء في اللغة بعد المغالبة، والله لا يغالبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع والتمكن في الشيء، فإن احتج أحد علينا، وقال: لو كان كذلك لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق.
قيل: لا يلزم ذلك، لأنه تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ولأنه لا يقاس بخلقه كان قبل الأمكنة، وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان وليس بمعدوم، فكيف يقاس على
شيء من خلقه، أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فإن قال قائل: وصفنا ربنا بأنه كان في الأزل لا في مكان، ثم خلق الله الأماكن فصار في مكان، وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذا زال عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان.
قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان.
فإن قال: إنه كان في الأزل في كل مكان كما هو الآن، فقد أوجد الأشياء والأماكن معه في أزليته، وهذا فاسد.
فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟!
قيل له: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه؛ لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا، وكذلك نقلته لا توجب مكانا، وليس هو في ذلك كالخلق، ولكنا نقول: استوى من لامكان، ولا نقول: انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدا؛ كما نقول: له عرش، ولا نقول: له سرير، ونقول: هو الحكيم، ولا نقول: هو العاقل، ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول: صديق إبراهيم؛ لأنا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، ولا ندفع ما وصف به نفسه؛ لأنه دفع للقرآن.
ذكر قول الحافظ أبي بكر الخطيب
رحمه الله تعالى
قال: أما الكلام في الصفات فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان إثبات رب العالمين معلوما فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا تشبه بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح، ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . انتهى.
قال الحافظ الذهبي: المراد بظاهرها أي لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة غير ما وضعت له؛ كما قال مالك وغيره: الاستواء معلوم. وكذلك القول في السمع والبصر والكلام والإرادة والوجه ونحو ذلك، هذه الأشياء
معلومة، فلا يحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا.
قال: والمتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدا سبقهم إليها، قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تئول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يعني به أمران:
أحدهما: أنه لا تأويل غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم، وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة معروفة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف. وهذا هو مذهب السلف مع اتفاقهم أنها لا تشبه صفات البشر بوجه؛ إذ الباري لا مثل له في ذاته، ولا في صفاته.
الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة؛ كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد، فإن الله فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته؛ فإنها حق، ولكنها ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا.
والله إنا لعاجزون، كالون، حائرون، باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف نعرج كل ليلة إذا توفاها باريها؟ وكيف يرسلها؟ وكيف
تنتقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره؟ ثم رآه في السماء السادسة وحاوره وأشار عليه بمراجعة رب العالمين وطلب التخفيف منه على أمته، وكيف ناظر موسى أباه آدم؟ وحجة آدم بالقدر السابق، وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم؟ وكيفيتها؟ وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني؟
فالله أعلى وأعظم، وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له أصلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . انتهى كلام الذهبي.
توفي الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ولم يكن ببغداد مثله في معرفة هذا الشأن.
ذكر قول الإمام
عالم المشرق أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي
قال في كتاب (الرسالة النظامية) :
اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر:
فرأى بعضهم تأويلها والتزام ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن.
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل.
والذي نرتضيه دينا، وندين الله به - عقيدة اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك، وأن إجماع الأمة حجة متبعة. فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل - كان ذلك هو الوجه المتبع. فلتجر آية الاستواء وآية المجيء وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] على ذلك.
قال الإمام أبو الفتح محمد بن علي: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته،
فقال لنا: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وأني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور.
توفي إمام الحرمين سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وله ستون سنة، وكان من بحور العلم في الأصول والفروع، يتوقد ذكاء.
ذكر قول الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن
محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني مصنف كتاب
(الترغيب والترهيب)
قال في كتاب (الحجة) :
قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه، وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان.
قال: وروي عن ابن عباس في تفسير قوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال: هو على عرشه وعلمه في كل مكان. ثم ساق الآثار.
قال: وزعم هؤلاء أن معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أي: ملكه، وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة، وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه.
قال أهل السنة: استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض على ما ورد به النص، وليس معناه المماسة، بل هو مستو على عرشه بلا كيف، كما أخبر عن نفسه.
قال: وزعم هؤلاء أنه لا يجوز الإشارة إلى الله بالرءوس والأصابع إلى فوق، فإن ذلك يوجب التحديد، وأجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة، لا علو الذات.
وعند المسلمين أن لله علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح، فثبت أن لله تعالى علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة.
وفي منعهم الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق خلاف لسائر الملل؛ لأن جماهير المسلمين وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة.
وقد أخبر عن فرعون أنه قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37] ، فكان فرعون قد فهم عن
موسى أنه يثبت إلها فوق السماء، حتى رام بصرحه أن يطلع إليه، واتهم موسى بالكذب في ذلك.
والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته، فهم أعجز فهما من فرعون، بل وأضل.
وقد «صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بإيمان الجارية حين قالت: إن الله في السماء،» وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك!! انتهى كلام أبي القاسم رحمه الله. توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
ذكر كلام الإمام العالم العلامة أبي عبد الله
القرطبي صاحب التفسير الكبير
قال في التفسير: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] : هذه مسألة قد بينا فيها كلام العلماء في كتاب (الأسنى في شرح الأسماء الحسنى) ، وذكرنا فيها أربعة عشر قولا.
إلى أن قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص عرشه بذلك؛ لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته؛ كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم -يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة.
قال الحافظ الذهبي: وقال القرطبي أيضا في الاستواء: الأكثر من المتقدمين والمتأخرين المتكلمين، يقولون: إذا وجب تنزيه الباري جل جلاله عن الجهة والتحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة أنه متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للتحيز والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين.
ثم قال الذهبي: قلت: نعم، هذا ما اعتمده نفاة الرب عز وجل، أعرضوا عن الكتاب والسنة وأقوال السلف وفطر الخلائق، وإنما يلزم ما ذكروه في حق الأجسام، والله تعالى لا مثل له، ولازم صرائح النصوص حق، ولكنا لا نطلق عبارة إلا بأثر، ثم نقول: لا نسلم أن كون الباري على عرشه فوق السماوات يلزم منه أنه في حيز وجهة، إذ ما دون العرش يقال فيه حيز وجهات، وما فوقه فليس هو كذلك، والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنه الأئمة، وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان؛ محتجين بقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] .
فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم. فأما القول الثالث للتولد بآخره بأنه تعالى ليس في الأمكنة ولا خارجا عنها، ولا فوق عرشه، ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متميزة ولا بائنة عن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم مع ما فيه من مخالفات
الآيات والأخبار. ففر بدينك، وإياك وآراء المتكلمين، وآمن بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وفوض أمرك إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام الذهبي.
ذكر قول الإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن
مسعود البغوي صاحب معالم التنزيل
قال عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] :
قال الكلبي ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء. وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به.
وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] :
قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف: ارتفع إلى السماء.
وقال في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] : الأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله، ويعتقد أن الله منزه عن سمات الحدوث، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة.
وقال في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] : بالعلم.
كان محيي السنة من كبار أئمة مذهب الشافعي، زاهدا ورعا. توفي سنة عشر وخمسمائة، وقد قارب الثمانين.
قال الحافظ الذهبي لما ذكر قول الكلبي ومقاتل المتقدم: لا يعجبني قوله "استقر"، بل أقول كما قال الإمام مالك "الاستواء معلوم". انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا الذي حكاه البغوي عن الكلبي ومقاتل ذكره ابن جرير في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: ارتفع وعلا.
وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقا معروفة.
ذكر قول الإمام العالم العلامة الحافظ
عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير
قال في تفسيره في سورة الأعراف: وأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]- فللناس في ذلك المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، والظاهر للتبادر إلى
أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه؛ و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى. انتهى كلام الحافظ ابن كثير.
وفيما نقلناه من كلام الأئمة خير كثير، ولو تتبعنا كلام العلماء في هذا الباب لحصل منه مجلد كبير.
وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحا، فلم ننقل منه إلا اليسير؛ لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات، ونفي التكييفات. فمذهبهم بين الناس مشهور، وفي كتبهم مسطور، وكلامهم في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يسطر. ولهذا كان أهل البدع يسمونهم الحشوية؛ لأنهم قد أبطلوا التأويل، واتبعوا ظاهر التنزيل، وخالفوا أهل البدع والتأويل.
[حال المتأخرين]
وأما غيرهم من أهل المذاهب فكثير منهم قد خالفوا طريقة السلف، وسلكوا مسلك الخلف، فلهذا نقلنا كلام أئمة الحنفية والمالكية
والشافعية، وأئمة أهل الكلام كابن كلاب والأشعري وأبي الحسن بن مهدي والباقلاني، ليعلم الواقف على ذلك أن هؤلاء الأئمة متبعون للسلف يثبتون لله الصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، ويعرف أن هذا الاعتقاد الذي حكيناه عن شيخنا محمد بن عبد الوهاب وأتباعه هو الاعتقاد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر الأمة.
فنحن لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا نتجاوز القرآن والحديث، وما تأوله السابقون الأولون تأولناه، وما أمسكوا عنه أمسكنا عنه، ونعلم أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وليس كمثله شيء، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع الحدوث لامتناع العدم عليه، فلا نمثل صفات الله بصفات الخلق، كما أنا لا نمثل ذاته بذات الخلق، ولا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نعطل أسماءه الحسنى وصفاته العلا، بخلاف ما عليه أهل التعطيل والتمثيل.
فالمعطلون لم يفهموا من صفات الله إلا ما هو اللائق بالمخلوق، فشرعوا في نفي تلك المفهومات بأنواع التأويل، فعطلوا حقائق الأسماء والصفات، وشبهوا الرب تبارك وتعالى بالجمادات العارية عن صفات الكمال، ونعوت الجلال، فجمعوا بين التعطيل والتمثيل، عطلوا أولا ومثلوا آخرا.
والممثلون عطلوا حقيقة ما وصف الله به نفسه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وشبهوا صفاته بصفات خلقه، فمثلوا أولا وعطلوا آخرا.
فمن فهم من نصوص الكتاب والسنة في صفات الرب جل وعلا ما يفهمه من صفات المخلوقين، فقد ضل عقله ودينه، وشبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
ومن نفى ظاهر النصوص، وزعم أنه ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله، وأن الله لا صفة له ثبوتية، أو يثبت بعض الصفات كالصفات السبع ويؤول ما عداها؛ كقوله: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، وكقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أي: نعمتاه نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، ونحو ذلك مما قد عرف من مذهب المتكلمين.
فهؤلاء نفاة الصفات، ومذهبهم مأخوذ عن جهم بن صفوان، فإن أول من حفظ عنه إنكار الصفات هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي، الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان انتشار مقالة الجهمية في المائة الثانية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته. وكلام
الأئمة، مثل: مالك، وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم في ذمه وتضليله - كثير جدا.
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وتلقاها عنه الخلف، ونصروها، وقرروها.
وكثير منهم يحكي القولين: فيذكر مذهب السلف ومذهب الخلف، ثم يقول: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم. فصدق في قوله: مذهب السلف أسلم، وكذب وافترى قي قوله: ومذهب الخلف أعلم وأحكم، بل مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم كما تقدم تقريره.
فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا إلى الصراط المستقيم، صرط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجنبنا طريق المنحرفين عن النهج القويم من المغضوب عليهم والضالين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.