المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الطبعة الأولى - في الأدب الحديث - جـ ٢

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌مقدمة الطبعة الأولى

‌المجلد الثاني

‌مقدمات

‌مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

مقدمة الطبعة الأولى:

إن الحقبة التي نؤرخ لها في هذا الجزء من كتاب "الأدب الحديث" حقبة غنية بمن ظهر فيها من الأدباء والكتاب والشعراء، وفيها عظم اتصال الشرق بالغرب، وكثر النقل والتعريب من الأدب الغربي نثرًا وشعرًا. وزادت المدارس الأجنبية على اختلاف لغاتها بمصر، وعظم نفوذ الإنجليز بها إبان الاحتلال، وفرضوا لغتهم على المدارس فحذقها التلاميذ، وعرفوا كثيرًا من آثارها الأدبية.

وأتت نهضة مصر في القرن التاسع عشر بعض ثمارها الشهية، فكثر المطبوع والمقروء من الأدب العربي، وتنبه الناس بمصر إلى أن ثمة آدابًا أرقى معًا عرفوا في مستهل ذلك القرن. وقد ضرب البارودي نموذجًا حيًّا قويًّا بمحاكاته لأساليب فحول شعراء العربية. ونهض جمال الدين الأفغاني وتلاميذه: محمد عبده، وسعد زغلول، وعبد الله نديم، واللقاني، والمويلحي بالنثر نهضة قوية، وحرروه من قيوده التي كبل بها طويلًا، وسخروه لخدمة المجتمع المصري.

وأذكى الاحتلال الإنجليزي، وما جلبه من ذله وبغي نار الحماسة الوطنية في قلوب الصفوة الممتازة من أبناء الأمة، فشنوها حربًا شعواء لا هوادة فيها على المستعر الغاصب، وكان عمادهم الخطابة الصريحة الجريئة، والكتابة الملتهبة القوية، يقودهم مصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وعلي يوسف، وأضرابهم، على المنابر تارة، وفي الصحف تارة أخرى.

ص: 3

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، واصطلى العالم بسعيرها أربع سنوات كاملة، وما أن وضعت الحرب أوزارها، واستراح الناس من ويلاتها، حتى هبت الشعوب المغلوبة تطالب بحقوقها في ثورات عنيفة بمصر وأيرلندا وغيرهما؛ وخلفت الحرب آثارًا كثيرة بمصر تتمثل في الغلاء الذي يرزح تحت وطأته جمهرة بنيها، وفي شدة الإقبال على المدينة الغربية بخيرها وشرها، وفي نضج الفكرة القومية وتحديد أهداف البلاد.. إلى آخر ما هنالك من آثار كان لها في الأدب شأن عظيم.

ومن العسير علينا أن نلم في هذا الجزء بكل ألوان الأدب شعرًا ونثرًا، بجميع البلاد العربية، فالدراسة المنتجة هي التي تتناول موضوعًا خاصًّا، في بلد بعينه، وتوفيه حقه من البحث، وقد آثرت أن أقصر هذا الجزء على:"الشعر بمصر بعد البارودي".

وموضوع الشعر بمصر ليس موضوعًا هينًا، فمنذ أن ظهر البارودي بزعامته القوية، ومصر توقد الطريق في هذا الميدان، ويتلقف الراية شاعر بعد شاعر، ويتباين تأثرهم بالثقافة الغربية قوة وضعفًا، كما يتباين حظهم في تقليد الأدب العربي القديم؛ ولذلك تعددت مدارسهم، وتنوعت موضوعاتهم، وغزر نتائجهم. وصار الدارس للشعر في العصر الحديث لا يجد أمامه مندوحة من العكوف على بيئة خاصة، ويتعرف فيها على التيارات المختلفة التي أثرت في الشعر وعملت على تعدد مذاهبه وألوانه، وبذلك يكون قد أدى بعض ما يجب عليه نحو عصره وبيئته.

وإذا كنت قد اكتفيت بالكلام على الشعر في مصر بعد البارودي. فليس ذلك إهمالًا أو إغفالًا لشعراء العربية في الأقطار الشقيقة، وقد نبغ منهم فحول زينوا عصرهم وخلدوا أسماءهم، ورفعوا ذكر بلادهم من أمثال: الزهاوي، والرصافي، والشبيني بالعراق، وبشارة الخوري، وشبلي الملاط، وإلياس أبي شبكة، وأنور العطار، وعمر أبي ريشة، وسعيد عقل بسوريا ولبنان.

ولكن التعرض لشعراء العربية في مخلتف بيئاتهم إن تيسر لنا أداؤه فلن يكون ذلك دفعة واحدة وفي كتاب واحد، وإلا جاء ناقصًا مبتورًا لا قيمة له، ولا

ص: 4

جدوى منه؛ إذ سيكون عرضًا خاطفًا لا عمق فيه، ولا تحليل ولا موازنة. وليس ذلك هدفنا من دراسة الأدب الحديث. بل إننا نقصد إلى تحديد معالمه، وتعرف مدارسه والفحص عن العوامل المتباينة التي شكلته وألهمته وأثرت فيه، ولا يتأتى هذا إلا بالتخصص في الدراسة، ولا سيما إذا شفعت بتراجم وافية لكبار الشعراء.

ولذلك رأيت من الخير لنفسي وللأدب الحديث أن أتكلم عن الشعر في مصر، ولعل من أبناء العروبة من يتطوع لدراسة الشعر في العراق، وآخر في الشام، فيعطينا فكرة قوية واضحة، وبحثًا مستفيضًا عن بيئته ومجتمعه وألوان الشعر ثمة. فالبلاد العربية على الرغم من اتحاد اللغة والاشتراك في الأمال والأماني والتاريخ والدين تتباين في كثير من الأمور: في طبيعة أرضها واختلاف مناظرها، والعوامل السياسية والاقتصادية التي طرأت عليها، وحظها من الاتصال بالحضارة الغربية، ونهضتها التعليمية والأدبية، وفي مجتمعاتها. إلى غير ذلك وليس الأدب إلا صورة من البيئة التي نبت فيها، وأوحت به، ولو كان أدبًا عالميًا تنجذب إليه كل نفس، ويهفو إليه كل عقل.

وإذا كنت قد سلكت في الجزء الأول من "الأدب الحديث" غير هذه الطريق؛ فذلك لأن جمهرة الأدباء من شعراء وكتاب كانوا من أتباع المدرسة التقليدية ولم يتميز أحدهم عن الآخر إلا في الأداء، وقد تشابهوا موضوعًا وصورًا. وليس الحال كذلك اليوم بعد أن خطونا في نهضتنا شوطًا طويلًا، وعظم اتصالنا بالثقافة الغربية والأخذ منها.

ورأيت لزامًا عليّ قبل أن أخوض في موضوع الشعر أن ألقي نظرة فاصحة إلى المجتمع المصري، ومدى تأثره بالثقافة الغربية التي وفدت إلينا وتأثرنا بها، من إبداعية "رومانتيكية"، وواقعية رمزية وسواها. وخصائص كل مدرسة في الأدب الغربي، وكيف طبقها شعراؤنا على أدبنا، وإلى أي حد اقتبسوا منها: ومدى تمسكهم بالأدب العربي القديم أسلوبًا، وقالبًا، وموضوعًا.

ثم أتحدث بعد هذا عن المدارس الشعرية في مصر: من محافظة مقلدة ومجددة محترسة في تجديدها تجمع بين القديم والجديد، إلى مجددة متبرمة

ص: 5

بالأدب القديم، إلى أخرى ثائرة غارقة في التجديد، خارجة على كل ما يمت إلى القديم بصلة.

وهذا يتطلب مني الترجمة لكبار شعراء كل مدرسة، ودراسة آثارهم، ومعرفة خصائصهم، وهو عمل ضخم أرجو الله أن يعينني على إنجازه وإتقانه.

لقد نقد النقاد المفكرون بمصر الشعر، وتكلموا عنه، ووجهوا الشعراء إلى ما يريدون وقد استجاب بعضهم للنقد والتوجيه، واستعصى آخرون عليهم. وظهرت تراجم موجزة لكبار الشعراء، ولكنها تسير على المنهج القديم في البحث، لا تنفذ إلى المؤثرات العامة والخاصة في حياة الشاعر، وتتعرف على مزاجه الأدبي، وألوان ثقافته، وتدرس آثاره دراسة مستفيضة. وكتبت مقالات مبتورة عن المدارس الأدبية الغربية، ولكنها الغربية، ولكنها لم تتعرض للشعر المصري وإلى أي حد تتلمذ على هذه المدارس.

وربما كان كتاب الدكتور إسماعيل أدهم عن خليل مطران أول كتاب يتعرض لشاعر معاصر على طريقة علمية صحيحة. ولكن أسلوب الدكتور أدهم أسلوب فيه بعض الغموض؛ لأنه غريب عن العربية، وطريقته في البحث قد جنحت إلى الحقائق العلمية الجافة، وطبق في كتابه المنهج العلمي أكثر مما يجب، فجاء الكتاب محدود الفائدة. ثم إنه ترجمة لشاعر واحد وإن كان شيخ المجددين بمصر.

ولم يظهر حتى اليوم كتاب يضم أشتات هذا الموضوع، ولذا أشعر بضخامة هذه الدراسة، وصعوبتها وأرجو أن أوفق في بحثي هنا، وأقدم للمكتبة العربية ما تسد به ذلك النقص. ولست أزعم أني في هذا الجزء سأوفي الموضوع كل حقه، وأترجم ترجمات مسهبة لكل شاعر، فذلك فوق ما أطيق، ويطيقه هذا الجزء ذو الصفحات المحدودة مهما كثرت، ولهذا اقتصرت فيه على تبيان المؤثرات العامة في الشعر بعد البارودي وعلى بعض رجال المدرسة التقليدية.

وأعترف أن ما قدمته ليس إلا محاولة لدراسة الشعر في العصر الحديث على طريقة علمية، تحتاج فيما بعد من الدرس والتمحيص وأن بها قصورًا كثيرًا

ص: 6

عن الغاية التي أصبوا إليها، ولذلك أتقدم بالمعذرة للقراء سلفًا: راجيًا أن يكون منهم من هو أشد مني مُنة، وأقوى براعًا، وأطول باعًا، وأوفى دراسة، وأنفذ بصيرة فيكمل هذا النقص ويوفي الموضوع حقه من البحث، والله هو الموفق للصواب.

عمر الدسوقي

ص: 7