الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد عبد المطلب:
وهاك شاعر آخر من شعراء المدرسة المحافظة على منهج العرب الأقدمين في شعرهم، يتميز عن إسماعيل صبري بعراقته في الدراسة العربية والدينية، وبأنه لم يتصل بالثقافة الغربية إلا عن طريق ما ترجم من الكتب، وقد كان قليلًا في الوقت الذي نضجت فيه شاعريته، وبأنه كان مبتديًا في خياله ومعانيه، وألفاظه، وطريقة حياته؛ وتسمع شعره فيخيل إليك أنك تسمع شاعرًا عربيًّا قديمًا عاش في العصر الأموي أو العباسي، بل يذكرك أحيانًا بشعراء العصر الجاهلي في متانة نسجه وإحكام قوافيه، وتشبيهاته واستعاراته المستمدة من حياة البادية.
كان عبد المطلب على الرغم من كل هذا شاعرًا مطبوعًا، وأصيل الشاعرية، لا يفتعل هذه المحاكاة، ولا يملك أن يكون كما صوره شعره، وذلك بحكم نشأته وثقافته.
ولد محمد بن عبد المطلب بن واصل بن بكر بن بخيت بن حارس بن قراع بن علي بن أبي خير حوالي سنة 1871 ببلدة "باصونه" إحدى قرى مديرية جرجا من أبوين عربيين ينتميان إلى أسرة أبي الخير، وأبو الخير هذا أبو عشيرة من عشائر جهينة تربو على خمسة آلاف عدًّا ويشاركها في الانتماء إلى جهينة عدة عشائر تناهز الخمسين ألفًا ينزل أكثرهم مديرة جرجا.
وكان والده رجلًا صالحًا متفقهًا، متصوفًا، معتقدًا في بلدته، محبوبًا عند جميع عشائر جهينة، أخذ طريق الصوفية عن الخلوتية عن شيخ الطرق الشهير إسماعيل أبي ضيف ثم كان خليفة له بناحية جهينة.
في هذه البيئة العربية الدينية المتزمتة نشأ محمد عبد المطلب، وحفظ القرآن -كما يقال- وهو دون العاشرة، وجاء إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ونزل وهو في هذه السن المبكرة ببيت الشيخ إسماعيل أبي ضيف بين أولاده وأسرته، ومكث بالأزهر سبع سنين، ثم التحق بدار العلوم، وتخرج فيها سنة 1896 بعد أن تتلمذ لكبار علماء عصره أمثال الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود العالم، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ سليمان العبد وغيرهم.
واشتغل بالتدريس في المدارس الابتدائية سنين عديدة قضاها في مدينة سوهاج، وتنقل بعد ذلك في عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير مدرسًا بالقضاء الشرعي قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم مدرسًا بمدارس الأوقاف الخصوصية إلى أن انتقل مدرسًا بدار العلوم في سنة 1921 وظل بها إلى أن أدركته المنية في أواخر سنة 1931.
كان يحفظ القرآن الكريم، ويقرؤه ببعض الروايات. ويقول عنه زميله في التدريس بدار العلوم الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري. "كان حجة في الأدب واللغة، محيطًا بأكثر جزلها وغريبها، وكان شاعرًا منقطع النظير في شعره، لا يكاد سامعه يفرق بينه، وبين شعراء أهل القرن الثالث والرابع، فجدد ما كان يدرس من أساليب الشعر القديمة، وأحيا كثيرًا من غريب اللغة، ونظم من أكثر بحور الشعر وقوافيه. وكانت رحمه الله شديد الحفاظ على شعائر الإسلام، وآثاره، عاملًا على نشر آدابه، فهو من أكبر أعضاء جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية الإسلامية وله في كل منها آثار محمودة.
وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها ومؤلفاتها، فلا يكاد يسمح بحديث مُزْزٍ عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور، فينبري له تزييفًا وتهجينًا، خطابة أو شعرًا أو كتابة"1.
كان عبد المطلب كما رأيت عربي النشأة والمولد والبيئة معتزًّا بنسبه هذا كل الاعتزاز، يعرف للعرب فضلهم على الدنيا بكرم طباعهم، وشريف خصالهم، وأنهم أهل السماحة والنجدة، والإباء والكرم، وحسن العفو، وزادهم الإسلام فضلًا وأريحية، فكانوا النور الذي هدى العالم في حندس الجهالة والبغي، وأسسوا حضارة اقتبس منها وهو بعد يضرب في مجاهل الضلال، استمع إليه يفتخر بهذه العروبة:
وأنا ابن الصيد من أنكرني
…
ينكر الليث إذا ما انتسبا
من أبيين كرام ضربوا
…
فوق هامات المعالي قببا
1 مقدمة ديوان عبد المطلب للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري.
وكفاني من فخاري نسبة
…
جمعت في طرفيها العربا
نحن رأس الناس في الناس ومن
…
ذا يسوي بالرءوس الدنيا
تركب الجلي ولا نرهبها
…
يوم يلوي الناس عنها هربًا
ويقول مفتخرًا بأسرته:
نمت صعدًا في دوحة عربية
…
هوت دونها الأفلاك منحدرات
ويذكر فضل العرب على الشرق والغرب:
فإن تبغنا في مشرق الأرض تلقنا
…
بآثارنا معروفة في سماتها
وإن تلتمسنا في بني الغرب تلقهم
…
على ضوئنا يعشون في فلواتها
فلله منا والعلا فقديمنا
…
أحاديث حار الدهر في معجزاتها
ولله ما يزها الورى من حديثنا
…
إذا حدثت عنا ثقات رواتها
فلم لا يفخر بنسبته إلى العرب:
والدهر شاهد عدل أن لي نسبًا
…
قد حل منه محل العقد في الجيد
إنه من قوم سنوا للورى سنن العلاء فأحرى به أن يفتخر بانتسابه إليهم، وأن يستمسك بسننهم، ويتحلى بشيمهم.
لقد سن قومي للورى العلا
…
وما أنا عما سن قومي بحائد
إذا افتخر الناس بمجدهم التليد فللعرب قصب السبق، وبما أنه منهم ويسير على سنتهم، فهو كذلك من السابقين يوم يباهي الناس بمجدهم:
لنا قصب السبق يوم الفخار
…
كما كان آباؤنا والجدود
تراث لنا منذ عليا معد
…
يدل به كهلنا والوليد
ولا يكتفي بذكر مجد العرب هكذا مجملًا، ولكنه يحاول أن يذكر في شيء من التفصيل بعض فضائلهم الفطرية، ويتطرق من ذلك إلى ذكر نسبه وأن جهينة أصيلة في العروبة، وذلك حين يقول:
ما البيض إلا لقوم بالفخار لهم
…
على الزمان خلاعات وإدلال
في المطعمين على الحالين عافيهم
…
إذا أصاب كرام الناس إمحال
والمرحبين إذا ضاق الزمان بهم
…
والمكثرين وفي الأيام إقلال
والناقضين على الأيام ما عقدت
…
وما لما عقدوه الدهر حلال
من الذين إذا قالوا مقالتهم
…
فالدهر ماض بما قالوه فعال
من كل أروع في أعراقه كرم
…
وفي شمائله لطف وإجمال
ومن أهم صفات العرب الفصاحة، ولما كان شاعرًا فصيح البيان كان من الطبيعي أن يهتم بذكر فصاحة العرب وقوة حجتهم في الكلام: وشهرتهم في البيان.
وإن تذكري أيامنا في قديمها
…
سموت إلى ماض أغر نبيل
سلي الشعر عنا إذا يسير قصيده
…
مسير الحياة في قفرة ومحول
ملأنا به الدنيا بيانًا وحكمة
…
بها جاء في التنزيل خير رسول
وشدنا به في كل دهر مكانة
…
رست في قرار عزة وأثول
ولا ينفك عبد المطلب يحدثك في كل قصيدة عن أمجاد قومه، وعن عظمة الأمة العربية التي ينتمي إليها، وهذا الشعور المتأصل في نفسه تأصل العقيدة هو الذي جعله يتشبث بمحاكاة الفحول المعرقين من شعراء العربية، ويود أن يصل إلى مرتبتهم متجاهلًا كل ما يتطلبه عصره وحضارته.
زد على هذا أن محمد عبد المطلب نشأ نشأة دينية في بيت يفد عليه طلاب الهداية، ويحيطونه بالتجلة والاحترام، لاعتقادهم في والده. وهذه النشأة مع ما صاحبها من دراسة دينية في الأزهر ودار العلوم كفيلة بأن تجعل محمد عبد المطلب شديد الحفاظ على القديم، لا يفرط فيه أبدًا مهما كانت المغريات، نافرًا من كل جديد.
مازوا الجديد من القديم وما دَرَوْا
…
أن الجديد من القديم سليل
حلبات إفك في مهالك فتنة
…
هو جاء كيد غواتها تضليل
دعوى وما ضربوا لنا مثلًا بها
…
يجري عليه القياس مثيل
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها
…
في العقل فهي على السفاه دليل
وقد عكف عبد المطلب في دار العلوم على دراسة الأدب العربي القديم بشغف ولذة، تغذيهما محبة قوية للعرب وتراثهم، وملكة شعرية فطرية، وإذا كان عند طالب دار العلوم أي موهبة أدبية، ولو بقدر يسير، سرعان ما تنمو وتترعرع وتزدهر في هذه البيئة العربية الخالصة، لكثرة ما يسمع الطالب في حجرات الدراسة من الكلم الفصاح، وروائع الشعر والأمثال، التي خلفها أدباء العربية في عصورها الذهبية، ولكثرة ما يحفظ من هذه الأمثال والحكم، والنوادر، والقصائد الخالدة، والحفظ هو سبيله إلى التزود من معين العربية ألفاظًا ومعاني.
ولهذا تعجب كل العجب لدار العلوم، فهي في كل عهد تغص بمن يقرضون الشعر في أثناء الطلب، ويثبت منهم في الميدان، ويجلي في حلبة السباق من تعهد هذه الموهبة بالصقل والدراسة، وربما كانت دار العلوم متميزة عن سواها في هذه الناحية؛ لأن الدروس تلقي فيها بلغة فصيحة سليمة أدبية؛ ولأنها كلها تدور حول العربية، وإتقانها: نحوًا، وبلاغة، ونقدًا، وأدبًا، ولأن الطلب يأتي إليها وعنده ذخيرة سابقة من القرآن الكريم وعلوم الدين، وقدر لا بأس به من العلوم العربية، هذا فضلًا عن الرعاية والعناية والتوجيه والتشجيع من جانب الأساتذة الذين يوجهون الطالب الوجهة القومية التي تنمي من مواهبه وتدافعه قدمًا إلى الأمام فلا يلبث إلا قليلا في هذه البيئة الجديدة حتى تتفتح ملكاته اللسانية الكاملة، ويلهج بقول الشعر، ولقد صورها عبد المطلب أبدع تصوير، وبين فضائلها على اللغة العربية، وعلى الأدب والشعر بقوله يخاطبها:
يا أم كم من شرعةٍ لك في الهدى
…
لا وردها رنق ولا مملول
وهديتنا سبل العلوم قواصدًا
…
فالغور نجد والحزون سهول
دان القريض لنا فأما روضه
…
فجنى وأما صعبه فذلول
ولنا إذا شئنا جزالة جرول
…
وإذا نرق فتوبة وجميل
ولربما ملك الندى خطيبنا
…
والجمع بهر والمقام يقول
أحييت أحياء الجزيرة من نما
…
قحطان من ولد وإسماعيل
فبكل فصل منك مظهر أمة
…
من أهلها وبكل يوم جيل
ولو استدار به الزمان لأصبحت
…
لك في عكاظ من البيان فصول
هذه هي المدرسة العريقة التي درس فيها عبد المطلب اللغة والأدب على أعلامها في عصره ولهج لسانه وهو بعد طالب بالشعر القوي الفصيح، وهي بيئة عربية خالصة، لا تعرف من الثقافة الغربية إلا القدر اليسير الذي يمت إلى العلوم العربية بصلة أو يزود الطالب بحظ من الثقافة العامة، أما اللغات الأجنبية، فكانت على هامش الدراسة أحيانًا لا يعني بها الطلبة كثيرًا، وقد ألغيت في عهود مختلفة، ولم تحتل في نفوسهم مكانة ممتازة؛ لأنهم يتعملونها في الكبر، ولا ريب أنهم لم يعرفوا عن الأدب الغربي ومذاهبه وأنواعه إلا القليل عن طريق الترجمة، وقد كان هذا المترجم ضئيلًا في عهد عبد المطلب، وأشك في أنه كان يتذوق مثل هذا الأدب أو يعجب به.
وقد أثرت هذه النشأة العربية الخالصة في أخلاق محمد عبد المطلب، فقد ورث عن العرب كثيرًا من صفاتهم، وأعجب بمثلهم الخلقية العليا، ومكن الدين الإسلامي الذي شب بين تعاليمه وتقاليده، ودرسه في الأزهر ودار العلوم هذه الصفات في نفسه، يتمثل هذا الخلق العربي الإسلامي في عبد المطلب حينما تقرأ شعره. إذ يطالعك في كل قصيدة بنفسه سافرة مجلوة، لا تضمر نفاقًا أو رياء. وللخلق والطبع أثر عظيم في اتجاه الشاعر؛ لأنه هو الذي يوجهه نحو الأغراض المختلفة، فإن كان كريم النفس أبيًّا، مترفعًا عن السفاسف ربأ بنفسه عن شعر المداهنة والرياء، والمدح الكاذب، والوصول عن طريق القول المزوق والخداع المنمق إلى ما تصبو إليه نفسه التي تستهين بالمثل العليا في سبيل غايتها، واتجه نحو الوطنية الصادقة، والحماسة للحق، والغرام بالخير إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة.
تراه لا يرثي إلا صديقًا: ولا يمدح إلا شكرًا على مكرمة أسديت إليه، أو لأن الممدوح حقق هدفًا جميلًا من الأهداف التي ترمقها نفسه وترعاه، وهكذا كان عبد المطلب.
وحري بنا قبل أن نتعرف إلى الأغراض التي اتجه إليها شعره، أن نلقي نظرة عابرة على خلقه.
كان عبد المطلب كما ذكرت بدوي الطباع، ومن شأن الطبع البدوي الجد والصرامة في الحق ومقاومة العسف.
والقوة الهوجاء يمحقها
…
حق قضى في أهله الغلبا
وهو في هذه المقاومة، وهذا الجد لا يعرف اللين، أو الهزيمة أو النكوص عن غايته:
أفتطمعون بأن تلين قناتنا
…
لين الأبي على الشدائد عاب
ومن شيمة الأبي الكريم ألا يتضجر أو يشكو إذا آده الحمل، وآذاه الجهاد:
ليس من بشيمة مثلي أنه
…
يشتكي البؤس ويخشى النوبا
ويقول:
أأشمت حسادي فأشكو وإنني
…
أراه على الأحرار غير حلال
بل يتجمل بالصبر، قوى العزم، مبرم الإدار، لا يفل له غرب، أو تهن له نفس
سأصبر للأيام حتى أردها
…
بصبري لما أرجوه منها حبائلا
وأهمل فيها عزمة عربية تقوت
…
العوالي إن مضت والعواملا
ورجل من هذا شأنه في خلقه لا شك يتخلف في الحياة عن كثير من نظرائه الذين لا يثبتون في سبيل الحق وإعلاء كلمته مثلما يثبت، ولا يتمسكون بإبائهم وكرامتهم، وعزة نفوسهم ويضعونها في المنزلة الأولى مثلما يضع نفسه، وقد قال في هذا معبرًا عن ذلك النقص الاجتماعي:
وإني سلبت قدري حقوقًا من العلا
…
تحلى بها غير وأصبحت عاطلا
فمن قبل كم عادت كريمًا وأنكرت
…
حقوقًا له في أهلها وفواضلا
ولقد تغنى في شعره كثيرًا بأنه كريم النفس، والقلب واليد:
ولي همامة نفس بالعلا كلفت
…
قدمًا وقلب بأهل الفضل محلال
يهوى الكرام وما غير الكرام له
…
من البرية أخذان وأمثال
أما كرم اليد فقد أفصح عنه بقوله:
حبب الفاقة لي أني فتى
…
يجمع الحمد ويفنى النشبا
أما كرم القلب والحلم وامتلاك أزمة النفس حين يجتاحها الغضب فقد قال عن نفسه:
إن الكريم إذا ما اهتاجه غضب
…
لم يلوه عن طريق الحكمة الغضب
ومن شأن هذه البدوي العربي، ولو كان في بيئة متحضرة يكثر فيها النفاق، وحب المنفعة الخالصة؟ وإيثارها على المثل العليا، أن يتمسك بالأصول الخلقية العربية النبيلة، إذا قواها في نفسه دين متين وعلم غزير، ونشأة في أحضان البادية منذ الصغر، وتطلب لفضائلها في كتب الأدب عند الكبر، من شأن هذا البدوي أن يكون وفيًّا لأصدقائه، عفيفًا في هواه، لا يعرف الصغائر والدنايا. أما وفاؤه فقد تمثل في ديوانه أتم تمثيل، استمع إليه يقول لصديق له:
وكلما اشتد بي حال ذكرتك في
…
سر فيفرج عن ذلك الحال
يا روح روحي وريحاني إذا صرمت
…
حبلى من الناس والأيام آمال
خفض عليك فودى ليس يخلقه
…
كر الجديدين أو في الناس أو مالوا
إن الوفاء شيمة العربي، وقد زاده قوة في نفسه دينه الكريم:
الله في الود والقربى فإن لها
…
حقًّا على الناس جاءتنا به الكتب
وترى هذا الوفاء في توديعه لأصدقائه وخلصائه الذين اصطفاهم لنفسه، ووافقت طباعهم طبعه، في مواساتهم إن ألم بهم خطب، وفي تهنئتهم إن ابتسمت لهم الحياة ببعض زخارفها وفي رثائهم إن أودوا واختارهم الله لجواره.
ألا ترى عبد المطلب في هذا الوفاء، وفي تلك السجايا الغر التي ذكرت لك طرفًا منها يمثل فتى من فتيان البادية الأقدمين وكأنك تتمثله عنترة الفوارس، أو عروة بن الورد أو حاتم طيئ، أو ربيعة بن مكدم في شهامته، وقوته، وكرمه، ووفائه، وذرابة لسانه، وبعده عن الدنايا:
ومن كان مثلي في ذرا الأدب اعتلى
…
يعاف الدنايا شيمة والرذائلا
ورثت أبا بكر خفارًا وعزة
…
ومن بعده أورثت في المد واصلا
بها ليل في عليا جهينة أصعدوا
…
على خير ما يحذو الأخير الأوائلا
فذرني أسر حيث المكارم واحدلي
…
على نغمات المجد إن كنت فاعلا
وهو يتغزل على طريقة العرب ويبتدئ قصائده بالنسيب، وهذا لا شك تكلف منه لا يصدر عن عاطفة ولكن عبد المطلب يحب الجمال في عفة، وهو يتغزل في هذا الجمال، والعربي مرهف الحس، جياش العاطفة، ذواقة للجمال، وإذا أضيف إلى هذا الميل نحو الجمال، دين وخلق، شاعرية، رأينا عبد المطلب لا ينحدر في غزله إلى فحش اللفظ، والتغني بمفاتن النساء في مباذلهن ولا يصبوا إلى دنس الهوى.
وما أنا من يصبو إلى دنس الهوى
…
ولا ضل في نهج العفاف دليلي
إنه يعشق الجمال، ويغري به؛ لأن له نفس شاعر، وذوق فنان، ولكنه لا يتبع النفس اللجوج هواها، ولا ينزلق في تيار الغرام وحسبه من ذلك الجمال هذه المتع المعنوية التي تنتشى لها نفسه، ولا يذهب في حميا هذه المتعة رشدها، إنه ينام ملء جفونه شأن من لم يعلق قلبه بشباك الغرام.
وما شغلت عيني عن النوم صبوة
…
بها شاقني طرف من العين أبرج1
ولم ينسنى حظى من الحلم والنهى
…
جبين يروع الشمس بالحسن أبلج
1 الأبرج: الذي يحيط بياض عينيه بسوادهما فيظهر السواد كله لا يختفي منه شيء.
ولا باب يغريني بمعسوله اللمى
…
إذا ابتسمت ذاك الجمان المفلج
ولكن هل يستطيع عبد المطلب أن يتصرف في فؤاده دائمًا، والحب إذا أتى فلا راد له لأن المرء لا يعرف متى يأتي، ولا كيف يأتي، ولا شك أن عبد المطلب قد غلب على أمره أحيانًا، ولكن دينه وخلقه صان هذا الحب عن الرجس.
بتنا وكان العفاف سترًا
…
بين الضميرين ليس يبلى
وللتقى بيننا عهود
…
تقدست في القلوب قبلا
وما على الحب من مليم
…
إذا الهوى بالتقى تحلى
ومن أهم صفات العرب المتميزة الغيرة، وقد تجلت غيرة عبد المطلب وحماسته، وإباؤه الضيم في وطنيته الملتهبة الصادقة. لقد ملك حب مصر عليه شفاف قلبه. دع جانبًا تلك القصائد السياسية المتأججة التي أسلفنا القول عليها، بل تأمل عشقه لمصر، ولصعيد مصر، وترداده لذكرها بقلب مليء بحبها، مدله بها، يراها منبت المجد منذ نشأة الحياة على الأرض بل قبل ذلك:
ولربما شهد الزمان وجوده
…
والأرض ماء، والسماء ضباب
النيل آيته، وسطر حديثه
…
في العالمين، ولا بتاه كتاب1
حتى إذا برز الورى من غيبهم
…
وتميزت ببنيهم الأنساب
فإن عروس الأرض مصر يزينها
…
أطام عز تعتلى وثياب
وهو لا يتردد أن يفدي مصر بحياته، ويدعو الله أن تسلم من الأذى، وينزلها منزلة الأم:
مصر أمي فداء أمي حياتي
…
سلمت أمنا من العاديات
1 اللابة: الحرة من الأرض أي السوداء منها، ويريد باللابتين الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية، والوادي بينهما.
ومن فرط حبه لمصر نسي أنه عربي بدوي، وراح يشيد بمناقب مينا وخوفو، ورمسيس، والحق ألا تعارض بين نسبه العربي، وفخره بمصر، وبمن شادوا مجدها القديم فهو اليوم مصر الموطن والمولد، ينعم بخيرات مصر، ويتمتع بجناتها وأجوائها، وقد دافع عن رأيه هذا بقوله:
رويدك إنا في العلا يوم ننتمي
…
كلانا أبوه النيل أو أمه مصر
لنا آية الأهرام يتلو قديمها
…
حديث الليالي فهي في فمها ذكر
ملأنا بها لوح الوجود مناقبًا
…
إذا ما خلا عصر تلاها به عصر
وللعلم من آثارنا في جبالنا
…
على الدهر آيات بها ينطق الصخر
إذا جهلوا مينا وخوفوا وخفرعا
…
فليس "برمسيس على ملكه نكر
لنا كل ما في الأرض من مدينة
…
بها تعمر الأمصار والبلد القفره
لنا في الورى حق المعلم لو رعوا
…
لنا ذمة وادهر شيمته الغدر
ويقول في هذه القصيدة مضمنًا المثل الأوربي المشهور "الدين لله والوطن للجميع".
كلاهنا على دين به هو مؤمن
…
ولكن خذلان البلاد وهو الكفر
إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها
…
لنجدتها سيان مرقس أو عمرو
وهو في وطنيته هذه يأنف من الاحتلال وذل العبودية والاستعمار؛ شأن العربي الذي ألف الحرية المطلقة:
حرام علينا أن نعيش أذلة
…
وذو الذل أولى ما يكون به القبر
ولما رأى الخلف دبب بين المصريين بعد ثورتهم العظيمة، وانقسموا شيعًا وأحزابًا وهنت بها قوى مصر، وخفت صوتها في المطالبة بحقوقها قال:
فيا مصر إن عز الوفاء فإننا
…
على العهد لا نلوي ولا نتغير
إذا صاع قوم بالخلاف رأيتنا
…
لبرك أيقاظًا لضرك تحذر1
أتخذل مصرًا في بنيها وهذه
…
ذئاب الليالي حولها تتنمر
وقد ندد بهذا الخلاف في قوة وصرامة، وأنذر قومه عاقبة أمرهم، وأنها خسران مبين وضايع للوطن:
عبثت بوحدتنا الخطوب وأعملت
…
في غرس أيدينا يد الإتلاف
والخصم يحجل بيننا للشر في
…
ثوبين ثوب موافق ومنافي
متنمر يغري العداوة بيننا
…
بالكيد والتفريق والإرجاف
أو ليس فيما قد مضى من عبرة
…
لبني أبي والأسر ليس بخافٍ
أو لم يروا أو يسمعوا نذر الورى
…
تطوى إلينا لجة الرجاف2
ولعلك تذكر قول مطران في صعيد مصر، وتعليقنا عليه بأنه لم يكن محبًّا له، ولو كان محبًّا حقًّا لرأى مساوئه مفاخر، وشينه زينًا3 على حد4 قول الشاعر القديم:
فتضاحكنَ وقد قلنَ لها
…
حسنٌ في كلّ عين من تود
وعبد المطلب كان عاشقًا لمصر ولصعيدها، يرى الجمال حيث لا يراه سواه والمحب مفتون.
سر الجمال جمال مصر إذا سرت
…
ريح الشمال بها وعب النيل
بلد جريت إلى المنى في ظله
…
سبحًا على اللذات وهي شكول
أرد المرابع والمصايف سادرًا
…
أختال بين ظلالها وأجول
لي في الصعيد إذا شتوت منازل
…
فيها سراة العالمين نزول
بهرت مصانعها الزمان ولم تزل
…
للعقل فيها حيرة وذهول
1 صاع: تحامل بعضهم على بعض.
2 الرجاف: البحر: سمى بذلك لاضطرابه.
3 راجع ص171 من هذا الكتاب.
جلست على الآباد في جبرية
…
يقف البلى من دونها، فيحول1
مشتى الملوك، مراد أرباب النهى
…
هذا يحل بها وذاك يزول
فيح إذا نهض القريض لوصفها
…
يحلو القريض بوصفها ويطول
وإذا بكى الأثلاث "يحيى" شاقه
…
مغنى جفاه بقدر قرى ومقيل2
عنيت نشوان القريض يهزني
…
سدر بريف جهينة ونخيل
هذه هي نظرة المحب، وشتان بين نظرة عبد المطلب ونظرة مطران للصعيد، وقد بلغ من حبه لمصر وللنيل أن يطلب من محبوبته أن تحب النيل معه، أو أن تحبه حبًّا يعادل حبه للنيل:
عديني حب النيل إني أحبه
…
ولا تمطلي فالحر غير ملوم
وأفصح عن هذه المحبة وهو بعد شاب، في أول عهده بالتدريس، وأخذ ينشئ تلاميذه على تقديس مصر والوطن والفناء في خدمتها ورقيها، فيحفظهم قوله:
نعم لخدمة مصر
…
نرى الكثير قليلا
بلادنا ترتجينا لها
…
النصير الكفيلا
مصر لنا خير أم
…
عن حبها لن نحولا
فإن رأتنا صغارًا
…
غدًا ترانا كهولا
ذوي نفوس كبار
…
نبغي المكارم سولا
1 الجبرية: الجبروت والقهر والقوة، ويحول: يتحول.
2 الأثلاث: شجر الأثل، ويحيى هو ابن طالب الحنفي. وكان شيخًا فصيحًا يقري الناس. أثقله الدين بسبب ذلك فنزح عن قرقري، فلما وصل خراسان حن إليها، وتذكر أيامه في ظل أثلاثها فقال:
أيا أثلاث القاع من بطن توضح
…
حنينى إلى أطلالكن طويل
ألا هل إلى شم الحزامى ونظرة
…
إلى قرقرى قبل للمات سبيل
هذه قطرات من فيض الشعر الوطني الذي خلفه عبد المطلب، ولقد بينت بعض اتجاهاته في غير هذا الموضوع1، وكله ينبئ عن نفس حرة غيور تأبى الذلة، وتضيق بالعبودية؛ ولقد كان قاسيًا على الأعداء، سلط عليهم من لسانه نارًا حامية، بل كان من أجرأ الشعراء وأعظمهم أثرًا في الثورة ولا ريب أن النشأة البدوية العربية الدينية ولدراسته أثرًا قويًّا في هذا الاتجاه، وفي هذه الحماسة التي لا تهاب شيئًا.
والآن، وبعد أن عرفت شيئًا عن خلقه وعن أثره في شعره، دعنا نلقي نظرة عجلى على هذا الشعر:
شعره:
ومحمد عبد المطلب شاعر غنائي ذو وتر واحد، ولكنه وتر قديم، وقد يترنم أحيانًا بنغمات جديدة حين يعرف أغنيات الوطنية أو يصور بعض الحالات؛ حاكى في شعره الأقدمين من فحول الشعر العربي ووعى من ذخائر اللغة ما مكنه من أن يتصرف في الألفاظ كيف شاء، ولا بدع فقد قرأ القرآن صغيرًا واستظهره، وقرأه بالقراءات، وحفظ دواوين الفحول.
ومحمد عبد المطلب نسيج وحده في العصر الحديث؛ لأنه يتبدى في شعره: خيالًا ولفظًا، ومعنى، ولم يحد عن طريقة العرب في نظم القصيدة، وطريقتها، وإن كان قد حاول التجديد في القالب حين نظم مسرحية "ليلى العفيفة"، ومسريحة "المهلهل بن ربيعة وحرب البسوس"، وحين كتب قصة امرئ القيس، وطرزها بشيء من شعره، ولكن المعاني والخيالات ظلت بدوية شأن بقية شعره.
قلنا إن محمد عبد المطلب نسيج وحده؛ لأن شعراء المدرسة القديمة أمثال صبري، والبكري، وحافظ، ونسيم وغيرهم حين حاكوا الشعر العربي القديم، لم يلجئوا إلى غريب اللغة، والعصر الجاهلي، وإنما حاكوا شعراء العصر العباسي الممتازين، وشعراء الصنعة في العصر المتأخرة، وشعراء مصر المشهورين بالرقة أمثال البهاء زهير، والشاب الظريف. أما محمد عبد المطلب فكان لتمكنه في اللغة، وحفظه لغريبها يحاكي شعراء بني أمية أو شعراء العصر الجاهلي.
1 راجع ص129 من هذا الكتاب وما بعدها في شعر عبد المطلب السياسي.
إن محمد عبد المطلب كان يعيش بخياله الشعري في جزيرة العرب، يستمد منها تشابيهه ويرى معالمها بين خياله فيسجلها في شعره، أو كان روح شاعر من شعراء الجاهلية أو العصر الأموي قد تقمصت جسده، فهي تحكي ما كانت ترى في العصر الذي عاشت فيه، استمع إليه يقول:
ولاحت لعيني تلك البروق
…
بوادي تهامة والمنحنى
ومرت تهادى نجارية
…
لها زفرت ترج الفلا1
ذكرت ربوعًا لسلمى مضى
…
منا لعيش في ظلها ماضي
ولا شك أنه لم ير في مصر بروقًا، ولا وادي تهامة ولا المنحنى، وإنما سبح بخياله في تلك الديار، واستمع إليه يقول من قصيدة أخرى:
سقيت الندى يا منزل الثمرات
…
وجاءتك غر المزن منهمرات
مغان بها عيش الصبا أن ناعمًا
…
وغرس الأماني طيب الثمرات
وقفت بها صحبي فحيت ركابنا
…
ضواحك من أزهارها النضرات
ولم ينسنى عهدي به منزل الغضا
…
وغر ليال فيه مزدهرات
ولا مسرح الآرام فيه أوانسًا
…
تهادين في شرخ الصبا خفرات
فمنزل الغضا، ومسرح الآرام ليس بمصر، وإنما هما في نجد أو الحجاز. إن عبد المطلب يتشوق أن يرحل إلى الحجاز أو نجد، ويستعيد عهد أسلافه، فروحه متعلقة بتلك الديار، ولا أدل على ذلك من قوله:
برق يلوح، وسائق يحدو
…
يا شوق هل لك غاية بعد
ونوى تشط بنا مطرحة
…
أنا فالغوير ودارهم نجد
يا رحمتا كبد تخونها
…
برح الغرام، ولاحها البعد
ذكرت معاهدنا بذي سلم
…
أفلا يعود لنا بها عهد2
لو أن أيام الغضا رجع
…
أو أن ما سلفت به رد
فهو يتشوق لنجد، وذي سلم، وقد شطت به النوى حتى تفطرت كبده من شدة الغرام وغيرها البعد؛ لأنها ذكرت معاهدة بذي سلم "موضع بالحجاز"
1 تجارية: ذات نجار وأصل.
2 ذو سلم: موضع بالحجاز.
ويتمنى أن تعود تلك العهود، وترجع أيام الغضا، إلخ، وليس هذا شعر شخص يعيش في مصر ويرى النيل والجزيرة، وسيف البحر المتوسط، والمغاني العامرة، والجنان الفيح، والآثار الباهرة، إنه يعيش في مصر بجسده، ولكن روحه في رحلة طويلة إلى جزيرة العرب، وقد تعود فترتد مصرية الشعور والعاطفة.
ولما قال شوقي قصيدته المشهورة "اختلاف النهار والليل ينسى" يتشوق فيها إلى الثغر والمكس، ويحن حنينًا شديدًا لمصر ويقول:
يصبح الفكر والمسلة ناد
…
يه وبالسرحة الزكية يمسي
وينفثها نفثة الملتاع من حر للفراق، الذي تجسمت أمامه كل معالم مصر، وتفطرت نفسه حسرات أسفًا لغيابه عنها، وشوقًا إليها أجابه عبد المطلب بأنه إذا حن إلى مصر فإنه يحن إلى "الغوير وجلس" حين يقول:
ما له في الحنين يضحى ويمسي
…
شفه البرق لاح من "عين شمس
واستخفت به الصبا فتناسى
…
عهده في الوقار والشوق ينسى
حن في شجوه إلى جبل الطيـ
…
ـر حنيني إلى الغوير وجلس1
وهو يشبه نفسه بامرئ القيس إذ يبكي ما بين "حومل فالدخول":
مالي وللربع المحيل
…
أبكيه بالدمع الهطول
نوع الحمامة رجعت
…
بين المعاهد والطلول
أو كابن حجر إذ بكى
…
ما بين حوامل والدخول
وقد تهيم نفسه، ويغلو في حنينه إلى تلك الديار التي يسبح خياله في عرصاتها ووديانها والتي تشبع بها عقله من كثرة ما قرأ في الأدب القديم ووعي منه، ولكثرة ما فكر فيها فيفضل الخزامى على رياض النيل، وثرى نجد وإن كان حجارة على تربة مصر الخصبة الممرعة، والسحب التي تمر بنجد وإن كانت جهامًا على النيل العظيم، وهذا غلو منه ولا ريب، وجموح في الخيال، ولم يصدر
1 الغوير: ماء لبني كلب، وجلس: بلاد نجد.
عنه ونفسه في اتزانها وهدوئها، وعقله في تمام وعيه، ولكنه الهيام والشوق إلى معيشة البادية، والحنين إلى الماضي العتيق:
فذكا الشوق بقلب لم يخن
…
لربي نجد وإن شطت ذماما
لم يخن عهدًا لأيام الغضا
…
إن أيام الغضا كانت ذماما
ما رياض النيل ما عهدي بها
…
ناعم العيش كعهدي بالخزامى
ما ثرى مصر وإن كان الثرى
…
كثرى نجد وإن كان رضاما
لا ولا النيل وإن كان الحيا
…
كغواديها وإن مرت جهاما
وشاعر هذا خياله البدوي، وهذا ثقافته القديمة لا ينتظر منه أن ينتزع تشبيهاته واستعاراته وألفاظه إلا من تلك البيئة المتبدية، وإلا أن يحاكي الشعراء الأقدمين، ويحاول جهده أن يكون مثلهم في كل شعره، فعاطف بركات حين مات تحمله "نجب الردى".
وهل حملت نجب الردى مثل راحل
…
بكته المعالي من بني بركات
وعدلي وزملاؤه في الوزارة "أسد بيشة".
في رفاق هم أسد بيشة بأسًا
…
أو هم النجم في سناء ونبل1
وأحمد تيمور حين يموت جبل أشم يصير إلى القبر:
وأرى المكارم يوم أحمد صورت
…
فسعت إلى الأجداث وهي سرير
يا حامليه إلى الثرى أرأيتم
…
شم الجبال إلى الرجام تصير2
ويرى الموت يغتال عظماء مصر واحدًا بعد الآخر، فيرمي اليوم قارحًا، وفي الصبح غد جازلًا3، فرجال مصر في رأيه جمال.
ما للردى في مصر مستأسدًا
…
يعدو على أبنائها غائلًا
1 بيشة: مكان على خمس مراحل من مكة جهة اليمن وبها نخل كثير، وفي وادي بيشة موضع مشتجر كثير الأسد.
2 الرحام: القبور أو الحجارة تنصب عليها.
3 قرح الفرس: بلغ الخامسة من عمره فهو قارح، ومثله الجمل، والعازل من الإبل ما كان في التاسعة من عمره، ويريد أن الموت يخترم رجال مصر شبانًا وشيبًا.
إذا رمى اليوم بها قارحًا
…
منهم رمى صبح غدٍ بازلا
وحين يرثي سعد زغلول يمدحه بأنه كريم النجار، شريف المحتد فيقول:
أن "محتد خندفي"1.
وعدلي يكن يسافر للمفاوضة فهو "يزجي إلى حلبات السلام النجب":
قالوا السلام، فقام قائدنا
…
يزجي إلى حلباته النجبا
وحبيبته:
ذليلة أجفان عزيزة معشر
…
لها الأسد أهل والأسنة غيل
بداوته، وعدم تأثره بالإسلام، وغاية الرقة عنده رقة "توبة" أو رقة جميل بن معمر:
ولدا إذا شئنا جزالة جِرْوَل
…
وإذا نرق فتوبة وجميل
أما نسيبه وتشبيهات حبيبته في البداوة، ولا أستطيع أن أسوق هنا كل ما قاله في النسيب من هذا الطراز البدوي، وحسبي قطعة واحدة لأن كل نسيبه على هذه الشاكلة، قال فيما سماه "دالية أسوان".
خليلي قلبي لسلمى عميد
…
ووجدي بها كل يوم يزيد
يذكرنيها إذ جن ليلي
…
شمال تهب وغصن يميد
وبرق يلوح وطير ينوح
…
وحاد له في المطايا نشيد
فأما الشمال فتهدي شذاها
…
وكالغصن ذاك القوام الميود
ونوح الحمام نشيد الغرام
…
ينشف سمعي منه القصيد
وما البرق إلا وميض الثنايا
…
إذا ابتسمت فهي در نضيد
وأبكي إذا ما حدا الركب حاد
…
لما كان يوم افترقنا بعيد
تناءى بك البين عن دار سلمى
…
وكل قريب المطايا بعيد
1 خندف، قبيلة عربية مشهورة بالكرم والنجدة ولعله يريد خندفيًّا من الخندقة وهي الإسراع لإغاثة الملهوف.
فهل لك في صفو عيش رجاء
…
ومن دون سلمى فياف وبيد
رعى الله عهدك من عالج
…
وحيا ربوعًا حوتها زرود1
وعهد الهوى بيننا قائم
…
أو أخيه محكمة والعقود
ليالي اللهو بها لا أخاف
…
القلى والحواسد عنا رقود
إلى غير ذلك من هذا النسيب الذي يدل بادء الأمر على أنه مفتعل لم يصدر عن عاطفة وإنما قيل محاكاة للأقدمين في ابتدائهم القصائد بمثل هذا النسيب، ويدل بعد ذلك على عدم ابتكار في أي معنى من معانيه، فكله ترديد لما قال شعراء الجاهلية والعصر الأموي، ولا أود أن أقول العصر العباسي لأن هؤلاء ربما افتنوا في المعاني، ويدل ثالثًا على خيال بدوي لشاعر يقيم في الصحراء، وتشتد حساسيته للبرق، ولقدوم الليل، ولريح الشمال حين تهب، وتحرك الغصن، وللطير حين ينوح، وللحادي الذي ينشد المطايا يستحثها على السير؛ لأن لهذه الأمور معنى لديه، إذ تذكره ببعض التغيير في حياته الرتيبة؛ ولأن في بعضها منافع له كالبرق وهو نذير المطر، والحادي وهو يقدم القافلة سواء كانت آتية بتجارة، أو ذاهبة بها، فهذه أمور تتصل بحياة البدور ويهتمون بها أكثر من اهتمام الحضر له. ثم ألا تراه يتذكر عهدها بعالج وزرود، وأين الشاعر من عالج وزرود وهو يعيش في حضن النيل العظيم وفي كنف القاهرة عروس الشرق؟. إن هذا تقليد عجيب عللنا له فيما سبق بأن خيال الشاعر يفلت منه أحيانًا، ويهيم بالبادية، ثم أين هو الحادي الذي يحدو الركب، فيبكيه ويشجيه، وليس في مصر إلا القطر البخارية؟ وهل حقًّا من دون سلمى فياف وبيد؟ أتقيم سلمى في مصر أم في الجزيرة العرب؟ إن كل هذا يدل، ولا ريب، على أنا الشاعر يحاكي بهذا البيت شعراء البادية، بل إن لشعراء البادية غزلًا عاطفيًّا جميلًا ينم عن لوعة ترعى الفؤاد، ونار غرام عاتية، وقد افتنوا في المعاني الغزلية، وأتوا بكثير مما يقال في إخلاف الوعد، والهجر، والشوق، والعذال، واللقاء، وحسبك أن تقرأ شعر جميل بن معمر. وكثير عزة، وقيس بن الملوح، استمع إلى قيس بن الملوح يقول في ريح الصبا وأثرها في نفسه ومنزلتها عنده:
1 عالج: رملة بالبادية وقيل: هي رمل بين فيدو القريات ينزلها بنو بحتر من طيئ وهي متصلة بالثعلبة على طريق مكة، لا ماء بها ولا يقدر أحد عليها، وزرود: رمال بين الثعلبة والخزيمي بطريق الحاج إلى الكوفة.
أيا جبلى نعمان بالله خليا
…
سبيل الصبا يخلص إلى نسيمهم
أجد بدرها أو تشف مني حرارة
…
على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
…
على نفس محزون تجلت همومها
هذا وحبيبة عبد المطلب -وإن كانت له حبيبة- ليست إلا ظبيًا أو جؤذرًا1
صب بربع البادنة الأخضر
…
بات صريع الظبي والجؤذر
وإذا ترك ربع البانة الأخضر وتذكر أنه في مصر، وانتقل بهذا الجؤذر إلى سيف الجزيرة على النيل.
على النيل من سيف الجزيرة جؤذر
…
هفا قائهًا والحسن بالتية يأمر
أو انتقل به إلى "الحلمية":
درجن من الحلميتين فما المها
…
إذ ما توسطن الطريق وما العفر2
فهن كأسراب الحمام تتابعت
…
سوابح مرماها الجزيرة والجسر
لقد انطبعت هذه الصورة والتعبيرات في ذهنه، وكان له بها غرام، ولقد هام بغريب الألفاظ هيامًا عجيبًا، وضمن قصائده كثيرًا من أمثال العرب المشهور منها وغير المشهور مما يدل على غزارة محفوظه من التراث القديم، من ذلك قوله:
عدونا إذا بانت بكم عن رباعنا
…
نوى قذف بالعود، فالعود أحمد
وقوله:
أسعديهن بالهديل فقد عيَّ
…
لسان القريض بالإسناف3
وقوله:
وإن تر شعبًا بالجهالة سابحًا
…
فقل لعداه رمد الضأن ربق
1 الجوذر: البقرة الوحشية، وتشبه به الحسناء في جمال عينيها، وهفا: مر مسرعًا، وتائها: متكبرًا
2 المها: بقر الوحش واحدها مهاة والعفر من الظباء: التي يعلو بياضها حمرة.
3 الإسناف: مصدر أسنف بمعنى شد البعير بالسناف، والسناف للبعير بمنزلة اللبب للفرس ويقال "عي فلا بالإسناف" إذا دهش من الفزع كمن لا يدري أين يشد السناف.
مأخوذة من المثل: "رمدت الضأن فريق ربق"، ورمدت الضأن نزل لبناها قبل النتاج، وربق أي هيئ الأرباق وهي الحبال التي تشد فيها رءوس أولادها، ومعنى المثل إن الضأن قد عظمت ضروعها فأعد الحبال لأولادها، وهو يريد أن هذا الشعب السابح في الجهالة اليوم سيكون منه ما لا ينتظر وقوعه في غد.
وهو يعدل عن الكلمات المألوفة إلى الكلمات الغربية لغير ما عذر أحيانًا مثال ذلك قوله:
يلقى أخاه كما يلقى أباه على
…
حال بها يتباهى الخيم والأدب
فاستعمل كلمة الخيم بدل الطبع أو الخلق، و"الطبع" تستقيم في البيت، ومثل كلمة "الرجام" أي القبور في قوله:
ما زلت سرًّا في الرجام محجبًا
…
من دونه الصخر الأصم حجاب
وله استعمالات مغرقة في الغرابة كقوله:
وكواكب تجري على فَلَك الردى
…
فاليومُ أيوم والنهار شرير
وقوله:
فما لداري أصبحت حجرةً
…
فيها نبا جنبي عن مضجع
حجرةً أي: كثيرة الحجارة، وقوله:
فوارحمتا لابن الحكومة قوسه
…
قلوع وهل يرجى سداد قلوع
والقوس القوع هي التي تنفلت حين النزع فتنقلب، فلا يرمى بها، وإذا رمى بها فلا يصاف الهدف.
وقوله: "نجلته أمهة" يريد أما1، والخمر عنده "جربال" في قوله:
يهفو النسيم عبيرًا من شمائله
…
كأنما هو في الألباب جربال
ولا نشعر حين يختار القوافي الصعبة النادرة كقافية الجيم، أو القاف مثلًا أنه يتكلف هذه القوافي، أو أنها قلقة، أو أنه برم بها، فلا يلبث أن يوجز وينهي القصيدة، وإنما الأمر عنده على العكس فقصيدته القافية في حوادث الحرب الكبرى الأولى تزيد عن المائتي بيت جمع فيها كل قافية مستعصية مثل "الزنيم الخفلق2"، و"ميثاء سملق3" و "الحارس المتنفق4"، ومثل قوله:
1 ص176 من الديوان.
2 الزنيم: الملحق بقوم ليس منهم كأنه زنمة، وهي ما يقطع من أذن البعير والشاة فتترك معلقة، والحقائق: الأحمق الضعيف.
3 الميثاء: الأرض السهلة، والسملق: الأرض المستوية الجرداء التي لا شجر فيها.
4 حرش: الضب صاده فهو حارش، وهو أن يحرك يده على جحرة ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وتنفق الرجل اليربوع أخرجه من نافقائه فهو متنفق.
فما لبثوا أن أرزم الموت بينهم
…
بداهية من حول غزة بهلق1
ومثل قوله:
فهذا فريق في التلال مصرع
…
وذلك فوق الأمعر المتوهق2
وهذه القصيدة وحدها أكبر دليل على تمكنه من غريب اللغة. وله غيرها قصائد وعرة القافية واللفظ كقصيدته في رثاء حمزة فتح الله التي مطلعها:
كبد بما صنع الأسى تتمزع
…
بأن الخليط بها عشية ودعوا
وكل شعره جزل قوي التركيب، شديد الأسر، محكم القوافي، غاص بالغريب، له جللجة ورنين في الأذن واسنجام موسيقي رائع، يدل على أن صاحبه لم يتكلفه وإنما كان ينطلق من لهاته كالسيل جارف.
وإذا نظرنا إلى أغراضه وجدناه يقول في الأغراض المعروفة عند العرب من قبل، وإن كان قليل المديح؛ لأنه لم يك يرجو ثوابًا من أحد، أو يطمع من منصب، وليس من شعراء الحاشية وطبعه البدوي يربأ به عن الزلفى والنفاق، ولذلك لم يمدح إلا لفكرة، أو غاية سامية، وَجُلّ ثنائه على أصدقائه الذين أسدوا إليه جميلًا، وليس له في السطان عبد الحميد إلا قصيدة واحدة بمناسبة إعلان الدستور، وقد كان نافرًا من حكمه ينعى عليه استبداداه وجبروته، وقد ذم عهد عبد الحميد في قصيدة طويلة بعث بها إلى صديقه الشيخ عبد القادر المغربي، وكان مضطهدًا في عهد عبد الحميد وفيها أبيات تجري مجرى الأمثال، من هذا قوله:
إذا الملك لم يعط الرعية حقها
…
فغير عجيب أن يهان ويخلعا
وقوله:
وما الملك إلا ما أقامت له الظبا على الحق صرحًا سامي العرش أتلعا3
وليس له في الخديو عباس سوى قصيدتين إحداهما قالها حين عاد الخديو من الحج ولقد أفاد عبد المطلب من إنصرافه عن المديح، فعنى بالأمور العامة لوطنه، ومراثيه أكثر من تهانيه ومديحه، وهي قوية جدًّا، تنم عن عاطفة غلابة،
1 أرزم الرعد اشتد صوته، والناقة جنت على ولدها، والبهلق: الداهية قال رؤبة:
حتى ترىالأعداء مني بهلقا
أنكر مما عندهم وأقلقا
2 الأمعر: المكان الصلب، الكثير الحصى، والمتوهق: الشديد الحرارة.
3 أتلعًا: مرتفعًا.
ولم يرث إلا صديقًا أو زعيمًا وطنيًّا، وقد علمت مبلغ وطنيته، وصدق ولائه لفكرة الوطن والاستقلال، وعداوته للمحتل الغاصب، فإذا مات الزعيم فقد فقدت الأمة قائدًا محنكًا وهي في أمس الحاجة إليه وإذا رثى أعطاك صورة واضحة عن المرثي، ولا يحفل بهذه الحكم المبتذلة، والمواعظ المتصنعة؛ وذلك لأنه يقول عن عقيدة وفكرة، ومرعفة تامة بخلال من يرثي وأعماله ومنزلته. خذ مثلًا رثاءه لسعد زغلول:
نعى الناعي بجنح الليل سعدا
…
فيا لله ما فعل الصباح
جموع بالعراء مدلهات
…
تموج بها على السعة البراح
وأفئدة خوافق داميات
…
تفري في جوانبها الجراح1
وأجفان أجف الدمع فيها
…
جوى بالضلوع له التياح2
وأبصار سكرن فلا انطباق
…
ترف به العداة ولا انفتاح
وليل بالأسى والخطب ساج
…
ويوم من جوى الأحشاء راح3
فلا تلم النفوس جرين دمعًا
…
وراء الظاعنين غداة راحوا
أتلحا أمة ثكلت أباها
…
أضلهم الحجا فبكوا وناحوا
إذا كتموا الأسى جلدًا ألحت
…
عليهم لوعة البلوى فناحوا
أن لولاه وما عرفوا حياة
…
ولا عرفانًا للاستقلال راحو4
ثم يروح يصور لك سعدًا ومنزلته، وما صنعه لقومه تصويرًا بديعًا قويًّا، مشوبًا بعاطفة تضطرم بين جوانحه أسى ولوعة لفقد هذا الزعيم، وكل مراثيه عامرة بهذه العاطفة، مما يدل على أنه لم يكن يرثي مجاملة أو نفاقًا، وإنما كان يرثي لأنه محزون مكلوم الفؤاد، استمع إلى رثائه في صديقه الشيخ عبد العزيز جاويش بعد مضي عام على وفاته وكيف يبدأ قصيدته:
ليل شربت به الهموم أجاجا
…
جعل الأسى لكؤسهن مزاجا
1 تفري: تقطع.
2 الالتياح: الحرقة والعطش
3 راح: شديد الريح.
4 راحوا -شموا.
خرست جوانبه ولج ظلامه
…
يا ليل مالك بالدجى ملجاجا
وله فيه قصيدة أخرى طويلة حين وفاته وفيها يقول:
يا قوم من أبكى ومنذا الذي
…
أنعى إليهم بالأسى ذاهلًا
أنعى أخا العمر شقيق الصبا
…
هيهات قد ولى الصبا حافلا
من لمضيم لم يجد موئلا
…
من ليتيم لم يجد عائلا
من للتي تحت سواد الدجى
…
يزري أساها دمعها إلهامًا
ما بين أطفال كزغب القطا
…
ما كسيت رفًا ولا طائلا1
عودها عبد العزيز الندى
…
ترجو لديه غيثها الثاملا2
دار العلوم احتسبي فقده
…
نجمًا هوى تحت الثرى أفلا
أرسلته نحو العلا فانبرى
…
لأواهن العزم ولا واهلا3
يغريه بالبأساء حب العلا
…
يلذ فيها الموقف الهائلا
سائل به "برلين" إن شئت أو
…
لندن أو باريس أو نابلا
وأسأل به "جيرون" أو أختها
…
فروق وسائل به كابلا4
كل له فيها مقام على الـ
…
إسلام لم تعدل به عادلًا
مجاهد في الله لم يرتقب
…
من أحد برًّا ولا نافلا
ويؤسفني أن يضيق المقام عن إثبات هذه القصيدة كلها هنا؛ لأن ما اخترته منها ليس بخيرها، وهو غير مرتب؛ لأنها كسائر شعره في الرثاء من عيون القصائد، وإن كانت معانيه كلها قديمة، ولكن عاطفته وحسن تصويره لمواقف الحزن، وإشادته بمآثر المرثي تضفي على القصيدة روحًا جديدة. ولعلك تلحظ أنه
1 الرف. صغار الريش، والطائل: القدرة والرغد من العيش.
2 الثامل: من ثمل قومه بمعنى أغاثهم وأطعمهم، وسقاهم وقام بأمرهم.
3 الواهل: الفزع.
4 جيرون: موضع عند باب دمشق، وفروق: اسم القسطنطينية.
يظهر اللوعة والألم وشدة الحزن في رثائه وهذا شأن الشعراء الذين يرثون وهم مفجوعون، ولا تجد له في رثائه بيت حكمة أو موعظة كما ترى عند شوقي، فالقصيدة كلها في المرثى، وبعد هذا الباب من أقوى أبواب شعره.
وثمة غرض آخر من أغراض شعره كان فيه صادقًا لأصله العربي، وذلك هو الوصف، فقد اشتهر العرب بالدقة في الوصف، ولا سيما إذا كانوا بدوًا؛ لأن الصحراء قد أرهفت حواسهم، فعنوا بدقائق الأشياء، وقد بينت فيغير هذا الكتاب أثرها فيهم وفي أدبهم1.
ومن الغريب أن عبد المطلب يحسن تصوير الحالات أكثر من تصوير الأشياء، ولعلك تتذكر ما نقله نجيب حداد عن الفرق بين الشعر العربي والغربي2 في هذا الموضوع، وأن الغربيين اشتهروا بوصف الحالات على العكس من العرب، وهذا يدل على شاعرية قوية لدى عبد المطلب، ولو أوتيت حظًّا من ثقافة غربية أو وجهت توجيهًا لأبدعت أيما إبداع.
ومن تلك الحالات التي صورها فأجاد تصويرها حال المعلم، وتعسف الإنجليز في مصر وتصوير حاله وهو ضيف بقصر الباسل، وتصويره لموظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى، وما عاناه من غلاء، وبؤس وشقاء، وتصوير للجنود الإنجليز وسواهم بمصر أيام الحرب العالمية الأولى، إلى غير ذلك من الحالات التي أهاجت شاعريته، فاستجابت لها، وأبدعت في تصويرها. خذ مثلًا قوله يصف حال بعض الطلبة المصريين وقد هوى بهم قطار في طريقهم إلى برلين يطلبون العلم بعد الثورة المصرية:
حملوا منى لو أن جذوتها
…
لفحت جبال الألب تستعر
بأبي نفوس في الدنا زهدت
…
فمضت لدار الخلد تبتدر
بأبي غرانيق الصبا ذهبت
…
أشلاؤها في الترب تنتثر
بأبي دم قانٍ هناك جرى
…
فوق الثرى كالمسك ينتشر
1 ارجع إلى النابغة الذبياني ص45 وما بعدها، وإلى الفتوة عند العرب الفصل الثاني.
2 راجع فصل النقد الأدبي من هذا الكتاب.
بأبي صريع ولا وساد له
…
إلا الثرى المخضوب والحجر
صاح يخد الأرض من ألم
…
أو ذاهل مما به خدر
ولربما نادى أبي ودعا
…
أمي ودمع العين ينحدر
لقد استطاع عبد المطلب في هذه القطعة أن يحلق في سماء الخيال ويستحضر المنظر البشع، ويعطيك منه صورة قريبة من الحقيقة وهذه هي الشاعرية المركبة كما مر بك، استمع إليه كذلك يصف حال المعلم وبؤسه، وكده في سبيل العيش، وسهره المتواصل في سبيل النشء، والناس يثرون وهو لا يزال في فقره.
سلو عنه جنح الليل كم بات متعبًا
…
تناز حواليه النجوم ويسهر
سلو عنه يمينًا قرح السهد حفنها
…
يخط عليها في الظلام ويسطر
سلوا عنه جسمًا بات بالسقم ناحلًا
…
فلا البرء مأمول ولا هو يعذر
سلوا عنه أسفارًا قضى الليل بينها
…
غريبًا عن الدنيا وأهلوه حضر
سلوا عنه قلبًا بات يخفق رحمة
…
على فتية من حوله تتضور
يروعه صرف الليالي عليهم
…
وعات حواليهم من البؤس يزأر
فإن مد للدنيا يدًا يستمدها لهم
…
عنه ولت وهي غضبي تشزر
سلوا عنه غخوانه قضى العمر بينهم
…
غدوًا في ثراء وهو بالفقر أخير
وهذا وصف دقيق صادق لحال المعلم المخلص في عمله، ولا نجد له نظيرًا في أدبنا الحديث، وهاك ما قاله وهو ضيف بقصر الباسل، وهو على ما به من إيجاز يعطيك صورة واضحة عن حاله ثمة:
وليال مضيت بالقصر غر
…
ضافيات السرور والإيناس
لم أكن فيه مثل ما ينزل الضيـ
…
ـف غريبًا في حشمة واحتراس
إنما كنت بين أهلي وإخوا
…
ني مقيمًا في معشري وأناسي
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.
وهاك ما قاله في موظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى وقد اشتد به الضيق وحزبه الضر، من شدة الغلاء، وكثرة البلاء حتى وضعت منزلته بين قومه، وهان على الناس، وعلى حين أثرى الجهال وارتفع السفلة.
طليح أسى كابن الحكومة لاحه
…
تباريح هم بالفؤاد وجيع
لقد كان في بحبوحة من حياته
…
وحِرز عن الفقر المهين منيع
يمر فيغضى الناظرون مهابة
…
وإن هو حيا أومأوا بركوع
فأصبح مهزول المكانة خاملا
…
همامة حر في ثياب وضيع
يرى الناس في أكناف مصر تربعوا
…
منازل عيش باليسار وسيع
فمن زارع ضاقت خزائن بيته
…
بغلات بنات له وزورع
ومن تاجر إن ترجع القول عنده
…
حرمت إذا لم تأته بشفيع
إن هذه صور زاهية فيها إلمام بالحالة النفسية والظاهرية، تدل على مقدرة، وعلى دراسة وتمكن من الموضوع، وعلى شاعرية وحسن أداء.
ولا تحسبن أنه في وصف الأشياء دونه في وصف الحالات، فوصف الشيء هو ما برع فيه العرب، وقد أثبت ديوان عبد المطلب فيضًا من الموصوفات ما بين حسي ومعنوي وكان له غرام بوصف بعض المخترعات الحديثة كالقطار والطيارة، وتراه لا ينفك في كثير من القصائد يذكر البخار وعجائبه.
فمن موصوفاته البديعة ما صور به مختلف الجهود التي جلبها الحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى إلى مصر، من طويل عملاق، وقصير قزم، وأسود، وأبيض، وأحمر، ووصف عربدتهم وفسقهم:
تبصرخليلي هل ترى من كتائب
…
دلفن بها كالسيل من كل مودق1
سراعًا إلى الحانات تحسبهم بها
…
نعامًا تمشي زردقًا خلف رزدق2
1 المودق: معترك الشر.
2 الرزدق. الصف من الناس معرب "رسته" بالفارسية.
يهزلك مرآها إذا اصطحبت بهم
…
مواخير تجلو فاسقات لفسق
إذا أجلبوا فيها حسبت حنادبًا
…
تجاوبن إيقاعًا على صوت نقنق1
كأن بني حام بمصر تواعدوا
…
ليجتمعوا من بعد ذلك التفرق
زعانف شتى: من طويل مشذب
…
طري القرا عاري الأشاجع أعنق2
وملتصق بالأرض تحسب خطوه
…
إذا مر في أحيائها خطوه خرنق3
وأخنس ممحوق الحجاجين ينتحي
…
لأصمع معروق العذارين أشنق4
وأسود نهد الوجنتين حديثه
…
بجحفلة تهال عن شدق أفوق5
إنه تصوير رائع لهذا الخليط من البشر، وكل شخص من هؤلاء صورة حية. وقد وصف في هذه القصيدة ذات القافية المشهورة أعمال دانلوب مستشار وزارة المعارف الذي مرت علينا مساوئه في الفصل الأول من هذا الكتاب وصفًا قويًّا دقيقًا فقال:
وبالعلم سل "دنلوبهم" لِمَ لَمْ يدع
…
ذواقًا من العرفان للمتذوق
رمتنا به حمى أصابت بلاده
…
تطاير عنها كل فدم حبلق6
ولو وزنوا في غير مصر مقامه
…
لأرخصه في السوم كل مدَنَّق
فأصبح داء في المعارف قاتلا
…
يسدد فيها كل سهم مفوق
1 النقيق: أصوات الضفادع.
2 الزعنف: كل جماعة ليس لهم أصل واحد، المشذب: المنشور أو المقطوع الأطراف، وأمله يريد به المشوه، والقرأ بفتح القاف: الظهر، والأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف والأعنق: الطويل العنق.
3 الخرنق: الفتي من الأرنب.
4 الأخنس: الذي يتأخر أنفه عن وجهه مع ارتفاع قليل في الأرنبة. والحجاجان: العظمان اللذان ينبت عليهما الحاجبان، وممحوق الحجاجين: لا أثر لهذين العظمين لديه، والأصمع: الصغير الأذن، والمعروق: القليل اللحم، والعذار: هو من الوجه ما ينبت عليه الشعر المستطيل المحاذي لشحمة الأذن إلى أصل اللحى، والأشنق؟ ": الطويل الرأس.
5 نهد الوجنتين: بارزهما، والجحفلة من الحيوان كالشقة للإنسان، والأفوق: المتكسر الأسنان مأخوذون من قولهم: "سهم أقوف" أي كسر فوقه.
6 الفدم: العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة والحبلق: الصغير القصير.
فواها على تلك العقول التي ثوت
…
بكفيه في لحد من الجهل ضيق
ثلاثين عامًا يكسب النيل حسرة
…
على العلم دمع الوالد المتشوق
وله قصيدة في وصف ذهاب سعد زغلول إلى عميد بريطانيا يطالب هو وصحبه منه رفع الحماية عن مصر، وكيف كانت حالة البلاد في تلك الأيام، وكيف قابل الإنجليز هذا الطلب المتواضع بعنجهية وغلظة أديًا إلى قيام الثورة، وفيها يقول مخاطبًا سعد زغلول:
ما ننسى لا ننسى يومًا قمت فيه على
…
سجية الليث لا وهن ولا خور
والناس هلكى تموج الحادثات بهم
…
فالأرض ترجف والبأساء تستعر
"لا نوم إلا على خوف وزلزلة
…
فيها، ولاضوء إلا النار والشرر
والحق بين القنا والبيض مختدر
…
أو مضمر في بطون الغيب تستتر
لم تخش وقع الردى لما صدعت
…
به والسيف بلمع والخطي مشتجر
عمادك الحق لا جند ولا حصن
…
ولا حصون ولا بيض ولا سمر1
إلا عزائم أهلوها إذا زخرت
…
ريح العظائم في تصريفها زخروا
سكوا وجوه العوادي وهي تزجرهم
…
إلى المصارع ما طاشوا وما ذعروا
قامت تساورهم غضبي يؤيدها
…
جند من البغي والعدوان مقتدر
في كل شعواء ترتج البلاد لها
…
تستنفد الصبر لا تبقى ولا تذر
للنفي قوم وللإعدام طائفة
…
وفي السجون فريق للردى حشروا
وهذا وصف قوي لابتداء الثورة المصرية، وكيف صدع سعد بالحق في وقت اشتد فيه بأس العدو، وقد خرج مظفرًا من حرب طاحنة، وذهبت مصر تؤيد زعيمها، واضطربت البلاد وزلزلت زلزالًا شديدًا، والناس يطلبون حقهم من يد عدو قوي عنيف مدجج بالسلاح ولكن سعدًا لم يقدم على الثورة إلا معتمدًا على
1 حصن: جمع حصان.
الحق وحده إذ ليس وراءه جند يؤازرونه، ولا حصون تحميه، ولا مدافع تؤيده، وما هي إلا عزائم قومه صكوا بها وجوه العوادي، وهي تزجرهم إلى المصارع ومع ذلك فلم تطش أحلامهم، أو يدب الذعر إلى قلوبهم، وقام العدو يردهم عن باطلة تؤيده جنوده ودباباته، يثب عليهم مرة بعد أخرى، وقد بغوا وطغوا فنفوا، وأعدموا وسجنوا كثيرًا من المصريين.
ولكن يلاحظ أنه فيوصفه هذا ما زوال بدويًّا في تشبيهاته، فسعد في إقدامه "ليث" لا يهن ولا يخور، والحق بين "القنا والبيض مختدر" ولا قنا هناك ولا بيض، بل مدافع رشاشة، وبنادق سريعة، وسعد لا يعتمد على بيض ولا سمر.
ويقول في هذه القصيدة يصف "سيشل" تلك الجزيرة التي نفى إليها سعد زغلول، وقد أجمل في بيت واحد مساوئ تلك الجزيرة، فأعطى صورة واضحة عنها؛ لأنها جزيرة موحشة، موبوءة الأمراض، لا يرتاح فيها ساكنها، أو يهدأ له بال حتى يغشى الكرى جفنيه.
حتى أناخوا بأرض أمنها فزع
…
والبرء فيها سقام والكرى سهر
وله في وصف انقسام المصريين على أنفسهم، وتصدع وحدتهم، وشماتة العدو الجاثم في البلاد بهم قصيدة رائعة، ولكنها بدوية النسج، غريبة اللفظ إن كانت دقيقة الوصف، استمع إليه كيف يصور ذلك الانقسام الذي أدى إلى خذلان مصر في قضيتها:
يا قوم ما هذا العداء، وكم هوى
…
فدما بعز ممالك وملوك
يرمون بالخطب الطوال وكلها
…
خطرات أرعن أو سباب أفيك1
من كل مرتبك المقالة رأيه
…
زيفان بين مسفه وربيك2
تركوا البلاد على الهوان تخب في
…
أذيال أسود بالبلاء مَحُوك
يذكي بها لهب العداوة بينهم
…
خطَلُ السفيه وإمرة المأفوك
1 الأفيك: الضعيف العقل.
2 زيفان: زائف.
والليث منتشر المخالب فاغر
…
يختال في جبرية وفتوك1
جاث يخاف النيل من غدراته
…
بأساء يوم بالخطوب عتيك2
يا مصر مالك غير أهلك فتنة
…
في الله ما لاقيت من أهليك
ما أنت بالبلد الشقي وإنما
…
جلب الشقاء على بنيك بنوك
فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا
…
منها على أهوائهم فتنوك
فهل رأيت وصفًا أدق من هذا الوصف لتلك الحالة المزرية التي آلت إليها مصر على يد المتزعمين فيها، وهم يرمون بالخطب الطويلة، وكلها خطرات أرعن، أو سباب أفيك كذاب، والكتاب يزورون مقالات زائفة يحررها أحد رجلين، إما شخص سفيه الرأي، أو مرتبك لا يدري وجه الصواب، وقد ترك الجميع البلاد في هوان وذلة عليها ثياب الحداد وخزي الاستعمار، وقد أذكى العداوة بينهم خطل السفيه، وتزعم المأفوك، بينما العداوات الصغيرة والحزازات الوضعية سبب بلائها ومصدر شقائها، وقد رد على حافظ إبراهيم حين قال:
فما أنت يا مصر دار الأديب
…
وما أنت بالبلد الطيب
فمصر عند عبد المطلب ليست بالبلد الشقي، وإنما جلب الشقاء عليها بنوها الذين يعتسفون الطريق، ولا يعرفون كيف يتحدون فيما بينهم على الأهداف الواضحة، ويدعون عدوهم يعيث في البلاد فسادًا، ويشغلون بتوافه الأمور، وبحزازاتهم الشخصية عن تنغيص مقامه عليه، وطرده من بلادهم لأنهم قد:
فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا
…
منها على أهوائهم فتنوك
وقد أولع عبد المطلب بوصف بعض المخترعات الحديثة كالطيارة، والقطار، والباخرة، وكأنه شعر بأنه لن يكون شاعرًا مكتمل الشاعرية، ممثلًا لعصره أتم التمثيل إلا إذا وصف هذه المخترعات، وهو الذي ينعته النقاد بالشاعر المبتدئ والشاعر المقلد، فأراد أن يبرهن على أنه على الرغم من نزوعه إلى القديم في
1 جبرية: مصدر بمعنى القوة.
2 العتيك: الشديد.
شعره لا يقل عنهم احتفاء بالجديد من الموصوفات وقد أثار الأستاذ العقاد موضوع هذه المخترعات في كلمته عن عبد المطلب وقال: "ولما ظهر المذهب الحديث في الشعر حاول عبد المطلب أن يفهمه ليرد عليه ويتحداه، فلم يفهم منه إلا أنه وصف المخترعات العصرية، والآلات الحديثة والنظم في الطيارة كما كان الشعراء الأقدمون ينظمون في النوق والأفراس".
وذكر أنه لقيه بعد أن سمع قصيدته "العلوية" وسأله عن رأيه فيها فأثنى على جودة سبكها ومتانة نسجها، وذكر أن هذا موضوع طيب للتحليل، ولكن عبد المطلب عالجه على طريقته القديمة، ولم يعالجه على طريقة المحدثين، فرد عبد المطلب بأنه وصف الطيارة، فتهكم به العقاد، وقال: إنك لم تصف الطيارة التي تود أن تلاقي بها الإمام على السحب إلا كما وصف الأقدمون الناقة التي توصلهم إلى الممدوح "وموطن الخطأ أنكم تحسبون الشاعر العربي يصف الناقة؛ لأنها أداة مواصلات، فتحسبون وصف هذه الأشياء في عصرنا فرضًا على الشاعر الحديث، وليس الأمر على هذا الحسبان" وذكر أن الشاعر العربي إنما كان يصف الناقة؛ لأنها جزء من حياته يحس بها الأنس في القفار الموحشة، ويأكل من لبنها ولحمها، وينسج ثيابه، ومسكنه من وبرها، ويعرفها وتعرفه كما يتعارف الصحاب من الأحياء "ويعيب على هؤلاء الذين يتلقفون ما تخرجه المصانع من مخترعات ويروحون يصفونها؛ لأنهم لا يدرون لماذا يصفون وينظمون، وهم في هذا الوصف محاكون أقدم من الشعر الجاهلي، وأبعد من الشاعر العصري عن واصف الناقة في البيداء؛ لأن الشرط الأول في الشعر الحديث أن يصف الإنسان ما يحس ويعي، لا أن يصف الأشياء مجاراة للأقدمين عكسًا وطردًا في أنواع المجاراة1.
على أن وصف المخترعات الحديثة يجب ألا ينظر إليه هذه النظرة، فإذا كانت الناقة في القديم جزءًا من حياة العربي البدوي، وعاملًا مهمًّا فيها، فإن المخترعات الحديثة قد ينظر إليها الشاعر على أنها ثورة الإنسان على الطبيعة، وتغلبه عليها،
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص49-50.
وتذليله لها، وعلى أنها عامل مهم في حياته كذلك، قربت له البعيد، ومهدت له سبيل الثراء إلى غير ذلك من المنافع، ثم إنه قد يرى فيها حلمًا من أحلام الإنسانية صار حقيقة ملموسة فهو يتخذ من الجو بساطًا ممهدًا، يشارك العقبان في أجوائها، والهواء في مساربه، ويعتلي ظهر الماء آمنًا مطمئنًا سريعًا، بل يغوص في أغواره يشارك الحيتان، مسابحها، ويصعد فوق صهوات السحب ويلقي نظرة من عليائه على الدنيا فإذا المدن العظمية كأنها لعب أطفال فتثير هذه الحال في نفسه مشاعر وأحاسيس جديدة.
وقد خلد بعض شعراء الغرب؛ لأنهم عنوا بمظاهر الحضارة الحديثة، ووصفها، وخصوها بحز كبير من شعرهم مثل كبلنج kiplina الشاعر الإنجليزي وهو من شعراء القرن العشرين وقد قال عنه نقاد الأدب الإنجليزي ومؤرخوه:"إنه عظيم لأنه كشف عن موضوع جديد للشعر وخلع عليه من خياله وحرارة وجدانه ما جعله موضوعًا شعريًّا جذابًا، إنه تميز عن سواه بوصف آلات الحضارة الحديثة، كالقطار، والباخرة، والمسرة، والبرق، والطيران ووجد فيها منبع إلهام، لم يتهيأ لسواه من الشعراء لاعتقاده أن الناس في هذه الأيام لا يرون زمانهم أجمل من زمن أسلافهم ويحلمون دائمًا بالماضي ويتحسرون عليهن مع أن جمال الحاضر أروع من جمال الماضي"1.
وإذا كان عبد المطلب في وصفه للطيارة في مطلع القصيدة العلوية نهج سبيل العرب في وصفهم للناقة التي توصلهم إلى الممدوح أو إلى الغاية من رحلتهم وذلك حيث يقول:
إذا ما هزمت في الجو خلنا
…
جبال النجم تنهدم انهداما
وإن زجر الرياح جرت رخاء
…
وولت حيث يأمرها الزماما
يسف على الثرى طورًا وطورًا
…
تراه على الذُّرى شق الغماما
أجدك ما النياق وما سراها
…
تخوض بها المهامه والأكاما
1 راجع. modern english litreature. by g.، h maire anda. c. w and، p. 202
وما قطر البخار إذا استقلت
…
بها النيران تضطرم اضطراما
فهب لي ذات أجنحة لعلي
…
بنا ألقي على السحب الإماما
فإنه في غير هذه القصيدة قد أبدع في وصف الطيارة على طريقته، وذلك حين قدم الطائران التركيان لأول عهد الشرق بالطيران إلى مصر، وذلك حيث يقول:
وقفت لك الدنيا فسيري
…
مسرى الضياء من الأثير
يا أخت سابحة النجو
…
م وبنت سانحة الضمير
من عهد آدم لم تزل
…
عذراء مسبلة الستور
بكرا تقلبها أكف
…
الغيب في طي الدهور
حتى جلتها للعيو
…
ن منصة العهد الأخير
ثارت لتأخذ باسمه
…
عهدًا على ملك الطيور
ملك البخار على السما
…
ك بصولة الملك القدير
في كل غواص ورسا
…
ب بأحشاء البحور
ثم أنثنى يرمي سما
…
ك الجو بالجيش العزير
فالنجم في فرق يجول
…
بجفن مرتاع حسير
والسحب من حذر البخا
…
ر وبأسه حيرى المسير
بامنذر الأفلاك هل
…
للأرض دونك من نصير
ما هذا الورق التي في
…
الجو تعلو في الهدير
غَيْرَي من الأطيار في
…
أحشائها لهب السعير
فتح مخالبها الحد
…
يد وريشها نسج الحرير1
غنيت بمجبول الدمقـ
…
ـس عن القوادم والشكير2
ترد السحاب الغر إن
…
ورد الحمام على الغرير
1 الفتح. لين المفاصل، ويقال للعقاب فتحاء لأنها إذا انحطب انكسر جناحاها وهذا لا يكون إلا من الين، وهو يريد أن يشبهها بالعقاب، وبأنها الحركات.
2 الشكير من الشعر والريش. صغاره بين كباره، والدمقس: الحرير الأبيض.
خشعت لها هوج العوا
…
صف في الرواح وفي البكور
وفي هذا الوصف خطرات شعرية رائعة لا تتأتى إلا للموهوبين وذلك حين وصف الطائرة بأنها نجم من النجوم وأنها "بنت سانحة الضمير" وفكرة ظلمت عذراء من عهد آدم مرخى عليها السترن بكر لم يفترعها عقل إنسان، تقلبها أكف الغيب في طي الدهر حتى جلت للعيون الحضارة الحديثة؛ وكأني به يتصور العالم العلوي دهشًا لهذا الشيء الذي يصعد إليه من الأرض، هل صعدت الطائرة لتأخذ ثأرًا من عقاب الجو أو النسر؟! وانظر النجم هلى تراه فزعًا مرتاع الجفن؟ والسحب ما بالها حيرى حذر البخار؟ أهي ورقاء في الجو تغلو بالهدير، وتغار من الأطيار فأضرمت الغيرة في أحشائها نارًا؟ ثم انظر معي لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، فهل عبد المطلب كما يقول العقاد كان يقول الشعر للمهارة اللغوية فحسب من غير أن يصدر عن خيال أو عاطفة؟
لم يصف عبد المطلب الطيارة وصفًا علميًّا، أو تاريخيًّا، وإنما وصفًا شعريًّا مبينًا أثر العقل الإنساني في تذليل قوى الطبيعة وتسخيرها لخدمة البشرية، وهذا ما يتطلبه الشعر، وحسبه هذه النظرة للمخترعات الحديثة.
ولكننا نلاحظ أن عبد المطلب لم يعن بوصف الطبيعة ومناظرها، مصرية كانت أو غير مصرية، وفي البيداء التي يغرم بها مناظر ساحرة، خليق بشاعر حساس وروعتها، كما فعل أسلافه شعراء العربية، من قبل، ولست أدري سببًا لخلو شعره من وصف الطبيعة، ولعل نضوج شاعريته في سني الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة المصرية شغله بالنظر إلى الأحداث القومية والشئون الاجتماعية عن النظر إلى الطبيعة، ولم تكن هذا عيبه وحده، بل هو عيب لحق غيره من معاصريه، وقد تكلمنا عن موقفهم إزاء الطبيعة المصرية آنفًا.
ويلاحظ كذلك أن عبد المطلب لم يلتفت أدنى التفاتة إلى الآثار المصرية كما فعل شوقي وإنما نظر إليها نظرة خاطفة حين افتخر بمصريته، وقد تبع هذا
الإهمال لآثار مصر أنه لم يعرج على التاريخ المصري القديم، ولكن عبد المطلب -والحق يقال- كان عربيًّا مسلمًا؛ ولذلك وقف بعض الوقفات أمام أحداث التاريخ الإسلامي كما سيأتي عند الكلام عن أثر الدين في شعره.
على أن الشاعر المكتمل الشاعرية، القوي الإحساس بالجمال والعظمة لا يملك حين يرى الطبيعة في أوج حسنها، أو عنفوان سخطها إلا أن يتأثر وينفعل ويقول، كما لا يملك حين يفكر مليًا في عظمة آثار مصر، وكيف شيدت، وغالبت الدهر، ومرت عليها أحداث القرون في مواكب متتابعة ومصر الخالدة بنيلها وآثارها لم تتأثر بتلك الأحداث لا يملك حين يفكر في كل هذا إلا أن تتفتح أمامه مغاليق المعاني، ويسبح في سموات الخيال. ولعل العلة الحقيقية في عزوف كثير من شعراء الجيل الماضي عن وصف الطبيعة واستلهام التاريخ هي أنهم جروا في أغراض الشعر على مذهب الأقدمين، وشغلوا بأنفسهم عن العالم الخارجي، وكانوا ذاتيين لا موضوعيين، فجنى عليهم التقليد، وحبس شاعريتهم عن الانطلاق إلى آفاق جديدة إلا القليلين منهم.
هذا ومن الأغراض الشعرية التي عنى بها عبد المطلب الحياة الاجتماعية بمصر. وقد سبق أن أشرنا إلى مواقفه من مشكلة الفقر والغنى1 وأنه اكتوى بنار العوز إبان الحرب العالمية الأولى، وكان من الطبقة المتوسطة في الشعب لم يرث مالًا، أو يحرز ثراء فلمس بنفسه ألم الحاجة، وكان من الكادحين في سبيل الرزق فعرف عن قرب مرارة الفقر والحرمان.
ولعبد المطلب فيما يتصل بهذه الناحية عن قرب قصة طريفة لامرأة فقيرة عجوز جاءت وابنتها إلى القاهرة تبحت عن عمل يكفيها شر السؤال، وكانت هذه أول مرة تفد فيها إلى القاهرة، فما أن نزلت ميدان "باب الحديد" حتى بهرتها الأضواء والضوضاء وتعدد السبل فوقفت حائرة برهة ولكن عين الشيطان كانت ترقبها، فما أن لحظ ترددها وهيبتها حتى دلف إليها في صورة ملاك يتقدم للأخذ بيدها،
1 راجع ص19 من هذا الكتاب.
وإرشادها إلى سواء السبيل، فأقبلت عليه بوجه باش تبثه خبيئة نفسها، وهو يبدي لها صنوف العطف والرحمة ما ألهج لسانها بالدعاء له، ولما رآها قد أمن جانبه قليلًا أخذ ينصب حبائله للظفر بالفتاة، بيد أن الأم التي نشأت في الريف، ولها طبيعة لم تتدنس، ارتابت في حركاته، وتودده لابنتها، وما أن تيقنت من كيده، ورأت بعين فطرتها الأخيرة أنه شيطان مريد، حتى حذرته، وخشيت سطوته، وأخذت تقاوم ألاعيبة وكيده، وهو يلين تارة ويشتد أخرى، ولم ينقذها طيب المأوى والرفد والعناية، ولأسمعك بعض هذه القصة؛ لأنها تدل على موهبة طيبة عند عبد المطلب في حياكة القصة شعرًا لو كان قد عنى بهذا واتجه إليه، وإن كان قد ساق هذه القصة بأسلوبه الجزل القوي ولم ينح عنها خياله البدوي:
أسألت باكية الدياجي ما لها
…
أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعًا
…
غلب الأسى عبراتها فأسالها
تطوي على الآلام مهجة صابر
…
قطع الزمان بريبه آمالها
تبكي إذا انقطع الأنيس لصبية
…
يتضورون يمينها وشمالها
من كل ناعمة الحياة ومترف
…
ورد الحياة معينها وزلالها
يشكو الطوى فتفيض مهجة أمه
…
شفقًا عليه وليس يدري حالها
ولأخته عين تحدث أمها وحيا
…
وقد حبس الحياء مقالها
كلب الشتاء بجسمها فتعطفت
…
تطوي على خاوي الحشا أوصالها
ثم يتطرق من هذا إلى قصة تلك العجوز فيقول:
ويتيمة شهد الزمان بيتمها
…
في الحسن لم تلد الحسان مثلها
خرجت من الإسكندرية غدوة
…
تزجي إلى أكناف مصر رحالها
حتى إذا وقف القطار بها على
…
باب الحديد تلفعت أسمالها
وسعت تقلب مقلة محزونة
…
في الذاهبين يمينها وشمالها
حيرى يضيق بها المجال وطالما
…
فسح اليسار على المضيق مجالها
تقتاد في الطرقات فانية القوى
…
محنية صبغ المشيب قذالها
أربت على السبعين ما لمس الخنا
…
يومًا مآزرها ولا سربالها
وهناك أبصرها امرؤ دنس الهوى
…
شرب المخازي علها ونهالها
متكلف خلق بالكريم ببزة قد
…
خاظ من وضر الفجور جلالها1
يدعو إلى دار الفسوق نقية
…
عفت وما نقض العفاف حالها
لما تبينت النقيصة أمها
…
في حاجبيه تبينت ما هالها
نظرت إلى الوجه الصفيق وأقبلت
…
غضبي تصك بصفحتيه نعالها
ويمضي في القصة على نحو ما ذكرت سابقًا، وينتهي بالحديث عن جمعية المواساة وآثارها الجليلة في المجتمع، ومن المشكلات الاجتماعية التي استرعت انتباهه ما أصاب اللغة العربية على يد الإنجليز، واللغة ظاهرة اجتماعية، وعنوان على ضعف الأمة ورقيها، وقد حاول الإنجليز كما علمت في الفصل الأول أن يبلبلوا ألسنة المصريين، ويضعفوا لغتهم فتضعف قوميتهم، وكان "دانلوب" مستشارهم في المعارف هو المنفذ لهذه السياسة حتى بلغ من سخرية القدر أن الحال السيئة حتى أخرج "دانلوب" من مصر، وجاءت الثورة وعهد الاستقلال، وتولى وكالة المعارف خرج "عاطف بركات" وهو من أبناء دار العلوم النابهين، ودار العلوم حصن اللغة العربية الحصين، فكان حريًّا به أن ينهض باللغة، وأن يلتفت عبد المطلب إلى هذه المأثرة حين رثاه فقال:
وكدنا نرى أم اللغي قبل عاطف
…
فريسة عاث بالمعارف عاتي
يريد بها السوءى ويحمل أهلها
…
على جنف من بغيه وأداة
تلين لأيدي الغامزين قناتها
…
لقلة أنصار وضعف حماة
1 الجلال: جمع جل الكساء.
ويؤنسنا منها أناس نعدهم لكف
…
أذى عنها ورد عداة
فلما تولاها تحول نجمها
…
إلى اليمين عن أيامها النحسات
وكان من الطبيعي أن يخوض عبد المطلب في مشكلة المرأة، وجنوحها إلى السفور، وهو الشيخ المتدين المحافظ على شعائر الدين، فيقول للنساء في حفل خاص بتربية الطفل حضرته أكثر من ألف وخمسمائة سيدة من عقائل مصر، مزينًا لهن الحجاب بخياله الشعري:
زعموهن بالحجاب عن العلـ
…
ـم ونور العرفان محتجبات
بنت مصر كالشمس يحجبها الليـ
…
ـل وراء الآفاق والظلمات
وهي في أفقها ضياء ونور
…
ساطع في بدورها النيرات
أو هي المسك ينفذ العرف عنه
…
من وراء الأستار والحجرات
فينفي أن الحجاب يحجبها عن العلم، ويصفها بأنها كالشمس والحجاب كالليل يحجبها وراء الآفاق والظلمات، وإن لم يوفق في هذا التشبيه على الرغم من محاولته بترديديه في البيت التالي بأنها في أفقها ضاء ونور ساطع في أبنائها الذين يشبهون البدور، أي أنها تعكس ضوءها على أبنائها، ولكن هل يغني البدر عن الشمس؟ أو ليس مغيب الشمس مبعثًا لليل ووحشته، والظلمة ورهبتها، أو ليس محوًا لوجود، ودعوة إلى الهدوء، والركود في معترك الحياة؟
على أن لعبد المطلب قصيدة أخرى أفردها لهذه المشكلة نعي فيها على المرأة المصرية تبذلها في ذلك النقاب الذي تدعوه حجابًا، وما هو بحجاب، بل يزيد في مفاتنها، وهي التي آثرت هجر البيت، وغشيان الحدائق، والمتنزهات ودور اللهو، ورأى أن الحجاب الحقيقي هو ما دعا إليه الشرع، وأنكر الدعوة إلى السفور.
ما هذه الحبرات تهـ
…
ـفو في الخمائل والحقول
نكر العفاف ذيولها
…
ومن الخنى قصر الذيول
إن ينتسبن إلى الحجا
…
ب فإنه نسب الدخيل
يختلن أبناء الهوى
…
بالدلَّ والنظر الختول
من كل خائنة الحليل
…
تهيم في طلب الخليل
نقم الضحى منهن ما
…
خجلت له شمس الأصيل
بكت الخدور جفونها
…
وهجرنها هجر الملول
ما لابنة الخدر المصو
…
ن وربة المجد الأثيل
أودى شفيف نقابها
…
بكرامة الأم البتول
وإنجاب جيب قميصها
…
عن وصمة الشيخ البجيل
وعلى رنين حجولها
…
أسفًا على الذيل الطويل
فإذا مشت هتاك النقا
…
ب محاسن الوجه الجميل
وجلا المقور تحته
…
رخصًا من الصدر الثقيل
وهكذا يمضي عبد المطلب في وصف تبرجها، ويأسف لحالها، وحال ولي أمرها، ويرى أن هذا الذي سمته حجابًا، وهو يفصح عن زينتها ويزيدها فتنة ليس هو الحجاب الشرعي، وأنها ليست بالمرأة المسلمة المتمثلة لأوامر الدين:
أهي التي فرض الحجا
…
ب لصونها شرع الرسول
جعل الحجاب معاذها
…
من ذلك الداء الوبيل
يا منزل القرآن نو
…
رًا النيل عن وضح السبيل
عميت بصائر أهل وا
…
دي النيل عن وضح السيل
ذهلوا عن الأعراض لو
…
يدرون عاقبة الذهول
ومن المظاهر الاجتماعية التي اهتم لها، واحتمل بها، وصارت غرضًا واضحًا في شعر فساد الأخلاق وانحلالها، وتفشي الإلحاد، وضعف وثاق الدين على النفوس، وللدين عند عبد المطلب -كما عرفت في ترجمته- منزلة مكينة في قلبه، تشرب حبه صبيًّا، وشب على تعاليمه، ودرسه وتفهم أهدافه السامية، وقد كثر نحيبه وبكاؤه لما أصاب الدين في مصر من وهن، وانصراف أهله عن التمسك.
به، والمحافظة على شعائره، وذلك ولا ريب أثر من آثار الحضارة الأجنبية التي فتن بها كثير من المصريين المسلمين، ونتيجة طبيعية لتلك السياسة التي أتبعها المستعمر الغاصب؛ لأنه يعلم حق العلم أنه لن يستقر له بمصر قرار ما دام هذا الدين العظيم يسيطر على نفوس أبنائها، ويدعوهم إلى العزة والأنفة من ممالاة الأجنبي أو الرضا بحكمه، وهو الذي جعلهم أعزة، وملكهم العالم يومًا ما.
والشعر الديني عند عبد المطلب ألوان: فمنه تشوق ومدح لمهبط الوحي والأرض التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم داعيًا إلى تلك الرسالة الخالدة:
منازل جبريل، ومثوى محمد
…
جوانبها في ظلمتيه سواء
ومبعث أرواح السعادة في الورى
…
إذا الناس فوضى، والحياة شقاء
ومطلع ما في العالمين من الهدى
…
إذا الكفر داء في النفوس عياء
ومشرع ما في الأرض من مدنية
…
لها نضرة في أهلها ونماء
ومنه فخر بأيام الإسلام الخالدة التي مكنت له في الأرض، ونصرت دعوته يوم بدر، ويوم حنين، ويوم الفتح، وفخر كذلك برجاله الأماجد أمثال أبي بكر وعمر وخالد وعلي والأنصار الذين آووا رسول الله وعزروه ونصروه:
وسل عنهم بدرًا وسل أحدًا وسل
…
عصب الأحزاب يوم تحزبوا
سل الخيل إذ جالت ببطحاء مكة
…
وود العدا لو أنهم لم يكذبوا
ويقول عن أبي بكر رضي الله عنه:
جزى الله خيرًا شيخ تيم وجنده
…
وراياته في الشرق والغرب تضرب
كأني بركن الدين يهتز خيفة
…
عشية مات الهاشمي المحبب
فقام بأعباء الخلافة شيخها
…
وأصحابه من شدة الخطب غيب
فما شهد الإسلام رأيا كرأيه
…
وقد قام في يوم السقيفة يخطب
وإذا كان عبد المطلب لم يلتفت إلى التاريخ المصري القديم إلا نادرًا، فإنه عنى أشد العناية باستلهام التاريخ العربي الإسلامي، وجاءت هذه القصيدة البائية وغيرها حافلة بذكر كبريات الأحداث، وبعظماء الرجال الذين جاهدوا في سبيل نصرة الدين، وتثبيته في العالمين وهو في كثير من قصائده الدينية يعرج على ماضي الأمة الإسلامية، ويذكرها بأمجادها لعلها تخجل مما أصابها من وهن، ومما حل بها من فساد، فتهب لاسترجاع ذلك المجد وتستأنف سيرها في موكب العزة والسؤدد استمع إليه يقول:
أنكرت قومي فلا قربى ولا رحم
…
وأنكروني فلا أم ولا ولد
يا رحمتا لغريب بين عترته
…
نبا به العيش حتى أوحش البلد
يذري الدموع إذا ما الركب أزعجهم
…
داعي السرى فتنادي البين وانجردوا
يا نازلي ذلك الوادي تموج بهم
…
بطاح مكة والعلياء والسند1
هل يبلغ الركب عن قلبي إذا نزلوا
…
ذاك الحمى لوعة الوجد الذي يجد
أحبابنا ضاقت الدنيا بما رحبت
…
والدهر في صرفه يغلو ويحتشد
أكل يوم لنا في الدين مرزؤة
…
تهتز من وقعها الدنيا وترتعد
في كل واد على الإسلام منتحب
…
وكل واد به للدين مفتقد
يسعى الفساد إليه غير متئد
…
لما رأى أهله في نصره اتأدوا
يا منزل الدين أهل الدين قد خرجوا
…
بغيًا عليه وعن منهاجه حردوا
ضلوه جحدًا لما أودعت من حكم
…
فيه ولو أنهم ذاقوه ما جحدوا
ما الدين إلا نظام للحياة إذا
…
سار الأنام على منواله سعدوا
ويمضي عبد المطلب في تعداد فضائل الدين، ولعلك لحظت أنه يتألم غاية الألم لما أصاب الدين، وأصبح يرى نفسه غريبًا في قومه؛ لأنهم فتنوا عن دينهم وفرطوا في شعائره، ودب الفساد إلى حياتهم من جزاء ذلك الإهمال ولو أنهم تمسكوا بالدين لاستعادوا عزهم المفقود واسترجعوا مجدهم وهو:
1 العلياء والسند: مكانان بالبادية.
مجد به تشهد الدنيا وإن عميت
…
أبصار قوم مما راءوا ولاشهدوا1
ومنه مدح للنبي عليه السلام، وهو من الأغراض القديمة التي حفل بها الشعراء ولا سيما في العصور التي ضعفت فيها الأمة العربية، وكثر فيها الفساد في الأرض فتوسلوا بالنبي، وتشفعوا لعلهم يصيبون من الله مغفرة، ولعل مجد الإسلام يرجعه الله، ولكن هيهات فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن تلك المدائح النبوية تلك القصيدة التي قالها عبد المطلب في حضرة سيد المرسلين حين ذهب للحج سنة 1899.
إليك أجل المرسلين مدائح
…
توافيك ما غنى على الأيك صائح
وهي لا تخرج في معانيها عما تداوله الشعراء في مثل هذه المناسبة من قبل. ندامة على ما فرط من الذنوب، وخوف من يوم الحساب وخزي المقصرين، وتوسل بالنبي عليه السلام ليشفع له.
فكن يا شفيع المذنبين شفيعه
…
إذا شهدت ويمًا عليه الجوارح
إلى غير ذلك من المعاني التي يتطلبها الموقف. وله في سيد المرسلين قصيدة أخرى طويلة سماها "ظل البردة" ولعله تابع شوقي حين نظم "نهج البردة" فأبى إلا أن يحاكي بردة البوصيري مثله، وهذا ميدانه، وليس ميدان شوقي فقال:
أغرى بك الشوق بعد الشيب والهرم
…
سار طوى البيد من نجد إلى الهرم
يا ساري الطيف يجتاب الظلام
…
إلى جفن مع النجم لم يهدأ ولم ينم
ويسير في هذه القصيدة متتبعًا أثر البوصيري، وشوقي، فيتحدث عن مجد الإسلام الغابر وأن هذا المجد خلفه لنا رسول الله بعد أن وضع أساسه:
مجد بناه الذي فاض الوجود به
…
نورًا له قامت الدنيا من العدم
1 راء: لغة في رأي.
طه أبو قاسم المبعوث من مضر
…
إلى البرية من عرب ومن عجم
ويصف حال الدنيا قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما كانت عليه من الفوضى والاضطراب والظلم، وما كان عليه الناس من جهل مطبق، فقد أضلهم الشيطان وأعمى أبصارهم وبصائرهم فاتخذوا من الحجارة آلهة لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، وهام بعضهم بالأفلاك، وآخرون بالنار.
تفرقوا شيعًا في الكفر وانقسموا
…
شتى فباءوا بما يخزي من القسم
هذا عن الحق بالأفلاك في عمه
…
وذاك بالنار عن نور الجلال عمى
وذا يؤله من لا يستجيب له
…
من ناطق بشرًا أو صامت صنم
أضف إلى كل هذا كثرة الأحقاد، واستبداد الملوك والرؤساء، واستعباد الرعية، ثم يصل من هذا إلى أن رحمة الله شملت العالم، فجاء محمد بن عبد الله يهديهم إلى سواء السبيل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، ويتكلم عن مولده، وأن ليلة ولادته كانت وحيدة في الزمن.
تنفست عن سنا شمس الوجود بدا
…
في موكب من جلال الله منتظم
روح الحياتين نور القريتين إما
…
م القبلتين صفي الله في القدم
ويمضي في وصف الرسول وتعداد شمائله الكريمة، وكيف ربى يتيمًا، وكيف نما وترعرع بعيدًا عن جنف الإثم، ودنس الأوثان ومساوئ الجاهلية، وكيف تعبد وتحنث بغار حراء، وحتى أتاه الوحي الكريم من الله العظيم.
بالنور بالحق بالعرفان أرسله الله
…
الذي علم الإنسان بالقلم
وتذكر صراعه مع الكفار في سبيل نشر دعوته، وكيف تحداهم بكتاب الله وآياته المحكمات حتى خرست ألسنتهم، وهم المشهورون بالفصاحة والبيان.
لم يبق حين تحداهم به لسن
…
إلا تردى شعار العي واللسم1
1 للسم: السكوت عيا.
وهكذا يمضي في قصيدته مبينًا جهاد النبي في نشر الدعوة، ومعرجًا على مواقفه الرائعة، وهجرته وغزواته، فالقصيدة تحوي سيرة النبي عليه السلام، وليس فيها جديد من الخيالات، أو الأفكار، وقد يستطيع شاعر نابغة أن يصنع من حياة محمد عليه السلام ملحمة قوية، غاصة بالمشاهد العظيمة، ولكن عبد المطلب تبع البوصيري، ثم شوقي، فلم يجدد في فكرته أو طريقة عرضه، وكان واجب الدراسة يقتضي أن نعقد موازنة بين شوقي والبوصيري وعبد المطلب، ونرى أيهم كان أقوى عاطفة، أو أصدق حديثًا وأغزر شاعرية، وأسمى خيالًا، بيد أن هذه الموازنة تخرج بنا عما قصدنا إليه في هذا الكتاب، ومهما يكن من أمر، فعبد المطلب في قصيدته "ظل البردة" دونه في قصائده الأخرى؛ وذلك لأنه وضع أمام ناظريه قصيدتين عامرتين في مثل موضوعه وبحره وقافيته، وأهم ظاهرة تحس بها في قصيدة عبد المطلب أنه على الرغم من تدينه، وشدة عاطفته الدينية لم يستطع إبراز هذه العاطفة على حقيقتها في تلك القصيدة لأنها تقليد.
ومن الألوان الدينية في شعر عبد المطلب نشيد الشبان المسلمين، وعبد المطلب كان من رجال النهضة الدينية، وله أثر محمود كما ذكرنا عند ترجمته في جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الهداية الإسلامية، فلما دعت جمعية الشبان المسلمين الشعراء إلى نظم نشيد يكون شعارًا لها تقدم عبد المطلب في من تقدم وقال نشيده:
داع من العليا دعا
…
يدعو بنيها مسمعًا
يدعو الشباب الأروعا
…
يدعو شباب المسلمين
ولكن نشيده لم يكن في مزلة نشيد الرافعي "يا شباب العالم المحمدي" فلم يكتب له الخلود.
ومما يتصل بهذا الشعر الديني أو الذي تأثر فيه الشاعر بالدين قصيدته "العلوية" التي ألقاها بالجامعة المصرية في 7 من نوفمبر سنة 1919، وهي تزيد
على ثلاثمائة بيت. وحياة علي بن أبي طالب حافلة بأحداث جسيمة، ويصح أن تكون مأساة شعرية، لأن عليًّا قد أسلم وهو لم يبلغ العاشرة، وشب في حضن الدين الجديد. ونشأ في بيئة معادية لدينه، وحرص على الدفاع عنه ومناوأة أعدائه، فتهيأت له بذلك الفرصة ليكون خصمًا قويًّا، وبلغ الإسلام على عهد النبي عليه السلام غايته، وعلي في شرخ شبابه! فكان فتى قوي الشكيمة، أبلى في الحروب بلاء مبينًا، وتميز عن سواه من شباب المسلمين، ينتدب نفسه لكل كريهة، ويخرج منها مظفرًا، وقد شهد كل غزوات النبي إلا واحدة. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رنت عينه إلى الخلافة، وهو ابن عمه وزوج ابنته. ولكن إجماع المسلمين كان على غير رأيه فامتنع عن البيعة قليلًا ثم دخل فيما دخل فيه المسلمون ومضت خلافة أبي بكر، وعمر، ومعظم خلافة عثمان، وعلي مرموق المكانة من الخلفاء يحتل منزلة المستشار والوزير، وفي أخريات عهد عثمان ظهرت الفتنة الكبرى، أودت بحياة عثمان، واتهم علي بممالأة الثائرين، وطالبه معاوية بأن يسلم له قتلة عثمان، وبايع أهل الحجاز عليًّا وامتنع معاوية عن البيعة، وخرجت عائشة وطلحة والزبير إلى العراق، وحدثت معركة "الجمل"، ثم "صفين"، وانتهى الأمر بمقتل علي رضي الله عنه، وهو خارج لصلاة الفجر على يد أحد الخوارج، وكانت فيه صفات تؤهله للزعامة والسيادة أهمها: الشجاعة الفائقة والفصاحة النادرة، والعدل الشامل، ولكنه كان سيء الحظ، فلم تيسر له الأمور كما يسرت لمن قبله من الخلفاء، وخرج عليه بعض أنصاره وجادلهم، وحاربهم، ثم حارب معاوية وأهل الشام، وكانت ملاحم دامية، وفتنة فظيعة.
إن هذه الحياة تستغرق جزءًا حافلًا من حياة الإسلام، والجهاد الحر في سبيل دعوته، وخروج العرب من جزيرتهم إلى شتى البلاد المجاورة، مما غير الحياة العربية وتقاليدها إلى شيء جديد وجعلها أمة ممتازة: دينًا وجيشًا، وحضارة، ولغة، والشاعر الموهوب يستطيع أن يقف وقفات طويلة أمام السمات البارزة لهذه الحياة، ويصورها تصويرًا دقيقًا بشيء من التفصيل، والخيال، ولكن عبد المطلب أجمل القول في كثير من الأحيان، ومر على بعض المشاهد الرائعة مرورًا سريعًا؛ لأنه تقيد بقافية واحدة، ولأنه كان أقرب إلى سرد الحقائق التاريخية منه إلى التصوير الشعري.
وأغلب الظن أن محمد عبد المطلب لم ينظم هذه القصيدة إلا تحديًا لعمرية حافظ إبراهيم التي ألقاها في 8 من فبراير سنة 1918 بمدرج وزارة المعارف أي قبل علوية عبد المطلب بأكثر من عام.
وقد ابتدأ قصيدته العلوية بالحديث عن الإنسان وطموحه، وباختراعه الطيارة، وود أن توهب له طيارة ليلقي بها الإمام على هامات السحب:
فهب لي ذات أجنحة لعلي
…
بها ألقى على السحب الإماما
وأخذ يتحدث عن الإمام ومكانته ومقامه، وأنه:
مقام دونه بحب القوافي
…
وإن كانت مسومة كرامًا
وأخذ يقدم المعذرة بين يدي سامعيه إذا قصر في وصف مناقب الإمام:
وما أدراك ويحك ما علي
…
فتكشف عن مناقبه اللثامة
وبعد أن انتهى من هذه المقدمة، قسم القصيدة إلى فصول صغيرة، فتحدث عن علي في صباه، وإسلامه، وكيف جنب الرجس والشرك، ودنس الجاهلية وكيف لبى دعوة الإسلام صغيرًا بينما صدف عنها الشيوخ والكهول.
فكهل في جهالته تولى
…
وشيخ في ضلالته تعامى
وكيف كان معتزًا بإسلامه لا يخاف فتنة قريش للمسلمين، وإيذائهم لهم:
يروح على مجامعهم ويغدو
…
كشبل الليث يعتزم اعترامًا
صغير السن يخطر في إباء
…
فلا ضيمًا يخاف ولا ملاما
ثم ينتقل إلى فصل آخر عن استخلافه ليلة الهجرة، ولكنه أجمل فيه القوم، ولم يصور تأمر قريش على قتل النبي تصويرًا شعريًّا مفصلًا، ويضفي على هذه الحادثة التي غيرت وجه التاريخ شيئًا من الخيال الشعري ليظهرها في جلالها وروعتها، ويبين عظم المعجزة وكل ما وصف به قوة قريش ومؤامراتهم هو قوله:
وأقبلت الصوارم والمنايا
…
لحرب الله تنتحم انتحاما1
وهذا قول موجز، فيه توعر في الألفاظ، وكان يستطيع أن يصور هؤلاء الأوشاب الذين اجتمعوا من قبائل شتى، وهم يتسللون في جنح الليل إلى دار النبي عليه السلام يقدمهم الشيطان، ويهيمن عليهم الشر، وكيف منوا نفوسهم الآثمة بقتل سيد الخلق عليه السلام ولكن الله العلي القدير الذي حفظ نبيه وأراد نشر دينه كان لهم بالمرصاد، ثم يستطيع أن يصور في خيال شعري رائع عليًّا وهو نائم في بردة النبي وخروج الرسول على الكفار وقد عميت أبصارهم عن رؤيته، وما تهامست به نفسه حين رأى جمعهم وشبابهم وسيوفهم، وتغلب إيمانه وثقته بربه على همهمات نفسه، وكيف مر من بينهم سالمًا إلى آخر قصة الهجرة. ولكن عبد المطلب لم يشأ أو قل لم يستطع أن يحلل، ويسبر غور النفوس ويصور تلك المؤامرة الرهيبة والليل دامس، والكون كله يترقب نتيجتها، وتاريخ البشرية يتطلع إلى إخفاقها كي يحظى بخير شريعة على يد أفضل نبي، واكتفى بأن أجمل القول في هذا كله:
وأغشى الله أعينهم فراحت
…
ولم تر ذلك البدر التماما
عموا عن أحمد ومضى نجيا
…
مع الصديق يدع الظلاما
ويعقد ببعد ذلك فصلًا عن علي بالمدينة، وقد صور فيه شجاعة علي في غزوة بدر في إيجاز واستمع إليه يقول في هذا:
كأني بابن عتبة يوم بدر
…
يعاني تحت مجثمة جثامًا2
ولو علم الوليد بمن سيلقى
…
لألقى قبل مصرعه السلاما
رويدًا بني ربيعة قد ظلمتم
…
بني الأعمام والرحم الحراما
وصلناكم بها وقطعتموها
…
فكان الحزم أن تردوا الحماما
1 الانتحام: الصوت والجلبة من النحيم وهو صوت الفهد، وهو أيضًا بمعنى الاعتزام.
2 الجثام: الكابوس.
ثم تكلم عن زواجه من فاطمة الزهراء، وأن قرانه بها:
قرآن زاده الإسلام يمنا
…
وشمل زاده الحب التئاما
أما يوم أحد فقد وفق فيه بعض التوفيق، إذ صور هزيمة المسلمين وعلل لها: وكيف أرجف المشركون بقتل رسول الله، وكيف ارتاع علي لهذه الفرية وراح يبحث بنفسه بين القتلى عن رسول الله.
أتى الشهداء مفتقدًا أخاه
…
لعل الموت عاجله اختراما
أخي! بأبي! يخيم؟ ويفر؟ حاشا
…
أخي في الخطب جبنًا أو خيامًا1
أم اجترأت عليه يد العوادي
…
فغالته اجتراء واجتراما
ثم انتقل إلى يوم الخندق ومبارزة علي لعمرو بن ود، وموقفه يوم خيبر وقتله مرحب بن منسية، ثم انتقل إلى مواقف علي في السلم، وصور خلقه في إيجاز وقيامه الليل وتقواه، وقد تأثر في هذا الوصف بكلمة ضرار الصدائي عن علي بن أبي طالب المذكورة في كتب الأدب ثم تكلم عن مقتل عثمان ونفى عن علي اشتراكه في القتل أو علمه به قبل أن يحدث له:
وحاشى أن يريد أبو حسين
…
بذي النورين سوءًا أو ظلامًا
علي كان أول من وقاه
…
ومن ذا الردى عنه وحامى
ومضى في سيرة علي إلى نهايتها على طريقته في التصوير الموجز، والتزام الحقائق التاريخية إلى حد سردها، من غير إبداع في التصوير أو اهتمام بالتحليل، أو جنوح إلى الخيال، كل ذلك في أسلوب جزل، وفصاحة بدوية، ومهما يكن المقياس الذي وضعناه لهذه القصيدة فهي تعد من القصائد الممتازة في الشعر من حيث موضوعها، وقوتها ومتانة نسجها، وطولها، وهي تدل على قدرة فائقة في اللغة، ونفس مديد في قرض الشعر، وتمكن من القافية وإلمام بالغريب.
1 يخيم: يجبن.
هذا هو محمد عبد المطلب في شعره، وقد أتيت على أهم الأغراض التي قال فيها: وقد احتل بإيثاره الأسلوب الفحل، والقول الجزل، والخيال البدوي، منزلة تفرد بها بين شعراء زمانه، وقد قال فيه العقاد:"ولكن عبد المطلب كان وحيدًا في مدرسته الأدبية التي استقامت لها صحة الأسلوب من طريقة الدعوة الدينية وكان أوضح دليل على فائدة الدعوة الإسلامية قبل نيف وستين سنة في إراحة العربية من آفات البهارج والطلاوات"1.
وكا يحتل كذلك منزلة رفيعة في نفوس زملائه الشعراء، ورثاه كبارهم، فهذا شوقي يؤبنه ويمتدح بداوة شعره:
شاعر البدو ومنهم جاءنا
…
كل معنى رق أو لفظ عذب
قد جرت ألسنهم صافية
…
جريان الماء في أصل العشب
سلمت من عنت الطبع ومن
…
كلفة الأقلام أو حشو الكتب
ويثني على أخلاقه ووطنيته التي كانت أكبر ملهم لشاعريته، والتي فاض بها ديوانه:
القريب العتب من معنى الرضا
…
والقريب الجد من معنى اللعب
والأخ الصادق في الود إذا
…
ظهر الإخوان بالود الكذب
قلد الأوطان نشئًا صالحًا
…
وشبابًا أهل دين وحسب
وقد رثاه مطران وأشاد بتملكه لزمام اللغة، ورد على من عاب جزالة لفظه، واهتمامه بالغريب.
فكلام بدوي لو بدا
…
فيه لون لم يكن إلا الذهب
خالص النسبة في العتق إذا
…
ما دعا للفخر داع فانتسب
1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص52.
ومعان حضريات جلا
…
حسنها منه طراز لم يعب
رب ممرور من الجهل نعى
…
صحة القول عليه فنعب
خال إغاربًا وما الإغراب
…
في ذلك اللفظ الأسيل المنتخب
إنما الإغراب فيه أنه
…
عربي بين أهليه اغترب
أخذ المعدن من منجمه
…
هل عليه حرج: يا للعجب
ويطري كذلك خلقه الكريم، ويشيد
…
بوفائه وحرية رأيه وصراحته
كان حر الرأي لا
…
يرطفه رغب لما رآه أو رهب
وافيًا مهما يسمه عهده
…
صادقًا مهما يقم عذر الكذب
حسن السيرة في أسرته
…
حسن الخيرة فيمن يصطحب
بالغًا في كل نفس رتبة قصرت
…
عن شأوها أسمى الرتب
هذا وقد أقيمت له حفلتا تأبين وقد رثاه فيهما أكثر من ثلاثين شاعرًا وأديبًا: وقد جمعت هذه المراثي في عدد خاص أصدرته مجلة الهداية الإسلامية1.
1 ج4 م 4 رمضان 1350- يناير 1932.