الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: المدرسة التقليدية
مدخل
…
الفصل الخامس: المدرسة التقليدية
عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية، وينهض به نهضة قارعة تخطت عدة قرون إلى الخلف حتى رجعت إلى عهود القوة والنضارة، ومتجنبة الزخرف والطلاء الغث، والركاكة، وضحالة المعاني، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. ثم نهضت البلاد نهضات قوية في التعليم وإحياء التراث العربي القديم، وأخذت المطبعة تزود المتأدبين بنفائس الأدب العربي في أبهى عصوره كما عرفت آنفًا.
وكان من الطبيعي أن يحذوا الشعراء الذين جاءوا بعد البارودي حذوه في أول الأمر، ولا سيما هؤلاء الذين لم يتزودوا بثقافة غربية، أو عرفوها وثقفوها ولم يكن لهم تلك الطبيعة الثائرة، أو القوة على ابتداع مذهب جديد في الأدب، ولم يروا نموذجًا إبداعيًّا يحاكونه، فحافظوا على المذهب الذي عرفوه، وأجادوه.
لقد قلدوا الشعر العربي القديم في أوج عزته كما فعل البارودي، ولم يلتفتوا إلا نادرًا لما تخلف عن عصور الضعف من حلى وزخارف ومحسنات، وتاريخ شعري.
وأهم خصائص تلك المدرسة التقليدية الحديثة متانة الأسلوب، والعناية به عناية فائقة فقلما تجد خروجًا على قواعد اللغة، أو خطأ، أو ركاكة وإنما تجد شعرًا مصقولًا متينًا، مشرق الديباجة. تجد هذا عند صبري، وعند حافظ، وعند عبد المطلب، وعند البكري، والجارم، ومحرم، والكاشف، ونسيم ومن على شاكلتهم، على اختلاف بينهم في تقليدهم الشعراء الأقدمين الذين تأثروا بهم، فمنهم من راقه شعراء العصرالعباسي والشعر في ازدهاره، فقلدوا أبا نواس والبحتري وأبا العلاء، وابن الرومي، وعارضوهم في قصائدهم ونسجوا على منوال أسلوبهم: جزالة في رقة الحضارة وعذوبة المدينة القديمة، وولع بالتشبيهات والاستعارات وأنواع المجاز، ومنهم من رجع إلى الخلف أكثر من هذا فتوعر قليلًا وحاكى شعراء العصر الأموي، أو الجاهلي، وجاء شعره بدوي النسج، متين التركيب، عليه سيما الفتوة العربية قبل أن ترققها الحضارة، مثل عبد المطلب.
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروى الواجد والقافية الواحدة، والوزن الواحد، وكثيرًا ما ابتدءوا تلك القصيدة بالنسيب كما كان يفعل شعراء العرب الأقدمون، أو تركوا النسيب كما فعل ذلك من قبلهم بعض شعراء العصر العباسي حيث بدءوا بالغرض من غير تلك المقدمة الموروثة عن الجاهلية. على أن القصيدة الحديثة لا تختلف عن القديمة في تعدد عناصرها، فلم ينظروا إليها نظرتهم إلى بناء متماسك الأجزاء أو كائن حي، إلا قليلًا حين وضعوها في الأسلوب القصصي كما ترى ذلك عند حافظ وعبد المطلب أحيانًا، ولكن الغلب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت -كما كان من قبل- وحدة القصيدة، ويجوز فيها التغيير والتبديل من غير إخلال بالمعنى. وقليل منهم من جرؤ على استخدام الموشحات أو ما يشابهها.
ومن خصائص تلك المدرسة كذلك أن موضوعات شعرهم قلما طرأ عليها تجديد، اللهم إلا ما تقتضيه خصائص العصر العامة فأغلبهم كان مداحًا، يمدح الخليفة. وإن لم يعرفه أو تكن بينه وبينه صلة، أو ثمة أمل في أن يعرفه، ويمدح الأمير وحاشيته، ويغير ولاءه كلما تغيرت الوجوه الحاكمة من غير تحرج أو تردد؛ لأنه لم يكن ينظر إلى المدح نظرتنا له اليوم؛ لأن الاهتمام بالشعب لم يكن قد بلغ غايته، فكان الأمير هو المحور الذي يدورون حوله. مثهلم في ذلك الأدباء الإنجليزي والفرنسيين قبل أن تظهر الحركة "الرومانتيكية"1.
وقد صرفهم المديح كما صرف أسلافهم العرب من قبل عن الاهتمام بالطبيعة، وبالحياة الإنسانية، وإن التفتوا في أخريات زمانهم، نظرًا لتطور الحياة في مصر إلى بعض ذلك وإلى الشعب وآماله، ولكنهم على كل حال كانوا ينظرون من خلال ذاتهم ومقدار تأثرهم بالأحداث المحيطة بهم، فلم يكن شعرهم في الشعب موضوعيًّا.
1 كتب الحركة الرومانتيكية في أوائل القرن التاسع عشر ثورة على تلك التقاليد، فمن أدباء الإنجليز في القرن الثامن عشر الذين مثلوا تلك المدرسة التقليدية وعنوا بالأسلوب، ولم يتلفتوا للطبيعة وجعلوا للشعر ألفاظًا خاصة به، درايدون وبوب، وتومسون وغيرهم، وكلهم كان شاعر بلاط يغرم بالمديح، ويتملق الحاشية راجع MODERN ENGLISH LITERATURE ص135 وما بعدها لـ. G. H. MAIR AND A.G. WORD
وكانوا يهتمون بالطبقة الراقية من الأمة، فيمدخون أعلامها، ويرثون عظماءها، ويتبادلون وإياهم الرسائل الإخوانية.
وقد وصفوا بعض الأشياء، ولكنهم قلما أفردوا للوصف قصائد بذاتها، وأهمل أكثرهم الطبيعة المصرية، أو قال فيها الشيء القليل، ونظرة عابرة من غير أن يقف طويلًا، على الرغم من تنبه الشعور الوطني والإحساس القومي في أخريات عهودهم.
وتراهم يحاولون التجديد في الموضوعات، وكأن لديهم عقدة نقص يحاولون إخفاءها، فيكثرون من الكلام على البخار، والطيارة وغيرهما، ليثبتوا أنهم يجارون عصرهم، والحضارة التي يتمتعون بها.
وقد تخلف عند بعضهم شيء من الأغراض التي قضت عليها حركة التجديد، فترى الهجاء الشخصي والاجتماعي كما عند صبري، وترى الفخر كما عند عبد المطلب، وعلى العموم فدائرة الشعر لديهم ضيقة، وموضوعاتهم محدودة، وإن أفاضوا في الشعر السياسي والاجتماعي متأثرين بالحركات القومية التي لم يجدوا بدًّا من أن يتأثروا بها.
أما معانيهم فليس فيها جديد إلا النادر كما ترى ذلك عند توفيق البكري، ومعظمها مأخوذة من الأدب العربي القديم، أو من المعاني المتداولة، وخيالهم تصويري مبني على الاستعارة والتشبيه والمجاز، بل كثيرًا ما تكون تشبيهاتهم غير مجارية لزمانهم أو بيئتهم، وإنما نهجوا فيها نهج العرب الأقدمين، متأثرين بالقوالب المحفوظة، والعبارات المتداولة.
كان أغلبهم متزمتًا، جادًّا في حياته، وإذا تغزل عف ولم يفحش، وفي أدبهم تكثر الحكمة والموعظة والإرشاد، فهم يجعلون للشعر غاية يهدف إليها، ولم يعرفوا معنى "الفن للفن".
وبعد، فهذه أهم خصائص تلك المدرسة، على أن هذه الخصائص المشتركة بين شعرائها تختلف قوة وضعفًا أو وجودًا وعدمًا في بعض الشعراء عن بعض،
مع ميل في بعضهم إلى التجديد بحذر، أو نفور منه البتة، وستتضح تلك الميزات حينما ندرس شعراء تلك المدرسة.
ولا أستطيع أن أحصي كل شعراء المدرسة التقليدية، أو أترجم لهم جميعًا، فإن ذلك يحتاج إلى موسوعة أدبية كبيرة، وإنما سأترجم لنماذج منهم؛ لأن مجال هذا الجزء أضيق من أن يتسع لهم جميعًا.
على أن أترجم للبقية الباقية منهم في الجزء الثالث إن شاء الله.