الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الشعر بعد البارودي
…
الفصل الرابع: شعر بعد البارودي
وثب البارودي بالشعر وثبة عالية ردت إليه ديباجته المشرقة المتينة، وأغراضه الشريفة، ومعانيه السامية، وحررته -كما ذكرنا- من الغثاثة والركة، وقود البديع المتصنع وحلاه المسترذلة، وكان للبارودي مدرسة قوية تتلمذ عليه فيها شعراء نجباء، فجاروه في متانة أسلوبه والبعد عن مظاهر الضعف، واختلفوا بعد ذلك عن أستاذهم تبعًا لاختلاف ثقافتهم، ومواهبهم الشعرية وتأثرهم بأحداث زمانهم.
كثر عدد الشعراء بمصر في مستهل القرن العشرين، والربع الأول منه، وقد تباينوا حظًّا في الشهرة وإدراك المجد، وخلفوا لنا جميعًا تراثًا زاخرًا بالثروة الأدبية، جعل مصر في مقدمة الأمم العربية في الشعر، وقد تضافرت عدة عوامل عامة على تجويدهم، وبروزهم ذكرناها آنفًا؛ وخير شعراء العصر الحديث هم المخضرمون الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وشهدوا النهضة في مستهلها، وتثقفوا ثقافة عربية قوية في بدء نشأتهم، ثم عاشوا في القرن العشرين ردحًا من الزمن، وشهدوا الوثبات الوطنية الرائعة والأحداث المحلية المثيرة، والتطور العلمي فكرًا ومادة.
وإذا نظرنا إلى الشعر في هذه الحقبة نظرة عامة من حيث أغراضه نجد بعض القديم منها قد اندثر، وعفى عليها الزمن، وبعضها قد تجددت معانيه، ودبت فيه روح جديدة، وبعضها قد ابتكر، ولم يعرف عنه العرب الأولون شيئًا.
فمن الأغراض التي كانت رائجة في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، وكان لها شأن كبير في شهرة الشاعر، وحظه من المجد -المديح- ولا نجد شاعرًا مخضرمًا لم يمدح؛ وكانت جهات المديح متعددة، فالخليفة في الأستانة ينتظر من شعراء العربية المسلمين -بل وغير المسلمين- أن يرفعوا إليه مدائحهم ويصفونه فيها بكل جليل عظيم من المكرمات وهو عنها عار ومنها براء، والأمير في مصر قد جعل له شاعرًا خاصًّا يتغنى بأعماله ويشيد بذكره في كل مناسبة، والوزراء والعظماء ينتظرون من الشعراء مثل هذا المديح وقد غالى
الشعراء في مديحهم، وساروا فيه على سنن الأقدمين من افتتاح القصائد بالغزل المتكلف، ثم وصف الممدوح بالكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات التي استنفد شعراء الماضي كل معانيها. ولقد كان هذا الغرض هدفًا لهجمات النقاد المريرة، ولوم الشعراء لومًا شديدًا على عكوفهم عليه في عصر يجب أن يتطلع فيه الشاعر إلى الشعب لا إلى الأمراء والخلفاء، ويجب أن يبنى مجده على شاعريته ومواهبه باستنباط المعاني الجديدة، ومجاراة الحياة التي يعيش فيها، لا على التمسح بأعتاب الملوك والأمراء، وبنظراته العامة إلى الإنسانية لا بنظراته الفردية المحلية، وقد أثمرت هذه النقدات ثمرتها، وانصرف معظم الشعراء الذين كلفوا بالمديح الشخصي حينًا إلى غيره من أغراض الشعر، وإذا مدحوا فلبطولة فائقة، أو لغرض شعبي عام، أو لعمل وطني جليل، أو ذهبوا إلى التاريخ يستوحون أمجادهم ومفاخرهم والمدح كما يقول الرافعي1:"إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح بل على نفس المادح، وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله، وما ابتليت لغة من اللغات بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه اللغة العربية".
ومن الأغراض التي أماتها استنكار النقاد، والعرف العام، والحياة العصرية وما فيها من قوانين مدنية تعاقب المعتدين على أعراض الناس، النهاشين لها: الهجاء. ولم يبق منه إلا مداعبات لطيفة فيها تهكم وسخرية وتصوير، لا تتناول المحارم والأعراض، ولا تقذع ولا تفحش، وإنما تعتمد على النكتة اللاذعة، والتصوير البارع، وإذا احتدم الهجاء بين الشعراء أفحشوا ولكنهم يستحيون من تدوينه وإنما يتناقله الرواة شفاها، وكأنهم يخشون أن يؤثر عنهم في عصرنا هذا.
ومن الأغراض التي كادت تندر: الحماسة، وإذا كان البارودي قد أبدع في الحماسة وأعادها قوية مشبوبة الأوار، لماعة السيوف كما كانت في عهد البطولة العربية الأولى، فإنه كان فارسًا خاض غمرات الحروب، وشهد المعامع وصيال
1 وحي القلم ج3 ص384.
الخيول، وقصف المدافع، أما الذين أتوا بعده فإن أتوا بشيء من الحماسة في شعرهم فذلك عن تقليد لا عن أصالة، وكثيرًا ما تثير ذكريات الماضي وما فيها من صورة رائعة للبطولة والحماسة في نفوسهم، فيصفون هذا الماضي، وما كان فيه من أحداث جليلة، وما قام به الفرسان من أعمال. على أن هناك ما صرفهم عن الحماسة، وأشبع نفوسهم من هذه الناحية ألا وهو الشعر الوطني القومي، سنأتي على ذكره بعد قليل.
ومن الأغراض التي اضمحلت. وخبا بريقها من قصائد، وقد كان لها شأن أي شأن في القدم، وعند البارودي: الفخر، كان الشعراء في الجاهلية، وفي الإسلام فرسانًا شجعانًا أشرافًا، فكان من الطبيعي أن يتغنوا بمفاخرهم ومفاخر قبائلهم، وأعمالهم، ثم افتخر الشعراء بعد ذلك بشعرهم وباهوا بمواهبهم ولكن العصر الحديث بعد بالشاعر عن ميادين القتال، ولم يعد ذلك الشاعر الذي يدل بأعماله من كرم ونجدة، ويدل بأعمال قبيلته، بل انقلب الفخر إلى شيء آخر هو ما سيظهر في الشعر الوطني، يشيد فيه الشاعر بأمجاد أمته وتاريخها كما فعل شوقي مثلًا في ملاحمه العربية والإسلامية.
أما الغزل فقد احتل المقام الرفيع عند الشعراء، وإن سار كثير منهم في أول الأمر سيرة الأولين وقلدوهم في الأوصاف المادية، وفي تشبيهاتهم، ولكنه ما لبث أن دخل عليه شيء كثير من تحليل العاطفة، وتصوير نزوات النفوس، وفتقت فيه المعاني. وإن جنح عند بعض الشعراء المحدثين الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، إلى الشهوة والتخنث والإسفاف.
ولقد تبين الشعراء في هذا الفن فمنهم من تكلفه تقليدًا للقدماء، إرضاء لفنه الشعري دون أن يصدر عن عاطفة أو هوى، ولذلك جاء شعرًا جافًّا من الأحاسيس تلمس فيه أثر الصنعة، ومنهم من صدر فيه عن نار مشبوبة بين جوانحه معنى جميلًا، ونظمًا رقيقًا، وصورًا زاهية طلية، وتنبض بالحياة لا تماثيل جامدة لا تتحرك ولا تحس فيها أثرًا من الشعور. وقد اشتهر من بين شعراء الغزل شوقي، وإن كانت الصنعة والتكلف، وفقدان العاطفة قد غلب على ما قاله، كما اشتهر به إسماعيل صبري وهو كذلك لا يصدر عن وجدان صادق كما سترى في ترجمته.
وممن اشتهر بالتجديد في هذا المضمار، وبرع فيه براعة فائقة حتى سمى نفسه أو سماه الناس: شاعر الهوى والجمال مصطفى الرافعي. وله فيه معان علوية خالدة بعضها شعرًا منظومًا، وأكثرها شعرًا منثورًا.
ومن قصائده في الغزل هذه القصيدة، وهو يعبر فيها عن حاله وأنه كان متعففًا في حبه تعصمه أخلاقه ودينه، ولذلك اشتدت صبوته وحرمانه.
وهو في هذه القصيدة ينعى على هؤلاء الذين يحبون ونفوسهم تطفح بالشهوة وفي هذا ازدراء للحبيب، فالحب تضحية وعبادة.
من للمحب ومن يعينه
…
والحب أهنأه حزينه
أنا ما عرفت سوى قسا
…
وته فقالوا كيف لينه
إن يُقْضَ دين ذَوي الهوَى
…
فأنا الذي بقيت ديونه
قلبي هو الذهب الكريـ
…
فلا يفارقه رنينه
قلبي يحب وإنما
…
أخلاقه فيه ودينه
يا من يحب حبيه
…
وبظنه أمسى بهينه
وتعف منه طواهر
…
لكنه نجس يقينه
إن تنقلب لص العفاف
…
لمن تحب فمن أمينه
ما لذة القلب المدلـ
…
ـه لا يطول به حنينه؟
الحب سجدة عابد
…
ما أرضه إلا جبينه
الحب أفق طاهر
…
ما إن يدنسه خَئُوبَه
ومنهم عبد الرحمن شكري وكان بئيسًا في حبه كثير الشكوى والوله فيه معانٍ جديدة وطريفة، من ذلك قوله:
ليس جسمي بالذي ترون ولكن
…
ذاك قبر لما تكن الضلوع
من شجون ولوعة وادكار
…
وهموم تنم عنها الدموع
وقوله:
شكوت إليه ذلتي فتحكما
…
وأرسلت دمعي شافعًا فتبرما
وقال له الواشون أنت وصلته
…
ببعثك طيفًا في الكرى فتظلما
وخبر أني قد تخيلت أنني
…
تزودت منه قبله فتألما
وخبر أني سوف أخلس نظرة
…
إليه فأضحى بالحياء ملثما
وإني لأهوى أن أموت لعله
…
إذا مر ذكري في الحديث ترحما
وكان غزله كله يفصح عن حرمان وألم.
ومن هؤلاء الذين نسجوا على هذا المنوال، وكان غزلهم نغمًا حزينًا وألمًا وشجنًا إبراهيم ناجي، وفي قصيدة "المودة" يتغنى بذكرياته الحزينة لمرتع صباه ومجالي لهوه وما كان له من حب ذوى قبل أوانه.
رفرف القلب بجنبي كالذبيح
…
وأنا أهتف يا قلب اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح
…
لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد
لم عدنا؟ أَوَلَمْ نطوِ الغرام
…
وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام
…
وانتهينا لفراغ كالعدم
موطن الحسن ثوى فيه السأم
…
وسرت أنفاسه في جوه
وأناخ الليل فيه وجثم
…
وجرت أشباحه في بهوه
والبلى أبصرته رَأيَ العيان
…
ويداه تنسجان العنكبوت
صحت: يا ويحك تبدو في مكان
…
كل شيء فيه حتى لا يموت
كل شيء من سرور وحزن
…
والليالي من بهيج وشجى
وأنا أسمع أقدام الزمن
…
وحطى الوحدة فوق الدَّرَج
أما الخمر ومجالس اللهو: فقد برع فيها طائفة من الشعراء من أمثال شوقي وعلي محمود طه، وحافظ، إلا أن شوقي أجاد وصف المراقص العصرية في خمرياته، وأجاد علي محمود طه في وصف أويقات الأنس في مغاني أوربا وأبدع في تصويرها.
ومن ذلك قوله يصف ليلة قضاها على ضفاف نهر "الراين":
كنز أحلامك يا شاعر في هذا المكان
سحر أنغامك طواف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفاقك على هذي المحاني
أيها الشاعر هذا الرَّاين، فأصدح بالأغاني
كل حي وجماد هاهنا
…
هاتف يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح، دعا الشوق بنا
…
فاسقنا من خمرة الرين اسقنا
عالم الفتنة يا شاعر أم دنيا الخيال
أمروج علقت بين سحاب وجبال؟
ضحكت بين قصور كأساطير الليالي
هذه الجنة فانظر أي سحرٍ وجمال
يا حبيب الروح يا حلم السنا
…
هذه ساعتنا، قم غَنِّنَا
سكر الشاق إلا أننا
…
فاسقنا من خمرة الرّين اسقنا
ومن الأغراض التي صار لها مقام مرفوع في الشعر الحديث الوصف بعامة، ووصف الطبيعة بخاصة والوصف من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا. والإجادة في الوصف تدل على شاعرية قوية؛ لأن الشاعر لا تدفعه إليه رغبة أو رهبة، وإنما يدفعه إليه انفعاله وحساسيته بما يحيط به. وقد اختلف الشعراء في نظرتهم إلى الطبيعة اختلافًا بينًا: فمنهم من يرى وجهها الضاحك، ورياضها المزدهرة، وأطيارها المفردة، وشمسها الضاحية، ونجومها الزاهية، ومروجها الخضراء، ومياهها الندية، وأريجها الشذى، ومنهم من يرى وجهها العابس، فلا يحس إلا ليلها الأسود، وسماءها الملبدة بالغمام، وريحها الزفوق وأعاصيرها الجارفة، وبراكينها التي تصب الحمم، وزلازلها المدمرة، وأمطارها العنيفة، ومفاوزها المهلكة.. إلى غير ذلك، ومنهم من يراها في كلا وجهيها، فينتشى طربًا حين تصفو وتحلو وتشرق، ويكتئب حين تزمجر وتغضب، وترينا وجهها الكالح، ثم هو بعد ذلك كله يختلفون في تصويرها فبعضهم يصور ما في الطبيعة تصويرًا ماديًّا محسوسًا كأنه آلة تصوير، يزخرف، ويشبه، ويغص شعره بشتى ألوان الاستعارات مثل البارودي وتوفيق البكري، ومثل شوقي في وصف لبنان ودمشق، وبعضهم يبعث في الطبيعة.
روحًا حية، ويكتنه أسرارها ويغوص في أعماقها، ويصورها ملونة بعاطفته الخاصة، وحسبما يوحي إليه خياله المجنح فينطقها، ويشخصها كوصف شوقي لرحلة في قصيدته المشهورة:
يا جارة الوادي طربت وعادني
…
ما يشبه الأحلام من ذاكراك
ومثل معظم أوصاف مطران في الطبيعة وقد زاد نظراته الشاملة العامة للكون، وللإنسانية وما يرجى فيها من خير وشر، وعدل وظلم، مثل قصيدته: في المساء، ووردة نبتت في سفك دماء. والنوارة، وفي الغابة، وغصن من زهر المشمش، ومثلها وصف شوقي للجيزة أو الجزيرة، أو وصفه للآثار المصرية التي تشبه الطبيعة لقدمها.
ومن الشعراء الذين احتذوا حذو الغربيين في نظراتهم الشاملة للكون وللإنسانية جمعاء حين يصفون الطبيعة: جبران، وإيليا أبو ماضي وكثير من شعراء المهجر محتذين في ذلك حذو شعراء الغرب.
وقد يقف الشعراء على آثار الأمم الماضية، ومشاهد العمران فيغوصون في أعماق التاريخ ويصورونه تصويرًا بارعًا، وقد فاق شوقي سواه في هذا المضمار.
وقد وصف الشعراء المعارك الحديثة، ولكنهم للأسف قلما جددوا في أساليبهم وتشبيهاتهم فتجدهم يتحدثون عن السيوف والرماح والدروع والمغافرن وينسون أن الحرب الحديثة فيها المدافع والمدرعات والطائرات والغواصات، وأنها تجتاح كل البشرية لا ينجو منها ومن عواقبها محارب أو مسلم من: غلاء وضيق وظلمة، وتقيد للحريات، وتدمير شامل للمدن، وقد تعرض شوقي لمثل هذه المعارك، ولكنه لم يجدد إلا بقدر يسير.
ومن الأغراض التي امتدت واتسعت وراجت الرثاء، وقد كان في بادئ الأمر مقصورًا به التزلف فلا يرثي إلا ملك أو أمير، ثم خرج عن ذلك إلى رثاء العظماء الذين أسدوا إلى بلادهم خدمات جليلة، وصار رثاء فيه تصوير للمرثي وأعماله، ولا يصلح لسواه من الناس كما كان الحال من قبل حيث كان الرثاء يصلح لكل
ميت، ولم يقف رثاء الشعراء على الأشخاص بل تعداهم إلى رثاء الدول والمدن، كما فعل شوقي في رثاء أدرنه، وعند زوال الخلافة.
ولقد حظي التاريخ بعناية الشعراء وهو من الأغراض المستحدثة، ونظم فيه الشعراء ملاحم قوية، كهمزية شوقي التي أنشدها في مؤتمر المستشرقين، وكقصائده في دول العرب وعظماء الإسلام، وكقصيدته البائية في وصف الحوادث العثمانية.
وكان شوقي احتفاء زائد بالتاريخ إذ كان يرى فيه معلمًا عظيمًا، وكنزًا كريمًا وهو القائل: الشعر ابن أبوين: الطبيعة والتاريخ، وكان له مقدرة على استحضار مشاهده واضحة زاهية وتراه يرجع بك إلى الماضي كأنك تراه:
أفضى إلى ختم الزمان فقضَّه
…
وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقري حتى أتى
…
فرعون بين طعامه وشرابه
فترى الزمان هناك قبل مشيبه
…
مثلَ الزمان اليوم بعد شبابه
ومن الأغراض التي تقدمت بعد البارودي: الشعر القومي وهو يشمل الوطنية والاجتماع ولقد رأينا البارودي يقف عند الحوادث الخاصة التي تأثر بها والتي في نفسه، ولكن الأحداث التي مرت بمصر، والاحتلال ومصائبه، والمطالبة بالدستور، ثم الثورة الوطنية العامة سنة 1919 قد نبهت الشعراء إلى معان جديدة وأغراض حديثة في الشعر القومي كما مر بك في غير هذا الموضوع.
فالوطنية تشمل: الأناشيد الحماسية، وتصوير الفظائع التي ارتكبها الغاصب، والمناداة بالاستقلال، والتحرر من ربقة الأجنبي، والحث على الثورة، وتصوير الصدام بين جنود الاحتلال، والوطنيين المجاهدين. ولقد خاض معظم الشعراء في هذا الميدان، وبرع كثير من الشعراء فيه كشوقي، وحافظ، وأحمد محرم، والكاشف، وعبد المطلب، والجارم، والرافعي ولم يبق إسان يستطيع قول العشر، وليس له في هذا الميدان نصيب حتى مصطفى كامل، وهو من الخطباء والكتاب البارعين في الوطنية أبت عليه حماسته إلا أن يقول نشيدًا في الوطنية أثبتنا طرفًا منه هنا لطرافته ولأنه من بواكير قلمه.
هلموا يا بني الأوطان طرا
…
لنرجع مجدنا ونعز مصرا
هلموا أدركوا العلياء حتى
…
تنال بلادنا عزًّا وفخرًا
هلموا اتركوا الشحناء منكم
…
وكونوا أوفياء فذاك أحرى
أليس يشيننا ترك المعالي
…
تباع يغير وادينا وتشري
ونحن رجالها وبما لديها
…
من الإسعاد والخيرات أدري
فعار أن نعيش بغير مجد
…
ونبصر في السماء شمسًا وبدرًا
وعار أن يكون لنا وجود
…
ويحظى غيرنا فوزًا ونصرا
وقد مر بك في غير هذا الموضع من الكتاب موقف الشعراء إزاء الوطنية المصرية وتفاعلهم معها كما مرت بك نماذج كثيرة في هذا الموضوع.
ومن الشعر القومي: الشعر الاجتماعي، ويراد به تصوير عيب من عيوب المجتمع، والحث على تلاقيه من ذلك قول الشيخ نجيب الحداد في وصف القمار:
قد اختصروا التجارة من قريب
…
فعدم في الدقيقة أو يسار
كأن وجوهم ندمًا وحزنًا
…
كساها لون صفرته النضار
فبينا تبصر الوجنات وردًا
…
إذا هي في خسارتهم بهار
عصائب لا يود المرء فيها
…
آخاه ولا يراعى الجارَجار
يلاحظ بعضهم بعضًا بعين
…
يكاد يضيء أسودها الشرار
فكم غصبوا على الأيام ظلمًا
…
وكم حنقوا على الدنيا وثاروا
وكم تركوا النساء تبيت تشكو
…
وتسعدها الأصيبية الصغار
تبيت على الطوى ترجو وتخشى
…
يؤرقها السهاد والانتظار
فبسئت عيشة الزوجين حزن
…
وتسهيد وهجر وافتقار
وبئست خلة الفتيان هم
…
وأتعاب وخسران وعار
والتعرض لمشكلة اجتماعية، أو الإشادة بمظهر جديد من مظاهر النهضة ورقي الأمة يعتبر كذلك من الشعر الاجتماعي، وقد أكثر الشعراء من الكلام على الأخلاق، وتصوير العيوب الخلقية التي ورثناها من عهود الضعف والاحتلال، أو من مفاسد المدينة الحديثة، كما أكثروا من الحث على التحلي بالفضائل، وحضوا
على تحرير المرأة، أو قاوموا تحريرها، كل حسب ميوله ونظرته وبيئته، وحثوا على تشييد المعاهد، والمستشفيات، والملاجئ، وعالجوا مشكلة الفقر والغنى، وتكلموا عن الحريات والدستور، والطيران، وتقدم الأمة اقتصاديًّا وإنشائها المصارف، والشركات ودور الصناعة ونهضتها في الملاحة، ولم يدعوا ظاهرة سيئة أو حسنة تهم الشعب اجتماعيًّا إلا كانوا لسان الشعب المعبر عنها أسفًا أو سرورًا.
ولم يكن للشعر الاجتماعي منزلة كبيرة في الأدب العربي القديم، وإنما كان يتمثل في أبيات الحكمة والأمثال، والشكوى من الناس والزمان وتصويرهم من وجهة نظر الشاعر، وهو لا يصور عادة حسناتهم، وإنما ينعي عليهم أخلاقهم، وموقفهم منه ومن آماله كما فعل المتنبي، وأبو العلاء، والبارودي. وأنت ترى أنه قد اتسع اتساعًا عظيمًا في الشعر الحديث، وتشعبت غاياته وموضوعاته، كما تعددت طرق التعبير عنه، فمن قصيدة، أو قصة شعرية كقصة "الجنين الشهيد" ومقتل بزر حمهر، وفنجان قهوة لمطران وغيرهما، أو رواية تمثيلية تصور فيها الشخصيات المتعددة، المتباينة الطباع والعادات والأخلاق والغايات. وقد برع في الشعر الاجتماعي شوقي، وحافظ. ومطران على تفاوت بينهم في الموضوع والأسلوب على نحو ما بيناه آنفًا.
ومن الأغراض التي أفاض فيها الشعراء في العصر الحديث: الشعر الديني فمن زهاد متعبدين يحثون على التقوى، وترك الموبقات، والتمسك بالفضيلة وعدم الانخداع بالدنيا وزخرفتها، إلى شعراء يتغنون بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقربون إلى الله بمدحه، ويستشفعون به، ويستحثون أمهم على استرجاع مجدهم القديم، وعزهم الزائل، وقد كثروا من الكلام في مطلع كل عام هجري احتفاء بالهجرة، وجعلها موعظة وذكرى للأمم التي تنشد الحرية، وشاع فيها الفساد، كما اتخذوا من سير بعض الصحابة موضوعًا شعريًّا سجلوا فيه فضائلهم، وما قدموه للإنسانية كعمرية حافظ وعلوية عبد المطلب.
ومن الشعر الديني: إلياذة أحمد محرم التي صور فيها جهاد النبي عليه السلام في سبيل الدعوة، وما لاقاه أنصاره من تعذيب وإيذاء في مبدأ الدعوة
وبطولتهم الفائقة في الغزوات العديدة، وأخلاقهم الكريمة في معاملاتهم لأعدائهم وقد ألف بعض الشعراء الشبان قصصًا مسرحية شعرية في غزوة بدر، وأحد، وفتح مكة ومن أشهرهم محمد يوسف المحجوب.
وثمة جماعة رق دينهم، وفتنتهم العلوم الحديثة، فاستهزءوا بالدين وسخروا منه، أو شكوا فيه، وآخرون نقموا على رجال الدين جمودهم، وساء ظنهم بهم. وأكثر هؤلاء من غير المصريين الذين اتخذوا هذه الديار موطنًا لهم من أمثال فرح أنطون، والدكتور شميِّل.
ومما جدد فيه الشعراء من الأغراض القديمة: الشعر التعليمي، وقد كثر من قبل في منظومات العلوم كالنحو والصرف، والعروض، والتوحيد وغيرها، ثم استخدمه محمد عثمان جلال في نظم الخرافات والحكايات، وجاء شوقي فأربى عليه في هذا الباب وجدد في موضوعات الشعر التعليمي، ويصح أن نعد منه كتاب "دول العرب وعظماء الإسلام". ولحافظ بعض الشعر في هذا النوع. على أنه انتشر انتشارًا بعد شوقي حتى صار عندنا منه الشيء الكثير وأغلب الذين برعوا فيه هم المشتغلون بالتدريس للأطفال.
ومن الأغراض التي برع فيها الشعراء المحدثون: الوجدانيات، وأظهرها الشكوى، وبث لواعج النفس وآلامها وأحزانها، ومناجاتها، وقد شكى البارودي وتألم من منفاه، ولكن من أتى بعده ممن تعرف على الثقافة الغربية، وقرأ شعر بيرون وشيلي، ووردسورث، وهاردي، وويتمان في الإنجليزية، وبودلير، ويول فاليري وغيرهما في الفرنسية أفاض في هذه النفسيات التي ينفس بها عن آلامة وأحزانه، وصرت تسمع من مطران قصائده:"مشكاة بيني وبين النجم"، وقصيدة "ساعة يأس أو الأسد الباكي" و"المساء" وغيرها، وقد كثر هذا في شعر شكري والمازني والعقاد وأحمد زكي أبو شادي، ومعظم شعراء الشباب، واستمع إلى العقاد في شكواه:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا
…
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا
…
معالم الأرض في الغمام تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا
…
نيني ولا سمر السمار يلهيني
غصان غصان لا الأوجاع تبليني
…
ولا الكوارث والأشجان تبكيني
شعري دموعي وما بالشعر من عوض
…
عن الدموع نفاها جفن محزون
يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط
…
على المدامع أجفان المساكين
هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم
…
وما استرحت بحزن فِيّ مدفون
أسوان أسوان لا طبَّ الأساة ولا
…
سحر الرقاة من الأدواء يشفيني
سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا
…
عجائب القدر المكنون تغنيني
أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني
…
على الزمان ولا خل فيأسوني
يديك فامح ضني يا موت في كبدي
…
فلست تمحوه إلا حين تمحوني
أو استمع إلى المازني في "وصية شاعر" والتي يقدم لها بقوله:
هذه وصية بشعة في رأي الكثيرين ولا ريب، وسيعتدونها دليلًا على الحزن ولؤم النفس، وربما ذهبوا إلى أبعد من هذا الحد، فأخذوا الأدب الحديث كله بجريرتي في هذه القصيدة، وفيها يقول:
سترخي على هذه الحياة الستائر
…
وتطفأ أنوار ويقفز سامر
فهل راق هذا الخلق قصة عيشتي
…
وماذا يبالي من طوته المقابر
تركت لهم من قبل موتي وصية
…
نظير التي أوصت بها لي المقادر
وهبت لأعدائي إذا كان لي عدى
…
همومي وما منه أنا الدهر ثائر
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى
…
وبالدمع لا يرقا ولا هو هامر
وبالجدري في وجهه ليزينه
…
وبالعرج المرذول والله قادر
وبالضعف والإملاق واليأس والجوى
…
وبالسقم حتى تتقيه النواظر
وللشيب بالأوجاع في كل مفصل
…
وبالثكل في الأبناء والحد عائر
وكل سقام قد تركت لذي الصبا
…
وما كنت منه في الحياة أحاذر
وللناس ألوان الشقاء وإنني
…
إذا مت لا آسى على من يخامر
وهي وصية تدل على نفس قد أداها الدهر، ولها عند كل إنسان وتر، فهي توصي لهم بكل شر وضر، ولعل فيما أصاب المازني في حياته ما جعله ساخطًا كل السخط في هذه القصيدة، وقد أشار فيها إلى عرجه الذي كان شديد الحساسية به.
وباب الوجدانيات بحر لا ساحل له؛ لأن عواطف النفس الإنسانية تتجدد بتجدد الأيام والحياة، وما فيها من سرور وآلام وابتسامات ودموع، وضحكات وآهات، ولا نغالي إذا قلنا: إن معظم شعراء الشباب في عصرنا الحاضر لا هم لهم إلا بث لواعج نفوسهم، والشكوى من زمنهم ومن الحياة، لذلك جاء شعر أكثرهم حزينًا باكيًا متشائمًا منبعثًا عن نفسيات في اليأس أو لا تقوى على احتمال الآلام. وقد تغير الحال نوعًا ما بعد ثورة 23 يوليو 1952. وانتصاراتها المتتالية الداخلي والخارجي، وتبنيها القضايا العربية وقايم الوحدة بين مصر وسوريا مما أوجد لدى شباب الشعراء مادة غزيرة تثير حماستهم وتلهب مشاعرهم وتحرك طموحهم لمجد أمتهم، وتشعرهم بمستقبل بسام ووحدة شاملة للعالم العربي، فتغيرت النغمة الحزينة لدى الكثيرين من الجيل الصاعد، ولم يعد الأفق أمامهم مظلمًا، ولا المستقبل معتمًا، ولم يعد ثمة مجال لاجترار أحزانهم ونشر مآسيهم إلا قلة متخلفة ران اليأس على أفئدتها.
أما من حيث الأسلوب فقد جرى الشعراء في أول الأمر مقلدين للقصيدة العربية، محافظين على الأوزان التي ورثناها عن العرب، ولكنهم ما لبثوا أن افتنوا في أنواع الموشحات وخرجوا بها عن أصولها المعروفة، حتى صاروا بها إلى مسدسات، ومسبعات ومثمنات، دون أي التفات إلى عدد الإقفال والأبيات. وإن راعوا نمطها في الوزن والتقفية.
ولما اشتد تأثرهم بالأدب الغربي في القرن العشرين أخذوا ينظمون القصيدة مقطعات، تختلف في عدد أبياتها حينًا، وتتفق حينًا آخر، ولكل مقطعة قافية تستقل بها عن أخواتها. ومنهم من جرى على أسلوب الشعر الغربي في تثنية قوافيه، وتقطيعه وتفصيله، وآثر البحور الخفيفة الرشيقة، ومنهم من أهمل
القوافي والأوزان، أو حافظ على الأوزان دون القوافي، وهو ما يسمى بالشعر المرسل ومن حافظ على القوافي وأهمل الأوزان، وسموا هذا الأخير الشعر المنثور وقد تكلمنا عنه آنفًا، ومن أمثلة الشعر المرسل، وهو الموزون غير المقفى بعض ما ترجمه محمد فريد أبو حديد من روايات شكسبير فمن ذلك مناجاة روميو لنفسه حين رأى جوليت فيحفل راقص لأول مرة:
نورها الباهر في لمعته
…
جعل الأنوار تزداد سنا
وبدت في صفحة الليل كما
…
يلمع الجوهر في قرط الزنوج
إن هذا الحسن لا أحسبه
…
حسن أهل الأرض حاشا أن يكون
ثم يراها في الشرفة تنظر إلى القمر مفكرة فيحدث نفسه وهو ينظر إليها:
أي نور يتلال
…
باهرًا من خدرها
إن هذا أفق الشرق وقد
…
أشرقت جوليت من أعلاه شمسًا
أيها الشمس تعالى في السماء
…
واقتلى بدر الدجى من غيظه
فهم يبدو شاحبًا في حقده
…
مذ رأى حسنك أبهى منظرًا
ليتني كنت في يديها شعارًا
…
أو غطاء أمس تلك الخدودا
فإذا سمع صوتها صاح:
أسمعي صوتك حلوًا أسمعي
…
يا ملاكًا من ضياء الأفق
أنت في الليل تلوحين كما
…
سبحت في الجو أملاك السماء
ومن ذلك مناجاته لها وقد رآها ملقاة على الأرض بعد أن خدرها القسيس فظنها روميو قد فارقت الحياة:
يا هوى مهجتي
…
وزوجي سلامًا
إن يك الموت قد سطا بك واشتف
…
رحيق الشفاه من أنفاسك
فلعمري هذا جمالك رطب
…
أعجز الموت، لم يزل في بهائه
تلك أعلامه ترفرف حمراء
…
على خده وفوق شفاهة
وأرى الموت تحت راية الصفر
…
كليلًا ملفعًا بصفاره
أي جوليت! حبيبة قلبي
…
كيف يبقى الجمال بعد الحمام
أترى الموت ذلك الشبح المرعب
…
هذا الكريه يضمر حبك
فطوى جسمك الحبيب رطيبًا في دياجيره يريد وصالك
لأقيمن ههنا أبد الدهر قريبًا إليك دون غريمي
ثاويًا في ظلام قبرك هذا راضيًا لا أريد عنه انصرافا
فأنت ترى في هذا الضرب من الشعر فقرات موزونة كل فقرة مستقلة في وأنها عما قبلها وما بعدها. وترى شعرًا غير مقيد ببحر واحد وغير مرتبط بقافية.
ومن قصيدة شكري "كلمات العواطف" التي أشرنا إليها مرارًا في فصل النقد وقد ختم بها الأول من ديوانه "ضوء الفجر":
نرى في اليوم ما هو في أخيه
…
كذلك حياة أبقار السواقي
ولولا عصب عينيها لكانت
…
تعاني البأس والسأم الدخيلا
ولولا خدعة الأمل المرجى
…
لأسلمنا النفوس إلى الحمام
وليس العيش إلا ما نعمنا
…
هـ أيام نمرح في الشباب
إذا سقط العجوز على نعيم
…
فقد سقط الهشيم على الزهور
بكائي أن أرى رجلًا لئيمًا
…
يقدمه الرياء على الكريم
فإن حركته للعرف يومًا
…
تبدى منشدًا قولًا رخيصًا
بكائي أنني أعدو غريبًا
…
وحولي معشرتي وبنو ودادي
بكائين أن لي طبعًا أبيًّا
…
ورأيًا مثل حد السيف ماضي
بكائي أن في الدنيا أمورًا
…
يضيق بمثلها الصدر الرحيب
وكم وغد رفيع الجاه يغدو
…
كأن الكون ليس به سواه
وقد جد منذ سنوات في البلاد العربية نزعة إلى التحرر من القافية وجعل التفعيلة لا البحر وحدة موسيقية في القصيدة وسموه الشعر الحر، ولا يزال هذا الضرب من الشعر في سبيل التجربة، ولم يأت بعد الشاعر الفحل الذي يستهوي الأسماع بسحر نغمه، والألباب بعذب شعره، والنفوس بقوة بيانه ورائع تصويره ومجنح خياله ونفيس معانيه ليدعم هذا الشعر ويعطيه مكانته في الأدب، ومعظم ما ينظم به النوع القصصي الساذج الذي يعبر عن أمور مألوفة وتجارب بسيطة، وقد رآه الشباب مطية ذلولًا وعملًا هينًا فآثروه على الشعر الموزون المقفى، وأدعوا أنه يتمشى مع الدفقة الشعورية.
وقد نبغ من الشباب من تحداهم، وبرهن على أن القيثارة العريقة التي ظل يعزف على أوتارها شعراء ستة عشر قرنًا لا تزال تبدع أروع الأنغام وأجمل ضروب الموسيقى. نقول هنا ولا نستطيع الحكم بعد على هذا الشعور، وإن كان ما سمعناه منه حتى اليوم: لا، يبشر بخير كثير.
أما الشعر المنثور الذي روعيت فيه القافية وأهمل الوزن.. فله أمثلة كثيرة، وهو لا يخرج على نظام النثر المسجوع في الأدب القديم، ومثاله في أدبنا المعاصر قوله شوقي يخاطب ولديه وهو يغادر مصر في طريقه إلى منفاه:
"تلكما يا ابني القناة! لقومكما فيها حياة، ذكرى إسماعيل وروياه، وعليها مفاخر دنياه، دولة الشرق المرجاة، وسلطانه الواسع الجاه، طريقة التجارة، والوسيلة والمنارة، تعبرانها اليوم على مزجاة، كأنها فلك النجاة، خرجت بنا بين طوفان الحوادث، وطغيان الكوارث، نفارق برًّا مغتصبة مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة، واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره، خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح، ونقابل بحرًا قد جنب جواريه، ونزت بالشر نوازيه، ومن نون ينسف الدوارع أو طير تقذف البيض مصارع إلخ". وقد جمع هذا الضرب من الكلام في كتاب خاص سماه "أسواق الذهب"1.
1 راجع نشأة النثر الحديث ج1 للمؤلف.
ومن ذلك: وصف السيد توفيق البكري للبحر وهو في طريقه إلى القسطنطينية، ولعمري ليس في هذا الكلام من الشعر إلا أنه موشى ببعض ألوان الخيال وقد مر بنا رأي الرافعي وغيره من النقاد في هذه التسمية.
ولم يعد البيت عند الشعراء المجددين هو وحدة القصيدة. بل صارت القصيدة مرتبطة بعضها ببعض في بناء محكم، ولجئوا إلى القصة الشعرية.
وقد عرف العرب قديمًا هذا النوع في شعرهم من مثل قصيدة الحطيئة "وطاوى ثلاث". وقصيدة "عمر بن أبي ربيعة" أمن آل نعم، وكثير من شعر "عبد بني الحساس" وقصيدة الأعشى في السموءل، والفرزدق في الذئب، والبحتري في الذئب وكثير من شعر الطرد، بيد أنه لم يكن محبوك العقدة، ولا ممنوع الموضوع، ولا يرمي إلى تحليل دقيق، بينا تراه في الشعر الحديث قد اتسع ميدانه، وكثر فرسانه، فنظم فيه مطران عشرات القصائد، وتبعه إبراهيم رمزي، وشوقي، وحافظ، وشكري ومحرم في الإلياذة الإسلامية وهي ملحمة طويلة جدًّا وسنتكلم عليها عند ترجمته إن شاء الله، وقد استمدوا موضوع القصة الشعرية من بطون التاريخ أحيانًا، ومن حوادث زمانهم أحيانًا، وأضفوا عليها من جميل خالهم، ورائق شاعريتهم، فغلبت الصيغة الأدبية على التاريخية، أو الحقائق العلمية. وإن كان لا يزال ينقصها حتى اليوم في أغلب الأحيان جودة تصوير الأشخاص وتحليل العواطف النفسية، ولو أجادوها كما أجادوا عرض الحوادث ووصفها وسردها لبلغوا الغاية.
ولما أطلعوا على التمثيليات الشعرية لدى أدباء أوربا حاولوا محاكاتها، وقد تجرأ الشيخ خليل اليازجي1 فنظم تمثيلية "المروءة والوفاء" في ألف بيت سنة 1876، ولكنها جاءت سقيمة العبارة، ركيكة الأسلوب، أشبه بأساليب المتون المنظومة منها بالأدب الرائق، فذهب ضعف نسجها بحلاوة موضوعها، ونظم
1 هو ابن الشيخ ناصف اليازجي الذي ترجمنا له في الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث، ولد ببيروت سنة 1856م: وتعلم في الكلية الأمريكية، ثم هاجدرإلى مصر واشتغل بالصحافة مدة ثم عاد إلى بيروت واحترف التعليم، ومرض بداء الصدر، فانقطع عن العمل حتى مات سنة 1889، وكان جيد الكتابة كبقية أفراد أسرته، وشعره وسط.
الشيخ عبد الله البستاني خمس قصص تمثيلية شعرية ولكنها جاءت ضعيفة1
ونظم الشيخ محمد عبد المطلب منذ سنة 1909 عددًا من الروايات والمشاهد المسرحية، متخذًا موضوعها من الأدب العربي في جاهليته وإسلامه مثل امرئ القيس، ومهلهل ابن ربيعة وغيرهما وجاءت هذه المسرحيات متينة الأسلوب قوية الديباجة فيها كثير من تعابير البدو وأخيلتهم لا يستطيع جمهور النظارة متابعته أو فهمه كما أن الشيخ عبد المطلب كان ينقصه معرفة الفن القصصي كما تقررت مبادئه في الأدب الأوربي، وينقصه شيء من الرقة حتى يستسغ الجمهور أسلوبه ويدرك مرامي شعره ولكنه ولا شك كانت محاولة طيبة من جهة محافظة ما كان ينتظر أن تجدد كل هذا التجديد2.
وجاء شوقي بعد ذلك فقفز بالشعر المسرحي قفزوة بارعة في أخريات أيامه، وإن كانت أولى محاولاته في هذا النوع ترجع إلى أيام دراسته بباريس من سنة 1887- 1891 فاختار مأساة علي بك الكبير موضوعًا لمسرحية شعرية ولكن يظهر أن وسائل التأليف المسرحي لم تكن قد تهيأت له، ولم يجرؤ على أن يتصرف في وقائع التاريخ ليخرج مأساة قوية فجمد إزءها، ولذلك جاءت الرواية متهافتة لا تبشر بمستقبل باسم فيه هذا الميدان.
وحاول شوقي محاولة أخرى في تلك الحقبة، إذ نظم مسرحية قمبيز، ولكنها كانت كسابقتها تهافتًا وضعفًا، فأدرك أنه لم يتهيأ لهذا النوع فأقلع عنه ردحًا طويلًا من الزمن حتى عاد إليه في آخريات حياته بعد أن انتقده مكوموه سنة 1927 على إهماله هذا الباب في شعره فأخرج عدة مسرحيات قوية وهي: مصرع كليو باترا، ومجنون ليلى، وعنتر، وأعاد النظر في قمبير، وعلي بك الكبير وأخرجهما كذلك. وفتح شوقي الباب على مصراعيه بهذه التمثيليات الشعرية لمن أتى بعده.
1 هي مسرحيات: حرب الوردتين، ويوسف بن يعقوب. وبروتس أيام تروكين الظالم وبروتس أيام يوليوس قيصر. ومقتل هيرودس لوالديه؛ ونلاحظ أن معظمها بعيدة عن البيئة التاريخية العربية.
2 تجد دراسة وافية للمسرحية الشعرية وتطورها في الآدب العربي مع نماذج وافية في كتابنا "المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها".
ومن العجيب أن دعاة التجديد في مصر أمثال مطران، والعقاد وشكري والمازني، لم يجرءوا على اقتحام هذا الميدان كما فعل شوقي، ولكن ظهرت بعده طائفة من الشعراء ترسموا خطاه في المسرحية الشعرية منها "قيس ولبنى" و"العباسة" و"عبد الرحمن الناصر" واتجه أخيرًا إلى المسرحيات الاجتماعية الشعرية كمسرحية "أوراق الخريف".
وبين شوقي وعزيز أباظة كثير من أوجه الشبه فكل منهما عاش عيشة مترفة، من بيئة ثرية، تضطرب في محيط الطبقة العليا من الشعب، وكل منهما قد عكف في أول أمره على الشعر الغنائي، وإن كان شوقي أوسع أفقًا، وأطول باعًا، وأبرع قصيدًا، وأغزر معنى، وأسمى عبارة، وأحكم صياغة، وأكثر تجديدًا على أن أباظة كان أغزر عبرة وأغنى عاطفة في ديانه "أنات حاذرة" الذي سفح فيه دموعًا تنطق بوفائه لزوجه بعد وفاتها، وثمة فرق آخر: وهو أن عزيز أباظة قد أفاد من تجربة شوقي المسرحية فحاول جهده أن يتجنب ما وقع فيه من أخطاء، كما أنه احتك كثيرًا برجال المسرح فرعف أصوله وقواعده. ومن الشعراء الذين ترسموا خطى شوقي كذلك محمود غنيم وله "المروءة المقنعة" و"غرام يزيد" ومنهم على عبد العظيم وقد ظهرت له "ولادة" وأحمد باكثير وله "قصر الهودج".
كانت موضوعات مسرحيات شوقي من التاريخ، ولم ينظم مسرحية اجتماعية، ولم يبلغ فنه القصصي غايته فيما نظم؛ لأنه كان متأثرًا بالمسرح الغنائي، لا المسرح التحليلي، ولكن حسبه فضلًا أنه سد الثغرة في الأدب العربي، وأتى بما لم يستطعه سواه من معاصريه.
أما معاني الشعر الحديث وخيالاته وصوره، فما لا شك فيه أن شعراءنا قد- تأثروا بقراءتهم للأدب العربي القديم حتى استقام أسلوبهم وتملكوا ناصية البيان، ووعت عقولهم مئات من الصور والمعاني القديمة أرادوا أو لم يريدوا وظهر أثر هذا في شعرهم، ولكنهم أضافوا إليها كثيرًا مما قرءوه في الأدب الغربي إما
مباشرة أو عن طريق الترجمة، وقد اهتموا بالمعنى اهتمامًا بالغًا، وآثره كثير منهم على الصياغة، ومن الشعراء الذين جددوا في المعاني حق التجديد: الرافعي، ومطران، وشعراء المدرسة المصرية الذين تأثروا بالأدب الإنجليزي مثل شكري والمازني والعقاد وأبي شادي، وإن كان أكثر الجديد في شعرهم اقتباسًا من الشعر الغربي، ثم شوقي في بعض قصائده الممتازة.
لقد أصبح من الضروري لكل شاعر في عصرنا الحديث أن يتزود من ينابيع الثقافة المختلفة: من ينبوع الثقافة العربية ليستقيم أسلوبه، ويعرف تاريخه وعقيدته، ومواطن الفخر والمجد في أيام سؤدد وطنه، وحتى لا يقع في أخطاء فاحشة تزري به، وتسقط منزلته سواء أكانت أخطاء لغوية أو تاريخية أو دينية، ومن ينبوع الثقافة الأوربية الغربية التي تمكنه من مجاراة الحضارة الحديثة، والاطلاع على خير ما ابتكره الذهن الغربي في الأدب وعلم الاجتماع، وعلم النفس والتاريخ الحديث والقديم، وكثير غيرها من العلوم التي لا يجد مندوحة من الاطلاع عليها؛ لأن القصيدة الغنائية لم تعد وحدها هدف الشعر في العصر الحديث، فثمة القصة والمسرحية، وكلاهما في حاجة إلى دراسة طويلة في علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ لما يتطلبان من تحليل وتصور لمختلف الشخصيات.
لقد عاب بعض النقاد على شعرائنا كسلهم العقلي؛ لأنهم اكتفوا بعنايتهم الفائقة بأسلوبهم دون أفكارهم ومعانيهم، فوقعوا في أخطاء فاحشة، ولقد ضرب الدكتور طه حسين على ذلك مثلًا ما قاله حافظ وشوقي1 ونسيم في مترجم أرسطو أحمد لطفي السيد، وكيف أنهم قد عرضوا لذكر أرسطو ومدحه والإشادة بآثاره وسلطانه على الأجيال وهم لا يكادون يعرفون من أمره شيئًا، ويجهلون كتاب الأخلاق الذي ترجمه أحمد لطفي السيد.
والمعاني لا شك تأتي من كثرة الاطلاع، والتزود من تجارب الآخرين، وصدق النظرة في الحياة، كما تأتي مبتكرة من نتاج الفكر الخالص عند العباقرة.
1 حافظ وشوقي ص118- 119.
وليس من الضروري أن تكون الحقائق جديدة مبتكرة، بل إن في استطاعة الشاعر الملهم المقتدر أن يخلع من فيض عبقريته على الحقائق القديمة المألوفة التي تتخطاها الأذهان، ولا تفطن لها بساطتها وتفاهتها فيجعلها متألفة قوية، وتدب فيها الحياة؛ لمقدرته وبراعته في انتقاء الألفاظ المعبرة وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا مثل وردسورث -الذي فتن به بعض شعرائنا- يحتل تلك المكانة الممتازة في الأدب الإنجليزي وقد قال "دي كوينسي" في شعره:"إن الأديب الذي سيخلد على الأيام هو الذي يحير الناس بحقائق منتزعة من ينابيع جديدة كل الجدة -حقائق لم تر وجه الشمس ولذا فهي غامضة لا تدرك- بل هو الذي يبعث وجوهًا قديمة للحقيقة طال إغفاؤها في الذهن إلى انتباه مشع1". إن العبرة بالنظرة التي يرى بها الشاعر الحقيقة والعاطفة التي يتقبلها بها، ويسبغها عليها2.
قد يرى الشاعر ما يرى الناس، ويحس ما يحسون، ولكنه يراه أوضح مما يرون، ويحس به إحساسًا أعمق مما يحسون، ويتصروه في مناظر جديدة لم تخطر لهم ببال، ثم يعبر عنه بطريقته هو تعبيرًا قويًّا يجعله في نظر الناس شيئًا جديدًا. وهذا هو سر العبقرية.
إن العناية بالمعاني وتنوعها وتجددها تجعل الشعر مفيدًا، غير تافه، ولكن الإسراف في ذلك يفسد الشعر لأنه يحمله ما لا يحتمل، ويجعله أقرب إلى فنون العلوم؛ لكثرة ما يحتوي عليه من حقائق جافة، منه إلى الشعر الذي يهز العاطفة، ولما يحتاج المرء في فهمه إلى كد الذهن، وإنعام النظر، والشعر إذا زاد فيه الفكر والعلم ذهب رواؤه، وقل بهاؤه، ولم تعد له تلك الميزة التي تفصل بينه وبين النثر؛ لأن الشعر لغة الانفعال، إن الشعر في الأصل معان يريدها الشاعر، وهذه المعاني ليست إلا أفكارًا عامة يشترك في معرفتها كثير من الناس. وإنما تصير هذه المعاني شعرًا حين يعرضها الشاعر في معرض من فنه وخياله وأدائه فيجدد هذه المعاني تجديدًا ينقلها من المعرفة إلى التأثر بالمعرفة ومن إدراك المعنى
1 راجع الفقرة التاسعة من De Qinncey's on Wordsworth's Poetry
2فنون الأدب تأليف هـ -ب- تشارلتن وتعريب زكي نجيب محمود.
إلى التأثر بالمعنى ومن فهم الحقيقة إلى الاهتداء للحقيقة، فالشعور والتأثر والاهتداء هي أصل الشعر ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها إلا كلامًا كسائر الكلام ليس له إلا فضل الوزن والقافية مثال ذلك قول العقاد في الحب:
ما الحب روح واحد
…
في جسدي معتنقين
الحب روحان معًا
…
كلاهما في جسدين
ما انتهيا من فرقة
…
أو رجعة طرفة عين
وإذا وازنا بين هذه الأبيات وبين أبيات مطران التي يقول فيها عن الحب:
أليس الهوى روح هذا الوجود
…
كما شاءت الحكمة الفاطرة
فيجتمع الجوهر المستدق
…
بآخر بينهما آصرة
ويحتضن الترب حب البذار
…
فيرجعه جنة زاهره
وهذي النجوم أليست كدر
…
طواف على أبحر زاجره
يقيدها الحب بعضًا لبعض
…
وكل إلى صنوها صائره
تبين لنا الفرق بين من يلبس المعنى الطريف ثوبًا قشيبًا حين ينظر نظرة شاملة إلى الحياة وبين من يأتي بالحقيقة العارية ينظمها نظمًا غير شعري.
ومن الغزل الذي لا يصدر عن عاطفة ولا عن فكرة قول العقاد كذلك:
زرقة عينيك لا صفاء
…
فيها ولكنه قضاء
حمرة خديك لا حياء
…
فيها ولكنه اشتهاء
قوامك الرمح لا اعتدال
…
فيه ولكنه اعتداء
يا حيرة القلب في هواه
…
يا غاية العمر في مناه
وجهك سبحان من جلاه
…
ولوث النفس بالطلاء
وخير الشعر ما سلمت فيه الفكرة، ووضحت، دون أن يفقد مقومات الشعر الأصلية من خيال رائق، وعاطفة قوية، وصورة واضحة، وموسيقى عذبة.
ولكن الملاحظ أن الشعراء الذين حفلوا بالمعاني. وجعلوا همهم البحث عنها، والجري وراءها، واصطيادها أينما كانت كانوا أحد رجلين: إما شاعر معقد، مغرب؛ لأنه انتزع المعاني انتزاعًا من مواطن غير معهودة، وأتى بشيء لم يألفه الذهن، فهو غامض على السامع، وقد يكون غامضًا على الشاعر لأنه لم يدركه تمام الإدراك، أو لأنه لم يستطع التعبير عنه بوضوح لعدم جلائه في ذهنه، مثل أبي تمام، وأبي العلاء، والمتنبي أحيانًا، وإما شاعر ركيك العبارة، لا يعني بأسلوبه، إذ جعل همه الأولى إبراز المعنى كاملًا بأي أسلوب وأي عبارة تهيأت. وأدت ما أراد، وهذا هو الغالب على شعراء المعاني في عصرنا، فكثيرًا ما ترى المعنى جميلًا بديعًا، ولكن العبارة التي أدى بها تذهب بجماله، وتضعفه فلا تستسيغه الأذن ولا يتقبله العقل وقد غاب عن هؤلاء أن الروائع في الأدب العربي والأدب الغربي لم تخلد لما فيها من معانٍ فحسب، ولكن خلدها جمال الأسلوب ولولا ذلك ما رواها الرواة وعنى بها المتأدبون؛ فالأدب فن، وكل فن فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة على التخير والانتقاء، وناحية الصنعة، فليس يكفي في العبارة أن تنقل إلينا المعنى؛ لأن المراد في الأدب ليس المعرفة وتقرير الحقائق، وإنما نقلها مشفوعة بلذة، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت العبارة مصوغة صياغة فنية خاصة.
ثم إن التعبير الجميل هو الذي يميز كلام الأديب من كلام الناس "إن هؤلاء الذين يزدرون الجمال اللفظي مصابون بشذوذ في الفكر أو سقم في الذوق أو عجز عن الكمال، وإلا فكيف نعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون على تنميق الكلام ويدعون أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام والتأنق في الملبس، وتزويق المسكن، والغرض منها الغذاء والوقاء؟ إذا كان أحدهم لا يجب أن يلبس الثوب المرقع ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة، والفقر المنسقة، والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة1.
1 أحمد الزيات: الدفاع عن البلاغة.
إذا عبر الشاعر عن انفعاله مباشرة من غير أن يسيطر الفكر عليه، ويجتهد في حشوه بالحقائق جاء كلامه حلوًا، وعباراته موسيقية طبيعية.
ومن الأمور التي يراعيها الشعراء في العصر الحديث تسلسل المعاني، وارتباطها بعضها ببعض، وعدم تنافرها، فالقصيدة صارت وحدة، وبناء متماسكًا، ولم يعد البيت المفرد هو وحدة القصيدة كما كانت الحال عند العرب، ولقد وضحت الفرق بين الطريقتين في غير هذا الكتاب، وبينت ميزة كل طريقة1.
والمعاني تتفاوت من حيث ابتذالها، وشيوع استعمالها، ومن حيث أنها تقليد ونقل عن معانٍ سبقتها، ومن حيث أنها مبتكرة جديدة. أما المعاني المبتذلة، فهي المألوفة المتداولة بين الخاصة والعامة، كقول الشاعر مثلًا: والأرض فيها الماء والأشجار، فهذه من البديهيات المتداولة وأما التقليد فبابه واسع، وقد ألفت فيه قديمًا كتب عدة2: وتجد لشعرائنا المحدثين في هذا الباب كثيرًا من الشعر الذي نقلوا معانيه عن غيرهم. وقد مر بك في الجزء الأول عند كلامنا على البارودي كثير من هذه الأمثلة ومن هذا قول المتنبي يقصد سيف الدولة:
رمى واتق رميي ومن دون ما اتقى
…
هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
فجاء إسماعيل صبري فقال:
إذا خانني خل قديم وعقني
…
وفوقت يومًا في مقاتله سهمي
تعرض طيف الود بيني وبينه
…
فكسرت سهمي وانثنيت، ولم أرم
وأنت ترى إسماعيل صبري سار في إثر المتنبي، وقصر عنه، والمعنى الذي أورده المتنبي في بيت واحد قوي الديباجة، يأتي به صبري في بيتين ولم يوفه، وقد وقع شوقي، وصبري، وحافظ وغيرهم في هذه المؤاخذات3 ولا سيما في
1 راجع كتاب التابعة الذبياني للمؤلف ص53 وما بعده.
2 كالموازنة للآمدي. والوساطة بين المنفي وخصومه. والرسالة الحاتمية في اقتباسات المتنبي من أرسطو.
3 راجع ديوان للعقاد، وعلى السفود للرافعي، ومجلة أبولو سنة 1933 مقال عن معارضات شوقي.
القصائد التي عارضوا بها السابقين من الشعراء، وقد لوحظ أن شوقي يستطيع إذا دخل في دائرة شعره أن يتخلص من قبضته وسيطرته، وسنرى عند ترجمتنا في هذا الجزء لصبري مقدار ما أخذه من سواهن وكيف أن الابتكار لديه قليل.
والحق أن الابتكار في المعاني نادر، ولكن قد تهيأ لبعض شعرائنا شيء من هذا، ولا سيما مطران وشوقي، وسنرى عند الكلام عليهما إلى أي حد قلدوا، وإلى أي حد جددوا1.
هذا ومن الأمور التي يجب النظر إليها عند تقدير الشعراء، ومعرفة منزلتهم الأدبية بالنسبة لمعاصريهم، ولشعراء لغتهم في القديم والحديث ولشعراء العالم أجمع: مقدار ما وصل إليه خيالهم الشعري.
والخيال: هو وضع الأشياء في علاقات جديدة، وهو سمة من سمات بارزة من سمات الأسلوب الأدبي، لأنه يصور العاطفة أو ينقلها إلى السامع أو القارئ، ويبرز المعاني ويضفي عليها ثوبًا زاهيًا تخطر فيه فنتقبلها ونفهمها. ويلجأ إليه الأديب للإيضاح وحسن العرض وقوة الإبانة والتصوير؛ ويرى القارئ، والسامع الحقائق من ثنايا كل ذلك عن طريق خياله.
والخيال موهبة تنفذ بروح الأديب إلى أسرار الوجود، واكتناء الحقائق المستكنة وراء مظاهر الأشياء وتجعله يحلق طليقًا في أجواء وعوالم جديدة مليئة بالرؤى الجذابة والصور الخلابة والموسيقى الساحرة، وهذه الموهبة تتباين قوة وضعفًا وضيقًا واتساعًا، وغنى وفقرًا لدى الأدباء بحسب قدرتهم على استيعاب أسرار الحياة وهتك حجب المادة، والوصول إلى ينابيع الإلهام، وقدرة نفوسهم على التوليد والتفاعل مع الحياة وانعكاس اشعاعاتها.
1 إذا أردت المزيد من الكلام على المعنى وأثره في الشعر فأرجع إلى الكتب الآتية: الدراسة الأدبية لرئيف خوري، وأصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، ونقد الشعر لنسيب عازار.
وهو نوعان: ابتكاري، وتصويري أو تفسيري، والأول يظهر في تأليف مجموعة من العناصر المختزنة في الذهن في صورة مبتكرة يتحقق معها كيان خاص لها. والثاني يظهر في تصوير الأشياء على أساس إضافتها إلى أشياء أخرى تقويها وتظهرها، ويستعين الأديب على الضرب الثاني بفنون البديع والبيان من تشبيه واستعارة وكناية، وتمثيل وما إلى ذلك.
والخيال الابتكاري ضربان. خيال نافذ، يعين صاحبه على استحضار أطياف الماضي وتصوير حوادثها، وخيال خالق بجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ومن الضرب الأول الشعر التاريخي كقول شوقي:
كم مركب تتخايل الدنيا به
…
يجلي كما تجليا لنجوم وتنسق
"فرعون" فيه من الكتائب مقبل
…
كالسحب قرن الشمس منها مفتق
تعنو لعزته الوجوه ووجهه
…
للشمس في الآفاق عان مطرق
آبت من السفر البعيد جنوده
…
وأتته بالفتح السعيد الفيلق
ومشى الملوك مصفدين خدودهم
…
نعل لفرعون العظيم ونمرق
مملوكة أعناقهم ليمينه
…
يأبى فيضرب أو يمن فيعتق
أو كقوله في الهمزية التاريخية يصف ذل فرعون، وهزيمته أمام قمبيز:
جيء بالممالك العزيز ذليلًا
…
لم تزلزل فؤاده البأساء
يبصر الآل إذا يراح بهم في
…
موقف الذل عنوة ويجاء
بنت فرعون في السلاسل تمشي
…
أزعج الدهر عريها والحفاء
وأبوها العظيم ينظر لما
…
رديت مثلما تردي الإماء
أعطيت جرة وقيل إليك النهر
…
قومي كما تقوم النساء
فقد نفذ الشاعر بعين خياله إلى الماضي واستحضر ذلك المشهد ثم وضعه وصوره، وأما الخيال الخالق فهو الذي يجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ويبث الحياة في الجماد كقوله شوقي:
وقد صفى بردي للريح فابتردت
…
لدى ستور حواشيهن أفنان
ثم انثنت لم يزل عنها البلال لا
…
جفت من الماء أذيال وأردان
ومثل قطعة فنجان قهوة عند خليل مطران، فقد خلع شوقي على الريح الحياة ومثلها حية تبترد، كما خلع مطران على فنجان القهوة الحياة.
ومن ذلك قول مطران في وردة ماتت وهي ملكة الزهور وقد غطتها الأعشاب فراحت الفراشات تحوم حولها فيدور بينها وبين الشاعر هذا الحوار:
ما الذي تبغين من جوبك يا
…
شبهات الطير؟ قالت وأبانت
نحن آمال الصبا كانت لنا
…
ها هنا محبوبة عاشت وعانت
كانت الودرة في جنتنا
…
ملكت بالحق والجنة دانت
ما لبثنا أن رأيناها وقد
…
هبطت عن ذلك العرش وبانت
فترانا نتحرى أبدًا
…
إثرها أو نتلاقى حيث كانت
والخيال التصويري أو التفسيري يجيء من طريقتين: من القراءة في الأدب أو من التجارب الشخصية، ويتمثل في التشابيه والاستعارات والكنايات، والخيال بعامة قد يكون حسيًّا، وقد يكون معنويًّا، ومعظم الخيال التصويري خيال حسي، ومعظم الخيال الابتكاري خيال معنوي1.
نظر النقاد الغربيون عند معرفة المنزلة التي يحتلها الشاعر من الشعراء إلى كل هذا: إلى الغرض، وإلى اللغة التي أدى بها، وإلى المعنى أو الفكرة ومقدار ما هي عليه من جدة أو تقليد أو ابتذال وما هي عليه من الصدق الأدبي، أو الكذب، ثم نظروا إلى الخيال وإلى العاطفة وصدقها.
وهم على هذا الأساس قسموا الشعراء إلى ثلاثة أنواع: شاعر بسيط الشخصية يعكس الحياة في صورة بسيطة، وليس لشخصيته جوانب متعددة، وبذا تنعكس الحياة من مرآة نفسه على دائرة ضيقة من الفكر والخيال.
1 ارجع في الاستزادة من الكلام عن الخيال إلى: أصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، وإلى دراسات في علم النفس الأدبي للأستاذ حامد عبد القادر، وإلى كتاب إسماعيل أدهم عن مطران ص145 وما بعدها وإلى - i.a. rich ards في كتابه principles of literary criticism
وشاعر مركب الشخصية، يمثلون شخصيته بمنشور ذي أضلاع وجوانب متعددة، تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال، وتدخل في وجهات مختلفة، وتأخذ صورًا متعددة.
وشاعر معقد الشخصية له بجانب شخصيته الخارجية شخصيات، معقدة في ذاتها، تعكس الحياة في صور متنوعة وبذلك تستطيع نفسه أن تعكس المأساة الفنية للحياة في صور غنية قوية زاخرة.
وقد قسموا الشعراء بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام: فعدوا ممن النوع الأول البسيط الشخصية الشعراء الوجدانيين، الذين يتغنون بالحياة أو الطبيعة بالنسبة إلى نفوسهم، وشعورهم إزاءها، فتجيء الحياة من نفوسهم نغمة واحدة من وتر واحد هو الذي تتألف منه نفسيتهم وهو عادة يشغلون بعواطفهم الداخلية عن النظر في أعماق الحياة التي تكتنفهم فلا يتكلمون إلا عن آلامهم وأفراحهم ومخاوفهم ومطامحهم.
وعدوا من النوع الثاني الشعراء القاصي، والحياة تأخذ في نفوسهم نغمات متنوعة وإن كانت خارجة من وتر واحد، ولا تشغلهم عواطفهم الداخلية عن العطف على الحياة المحيطة بهم، وذلك يرجع إلى أنهم أصحاب خيال واسع عميق، ونظراتهم وإن كانت تعطف على الحياة إلا أنها لا تذهب إلى درجة الشمول والنظر إلى الكون جملة، وإلى مجموع البشرية مرة واحدة في جميع الحالات التي تلابسها؛ لأن الحياة والوجود متركزان في ذاتهم وذاتهم كمنشور يعكس عدة أشكال. ولكن مصدرها واحد، ويعجز عن عكس شخصية جديدة. وشعرهم عادة ذاتي لا يستطيعون التخلص من أثرتهم، ويدخل تحت الشعر الذاتي أحاسيس الإنسان وانفعالاته وطربه، وميوله، وأحكامه التي تقوم على اعتبارات ذاتية.
وعدوا من النوع الثالث الشعراء الذين يستطيعون خلق شخصيات لم تكن، وتصوير الحياة في جميع الأوضاع والملابسات، وهم الذين برعوا في الشعرا لتمثيلي، وأتوا بنماذج خالدة، واستطاعوا أن يصلوا إلى أعماق أي نفس
إنسانية، وإن يترجموا، عنها، وشعرهم في الغالب موضوعي1، والموضوعي يدخل تحته صفات الشيء أو الموضوع الخارجي، والآراء التي تقوم على اعتبارات خارجية، والأحكام التي تبنى على المشاهد المحسوس، وعلى مقتضيات المنطق لا على الذوق والميل الشخصي2.
هذه بعض الأمور التي يراعيها مؤرخو الأدب والنقاد المحدثون عند تقسيمهم للشعراء ووضعهم في منازلهم من موكب الأدب.
وسنراعي عند كلامنا على شعراء مصر بعد البارودي كل هذه الاعتبارات، وننظر إليهم بمنظار النقد الحديث، ونعرف إلى أي حد أضافوا إلى تراث العالم الأدبي جديدًا من فيض شاعريتهم.
وسنبدأ بشعراء المدرسة التقليدية الحديثة التي نهجت منهج الشعر العربي القديم في أغراضه وأسلوبه وتشبيهاته واستعارته ونهجت نهج البارودي، ثم بشعراء المدرسة التي أخذت بحظ من الجديد، ثم شعراء المدرسة المجددة المعتدلة التي لم تخرج على قواعد اللغة، ثم الشعراء المجددين المتطرفين في التجديد الذين ثاروا على الشعر العربي في كل شيء.
1 راجع. ENCYELOPEDA BRITANICA N. 13 في مادة POETRY وراجع كذلك الدكتور أدهم عن مطران ص129-130 ونسيب عازار في نقد الشعر ص32-40، وكلاهما قد لخص المادة الموجودة بدائرة المعارف البريطانية ولكنها جاءت غير واضحة.
2 راجع من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده للأستاذ محمد خلف الله ص35- وأحمد الشايب ص138-142.