المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إسماعيل صبري 1854- 1923: ولا تعجب إذا عددنا إسماعيل صبري في - في الأدب الحديث - جـ ٢

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌ ‌إسماعيل صبري 1854- 1923: ولا تعجب إذا عددنا إسماعيل صبري في

‌إسماعيل صبري

1854- 1923:

ولا تعجب إذا عددنا إسماعيل صبري في شعراء المدرسة، فعلى الرغم من أنه درس في فرنسا بعض الزمن، واحتك بالثقافة الغربية احتكاكًا مباشرًا سواء في دراسته بمدينة "إكس"، أو باطلاعه على القوانين الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة القانونية، وما عساه قرأ في الفرنسية إبان مقامه في فرنسا من أدب واجتماع، كما لم يفد من اتصاله بالحياة الغربية، وقضائه ردحًا من الزمن بين الغربيين إلا قشورًا وصفات عامة في شعره وجهته نحو نوع خاص منه. ثم صقلًا في الذوق، وقد يكون هذا طبيعة فيه لا مكتسبًا من إقامته بفرنسا، وقد يكون من أثر الوظيفة، وكثرة اختلاطه بالأجانب المقيمين بمصر1. فكم من شاعر عربي قبل صبري، وبعد صبري اشتهر بالرقة، وإرهاف الحس، وجمال الذوق، ولا سيما إذا كان من أهل القاهرة، والقاهرة قد عرفت من قديم الزمان بأنها مدينة الظرف والدماثة، والنكتة، والمرح.

نشأ إسماعيل صبري بالقاهرة، والتحق بمدرسة "المبتديان" وهو في الثانية عشرة من عمره وأتم دراسته في مدرسة الإدراة والألسن في سنة 1874، وكان وهو في المدرسة يجيد الخط، ويعني به حتى بلغ في ذلك حدًّا جعل أولى الأمر يفكرون في تعيينه مدرسًا للخط، وكاد إسماعيل يستجيب لهم لولا على مبارك وزير المعارف حينذاك الذي أقنعه بالعدول عن هذا: ضنًّا بمواهبه أن تقبر في مثل هذه المهنة؛ ولأنه كان يعده لما هو أسمى رتبة وأجدى عليه وعلى الأمة2. وما زال يتعهده حيث أتم دراسته بمصر. ونبوغه في الخطب وهو فن جميل يؤيد ما ذكرناه آنفًا من أن دقه حسه، وكمال ذوقه، وحبه للجمال لم يكن مكتسبًا من إقامته بفرنسا. وإنما كان طبيعة وميلًا فطريًّا فيه.

1 تراجم شرقية وغربية لهيكل ص186.

2 أحمد الزين في مقدمة الديوان ص35.

ص: 341

ثم أرسل إسماعيل صبري لدراسة القانون بمدينة "إكس" سنة 1874، وتقلب في مناصب القضاء المختلفة، وترقى في سلمة حتى عين "نائبًا عموميًّا" وكان أول مصري يشغل هذه الوظيفة، وذلك في عام 1895. ثم عين محافظًا للإسكندرية سنة 1896، ووكيلًا لوزارة العدل "الحقانية" إلى أن اعتزل الخدمة في سنة 1908، وقد أنعم عليه بعدة رتب وأوسمة، وانتقل إلى رحمة الله في مارس 1923.

لم يذكر أحد ممن تكلم عن صبري سواء من أصدقائه أو معاصريه شيئًا عن طفولته وأسرته، وعوامل الوراثية فيه، وهذا حقًّا شيء يؤسف له، فإن كثيرًا من هؤلاء الذين كتبوا عنه قد خالطوه وصادقوه، وعرفوا من أمره ما لا يعرفه جمهرة الناس؛ ولأن ذكر دراسته وتقلبه في مناصب عدة لا يفيد مؤرخ الأدب بقدر ما يخدمه معرفة البيئة التي ترعرع فيها الشاعر ونما.

ومهما يكن من أمر فقد جمع الذين كتبوا عنه أنه كان مرهف الحس، أنيق المظهر والمخبر، دمث الخلق، لين العريكة، خفيف الروح، حاد المزاج1، كما أنه كان أبي النفس حييًّا، مترفعًا عن الدنايا، لم يغش دار "كرومر" أو يتصل به على الرغم مما بذله من محاولة لاجتذابه إليه2.

ولعلك تلمس في شعره شيئًا من صفاته، فقد كان حريصًا على أصدقائه الذين يتخيرهم بعد طول نظر، وهم قلة فإذا صادق ضن بصديقه عن سماع أي وشاية، بل يقابل الوشاية بالثناء وكان كثيرًا ما يردد قول الأحنف:"ما أقبح القطيعة بعد الصلة" وفي هذا يقول مخاطبًا أصدقاءه الذين كرموه، وهو يودع الإسكندرية:

وأحفظوا عهدي القديم فإني

حافظ عهدكم برغم البعاد

فإذا قرب النفوس ائتلاف

هان عندي تفرق الأجساد

وهو القائل:

1 الدكتور طه حسين في المقدمة ص8.

2 أحمد الزين في المقدمة ص30.

ص: 342

وما المرء إلا بخلق كريم

وليس بما قد حوى من نَشَبْ

وله في أخلاق الناس، والتبرم بهم قصيدة طويلة حين ظهر "مذنب هالي"1 وتمنى صبري لو أنه صدم الأرض وأراحها من أهل النفاق والعقوق وأهل البغي والظلم إلى غير ذلك مما كان يؤلم حسه الرقيق، وأخلاقه الدمثة، فقال:

غاص ماء الحياة من كل وجه

فغدا كالح الجوانب قفرا

وتفَشَّى العقوق في الناس حتى

كاد رد السلام يحسب برًّا

وفيها يقول:

أغدًا تستوي الأنوف فلا يناظر

قومًا على الأرض شزرًا

أغدًا كلنا تراب ولا ملك

خلاف التراب برًّا وبحرًا؟

أغدًا يصبح الصراع عنافًا

في الهيولي ويصبح العبد حرًّا

ومن قوله في الاعتداد بكرامته: ضنًّا بها عن أن تهانه:

لكسرة من رغيف خبز

تؤدم بالملح والكرامة

أشهى إلى الحر من طعام

يختم بالشهد والملامة

ومن شدة إبائه أنه لم يكن يتورع عن رد الإهانة على طريقته، ولو كان من أهانه عظيمًا، استمع إليه يقول:

أيها التائة المدل علينا

ويك قل لي من أنت إني نسيت"

وفي قوله: "إني نسيت" تهكم مر؛ لأن هذا الشخص لو كان عظيمًا حقًّا ما نسيه صبري، ولكنه لا يستحق أن يذكره صبري، وهو بهذا يخبره أنه أرفع منه شأنًا:

وإذا خانه صديقه، وعقه وحاول إيذاءه تذكر عهد الوداد، فلم يرد على اعتدائه، وحافظ عليه.

إذا خانني خل قديم وعقني

وفوقت يومًا في مقاتله سهمي

1 ظهر هذا المذنب في سنة 1910، وقيل: إنه كاد يمس الأرض ويصدمها، ولو حدث هذا لانتهت الدنيا، وسمى مذهب هالي نسبة لمكتشفه.

ص: 343

تعرض طيف الود بيني وبينه

فكسرت سهمي فانثنيت ولم أرم

وكان يؤثر الحلم على الغضب فإذا ما دعت دواعي الغضب، وأثارته الحادثات تذرع بالحلم، ورجع إلى نداء العقل.

إذا ما دعا إلى الشر مرة

وهزت رياح الحادثات قناتي

ركبت إليه الحلم خير مطية

وسرت إليه من طريق أناتي

وسترى تلك الدماثة والرقة، ولين العريكة واضحة في شعره، حتى في الموقف الذي يتطلب نضالًا وقسوة، ولقد ذكرنا شيئًا عن وطنية إسماعيل صبري فيما سبق1 وعن أثر الحالة الاجتماعية فيه2، وأنه لم يكن ذلك الوطني المتحمس، بل كان حذرًا في كل ما يقوله كما أنه لم يقل شيئًا في مآسي الشعب ومشكلاته؛ لأنه كان في عزلة عنه إلا من خاصة أصدقائه الذين يتخيرهم بدقة.

ولقد كان إسماعيل صبري برما بالحياة على الرغم مما أوتيه من منصب وجاه ولقب وسعة في العيش، ولعل هذا راجع إلى أنه كان يأمل أن يصل بكرم خلقه وشاعريته إلى ما وصل إليه من هم أدنى منه موهبة، وممن وسموا بالتملق والنفاق وسيء الأخلاق، وقد أشار في شعره إلى أنه قد أصبح نسيًا منسيًا لا يذكر اسمه عند توزيع المناصب، لاعتزاله، وعدم طمعه في شيء منها، فكأنه في جوف الحيتان:

أين صبري؟ من يذكر اليوم صبري

بعد أعوام عزلة وشهور

أسألوا الشعر فهو أعلم هلَّا

أكلته الأسماك طي البحور

ومن دلائل برمه بالحياة، ذكره الكثير للموت، وتراه تارة ينظر للموت قلقًا:

أتزودت من ضياء البدور

لليالي كثيفة الديجور

1 راجع ص123 من هذا الكتاب وما بعدها.

2 راجع ص191 من هذا الكتاب.

ص: 344

وتارة ينظر إليه مرحبًا مطمئنًا.

يا موت هأنذا فخذ

ما أبقت الأيام مني

بيني وبينك خطوة

إن تخطها فرَّجت عني

وأحيانًا يعزي نفسه بأنها إن سئمت الحياة، ففي التراب والموت الراحة، فالأرض هي الأم الرءوم:

إن سئمت الحياة فأرتجع إلى

الأرض تنم آمنًا من الأوصاب

تلك أم أحنى عليك من الأم

التي خلفتك للأتعاب

لا تخف فالممات ليس بماح

منك إلا ما تشتكي من عذاب

وحياء المرء اغتراب فإن ما

ت فقد عاد سالمًا للتراب

أما خفة روحه، وحلو دعابته، وبراعته في النكتة في أشعاره التي قالها على لسان الوزراء والحكام، وفي المقطوعات التي نظمها في محمد المويلحي مشيرًا إلى "الكف" الذي ضربه ما ينبئ عن روح قاهرية محبة للنكتة التي تدور على التلاعب بالألفاظ، وتداعي المعاني والتورية، استمع إليه يقول في يوسف سابا باشا وقد تولى رئاسة شركة مياه القاهرة:

أين سابا؟ أين سابايا ترى

أين سابا ذو المزايا الباهرة

قال لي قوم ثقات إنهم

لمحوه في مياه القاهرة

وإلى ما قاله في إسكندر فهمي باشا مدير السكة الحديدية حين اعتزل منصبه.

اصلب أنت؟ قل لي، حار أمري

إذا فكرت فيك وضاع حدسي

خرجت من الشريط ولم تهشم

كأنك خارج من بيت عرس

ففي قوله "صلب" إشارة إلى المعدن الذي تصنع منه القضبان والقاطرات، وفي قوله "خرجت من الشريط، تلميح إلى الشريط الحديدي المعروف. وأسمع إليه كذلك يقول على لسام محمد المويلحي مشيرًا إلى ذلك الكف الذي ضربه على صدغه ولم يثأر لكرامته:

أنا فرع الألى رفعوا بناء

يرى للنسر فوق ذراه بيت

أريش يراعتي بمداد خبث

وأني لا لي هدف رميت

وإن أحد تعرض لي بسوء

وقف وراء صدعي واختفيت

ص: 345

وقد أفاض الأستاذ أحمد الزين الذي صاحبه ثلاثة عشر عامًا في ذكر خلاله ومزاياه في المقدمة، وإن كان شعره لا ينم على الكثر مما ذكر؛ لأنه كان مقلًّا، وحسبنا هنا ما أوردناه ففيه الكفاية التي تلقي ضوءًا على وجه الشاعرية وعلى مذهبه في الكلام، وفي الحياة.

أما ثقافة إسماعيل صبري، فنعلم من تاريخ حياته أنه درس التركية والعربية في المدارس المصرية، ثم درس الفرنسية في فرنسا، ويدلنا شعره المبكر على أنه وعي من العربية قدرًا مكنه من نظم الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد ذكر الأستاذ أحمد الزين أنه كان يحفظ ديوان عمر بن الفارض وكان شديد الإعجاب بشعر البحتري1 مدمنًا لقراءته، مفضلًا له على غيره من الشعراء، وقد أخذ عن البحتري الكثير من حلاوة التنسيق، وعذوبة الألفاظ ووضوح المعنى، على أن في شعره كما سنرى فيما بعد ما يدل على أنه قرأ لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور محمد صبري أن يتلمس آثاره في أدبه، وساق غير مثل على ذلك2. ولكنا نرى أن ما أورده له شبيه في الأدب العربي القديم، وأكاد أعتقد أن صبري حين فكر فيه لم يرد على ذهنه الأدب الفرنسي، وإنما أسعفته ذاكرته الواعية، بما استظهره سابقًا حين كان يروض القول ويحاكي الأقدمين، ليتمرس على قول الشعر، بهذا المعنى أو ذاك، والعربية بهذا كانت أقرب إليه من الفرنسية، ولا سيما والألفاظ تكاد تكون متحدة مع ألفاظ الأبيات العربية القديمة.

وعلى الرغم من أن النقاد أجمعوا على أنه معنيًا بشعره "شديد النقد له، كثير التبديل والتحويل فيه3" وهو "يتخير اللفظ الشريف للمعنى الشريف، واللفظ القوي للمعنى القوي، واللفظ الرقيق للمعنى الرقيق4" وعلى الرغم من قوله:

شعر الفتى عرضه الثاني فأخر به

ألا يشوه بالأقذار والوضر

فانقد كلامك قبل الناقدين تحط

ثاني النفيسين من لغو ومن هذر

واقرأ فديتك تأمن ما تحاذره

من قارئ هادئ أو قارئ ضجر

1 المقدمة ص38.

2 الدكتور محمد صبري. أدب وتاريخ.

3 خليل مطران مختارات المنفلوطي ص67.

4 أحمد أمين في المقدمة ص16.

ص: 346

على الرغم من كل هذه العناية، وهذا التحذير، فإن إسماعيل صبري وقع في أخطاء كثيرة في اللغة والأسلوب وفي المعاني، ولكنها أخطاء لا تذهب بمنزلته الأدبية، وإن دلت على أنه لم يكن متمكنًا كل التمكن في قواعد اللغة ومتنها، وعلى أن لغة الصحافة قد جنت عليه، وسنرى نماذج من الأخطاء فيما بعد.

وسترى من دراستنا لشعره أنه لم يفد من معرفته بالفرنسية إلا قليلًا جدًّا يتمثل في الروح العامة لبعض المقطوعات، فلا هو من الذين جددوا في الغالب الشعري فأتى بقصص أو ملاحم أو مسرحيات، ولا هو بالذي جدد في المعاني أو الصور أو الخيالات على نحو ما نرى عند مطران الذي تأثر كثيرًا بالأدب الفرنسي.

شعره:

قال مطران: "أكثر ما ينظمه إسماعيل صبري فلخطرة تخطر بباله من مثل حادثة يشهدها، أو خبر ذي بال يسمعه، أو كتاب يطالعه

ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة إلى ستة، وقلما يزيد على هذا القدر إلى حيث يقصد قصيدة وهو نادر1".

ويقول أحمد محرم. "صبري منذ القديم شاعر مقل، فهو لا يستطيع المطولات، ولا يكاد يجيدها، وقد نضجت شاعريته فأبدع في مواضع كثيرة، ولكنه بقى الشاعر المحدود والفنان الذي يأخذ من الفن ما يعجبه، ويأبى أن يعطيه ما يحبه هو ويرضاه2.

فصبري شاعر مقل، لا يكاد يجيد المطولات؛ وذلك لأنه لم يحترف الشعر، وإن أراد أن يكون شاعرًا معروفًا "فأقرأ الديوان من أوله فسترى ففتى يحاول قرض الشعر على النحو الذي تعلم الناس من قبله عليه قرض الشعر، يقول في الموضوعات التي كان الناس يقولون فيها، في مدح الخديو إسماعيل، وفي مدح

1 مختار المنفلوطي ص67.

2 مجلة أبوللو سبتمبر 1934.

ص: 347

بعض الأشخاص الذين كان يراهم في حينئذ أهلًا للمدح، ولا يريد بذلك إلى الفن، وإلا أن ينظم الشعر، ويرفعه إلى الممدوحين، وينشره في الصحف، ويتحدث الناس عنه بأنه شاعر1".

ولم يكن شعر صبري أول عهده بالأدب يبشر بشاعر مقتدر يحدث أثرًا يذكر في عالم الشعر2، وأرى أن صبري على الرغم مما أسبغ عليه معاصروه من ثناء ومديح، وما أطروا به شعره، ولا سيما ذلك الذي قاله بعد عودته من فرنسا، وعلى الرغم من أنهم كانوا يلقبونه تارة بالرئيس، وتارة بشيخ الشعراء، ومن أنهم أثنوا على صدق عاطفته ودقة معانيه ورقتها لم يأت بجديد يذكر في عالم الشعر، وأنه فهم الشعر كما كان يفهمه الشيخ على الليثي، وإن كان أجود منه لفظًا، وأحسن معنى، وأمتن ديباجة. وإن شعر إسماعيل صبري امتداد لمدرسة القدماء، ولا أستطيع أن أقول: إنه امتداد لشعر البارودي. فشتان ما بينهما.

ولعل الذي جنى على صبري هو أنه ابتدأ حياته الشعرية مداحًا، ولم يجد النموذج المعاصر القوي في فن المديح؛ لأن البارودي لم يكن من فرسان هذا الفن وما ورد له قليل جدًّا بالنسبة لشعره، وفن المديح قد استنفدت معانيه في الأدب العربي منذ زمن بعيد، ولذلك أخذ يقلد القدماء من شعراء العربية ولكن لم تواته ذخيرة من محفوظ الروائع الخالدة على إجادة التقليد واكتفى بترديد المعاني المطروقة من قبل بأسلوب يناسب بيئته وثقافته. ولم يستطع فيما بعد التخلص من ربقة الأدب العربي القديم، ويفيد من دراسته للأدب الأجنبي أو من تقليد البارودي، أستاذ المدرسة التقليدية الحديثة.

ولم أجد شاعرًا صدق فيه القول: "بأن المعاصرة حجاب" خيرًا من إسماعيل صبري فلا شك أن الرجل لدماثة خلقه، وبعده عن المنافسات والحزازات، ورقته ولطف معاملته للناس قد أجمعت القلوب على محبته. وهم إذا نظروا إلى شعره

1 طه حسين في المقدمة ص8.

2 أحمد محرم في مجلة أبوللو سنة 1934 ص104.

ص: 348

نظروا إليه بعين الصديق، وتمثل لهم إسماعيل صبري الرقيق الحس، المهذب الخلق، الكريم الخصال، صاحب الندوة العامرة التي كان يغشاها الشعراء، يلقبونه لكبر سنه، ولمقامه الأدبي بالرئيس أو شيخ الشعراء، وأنساهم كمال إسماعيل ما في شعره من مساوئ.

ولا أريد أن أتجنى على إسماعيل صبري، وهأنذا أعرض عليك لترى صدق ما أقول:

فصبري لم يجدد في موضوعات شعره، وإنما سار على نهج العرب الأقدمين، وكان عالة عليهم في معانيهم وألفاظهم وأغراضهم: مَدَحَ، وَرَثَى، وهَجَا، وهنأ، وتغزل، كما كانوا يفعلون، حتى الشعر السياسي الذي طرقه البارودي من قبل، والذي أفاض فيه حافظ وشوقي، وعبد المطلب، ومحرم، والكاشف، لم يكن له فيه نصيب ضئيل كما أنه لم يهتم بالناحية الاجتماعية في مصر، فيصور حال الشعب وآماله، ويشاركه أفراحه وأحزانه.

وحتى شعره الذي كان يقوله لنفسه، والذي لا يدفعه إليه إلا شعوره ترى فيه أثر التقليد، وإن بدا مصوغًا صياغة ظريفة، فقد نظر فيه معاني من سبقه من الشعراء وحاكاهم، وقصر عنهم في الأداء.

وأهم غرض قال فيه صبري، وأكثر هذه الأغراض تداولًا في شعره هو المديح والتهاني وما يتصل بهما. وقد بدأ حياته الشعرية بمدح الخديو إسماعيل، وهو بعد طلب في مدرسة الإدارة والألسن لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره فمن ذلك قوله من قصيدة، وقد نشرت بمجلة روضة المدارس تشجيعًا له:

سفرت فلاح لنا هلال سعود

ونما الغرام بقلبي المعمود

وجلت على العشاق روض محاسن

فسقى الحياء شقائق التوريد

ورنت بأحور طرفها وتبسمت

فبدا ضياء اللؤلؤ المنضود

إلى غير ذلك من الغزل المتصنع، والمعاني القديمة التي عفى عليها، الزمن، وابتذلت من طول ما رددها الشعر العربي القديم، حتى وصل إلى مدح الخديو

ص: 349

إسماعيل، هكذا ابتدأ إسماعي صبري، ولقى تشجيعًا من أولي الأمر ومن رئاسة تحرير الوقائع المصرية، فقد ورد في الوقائع المصرية تقدمه لبعض قصائده في ذياك العهد، والتي من هذا الطراز:

"ومن أبدع ما ورد من كلام الأفندية التلامذة المنتظم -ولا جرم. في سلك كلام الأساتذة ما جادت به قريحة الذكي، النجيب، الذي تحسن رواية كلامه وتطيب، إسماعيل أفندي صبري وهي هذه الذاهبة محسناتها البديعية مذهب الانسجام المفيد، في التهنئة بقدوم الجناب الخديو الأفخم السعيد".

ومن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الخديو:

أغرتك الغراء أم طلعة البدر

وقامتك الهيفاء أم عادل السمر

وشعرك أم ليل تراخت سدوله

وثغرك أم عقد تنظم من در

إلى أن يقول في مدحه:

سريٌّ سما فوق السماك مقامه

وفاق على الشمس المنيرة والبدر

وما الغيث إلا من بحار نواله

ألم ترها تروي الوفود بلا نهر

ونحن في غنى عن التعليق على هذا الشعر الذي قال فيه أحمد محرم: "إن أي شاعر في زمان إسماعيل صبري حينذاك كان خيرًا منه"1، وساق على ذلك عدة أمثلة، وليس حاله بعد أن رجع من البعثة، وتزود من علوم الغرب في باب المديح -بل وفي غيره- بأحسن منه قبل أن يذهب، استمع إليه في عام 1878 وهو العام الذي انتهى فيه من دراسته بأوربا، كيف ينهئ توفيقًا، ويؤرخ في شعره على عادة شعراء الضعف، على أن السنة التي شرعها البارودي في الشعر، وما وضعه له من منهج قويم، وما ضربه للشعراء من نماذج غاية في الفحولة كانت حرية أن تجعل الشعراء يتقدمون بالشعر خطوة إلى الأمام، ولا يرجعون خطوات إلى الوراء وهذا هو يقول:

1 مجلة أبوللو -العدد السالف الذكر- ص104.

ص: 350

مولاي وافاك عام مشرق بهيج

فيه لآمال هذا القطر تحقيق

أبشر به فلسان السعد أرخه

صافاك عام العلا والخير توفيق

ويقول من قصيدة أخرى عام 1886، فيبتدئ الشطر الأول بتأريخ: ويختم القصيدة بتأريخ:

مولاي هذا السعد قال مؤرخًا

بشرى أبا العباس عام بشائر

وتجد له في كل قصيدة أبياتًا من هذا النوع، حتى لقد برع في التأريخ الشعري براعة فاقت عصر المماليك والعثمانيين. لقد مدح من قبل إسماعيل صبري كثير من شعراء العربية الفحول، ولكنك تقرأ شعر المتنبي أو البحتري أو أبي تمام في المدح فتهتز طربًا، وتجد جديدًا، وتجد فحولة وقوة، واستطرادًا إلى الوصف الرائع، والحكمة البالغة، ولكن صبري للأسف لم يأت بأي جديد في مدائحه. والأنكى من ذلك أن في نسيبه كان يقف على الأطلال والدمن، وأين في مصر الأطلال والدمن؟! وهب أنه جعل منازل الحبيبة الغائبة في قصور القاهرة ومعالمها بمنزلة الطلل البالي فهلًا جدد فيالصورة، وافتن في التعبير، بدلًا من ترديد ما لاكته ألسنة الشعراء منذ قال امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول وحومل

ويقول صبري في قصيدة يهنئ بها توفيق في عام 1890:

قف بالديار وحي ركبا دراسًا

لو يستطيع إجابة حياكا

وانثر دموعك في ثراه صبابة

على البكاء يزيل بعض جواكا

ويقول من قصيدة أخرى يمدح عباسًا في عام 1908 بعد أن شاعت ضروب الشعر الحديث على مطران وشوقي وشكري:

لو أن أطلال المنازل تنطق

ما ارتد حران الجوانح شيق

فأين هذه الصورة القديمة التي لا تتعدى ذكر القدم ووصف البلى، وذلك الوصف الجاف الذي لا يفيد من الوجهة الفنية ولا يغني، فضلًا عن انحراف

ص: 351

الذوق، فإن صبري يريد التهنئة -وليس من المناسب في مقام التهنئة إيراد مثل هذه الصورة الحزينة، ولا ذلك اللون القائم، أين هذه الصورة من قول أبي نواس الثائر على وصف الأطلال والدمن حين يقول:

ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم تغص به عيني ويلفظه وهمي أتت صور الأشياء بيني وبينه فظني كلا ظن وعلمي كلا علم وقول أبي تمام:

على مثلها من أربع وملاعب

أذيلت مصوغات الدموع السواكب

أو قوله:

أدار البؤس حببك التصابي

إلى فصرت جنات النعيم

لئن أصبحت ميدان السوافي

لقد أصبحت ميدان الهموم

أظن الدمع في خدي سيبقى

رسومًا من بكائي في الرسوم

وإذا تتبعنا أبياته في المدح من تلك القصيدة القافية التي اشتهرت؛ لأنه أثنى فيها على عباس ثناء عاطرًا لعفوه عن سجناء حادثة دنشواي؛ ولأنه استطرد إلى وصف تلك الحادثة وجدناه مقلدًا في كل بيت من أبياتها، وناظرًا إلى بيت من الشعر القديم، تارة يأخذ اللفظ والمعنى وتارة يكتفي بالمعنى وحده، من غير توليد أو إضافة جديدة على الصورة، ولنضرب على ذلك مثلًا بقوله:

أحرزت يا عباس كل فضيلة

وبلغت شأوًا في العلى لا يلحق

من ذا يجاري أخمصيك إلى مدى

وهواك سباق وعزمك أسبق

فالثناء على الممدوح بأنه حاز كل الفضائل، وبأنه بلغ في العلا شأوًا لا يلحق، كلام قديم جدًّا، وطالما ردده الشعراء، هذا هو مهيار الديلمي يقول:

لا أدعي لأبي العلاء فضيلة

حتى يسلمها إليه عداه

وما أشبه الشطر الثاني من البيت الأول بقول أبي تمام:

هيهات تطلب شأو من لا يلحق

ص: 352

وفي السبق إلى الغايات يقول البحتري:

طلوب لأقصى غاية بعد غاية

إذا قيل قد تناهى تزيدا

ويقول أحمد محرم في نقد البيت الثاني: ومن الخطأ قول صبري: "من ذا يجاري أخمصيك" فإن الملوك لا تمدح بمثل هذا، وأولى بهذه المجاراة أن تكون بين العدائيين، كالسليك والشنفرى وأمثالهما، فليس المجد مما ينال بالعدو على الأقدام فيكون للأخمصين عملهما فيه، قال البحتري:

إذا سؤدد داني له مد همه

إلى سؤدد نائي المحل يزاوله

فلم يقل مد قدمه، أو طار بأخمصيه، وإنما قال مد همه. وقد قال المتنبي أروع من هذا في نفس المعنى:

وحق له أن يسبق الناس جالسًا

ويدرك ما لم يدركوا غير طالب

ويحذي عرانين الملوك وإنها

لمن قدميه في أجل المراتب

وقد عد بعضهم من مبتكرات صبري في هذه القصيدة قوله:

إن يرتجل عرف فأنت إلى الذي

لم يرتجله المالكون موفر

وهذا المعنى قديم طرقه غير واحد من الشعراء، قال طريح الثقفي:

قد كنت تعطيني الجزيل بديهة

وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر

فأرجع مغبوطًا وترجع بالتي

لها أول في المكرمات وآخر

وقال الأبيوردي:

جاء الندى والبأس منك بديهة

لما كرهت الوعد والإيعادا

ومن قبل هذين قال زهيد بن عروة المازني:

مباذيل عفوًا جزيل العطاء

إذا فضلة الزاد لم تبذل

هم سبقوا يوم جرى الكرام

ذوى السبق في الزمن الأول

ص: 353

ولا تجد بيتًا من أبيات هذه القصيدة، بل من قصائد المدح كلها عند صبري ليس له نظير في معناه، أو معناه ومبناه عند شعراء العربية الأقدمين؛ وذلك لأن باب المديح من أقدم أبواب المدح منذ اخترعه النابغة الذبياني، وجرى الشعراء على سنته، وافتنوا فيه، وأهم صفة كان يتحلى بها الممدوح في نظرهم: الشجاعة والكرم. هل من الجديد قول صبري في هذه القصيدة؟:

عوذت مجدك أن تنام وفي الحمى

أمل عقيم أو رجاء مخفق

لقد قال المعري في هذا المجد المعوذ:

أعاذ مجدك عبد الله خالقه من

أعين الشهب لا من أعين البشر

وفي معنى بيت صبري قول الشريف الرضي:

نعمى أمير المؤمنين حرية

ألا تنام عن الرجاء المهمل

ويا ليت صبري صاغ القصيدة كلها صياغة قوية جيدة، فإنه لم يكن يقوى على المضي في القصائد الطويلة من غير أن يبهر نفسه، ويحل به الأين واللغوب، ويتردى في حمأة الكلام السوقي المسترذل. فمن ذلك قوله:

وأخذت رأي أولى النهي مستوثقًا

مستوزرًا وكذا الحكيم يدقق

فهل هذا شعر؟ ويقول بعد هذا البيت:

حتى اهتديت إلى الصواب ولم يزل

بين الصواب وبين رأيك موثق

وفي هذا اتهام لرأي الممدوح وطعن عليهن وإن حاول ستره بالشطر الثاني. وقال بعد هذا البيت:

وأهبت فابتكر النضار سحائبًا

تهمي وتفتقد المحيل وتغدق

والمحيل: ما أتى عليه الحول، أو ما صار من حال إلى حال. وقد أراد بالمحيل المحال فأخطأ. وبعد فهل هذا الأمر مشكل؟ وهل معرفة جهل الأمة وسوء حالها كان خافيًا على عباس، حتى أخذ رأي أولي النهي، واستوثق، واستوزر، ثم اهتدى بعد تخبط وضلال، فأين هذا من قول مهيار الديلمي:

ص: 354

ودبر الدنيا برأي واحد

يأنف أن يشركه فيه أحد

إذا استشار لم يزد بصيرة

ولا يلوم رأيه إذا استبد

أو قول الشريف الرضى:

يستمع الرأي وعنه غني

قد يصقل السيف ولم يطبع

وقول البحتري:

إذا ما جرى في حلبة الرأي برزت

تجارب معروف له السبق قارح

أو قوله:

تشف أقاصى الرأي في بدأته

لعيني وستر الغيب غير رقيق

أو قول المتنبي:

كفتك التجارب الفكر حتى

قد كفاك التجارب الإلهام

أو قول سلم الخاسر:

بديهته وفكرته سواء

إذا ما ذابه الخطب الكبير

وأحزم ما يكون الدهر رأيًا

إذا عي المشاور والمشير

وماذا عساي أقول في شعر صبري في المديح، وهو تقليد في موضوعه، وتقليد في طريقته وافتتاحه بالنسيب، ووقوفه على الأطلال، وتقليد معانيه، وصوره وألفاظه؟ فهل بعد هذا يقال إن صبري من الشعراء المجددين؟

ومما يتصل بالمديح والتهاني ذلك الفيض من التقاريظ، والقصائد التي تتخذ للزينة، ومثل القصيدة التي قالها لتوضع في غرفة المائدة بقصر عابدين، ومطلعها:

شمس المعالي كعقود الجمان

قد نظمت في صدر هذا المكان

ومثل البيتين اللذين قالهما ليكتبا على مسقى "سبيل" أم عباس:

ص: 355

أسست هذا على أس التقى

أم عباس ملاذ المعوزين

أيها الظامئ قف نلت المنى

فيح مي جدة أم المحسنين1

إن هذا الكلام لا يسمى شعرًا، بل هو نظم، وصاحبه كما رأيت "نديم" لا شاعر، يحاول أن يرضى البيت المالك، والحاشية، وتتمثل فيه الرقة والوداعة، وسرعة البديهة، والقدرة على القول في كل شيء كما هو شأن الندمان غالبًا.

إذا كان الأدب الفرنسي قد ترك أثرًا في إسماعيل صبري، فذلك الأثر يتمثل في أنه شاعر "صالون" وشاعر "الصالون" كما علمت آنفًا يراعي دائمًا غيره، قبل أن يراعي نفسه وقلما يفرغ إلى شعوره ووجدانه، وفي "الصالون" يسود الذكاء، والنكتة وحسن التعبير. والمجاملة2.

ويذكر لنا الدكتور محمد صبري أن دار إسماعيل صبري كانت "تذكرنا بالأندية التي يرجع إليها الفضل في تهذيب اللغة الفرنسية وتجنب الكلمات الحوشية النافرة،؛ لأن السيدات كن فيها الآمرات الناهيات يحاسبن على كل لفظة ويتلطفن في الخطاب"3، وقد أيد هذا حافظ إبراهيم في رثائه.

لقد كنت أغشاه في داره

وناديه فيها زهى وازدهر

وأعرض شعري على مسمع

لطيف يحس نبو الوتر

ولكني لا أوافقه على أن إسماعيل صبري قد انطبع في ذهنه كثير من الأدب الفرنسي4، اللهم إلا ذلك النوع من الأدب الذي ذكره الأستاذ العقاد بقوله:"ولما تهيأ لإسماعيل صبري أن يتلقى العلم في فرنسا، ويطلع على آدابها وآداب الأوربيين في غلتها كان من الاتفاق العجيب أنه اطلع على الآداب الفرنسية، وهي في حالة الذوق القاهري من بعض الوجوه؛ لأنها كانت تدين على الأكثر الأغلب بتلك الرافهية الباكية التي كان يمثلها "لامرتين" وإخوانه الأرقاء الناعمون"5.

1 جدة أم المحسنين هي "بمبا كان" وسبيل أم عباس كان بمدرسة بما قادن.

2 راجع ص208- 261 من هذا الكتاب.

3 آداب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص120.

4 أدب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص112- 115.

5 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص33- 34.

ص: 356

ولكننا نعلم أن مدرسة "لامرتين" هي المدرسة الإبداعية التي عنيت بالأدب الذاتي عناية فائقة فانطلق شعراؤها يتغنون بكل ما يحسون به، كما أنها عنيت بالطبيعة واكتناه أسراراها، والتملي من محاسنها ومفاتنها، وعنيت كذلك بالإنسانية والمجتمع عناية بالغة تصور مشكلاته بحاسة، وكانت الحياة كلها موضوعًا لشعرهم، وبرعوا في تصوير العواطف براعة فائقة، وعنوا بالجمال والأناقة، ولم يأخذ صبري من هذا كله إلا الجمال والأناقة وترك الهيام بالطبيعة والإنسانية والمجتمع. وإن مدرسة الندمان هذه تشبه إلى حد كبير عشراء الأندية و"الصالون". "وإذا أتيح لك أن تحضر مجلسًا من مجالس الظرفاء القاهريين في الجيل الماضي خيل إليك أنك في حجرة رجل نائم مريض. فالكلام همس، والخطوة لمس، والإشارة في رفق، وسياق الحديث لا إمعان فيه

في هذه البيئة نشأ إسماعيل صبري الشاعر الناقد البصير بلطائف الكلام، فنشأ على ذوق قاهري صادق يعرف الرقه بسليقته وفكره، وليس يتكلفها بشفتيه ولسانه"1.

هكذا يقرر الأستاذ العقاد، فإذا كان للأدب الفرنسي من تأثير عليه، فإنه زاده إمعانًا في رقته، وحبًّا في طريقته، وجعله شاعرًا عريقًا من شعراء المنادمة، لا شعراء الوجدان الذين يناجون نفوسهم، ويستوحونها الإلهام، ولا يفكرون في سواهم.

لقد برهن إسماعيل صبري بالقسم الأكبر من ديوانه الذي تضمن المديح والتهاني، والتقاريظ؛ وشعر الزينة، والمناسبات، وبتلك المقطوعات القصيرة التي تقال ليفهمها الناس والتي تعبر عن خاطرة عابرة، ولا فكرة متأصلة في نفس الشاعر، على أنه من مدرسة علي الليثي التي لا تختلف كثيرًا عن وجهة النظر الفرنسية في الشعر.

ولعله يقال إن عبقرية إسماعيل صبري قد تجلت في غير هذا الشعر الرسمي، تجلت في "مقطوعاته القصيرة يجري فيها ذوب قلبه، ويمزح فيها دم نفسه، بمعناه ولفظه، ويغني فيها لنفسه، ويقصد بها إلى بث لوعته وتخفيف كربته وتلطيف صبابته2.

1 المصدر السابق 32- 33.

2 أحمد أمين في المقدمة ص17.

ص: 357

وهأنذا أعرض هذا النوع من الشعر لنتبين ما فيه من صدق العاطفة، وهل كان صبري فيه مجددًا، مخلصًا للفتن أو أنه تأثر بمدرسة الندماء، وبحياة "الصالون" قال صبري من قصيدته المشهورة "لواء الحسن":

يا لواء الحسن أحزاب الهوى

أيقظوا الفتنة في ظل اللواء

فرقتهم في الهوى ثاراتهم

فاجمعي الأمر، وصوني الأبرياء

إن هذا الحسن كالماء الذي

في للأنفس ري وشداء

لا تذودي بعضنا عن ورده

دون بع واعدلي بين الظماء

أنت يم السحن فيه ازدحمت

سفن الآمال، ويزجيها الرجاء

يقذف الشوق بها في مائج

بين لجين عناء وشفاء

ألا تشعر وأنت تقرأ هذه الأبيات أن صبري ليس محبًّا عاشقًا متيمًا؟ إن المحب ذا أثرة، وغيرة، ولا يرضى إلا بأن يكون المحبوب له وحده، ولكن صبري يحب سيدة "الصالون" يريد منها العدل في القسمة، وتوزيع النظرات، وقد جعل الحسن مشاعًا للجميع والواجب عليها ألا ترد بعضهم عن ورده، وأن تعدل بين الظماء، وهل هذه هي العاطفة الملتهبة؟ إنه شعر أنيق ظريف، واضح، ولكن ليس فيه حرارة الحب، ولا لوعة العشق، ولا إخلاص المحب وأثرته.

هذا فضلًا عن أن المعاني التي طرقها صبري، قد رددها من قبل غيره من شعراء العربية فأما أن المرأة فتنة فقضية مشهورة وهذا هو أبو نواس يقول:

ما براها الله إلا

فتنة حين يراها

وأما أنها لواء الحسن وأن الفتنة استيقظت في ظل اللواء فقديمًا قيل: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وأما قوله: "فرقتهم في الهوى ثاراتهم"، فقد قيل قبل هذا: "قامت حروب الهوى على ساق". وأما قوله: "فأجمعي الأمر وصوني الأبرياء" فقد قال عمر بن الفارض أستاذ صبري:

تجمعت الأهواء فيها فما ترى

بها غير صب لا يرى غير صبوتي

ص: 358

وقال صفي الدين الحلي:

لعل الحب يرفق بالرعايا

فيأخذ للبريء من المليم

وتشبيه الحسن بالماء قديم قال أبو القاسم العطار:

رقت محاسنها وراق نعيمها

فكأنما ماء الحياة أديمها

وقال أبو تمام:

صب الشباب عليها وهو مقتبل

ماء من الحسن ما في صفوه كدر

وأما قوله: "أنت يم الحسن إلخ" فقد نظر في هذا المعنى إلى قول السراج الوراق:

يا بني الآمال قد خاب الرجاء

إنها اشتدت وقد عز العزاء

سفن الآمال في بحر المنى

وحلت منا فأين الرؤساء

وقال صبري بعد هذه الأبيات من نفس القصيدة:

سأعفي آمال أنضاء الهوى

بقبول من سجاياك رحاء

وتجلي واجعلي قوم الهوى

تحت عرش الشمس في الحكم سواء

وعاد صبري في هذين البيتين إلى طلب المساواة في الحب، وطلب النصفة والعدل، وهذا طلب غير مقبول في الحب، فلا الحبيب يستطيع أن ينصف؛ لأنه يتبع ميل فؤاده، ولا المحب يريد هذه النصفة، إلا أمثال صبري الذين يمزحون ولايحبون، فالحب ذو أثرة، وهيهات أن يرضى محب بالشركة، وإذا نظرت إلى الصورة التي أتى بها في هذين البيتين وجدتها قديمة، مرقعة من أبياتها عدة نظر إليها الشاعر، فأنضاء الحب، صيغة قديمة جدًّا، ومن قبل قال الطغرائي.

"يقتلن أنضاء حب لا حراك بها" وأما تشبيه السجايا بالريح الهنية اللينة الرخاء، فكذلك تشبيه قديم قدم البحتري حيث قال:

خلق طيع إذا ريض للجو

د انثنى عطفه وطاع عنانه

ص: 359

وإذا قلت. إن صبري أراد أن يقيم للحب دولة، ويشرع نظامًا، وتسود فيه النصفة والمساواة، فلعل هذا من الجديد، وإن كانت شريعته لا يرضى بها الحاكم ولا المحكوم، فأقول. إن هذا معنى قديم، ومن ألطف ما قيل في هذا المعنى قول محمد بن سارة.

كم قد رأت عيناي مثلك واليا

للحسن، وتنتهب النفوس جنوده

الدهر طوع يديه والدنيا له

أمة وأحرار الأنام عبيدة

وقول ابن النبيه.

أيا ملك القلوب فتكت فيها

وفتكك في الرعية لا يحل

وقال صبري بعد ذلك.

أقبلي نستقبل الدنيا وما

ضمنته من معدات الهناء

وأسفري تلك حلى ما خلقت

لتوارى بلثام أو خباء

واخطري بين الندامى يحلفوا

إن روضا راح في النادي وجاء

وانطقي ينثر إذا حدثتنا

ناثر الدر علينا ما نشاء

وابسمي من كان هذا ثغره

يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء

وفي أول هذه الأبيات كلمة "معدات الهناء"، والمعتدات لعمري ثقيلة جدًّا في هذا البيت فضلًا عن أن الهناء بمعنى هناءة لم تسمع في الفصيح، وطلبه في البيت الثاني من المحبوبة أن تسفر؛ لأن هذا الجمال لم يخلق ليتوارى وراء الحجاب، معنى ردده من قبل أكثر من شاعر عربي ومن أحسن ما قيل في هذا قول الحسن التهامي:

حطي النقاب لعل سرب عيوننا

فيروض حسنك يرتعين قليلا

وفي البيت الثالث يظهر محبوبته على عادته، بأنها امرأة "صالون" أو ناد كما أراد، وهذا ابتذال لها إذا كان حقًّا يحبها، ولكنه متأثر كما ذكرت بالطريقة الفرنسية، وقيل: إن هذه الأبيات نظمت في الآنسة "مي زيادة"؛ إذا كان يغشى

ص: 360

ناديها مع من يغشاه وكانت تستقبل زوارها كل "ثلاثاء" ولم يكن صبري ينقطع عن ندوتها إلا لضرورة ملحة، وقد اعتذر لها مرة عن تأخره بقوله:

روحى على دور بعض الحي حائمة

كظامئ الطير تواقًا إلى الماء

إن لم أمتع بمي ناظري غدًا

أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء

ومع هذا فالبيت ليس فيه جديد، فتشبيه المرأة بالروضة قديم، وفي ذلك يقول أبو تمام:

خرجن في نضرة كالروض ليس لها

إلا الحلى على أعناقها زهر

ولعل بيت صبري

أقرب إلى بيت كشاجم

رزئته روضة تروق ولم

أسمع بروض يمشي على قدم

وأما تشبيه حديثها بالدر في البيت الرابع فكذلك من الصور المتداولة، التي كثرت جدًّا لدى الأقدمين، ومن أشهر ذلك قول البحتري:

ولما التقينا واللِّوى موعد لنا

تعجّب رائي الدر منا ولا قطعة

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

وقال صبري بعد ذلك:

لا تخافي شططًا من أنفس

تعثر الصبوة فيها بالحياء

فهو يريد أن نفوس الجلساء مهذبة يحول الحياء بينها وبين ما لا ينبغي، ومقصده أنها نفوس عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة، وقديمًا قال المتنبي في العفة:

يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر

ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد

وقال الشريف الرضي:

وإذا هممت بمن أحب أمالني

حصر يعوق وعفة تنهاني

ص: 361

وقد أجاد صبري في قوله: "تعثر الصبوة فيها بالحياء" وإن ورد مثل هذا في غير موضع الحب.

وقال صبري بعد ذلك:

أنت روحانية لا تدعي

أن هذا الحسن من طين وماء

وقد قال شوقي في هذا المعنى، ولسنا ندري أيهما أسبق:

صوني جمالك عنا إننا بشر

من التراب وهذا الحسن روحاني

وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}

وأخيرًا قال صبري في هذه القصيدة:

وانزعي عن جسمك الثوب يبنْ

للملأ تكوين سكان السماء

وعجيب من صبري المهذب الرقيق الحاشية رجل النادي، الذي اشتهر بأنه لا يفحش أن يطلب من محبوبته أن تنزع الثوب عن جسمها أمام الندامى، لا بل أمام الملأ أجمعين ليروا تكوين سكان السماء، ولا شك أن هذه فلتة من فلتات صبري، ما فطن إليها. وبغض النظر عن هذا كله، وعن أنه مقلد، فإن صبري شغل بهذه القطعة -مقتفيًا أثر المدرسة الفرنسية- بمحاسن المحبوب الظاهرة، وعن الكشف عن لواعج نفسه، ومكنون قلبه، وبث لوعته، وحرقة فؤاده، فهو ينظر إليها نظرة مادية رخيصة، يريدها أن تسفر لأن الحسن لا يصح أن يتوارى، ويريدها أن تخطر بين الندامى ليتمتعوا بهذا الجمال كأنهم في سوق الرقيق، ويريدها أن تتحدث وتبتسم، ويعني كل العناية بحسنها ومفاتنها حتى لم يستطع إلا أن يطلب منها أن تخلع ثيابها، ولا يبرئه ما وصف به نفسه وندماه من العفة، ومن أنها ملك. إنه تقليد مزدوج للعرب القدماء، وللمدرسة الفرنسية على السواء. ثم هو شعر ليس فيه عمق ولا تحليل للعواطف، ولا تصوير رائع، وهذه القطعة من أحسن قطعة في الغزل، وأطراها غير واحد من النقاد، وإن وافقنا الأستاذ العقاد في نقدها حيث يقول: "هنا ذوق وكياسة، وليس هذا عشق

ص: 362

وحرارة، ولن تذكرنا هذه الأبيات بعاشق يهو معشوقًا يقف على نفسه ويطلب إليه أن يقف نفسه عليه وإنما تذكرنا بنديم قاهري في سهرة من سهرات الطرب يلتف مع صحبه بغانية أو مغنية، يتلطف في الزلفى إليها، والثناء عليها، ولا يشعر من وراء ذلك بلوعة ولا غيره من المنافسين قناعة منه بالراحة بين الأحزاب، والعدل بين الظماء"1.

وعلق الدكتور مندور في الكتيب الصغير الذي أصدره عن إسماعيل صبري على رأينا في هذه القصيدة بأن كلامنا هذا ليس تعسفًا فحسب ولكنه خطأ في الفهم.

"فالبيت الخاص بنزع الثوب لا يمكن فصله عن البيت السابق له وهو:

أنت روحانية لا تدعي

أن هذا الحسن من طين وماء

ولا يمكن فصله عن البيت الذي يليه وهو:

وأرى الدنيا جناحي ملك

خلف تمثال مصوغ من ضياء

فالأبيات الثلاثة تكون رؤية شعرية واحدة يزعم الشاعر أن الفتاة "روحانية" ليس حسنها من طين وماء وإنما هي تمثال مصنوع من ضياء وبه "جناحا ملك": وهو يريد منها أن تنزع الثوب لكي تثبت صحة رؤيته الشعرية، فلن يظهر عندئذ جسم بشري بل تمثال مصنوع من "ضياء" هو "تكوين سكان السماء" وبذلك لا تكون "فلتة" من إسماعيل صبري، ولا يكون هناك "سوق رقيق" ولا "عرض لجسم عار بين الندامى وإنما هناك رؤية شعرية روحية"2.

ويعود فيقول: "الواقع أن لواء الحسن أو المرأة الجميلة التي يتحدث عنها إسماعيل صبري في هذه القصيدة ليست امرأة مبتذلة ولا نهبًا للأطماع، وإنما هي امرأة روحانية تقصر عن التطلع إليها شهوات النفوس، وليس في القصيدة نعمة حسية أو مستهترة أو مبتذلة، وهي أبعد ما تكون عن روح الندماء ومجالس الظرف أو الخلاعة"3.

1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص35.

2 نفس المصدر: ص9، كذلك ص15.

3 نفس المصدر: ص12.

ص: 363

والدكتور مندور يرد على نفسه في كتاب آخر من كتبه وهو "الشعر المصري بعد شوقي"1 حين وازن بين علي الجارم وإسماعيل صبري، وقد قال في هذه الموازنة: "ولا يعقل أن يكون إحساسه بمعاني الحب مطابقًا الإحساس رجل كإسماعيل صبري القاهري المترف الذي كان يقنع من الحب بمجالس الطرب وصالونات المؤانسة دون أن يستشعر شيئًا من ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، فتراه لا يطلب من الحسناء التي يغازلها إلا أن تسوي بين عاشقيها حيث يقول:

"يا لواء الحسن............ الأبيات"

فالدكتور مندور يعترف معنا بأنها كانت في مجلس طرب وصالون مؤانسة، وأن إسماعيل صبري لم يكن لديه ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، وأنه كان يغازلها، ولم يطلب منها إلا أن تسوي بين عاشقيها".

فأي امرأة هذه ذات العشاق الكثيرين الذين يغازلونها في صالونات المؤانسة ومجالس الطرب؟!

لقد نسي الدكتور مندور أول القصيدة وأخذ أبياتها الثلاثة الأخيرة نسي أنه طلب منها أن تعدل في توزيع الحب.

لا تذودي بعضنا عن ورده

دون بعض واعدلي بين الظماء

ونسي أنها تخطر في النادي بين الندامى، وأنه يطلب منها أن تتكلم لتنثر الدر، وأن تبتسم ليملأ ثغرها الدنيا ابتسامًا فهو هنا يؤكد بشريتها، ولو كانت روحانية حقًّا ما قال لها:"لا تخافي شططًا من أنفس.... البيت" إذ إن الملائكة لا تخاف شطط النفس البشرية، بينما صبري يؤكد في هذا البيت بشريتها بأن نفوسهم عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة التي تخطر أمامهم وهم "ندامى" وهذه الكلمة توحي بكثير، كما أن كلمة "صبوة" وهي جهالة الشباب تنبئ عن الشهوة التي تعمل في نفوسهم وإن منع الحياء ظهورها وأكد هذا في البيت الذي يليه:

1 ص31.

ص: 364

راضت النخوة من أخلاقنا................

البيت

أما الأبيات الثلاثة الأخيرة التي ثار الدكتور مندور علينا من أجلها حين تعجبنا من صبري القاهري المهذب أن يطلب إليها أن تنزع الثوب بين الندامى، وراح ينبئنا بأنها صورة ملائكية وأنها روحانية، ولسنا نعلم أن الملائكة تلبس ثيابًا وإنما هي أجسام نورانية شفافة، كل الذي أراده صبري أنها تشبه الملائكة في جمالها. كما قال النسوة في سيدنا يوسف:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ولم يمنع ذلك امرأة العزيز من الهيام ومراودته عن نفسه.

ولقد نظرنا إلى القصيدة في عمومها وإلى أنها قيلت في مجلس طرب وصالون مؤانسة وأنه كان يغازلها كما يغازلها سواه، وكل الذي طلبه المساواة في البسمات والنظرات والعطف وأن تسمح لهم جميعًا أن يردوا من منهل حبها فلا تذود بعضهم عن ورده دون بعض، ونظر الدكتور مندور إلى الأبيات الثلاثة الأخيرة، وشتان بين النظرتين، ومع هذا فلا تقول إنه خطأ في الفهم كما قال، وإنما هو اجتهاد منه في التأويل:

ومن القطع الغزلية التي اشتهر بها صبري قوله:

أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة

ولا بشافعة في رد ما كانا حمل

سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا

الصبابة فاخفق وحدك الآنالو

ما كان ضرك إذ علقت شمس ضحى

أدركت ضحايا العشق أحيانًا

هلا أخذت لهذا اليوم أهبته

من قبل أنت تصبح الأشواق أشجانا

لهفي عليك قضيت العمر مقتحمًا

في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا

لقد أثنى الدكتور طه حسين ثناء لم نعهده منه في أي شاعر آخر على هذه القطعة وهو الخبير بفنون القول، والذي يتطلب من الشعراء الشيء الكثير، وذلك حيث يقول في مقدمة ديوان صبري:"فهل تعرف روحًا أعذب من هذا الروح؟ وعاطفة أصدق من هذه العاطفة؟ ولهجة أرق من هذه اللهجة؟ وموسيقى أجل وأظرف وأحسن تمثيلًا للروح المصري الشعبي من هذه الموسيقى التي يلائم بها بين "نافعة وشافعة" وفي البيت الأول، يأخذ هاتين الكلمتين من حديث الشعب

ص: 365

في حياته اليومية العادية، فيرتفع بها إلى أشد الشعر روعة، وأعظمه حظًّا من سذاجة، وهل تجد شيئًا من الغرابة في أن يغني الشعر بعض المغنين1".

حقًّا إن صبري في هذه القطعة عذب الروح، رقيق اللهجة، حلو الموسيقى، يمثل الروح المصري الشعبي، ولكنه ليس بصادق العاطفة، ولعل الدكتور طه حَمِدَ من صبري هذه الصفات؛ لأنه جرى في شعره هذا على نسق المدرسة الفرنسية في الوضوح، وحسن الديباجة في الشعر، والرقة المتناهية، وإذا نظرنا إلى هذا الشعر نظرة أخرى وجدنا صبري مقلدًا في معانيه وأخيلته، وإن حسنت ديباجته وصياغته. فقد قال البهاء زهير في نافعة وشافعة:

فما تنفع في الدنيا

ولا تشفع في الأخرى

وقد جمع المتنبي في شطر ما أراد صبري أن يقوله في بيت بأكمله وذلك حيث يقول:

فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ

وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ

أما البيت الثاني فقد نقده نقدًا بديعًا الشاعر أحمد محرم حيث قال: الصورة في هذا البيت معكوسة، والمعنى غير مستقيم، فقد أراد الشاعر أن يقول لقلبه: إن القلب الذي كان يشاطرك حمل الصبابة قد سلا، فأجرى فعل المشاطرة على قلبه هو، وأنت ترى أن وقوع الفعل من قبله هو يعفيه من عناء هذا السلو، ويريحه من ذلك العبء الذي كان يحمله وإذا فلا معنى لأن يخفق وحده2.

وموضع النقد هو أن صبري قال لقلبه: لقد شاطرت قلب الحبيب حمل الصبابة فما معنى أن يخفق وحده إذا سلا قلب الحبيب؟ إذ سلا قلب الحبيب فقد أعفى قلب صبري من المشاطرة ومن حمل الصبابة ولكنه كان يريد غير ذلك فأخطأ في التعبير. على أن معنى البيت على وجهه الصحيح مما سبق إليه الشعراء وفي ذلك يقول الطغرائ:

1 مقدمة الديوان ص12.

2 مجلة أبوللو أكتوبر سنة 1934 ص165.

ص: 366

يا قلب مالك والهوى من بعدما

طاب السلو، وأقصرالعشاق

أو ما بدا لك في الإفاقة والألى

نازعتهم كأس الغرام أفاقوا

ومعنى البيت الثالث من أبيات صبري قديم قدم الشمس يوم طلعت على شاعر عربي في الصحراء، وضحايا العشق كذلك معرقون في القدم منذ وجد الحب على ظهر البسيطة، وطالما ردده الشعراء، فلا داعي لتكراره، ولكن تعالى معي إلى البيت الرابع وأعجب كيف يأخذ المحب عدته لسلو الحبيب أو لغدره، اللهم إن هذا لا يكون إلا إذا رثت حبال المودة، وانتقض الحب، وفسدت الصلة، أما أن يفكر المحب وهو بعد محب ومحبوب في أن حبيبه سيغدر به، بعد العدة لسلوه فهذا أمر لا يفهم في عالم الحب، إلا إذا كان حبًّا من النوع الذي أغرم به صبري وهو الحب العابر، المتنقل، غير العميق الغور، أو الصادق العشق، ثم كيف يستطيع القلب أن يتخذ العدة والأشواق هي الغالبة عليه، ولم تتحول بعد إلى أشجان، وقديمًا قال الشاعر:

لا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه

وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها

فهلا تذكر قول قيس لبنى:

فوا كبدي من شدة الشوق والجوى

وواكبدي إني إلى الله راجع

إن الشوق هو الذي يسعر النار في الأفئدة المدلهة، وهو الذي وصفه أبو تمام بقوله:

هذا محبك أدمى الشوق مهجته

فكيف تنكر أن تدمي ما فيه

لست أدري، لعمر الحق كيف فرق صبري بين الأشواق والأشجان، ولا كيف يفكر المحب في السلو ويعد له عدته وهو في معمعان الشوق؟ إذا كان صادق العاطفة حقًّا فكيف يطلب من قبله أن يسلو، هلا تذكر قول المجنون:

فيا حبها زدني جوى كل ليلة

ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

وما لي أضرب الأمثلة بالغابرين، وقد ناقض صبري نفسه في غير هذه القصيدة وبرهن على أن الشوق نار ملتهبة حيث يقول:

يا من أقام فؤادي إذا تملكه ما

بين نارين من شوق ومن شجن

ص: 367

وحيث يقول من قطعة أخرى:

يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها

فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها

وإذا رحنا نبحث عن غزل صبري فإننا نجده يشبه حبيبته تارة بالروض والغصن

يا فتاة الحي قد أذكرتنا

نضرة الروض وميل الغصن

وبالبدر كقوله:

عارضني البدر إذا لم يعترف

لك بالحسن بوجه حسن

وكقوله:

أتزودت من ضياء البدور

لليال كثيفة الديجور

ومرة هي ظبية وأين بمصر الظباء؟

يا ظبية من ظباء الإنس راتعة

بين القصور تعالى الله باريك

وكقوله:

يا مقر الغزال قد صح عندي اليـ

ـوم أني اقتحمت منك العرينا

ومرة هي مهاة تمشي في سريها:

وحيها بين المها إن بدت

في سربها مقبلة مدبرة

إلى غير ذلك من التشبيهات الأثرية التي لا تلائم ذوق العصر، وليس فيها رائحة من تجديد، زد على هذا أنه عنى كل العناية بوصف محاسن المرأة ومفاتنها الجسمية، وقلما التفت إلى الجمال المعنوي، أو تحليل العاطفة، أو تصوير الحب على حقيقته تصويرًا غنيًّا قويًّا. يعجبه من المرأة قوامها المياس المرهف.

تمس تذكرنا الشباب وعهده

حسناء مرهفة القوام فنذكر

ويعجب بنحرها، وبثناياها ويشبه الثنايا بالدر:

ص: 368

وتبيت تكفر بالنحور قلائد

فإذا دنت من نحرها تستغفر

وتزيد في فمها الآلي قيمة

حتى يسود كبيرهن الأصغر

وثغرها مورد عدب غني به كل مورد آخر:

يا موردا كنت أغنى ما أكون به

عن كل صاف إذا ما بات يرويني

عندي لمائك -والأقداح طوع يدي

ملأى عن الماء- شوق كاد يرديني

ويفتن بشعرها الأسود المعقوص:

أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلًا

وأعقديه من فوق رأسك تاجًا

أنت في الحالتين بدر تراه

صادعًا آية الدجى وهاجا

وقد يقال إن لصبري قطعًا أخرى غير هذه، فيما حرقة الجوى، ولهيب الشوق، وجمر الحب، وفيها التوجع والشكوى وفيها العاطفة مثل قوله:

يا آسي الحي هل فتشت في كبدي

وهل تبينت داء في زواياها

أواه من حرق أودت بأكثرها

ولم تزل تتمشى في بقاياها

يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها

فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها

أجل؟ إن هنا حرقة، وداء يرعى في كبده، وشوقًا قد عصف بأضلاعه، وقلبًا يخفق ذعرًا، ولكن هنا أيضًا زوايا، وبقايا وحنايا، وآثارًا قديمة من مخلفات الماضي، ومن أثر محفوظة من الشعر العربي القديم، وقال البهاء زهير في "الزوايا" وما فيها:

ويميل بي نحو الصبا

قلب رقيق الحاشية

فيه من الطرب القد

يم بقية في الزاوية

وله في المعنى الذي ذكره صبري في البيت الثاني:

لك الحياة فإني

أموت لا شك عشقًا

ص: 369

لم يبق مني إلا

بقية ليس تبقى

وإذا قال صبري في قطعة أخرى فيها شيء من وهج اللوعة.

أبثُّك ما بي فإن ترحمي

رحمت أخا لوعة ذاب حبًّا

وأشكو النوى ما أمر النوى

على هائم إن دعا الشوق لبى

وأخشى عليك هبوب النسيم

وإن هو من جانب الروض هبا

وأستغفر الله من برهة

من العمر لم تلقني فيك صبا

تعالي نجدد زمان الهنا

وننهب لياليه الغر نهبا

تعالي أذق بك طعم السلام

وحسبي وحسبك ما كان حربًا

لم أجد خيرًا من تعليق الأستاذ العقاد عليها بقوله: "إن صبري لم يذب حبًّا هنا إلا كما ذاب كل قاهري ظريف يقول لصاحبته: "أنا أذوب" وأنه لم يخف على صاحبته هبوب النسيم من جانب الروض إلا كما يخشى كل قاهري ظريف من الهواء وما هو أرق من الهواء. وإنما هو إسماعيل صبري في صميمه، وحقيقة نجواه حين يقول لها: إنه تعب من اللوعة، وكَلَّ من الحرب، ولا أمل له في غير السكينة والسلام1.

وهذه الأبيات محاكاة لما قيل من قبل في هذه المعاني، وليست منبعثة عن عاطفة قوية، وأغلب الظن أن صبري لم يكن يعبر عن خلجات فؤاده، وإنما كان إذا أراد القول في الحب ازدحمت على مخيلته تلك الصور القديمة التي وعتها ذاكرته فرددها، وأعادها إلى الحياة لا تنطق عن جوى كامن من فؤاده، أو تنقل قبسًا من روحه، وكيف تكون كذلك وهي رداء صنع لغيره، ورث من قبل أن يتناوله، ومرة يجيء وفق ما يريد من معنى، وما يجيش في قلبه من فكرة وعاطفة، وأحيانًا يضيق. وأخرى يتسع. ألا ترى معي أن الشكوى في قلبه من فكرة وعاطفة،

1شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص26.

ص: 370

وأحيانًا يضيق، وأخرى يتسع، ألا ترى معي أن الشكوى من النوى وتلبية الشوق إذا دعا عبارات لاكتها ألسنة القدماء حتى ملها الأسماع أولا ترى أن مسألة الخشية من هبوب النسيم على المحبوبة ولو هب من جانب الروض فيها مبالغة سخيفة ثم هو معنى قديم وحسبي أن أذكر قول الشاعر:

خطرات النسيم تجرح خديه

ولمس الحرير يدمي بنانه

وقد عارض صبري قصيدة الحصري القيرواني1 التي مطلعها:

يا ليلُ الصبُّ متى غدُه

أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ

فقال في قصيدته المشهورة:

أقريب من دنف غده

فالليل تمرد أسوده

والتفت تحت عجاجته

بيض في الحي تؤيده

وهي قصيدة في الغزل، ولكن فكرة المغارضة توحي بأنه لم يقلها استجابة لانفعال خاص، أو فيضًا لعاطفة ملتهبة، وإنما قالها ليدل على أنه يستطيع أن يجيد كما أجاد القيرواني ولكن هيهات! فنظرة عابرة إلى القصيدتين تريك أن صبري لم يستطع الفكاك من معاني قصيدة القيرواني وصورها، وأنها غلبته على أمره فرددها، لا! بل كان مضطربًا شأن من وقع في شباك متينة يحاول الخلاص منها فلا يتأتى له، بل تأتت صورة ممسوخة. انظر إلى هذا الاضطراب في قوله:

كما صغت التبر له شركًا

وقضيت الليل أنضده

وأشاور شوقي بلأدبي

هل أقصر أم أتصيده

فهل تجد معنى للمشاورة بعد أن مد الشرك فعلًا، ونصب الحبائل لصيده، ثم ألا يذكرك هذا الشرك المصنوع من الذهب بشرك ابن الوردي حيث يقول:

1 القيرواني هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقري الصرير المصر القيرواني الشاعر المشهور، وفد على جزيرة الأندلس في منتصف المائة الخامسة وتوفي بطنجة سنة 488 هـ، وهو صاحب زهر الأدب، وقد عارض قصيدته كثيرون في القديم والحديث منهم في عصرنا شوقي، وولي الدين يكن ونسيب أرسلان وصبري وغيرهم.

ص: 371

ورب غزالة طلعت

بقلبي وهو مرعاها

نصبت لها شباكا من

لجين ثم صدناها

وإذا قلت: إن شرك صبري من ذهب وترك ابن الوردي من فضة وشتان ما بينهما فاستمع إلى شاعر آخر نصب شركا من ذهب هو الأمير "منجك" يقول على لسان من يحبه:

لا تنقضى لك حاجة

عندي بشعر أو طرب

إن رمت صيدي في الهوى

فانصب شراكا من ذهب

ولست أريد أتتبع القصيدة فحسبي ما ذكرت منها، وهو دليل على سائرها ولا أدل على أن كثيرًا من غزل صبري محاكاة، من قوله:

يا وامض البرق كم نبهت من شجن

في أضلع ذهلت عن دائها حينا

فالماء في مقل والنار في مهج

قد حار بينهما أمر المحينا

لولا تذكر أيام لنا سلفت

ما بات يبكي دمًا في الحي باكينا

يا نسمة ضمخت أذيالها سحرًا

أزهار أندلس هبي بوادينا

وهو يقولها ردًّا على قصيدة شوقي الأندلسية "يا نائح الطلح" وتعجب كيف أن صبري في آخريات حياته، وبعد ما سمع الشعر الحديث وقرأ منه لا يزال يردد البرق في شعره وأنه ينبه شجنه، مقتفيًا أثر العرب وهم في حصرائهم يوم كانوا يحتفلون بالبرق الذي يبشر بسحاب ممطر، فيه الحيا والحياة، فيهتزون طربًا لرؤياه، ويتذكرون الحبيبة الغائبة، التي يودون أن تشاركهم هذه المسرة، أما في القاهرة فلا محل لذكر البرق والمطر.

ومما يدل على التكلف قوله: "فالماء في مقل، والنار في مهج" وحديث الماء والنار قديم جدًّا في الأدب العربي، وقد أبدع الشريف الرضي في هذا المعنى حين قال:

الماء في ناظري والنار في كبدي

إن شئت فاعترفي أو شئت فاقتبسي

ص: 372

أما تلك النسمة المضمخة الأذيال فقديمة كذلك، وهي تشبه أذيال الصبا عند ابن معتوق حين يقول:

وتنفس النسرين من عبق

منه بأديال الصبا عطر

هذا ما كان من أمر الغزل، وقد تبين لك أن جله محاكاة، وندر أن تجد فيه شيئًا من صدق العاطفة، أما الوصف فهو مقل جدًّا بحيث لا تجد له في باب الوصف إلا قصيدة واحدة في البرق والسحاب، ومقطوعة في ثلاثة أبيات في وصف النيل ذكرناها في غير هذا الباب عند الكلام في مواقف الشعراء من الطبيعة المصرية وذكرنا أنها مسروقة من ابن خروف النحوي الأندلسي1.

وقصيدة البرق والسحاب مما سبق أن أتى عليه الشعراء، ولا سيما والبرق في مصر نادر، وليس فيها ما يستحق الذكر إلا تذكره لعهده بالشباب، وفي هذه القصيدة يقول:

أبرق يتوج هام الربا

وإلا فهاتيك نار القرى

كأن سناه عيون مارض

يحاولن تحقيق شمس الضحى

وإلا فتلك مصابيح قبل أن

طفاء يَثَرن لصدع الدجى

وهذا كما ترى خيال بدوى، سبق إليه امرئ القيس وغيره، وإن نار القرى بمصر توقد فوق رءوس الربى لجلب الضيفان، ولعلك تتذكر وصف امرئ القيس للبرق بقول له:

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أمال السليط بالذبال المفتل

أما الأبيات التي يذكر فيها عهد الشباب فهي:

سقى ريها العذب عهد الشباب

فقد كان روضًا شهي الجنا

إذ العيش كالغصن في لينه

يميل بعبء ثمار المنى

أقلبي كم ذا توالى الحنين

وكم ذا يشوقك عصر الصبا

رويدك إني رأيت القلوب

تفطر من ذا ومن بعض ذا

صحبت الأسى بعد ذاك الزمان

كأنك مستعذب للأسى

1 راجع ص164 من هذا الكتاب، والأبايت مذكورة في بغية الوعاة للسيوطي ص3254 مطبعة السعادة 1326 هـ.

ص: 373

وليس في هذه الأبيات أي صورة جديدة، فاستمطار السحب على العهود السعيدة الماضية جلبًا للرحمة خيال بدوي قديم، وتشبيه العيش بالغصن الرطب مما أكثر الشعراء من ذكره، وربما كان في هذه القصيدة بعض العاطفة الحزينة، ولكنها ليست عميقة، ولا قوية.

وعجيب من صبري ألا يعني بالوصف، وهو أدل أبواب الشعر على قوة الشاعرية، وعلى تحرر الشاعر من قيود المجتمع ومجاملاته؛ لأن الصوف لا باعث له إلا انفعال الشاعر للجمال أو الخير، لكن صبري كان يرسف في أغلال التقليد فلم يستطع الفكاك من قيود المجتمع ومجاملاته، مادحًا، أو راثيًا، أو مقرظًا، أو متغزلًا في سيدة النادي الذي يغشاه وفي أمثالها.

هذا وباب الاجتماع لدى صبري باب قصير، وكله شخصي، وينظر فيه الشاعر إلى نفسه قبل أن ينظر إلى من حوله، وكله نظرات حزينة وتبرم بالناس، واستجلاب للسخط على الحياة وساكنيها، واستمع إليه يقول في الشباب والشيب:

لم يدر طعم العيش شبا

ن ولم يدركه شيب

جهل يضل قوى الفتى

فتطيش والمرمى قريب

وقوى تخور إذا شبـ

ـث بالقوي الشيخ الأريب

بينا يقال كبا المغفـ

ـل إذ يقال خبا اللبيب

أواه لو عقل الشبا

ب وآه لو قدر المشيب

وإذا لم يدر طعم العيش شبان، ولم يدركه شيب، فمن يدريه؟ هل تقصد أن طعم الحياة ولذتها لا يدركهما أحد أبدًا لا الشبان ولا الشيب؟ وما حد الشباب عنده، وما حد المشيب؟ إذ كان الأمر كما يصوره صبري فلا كانت الدنيا ولا كان السعي فيها، أليس بين عهد الشباب الجامح، وضعف الشيخوخة مرحلة طويلة من العمر، وفسحة من الأجل يتمتع فيها الإنسان بالحياة على هينة، ويدرك مغزاها تمام الإدراك؟ وهل العبرة بالسن أم العبرة بالشعور؟ كم من فتى في

ص: 374

ريعان العمر يشعر إزاء الحياة شعور الشيخ الذي هَذَّهُ المرض، وأثقلته تكاليف السنين، وكم من شيخ لا يزال في القلب، نضر الآمال.

وإذا تركنا البيت الأول وجدنا الأبيات الأربعة التالية تدور كلها حول معنى واحد، وهو أن الشباب سن الطيش، كثيرًا ما يخطئ فيه الإنسان لحماقته وغروره واندفاعه، وعدم تحكم القوى العاقلة في أمور نفسه، وأن المشيب سن الضعف تخون الإنسان قوته، ويود، وما وده بنافع له؛ لأنه لا يملك الإرادة المنفذة، ولا العزيمة المبرمة.

أما أن الشباب مظنة الخطأ والجهل فمعنى قديم، وفي ذلك يقول النابغة: وإن مطية الجهل الشباب"، ويقول العتبي:

قالت عهدتك مجنونًا، فقلت لها

إن الشباب جنون برؤه الكبر

وأما أن المشيب زمن الضعف، وانطفاء الآمال فمعنى ردده غير واحد من الشعراء، ومن أحسن ما قيل في هذا قول أبي العلاء:

سقيا لأيام الشبا

ب وما حسرت مطيتيا

أيام آمل أن أمس الـ

ـفرقدين براحتيا

فالآن تعجز همتي

عما ينال بخطوتيا

ومن خير قصائد الاجتماعية قصيدته التي قالها في مذنب "هالي" وقد سبقت الإشارة إليها، وفيها ينعي على الناس فساد أخلاقهم، ويستمطر شآبيب السخط والغضب على هذه الدنيا، وما فيها من وجوه كالحة كئيبة، ويصور في براعة بطش القوى بالضعيف شأن الدنيا في تنازع البقاء، وفي ذلك يقول:

غاض ماء الحياة من كل وجه

فغدا كالح الجوانب فقرا

وتفشي العقوق في الناس حتى

كاد رد السلام يحسب برا

أوجه مثلما نثرت على الأجدا

ث وردًا إن هُنَّ أبدين بشرًا

ص: 375

وشفاه يقلن: أهلا، ولو أديـ

ـن ما في الحشا لما قلن خيرا

عمرك الله هل سلام وداد

ذاك أم حاول المسلم أمرا

عميت عن طريقها أم تعامت

أمم في مفاوز الجهل حيرى

غرها سعدها ومن عادة السعـ

ـد يؤاتي يومًا ويخذل دهرًا

فتجنب على الشعوب وشنت

عارة في البلاد من بعد أخرى

نسيت في الصعود يوم التدلي

والتدلي بصاعد الجد مغري

تعب الفيلسوف في الناس عصرًا

وتولى السرائل الدين عصرا

والورى طارد إزاء طريد

وعقاب ويمسي يطارد صقرًا

عبر كلها الليالي، ولكن

أين من يفتح الكتاب ويقرا

أنت نعم النذير يا نجم هالي

زلزل السهل والرواسي ذعرًا

ظن قوم فيك الظنون وقالوا

آية أرسلت إلى الأرض كبرى

إن يكن في يمينك الموت فاقذفـ

ـه شواظًا على الخلائق طرا

أغًا تستوى الأنوف فلا ينـ

ـظر قوم وما على الأرض شررًا

أغدًا يصبح الصراع عناقا

في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا

إن يكن كل ما يقولون فاصدع

بالذي قد أمرت حييت عشرا

هذا موضوع مغر بالشعر حقًّا، وهو المأساة الإنسانية، أو المهزلة الإنسانية إن شئت، وفي استطاعة الشاعر المركب الشخصية أو المعقد الشخصية أن يجعل من هذا الموضوع تحفة فنية رائعة، بتصوير آلام الإنسانية تصويرًا دقيقًا زاهيًا تتفطر منه القلوب وتدمى العيون ثم تصوير ذلك النزاع البشري الطويل من لدن آدم حتى اليوم، وما في الحياة كلها من مظاهر قانون تنازع البقاء.

ص: 376

ولكن كيف يتهيأ لصبري هذا، وهو شاعر مفرد الوتر، سطحي الشعور أن يبدع في هذا الموضوع أو شبهه. وليس معنى هذا أنه لم يقل شيئًا إنه قال على قدر استطاعته، وإذا علمنا أن صبري لا يستطيع نظم المطولات، ويعيا بها عرفنا السبب في تقصيره، إنه مس برفق آلام الإنسانية، وساق كثيرًا من أبيات الحكمة، ورجع في كثير من معاني القصيدة إلى الشعر القديم والاستعانة به على تأدية أغراضه، مثل ذلك قوله:"غاص ماء الحياة من كل وجه" وكثيرًا ما تكلم الشعراء في ماء الحياة هذا:

كثير حياء الوجه يقطر ماؤه

على أنه من بأسه النار تلفح

وأما من ملق الناس ونفاقهم الذي عبر عنه بقوله:

وشفاه يقلن أهلًا ولو أديـ

ـن ما في الحشا لما قلن خيرًا

فقد قال الله سبحانه وتعالى وهو أكرم القائلين: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} .

وقديمًا قال الشاعر:

يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا

ولو ظفروا بي ساعة قتلوني

وأما غرور الأمم ونسيانها في حميا انتصارها أن سيأتي يوم تدال فيه إن لم تحط ملكها بالعدل والرحمة والاعتدال في كل شيء فمأخوذ من قول الشاعر:

ما طار طير وارتفع

إلا كما طار وقع

والمغالبة في الحياة، والمزاحمة على مواردها، وانتصار القوى على الضعيف شريعة الوجود منذ نشأة الإنسانية، وقديمًا قال الشريف الرضي:

والناس أسد تحامي عن فرائسها

إما عقرت وإما كنت معقورًا

وهكذا كل معاني القصيدة إلا النادر من مثل قوله:

أوجه مثلما نثرت على الأجدا

ث وردًا إن هن أبدين بشرًا

أغدًا يصبح الصراع عناقا

في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا

ص: 377

فالصورة في البيت الثاني رائعة؛ لأن الإنسان قد يتصور هذا الصراع البشري العنيف وقد استحال بعد الموت وآثاره عناقًا وضمًّا والتزامًا بين بقايا البشرية وأنقاضها، أو بين موادها المنحلة المتناثرة، وقد جاور بعضها بعضًا، ولا فرق بين ملك وسوقة، ولا ظالم ولا مظلوم، وقديمًا قال المعري في المنايا، وأنها تفرق بين الرأس والرجل، والقدم والرأس:

فكم قارن من رأس برجل

وكم ألحقن من قدم برأس

وكان إسماعيل صبري يرى الاقتصار على زوجة واحدة، وهو بهذا من أنصار قاسم أمين، وقد عبر عن رأيه شعرًا ونثرًا، وأما الشعر فقوله:

يا من تزوج باثنتين ألا اتئد

ألقيت نفسك ظالمًا في الهاوية

ما العدل بني الضرتين بممكن

لو كنت تعدل ما أخذت الثانية

وأما النثر فقوله: "أحب التوحيد في ثلاث: "الله" و"المبدأ" و"المرأة".

ولم يخض في مسألة السفور والحجاب كما ذكرنا آنفًا، ولعل رأيه يتضح من قوله أحب الحرية في ثلاثة:"حرية المرأة في ظل زوجها، وحرية الرجل تحت راية الوطن وحرية الوطن في ظل الله". ولا شك أن حرية المرأة في ظل زوجها هي ما شرعه الإسلام ولكن هذه جملة مبهمة لا تفيد كثيرًا في معرفة رأيه.

هذا كل ما نستطيع أن نأخذه من باب الاجتماع عند صبري، ومنه نرى أنه شاعر لا فكرة له في المجتمع وإصلاحه، وإنما هي بعض الشكوى والتبرم، والشكوى والتبرم ليسا مذهبًا إصلاحيًا، ولا فلسفة يدين بها الشاعر؛ لأنها عمل سلبي، ومعظم شعرائنا، وللأسف -لا أخص صبري وحده- ليس لهم فلسفة يدور حولها شعرهم، ولا فكرة يدعون إليها، كما هو الحال عند شعراء الغرب البارعين، ولا أولئك الذين يخدعون الناس بعبارة "شعراء الفن للفن" ليهرفوا بما لم يعرفوا، وليقولوا ويأمنوا النقد. وما أظن صبري ولا سواه ممن اختفت لديهم الفكرة الجامعة، والمبدأ القويم الذي يدور حوله شعرهم كانوا يفكرون في مسألة

ص: 378

"الفن للفن"؛ لأن الشعر عندهم كان لمعًا، وخطرات ترد على الذهن، فينشأ منها انفعال عارض يدفعهم إلى قول بضعة أبيات أو قصيدة.

هذه وسياسيات صبري من قبيل الفكاهة والنكتة، لا تعرف له مبدءا يدين به، أو حزبًا ينتمي إليه، وإن كانت فيها سخرية مرة أحيانًا وتهكم لاذع بهؤلاء الذين مالئوا الاحتلال، أو لم يخلصوا لأمتهم فيما أتأمنهم عليه من عمل أو وزارة، وهي أشبه بالصور الهزلية "الكاريكاتيرية" منها بالصور الحقيقية، خذ مثلًا قوله في مصطفى فهمي، وهو من عرفت فيما سبق: نصيرًا قويًّا للمحتل، وعدوًّا لرغبات الأمة، وأمانيها الوطنية، ولا أدل على ذلك من أنه مكث في الوزارة ثلاث عشرة سنة، وعميد الاحتلال راض عنه؛ لأنه كان أشد منه حماسة في توطيد أقدام الإنجليز بمصر، فلما سقطت وزارته بعد ذلك الأمد الطويل في تاريخ الوزارات سنة 1908 قال إسماعيل صبري.

عجب لهم قالوا سقطت ومن يكن

مكانك يأمن من سقوط ويسلم

فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى

وحرمت خوف الذل ما لم يحرم

وقال على لسان مصطفى فهمي هذا عند استقالته، مشيرًا إلى أنه لم يجد في مصر رجالًا ولو وجد فيها رجالًا ما تركوه في الوزارة طوال هذه المدة، يعين عدوهم عليهم، ويستتر وراء اسمه لتنفيذ أغراضه، وتوطيد سياسته، وأنه لم يستقل إلا بعدما أراد قومه أن يكلفوه ما لم يرض، وهو ألا ينصاع لما يريده المحتل الغاصب:

إنني أستغفر الله لكم

آل مصر ليس فيكم من رجال

فَلَّ غربي ما أرى من نومكم

ورضاكم بوجود الاحتلال

بُحَّ صوتي داعيًا مستنهضًا

صارخًا حتى تولاني الكلال

لم أجد فيكم فتى ذا همة

إن عدا الدهر عدا أوصال صال

رحم الله وزيرًا سامه

قومه ما ليس يرضى فاستقال

ص: 379

وليس بصحيح أن صوته قد بح من دعوتهم للنهوض، وأنه كان يرجو أن يبرز من يبرز من بينهم فتى ذو همة، إن عدا الدهر على قومه عدا وإن صال صال. فهذا من قبيل التهكم اللاذع؛ لأن مصطفى فهمي كان يريد مصر نائمة، راضية عن الاحتلال؛ إنما الذي فل غربه حقًّا تلك الثورة العنيفة التي أجج نارها مصطفى كامل وصحبه، حتى طوَّحت به وبأضرابه.

ويصور بطرس باشا غالي. بأنه قلب، يلبس لكل زمان لبوسه، ويعرف من أين تهب الريح فينحني أمامها.

أهلا ببطرس أهلا

بالملتوي المستقيم

قديم كل جديد

جديد كل قديم

ويقول في أحمد حشمت باشا حين تولى وزارة المالية؛ وكان صبري يرى أنه ليس بكفء لهذه الوزارة وأنه ظلم حين أسندت إليه، وأن لولا الإنجليز ما تولاها.

أبعدوا "أحمدًا" وجاءوا بثان

ظلموه كما أراد الغشوم

فتسلت خزائن المال مظلوم

تولى وجاءها "مظلوم"1

وهذا النوع من الشعر يؤيد رأينا في شعر صبري، وهو أنه شعر مناسبات، ينتمي إلى مدرسة الندماء، لا يصدر عن عاطفة، وإنما يقال لخطرة بدت، أو للتسلية في الندوة، يتفكه بها الصحب، ويعجبون للبراعة الفائقة التي مكنت صبري من أن يصور هذه الشخصيات السياسية في مثل ذلك الإيجاز الواضح.

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع موقف صبري من الأتراك والخلافة العثمانية، ومن الاحتلال، والحركة القومية ورجالها، ومن الخديو ورجاله2، وإن كانت قصيدته التي قالها حين اشتد الخلاف بين الأقباط وبين المسلمين3 في سنة 1911 تدل على بعد نظر، وحصانة رأي، لأن من مصلحة الأجنبي المستعمر

1 كان وزير المالية قبل أحمد حشمت هو أحمد مظلوم، وقد تلاعب الشاعر بالألفاظ كما رأيت.

2 راجع ص132- 129 من هذا الكتاب.

3 في 6 مارس 1911 عقد الأقباط مؤتمرًا بمدينة أسيوط للنظر في حالهم مع المسلمين، وطلبوا من الحكومة عدة مطلب ظنًّا منهم أن المسلمين، قد استأثروا بكل شيء في البلاد، فاجتمع المسلمون في مؤتمر عام توالت جلساته خمسة أيام للنظر في حال المسلمين اقتصاديًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا وللرد على مطالب الأقباط، وشبت نار الفتنة، وزادها اشتعالًا من يغنيهم أن تتفاقم نارها، وقد أرسل واصف غالي إلى إسماعيل صبري من باريس يطلب منه الوساطة في الصلح؛ لأن شعره منزلة في نفوس المصريين جميعًا

ص: 380

أن يشتد هذا الخلاف، ليمزق وحدة الأمة، وليدعي أن وجوده ضروري لحماية الأقليات، وطالما ادعى هذه الدعوى حتى أبطلها الواقع، ووقفت الأمة كلها صفًّا واحدًا 1919 تندد به وبأساليبه في التفرقة لأن مصر وطن الجميع؛ ولأن الأقباط ظلوا هذه القرون المديدة منذ الفتح حتى اليوم لا يجدون من إخوانهم المسلمين في الوطن إلا كل مودة، وحسن عشرة وفي تلك القصيدة يقول صبري:

ويحكم ما كذا تكون النصارى

راقبوا الله بارئ العذراء

مصر أنتم ونحن إلا إذا قامت

بتفريقنا دواعي الشقاء

مصر ملك لنا إذا ما تمسكـ

ـنا وإلا فمصر للغرباء

لا تطيعوا منا ومنكم أناسًا

بذروا بيننا بذور الجفاء

فلا تولوا وجوهكم شطر من عكـ

ـر ما في قلوبنا من صفاء

وهو شعر سامي الغرض، سهل المعاني، قريب المأخذ ليفهمه الخاصة والعامة، ولذلك جاء الكلام العادي منه بالشعر الرفيع الذي يفتن فيه صاحبه. ومن القصائد التي أشرنا إليها فيما سبق، وتنبئ عن غرض من أغراض الوطنية، والحث على العمل والجد في سبيل رفعة الوطن عن طريق العلم والدأب في تأسيس الدعامات القوية التي يشاد عليها مجد البلاد، وإن لم تدع إلى الثورة الجامحة، أو العنف، وإنما دعت إلى الأخذ بأسباب الإصلاح قول صبري على لسان فرعون:

لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني

إذا وتى يوم تحصيل العلا واني

ولست إن لم يؤيدني فراعنة منكم،

بفرعون عالي العرش والشان

ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت

جباله تلك من غارت أعواني

لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا

فماؤه العذب لم يخلق لكسلان

ردوا المجرة كدًّا دون مورده

أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآن

وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم

لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان

أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم

لا يثن مستمعًا عن طاعة ثان

فالملك أمر وطاعات تسابقه

جنبًا لجنب إلى غايات إحسان

ص: 381

وموضوع القصيد من الموضوعات القوية، التي يستطيع الشاعر أن يستحضر فيها تلك المشاهد الرائعة التي وقفها فرعون، والتي رفع فيها مجد مصر، ثم يتخذها موعظة وتذكرة لأبنائها في الوقت الحاضر؛ إذ ليس هذا من الشعر الذاتي، وإنما هو من الشعر الموضوعي، والشعر الموضوعي ينطلق فيه الشاعر انطلاقًا قويًّا إذا تهيأت له الشاعرية المبتكرة المبتدعة.

ويجب أن يكون الخيال في هذا النوع خيالًا معنويًّا مبتكرًا كما تقدم لك في غير هذا الموضع1، ولكن شاعرية صبري عجزت عن أن تنهض بمثل هذا الموضوع، وجاء شعره كثير التناقص، قريب المعاني، ضحل الغور، داني الخيال.

فمن التناقض البين قوله في البيت: "ولست إن لم تؤيدني إلخ" فهو يظهر الاعتماد على قومه، وأنه ليس بفرعون العظيم إذا لم يكن كل فرد في شعبه فرعونًا آخر يؤيد عرشه ويدعمه، وفضلًا عن أن هذا المعنى من المعاني الظاهرة، وأنه ترديد لقول ذي القرنين في القرآن:{فَأَعِينُونِي بِقُوَّة} فإنه مخالف لطبيعة فرعون، وما أثر عنه، ولسنا هنا بصدد مناقشة الحقائق التاريخية، ولسنا من دعاة التمسك بها إذا كانت مخالفتها إلى خير، ولكن صبري نقض هذه الفكرة بقوله فيما بعد:

أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم

لا يثن مستمعًا عن طاعة ثانٍ

فهنا يظهر فرعون على حقيقته التي عرفت عنه في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} هنا يأمرهم فرعون أن يطيعوه، ويحذرهم بعنف، ويتوعدهم في صلف "لايثن مستمعًا عن طاعة ثان"، فأين هذا من فرعون الأول المتواضع الذي يدعي التماثل بينه وبين قومه بأن جعلهم فراعين مثله يؤيدون عرشه، وأنه ليس بشيء إذا لم يحدث هذا التأييد؟

ثم ألا تشعر بأن كلمة "يوم تحصيل" ليست من الكلمات الشعرية، وإنها مأخوذة من لغة رجال الدواوين وطلبة العلم، وأنها ذهبت بروعة البيت.

وفي البيت الرابع يقول: "إن ماء النيل لم يخلق لكسلان" ولست أدري لم خصص ماء

1 راجع ص311 وما بعدها من هذا الكتاب.

ص: 382

النيل، وكل شيء في الكون صغيرًا كان أو كبيرًا لم يخلق إلا لذوي الهمة والمضاء، وخليق بالكسلان ألا يذوق جرعة من النيل أو غيره، وأن يحرم كسرة الخبز، وعلى كل فمعنى البيت ليس باهرًا قويًّا، وإنما هو من المعاني الدارجة.

وفي البيت الخامس "ردوا المجرة كدًّا دون مورده" إدعاء بأن المجرة نهر يشرب منه. ومعنى البيت. إن كنتم من الكسالى العاجزين فدعوا النيل لا تقربوا ماءه، واصعدوا إلى السماء لتشربوا من نهر المجرة، أو اطلبوا موردًا آخر غيره. ولست أدري كيف يتأتى لهؤلاء العاجزين أن يردوا المجرة كدًّا، إلا على معنى أن يقول لهم. موتوا ظمأ، وذلك لاستحالة صعودهم إليه، وذلك مستحيل عليهم وعلى سواهم. فأنت ترى أن المعنى غير واضح، وفيه تناقض.

وإذا نظرت إلى قوله: "وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم.... البيت" وجدته لم يقل شيئًا أكثر مما قيل من قبل:

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا

ومن قول الشريف الرضي:

من معشر أخذوا الفضلى فما تركوا

منها لمن يطلب العلياء متركا

ومن الأبيات القوية في قصيدة صبري هذه:

مات لها الأرض من ذعر ودان لها

ما في المقطم من صخر وصوان

لو غير فرعون ألقاها على ملأ

في غير مصر لعدت حلم يقظان

لكن فرعون إن نادى بها جبلًا

لبت حجارته في قبضة الباني

ولست أوافق الشاعر أحمد محرم في انتقاده عبارة "حلم يقظان" وأنها من العبارات الجديدة في اللغة، وكيف يحلم اليقظان

إلخ"1.

وأحلام اليقظة من الموضوعات التي عنى بها علم النفس الحديث، وقد ظهر فيه كتاب ممتع في هذه الأيام2، وحرمان اللغة هذه التعبيرات الجديدة التي لها مدلولات علمية خاصة تعسف مصر اللغة.

والمعنى في البيت الثالث على روعته سبق إليه في قوله:

1 راجع مجلة أبوللو سنة 1924 ص109.

2 هو كتاب أحلام اليقظة للدكتور جورج جرين، وترجمه الأستاذ إبراهيم حافظ، ومراجعة الأستاذ زكي المهندس.

ص: 383

وأقسم لو غضبت على ثبير

لأزمع عن محلته إرتحالا

ويقول صبري في القصيدة:

وآزرته جماهير تسيل بها

بطاح واد بماضي القوم ملآن

ويشبهون إذا طاروا إلى عمل

جنًا تطير بأمر من سليمان

برًّا بذي الأمر، لا خوفًا ولا طمعًا

لكنهم خلقوا طلاب إتقان

الصورة في البيت الأول تمت بصلة إلى قول الشاعر. "وسالت بأعناق المطي الأباطح" وتشبيه القوم المهرة بالجن تشبيه قديم تردد كثيرًا على ألسنة الشعراء من ذلك قول النابغة:

سهكين من صدأ الحديد كأنهم

تحت السفور جنة البقار1

وقوله عنترة:

لا أبعد الله عن عيني غطارفة

إنسًا إذا نزلوا جنًا إذا ركبوا

ويظهر إسماعيل صبري في أحسن حالاته الشعرية حين يقول:

أين الألي سجلوا في الصخر سيرتهم

وصغروا كل ذي ملك وسلطان

بادوا وبادت على آثارهم دول

وأدرجوا طي أخبار وأكفان

وخلفوا بعدهم دبًا مخلدة

في الكون ما بين أحجار وأزمان

وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا

عليهم العلم ذاك الجاهلي الحاني

ويل له، هتك الأستار مقتحمًا

جلال أكرم آثار وأعيان

للجهل أرجح منه في جهالته

إذا هما وزنا يومًا بميزان

وهذه الأبيات تدل على نزعة قومية في نفس صبري وإن جرى في بعض هذه الأبيات في أثر البارودي في قصيدته التي مطلعها2:

سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر

لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري

وازدراؤه العلم الذي انتهك حرمات تلك الآثار الغالية واقتحم جلالها، وتفضيله الجهل البريء عليه معنى بديع جدًّا من صبري؛ لأن العلم لم يستطع

1 السهكة: رائحة كريهة من صدأ الحديد على الأبدان، والسنور: السلاح التام، والبقار واد من أودية العرب اشتهر عندهم بالجن.

2 راجع الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث ص206 طـ السابعة.

ص: 384

حتى اليوم على الرغم من تبجحه أن يكشف عن كل عظمتهم، وأن يصل إلى بعض أسرارهم، ورحم الله أبا العلاء المعري حين قال:

إذا علمي الأشياء جر مضرة

إلي فإن الجهل أن أطلب العلما

فالجهل بأسرار المصريين القدماء قد أضفى على آثارهم هالة من المجد الغامض، ونظرة من التقديس، أما العلم فقد حاول أن يفسر هذه الأسرار ويدنيها من عقول المعاصرين، وهذا يذهب من روعتها وقدسيتها.

وتعد هذه القصيدة على الرغم مما ذكرت لك من أحسن شعر صبري، بل من أحسن الشعر الحديث، في غرضها ومعانيها وديباجتها، وحسبه هذا فخرًا.

ومن الأغراض التي عقد لها باب خاص في ديوان صبري "الشكوى من الحياة" وهي من باب الزهد، وذم الدنيا، وتدل على نظرة متشائمة وهكذا كان صبري متبرمًا بالحياة، راغبًا عنها يتعجل الموت، ويتمناه، كما كان غير راض عن الناس، شأنه في ذلك شأن بعض الزاهدين الحكماء أمثال أبي العلاء، وأبي العتاهية، وصالح بن عبد القدوس وغيرهم، وإن لم يبلغ مبلغهم في زهدهم وفلسفتهم الحكمية.

ومن القصائد الطريفة التي وردت في هذا الباب قوله عن "الساعة" وقد دخل مرة كنيسة "رمس" المشهورة بفرنسان، فرأى مكتوبًا على عقرب إحدى ساعتها ما ترجمته:"كلهن جارحات، والأخيرة القاتلة" يريد ساعات العمر، والساعة الأخيرة، فأوحت إليه هذه العبارة بالمعاني التي أتى بها في قصيدة "الساعة".

كم ساعة آلمني مسها

أزعجتني يدها القاسية

فتشت فيها جاهدًا لم أجد

هنيهة واحدة صافية

وكم سقتني المر أخت لها

فرحت أشكوها إلى التالية

فأسلمتني هذه عنوة

لساعة أخرى وبي ما بيه

ويحك يا مسكين هل تشتكي

جارحة الظفر إلى ضارية

ص: 385

حاذر من الساعات ويل لمن

يأمن تلك الفئة الطاغية

وإن تجد من بينها ساعة

جعبتها من غصص خالية

قاله بها لهو الحكيم الذي

لم ينسه حاضره ماضيه

وأمرح كما يمرح ذو نشوة

في قلة من تحتها الهاوية

فهي وإن بشت وإن داعبت

محتالة ختالة عادية

عناقها خنق وتقبيلها

كما تعض الحية الباغية

هذا هو العيش فقل للذي

تجرحه الساعة والثانية

يا شاكي الساعات أسمع عسى

تنجيك منها الساعة القاضية

وهي قطعة طريفة، جسم فيها الساعة الزمنية، ووهبها شيئًا من الحياة، فصارت تسقيه المر، وتسلمه إلى أختها التي بثها شكواه، وهذه الساعات فئة باغية، وقد تكون فيها ساعة جعبتها خالية من الغصص، فيجب على الإنسان أن يستمتع بها، ويكون منها على حذر، فهي غدارة محتالة، متعدية على الرغم من بشاشتها، وعناقها حنق، وتقبيلها سم فهذا التشخيص الذي أضفاه صبري على الساعة، جعل هذه القطعة حية قوية على الرغم من قرب معانيها، وأن فيها كثيرًا من المعاني المتداولة في عالم الزهد، وعند الشعراء الذين أكثروا من ذم الزمن والدنيا، كأبي العلاء، وأبي العتاهية وأضرابهم. فمثلًا قوله:"هل تشتكي جارحة الظفر إلي ضارية" قريب من المثل المشهور "المستجير من الرمضاء بالنار" والفكرة التي تدور حولها الأبيات: "فهي وإن بشت وإن داعبت

إلخ" مأخوذة من قول الشاعر:

دار متى ما أضحكت

في يومها أبكت غدًا

ونصيحته هذه بأن ينتهز الإنسان الفرصة المواتية، وساعة الصفو فيغتنمها ويتمتع بها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا مذهب طرفه بن العبد ومن أتى بعده منذ قال:

ص: 386

ألا أيها الزاجري أحضر الوغي

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد

وهذه الشكوى من الحياة وتمني الموت يرددها صبري في شعره، وله أبيات عنوانها:"راحة القبر" يقول فيها:

إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض

تنم آمنا من الأوصاب

تلك أم أحنى عليك من الأم

التي خلفتك للأتعاب

لا تخف فالممات ليس بماح

منك إلا ما تشتكي من عذاب

وحياة المرء اغتراب فإن مات

فقد عاد سالمًا للتراب

وهذه نظرة سوداء للحياة، وفرار من ميدان النضال، لا تصدر إلا من نفس ضعيفة خوارة، وصبري كان يؤثر السلامة دائمًا في كل أموره، فأولى به أن يهرب من الحياة إن وجد فيها سأمًا ومللًا، وما أشبه البيت الأول بقول أبي العلاء:

ضجعة الموت رقدة يستريح

الجسم فيها والعيش مثل السهاد

0ومعنى البيت الثاني وهو أن الأرض أم أحنى علينا من أمنا التي خلفتنا للتعب فيه روح أبي العلاء ونفسه، وهو تارة يدعو التراب أبًا.

والتراب نقليه ظلمًا وهو ولدنا

وكم لنا فيه من قربى ومن رحم

وتارة يدعوه أمًا:

أتعلم الأرض وهي أم

خف زمان فما ازدهاها

بأي جرم وأي حكم

سلط ليث على مهاها

وفي معنى البيت الثالث قال الشريف الرضي:

فإن لم يكن فرج في الحياة

فكم فرج في انقضاء العمر

وقال المتنبي "كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا" وكذلك ليس في البيت الأيخرة جدة وقد قال المعري من قبل:

ص: 387

قد طال سيري في الحياة

ولي ببطن الأرض منزل

ولصبري غير هذه القطعة في شكوى الحياة ما لا يخرج في معناه عنها فالقبور مواطن الراحة، والميت هو ميت الأحياء:

مقابر من ماتوا مواطن راحة

فلا تك إثر الهالكين جزوعًا

وإن تبك ميتًا ضمه القبر فادخر

لميت على قيد الحياة دموعًا

ولصبري بعض المقطوعات يناجي بها الله سبحانه وتعالى، ويسترحمه، ويطلب منه أن يعفو عن ذنوبه الكثيرة، وإن شط في بعضها شططًا كبيرًا كقوله:

يا رب أين ترى تقام جهنم

للظالمين غدًا وللأشرار؟

لم يبق عفوك في السموات العلا

والأرض شبرًا خاليًا للنار

أجل! إن رحمة الله وسعت كل شيء، ولكن هل اطلع صبري على جهنم فلم يجد في الأرض ولا في السماء شبرًا خاليًا من النار؟ إن هذا شطط، فقدرة الله أعظم من أن يحيط بها صبري، ولا شك أنها بلبلة استجار منها بقوله:

يا رب أهلني لفضلك واكفني

شطط العقول وفتنة الأفكار

ويتهكم الأستاذ العقاد بصبري حين يقول:

ومر الوجود يشف عنك لكي أرى

غضب اللطيف ورحمة الجبار

يا عالم الأسرار حسبي محنة

علمي بأنك عالم الأسرار

فيقول:"إنه يستكفي الله الشطط لأنه لا يطيق العناء، وهو يستطلع الغيب؛ لأنه يتعب من الحيرة، ويجفل مما وراء الفناء، وهو يحن إلى المجهول، ولكنه لا يسعى إليه، ولا يتجشم المشقة فيه، بل يسأل الله أن يأمر الوجود ليشف عنه، ثم يسأله أن يشف عن لطف إذا شف عن غضب، وعن رحمة إذا تكشف عن جبروت1.

1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.

ص: 388

ويقول أحمد محرم: "إنه يريد أن يرى الله، ولكن لغير ما يريدون هم: المتوصفة، فهم يطلبون المشاهدة لذاتها وأما شاعرنا فيريدها ليشهد نوعًا خاصًّا من الجمال، وحالة بعينها من العظمة والجلال، وهو يريد أن يرى الغضب قائمًا في اللطف والرحمة مائلة في الجبروت. والعقل والعلم الإلهي على اتفاق في هذا الوجود بنوعيه من كثيف أو لطيف لا يقوى أن يحجب الله جل شأنه بل هو كما قال العارفون مرآة قدرته، ومظهر صفاته"1.

وأخيرًا ختم صبري هذه القطعة بقوله:

أخلق برحمتك التي تسع الورى

ألا تضيق بأعظم الأوزار

وهذا رجوع إلى الثقة بالله بعدما فرط منه. وهو شبيه بقول أبي نواس:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

فهو يشك في رحمة الله طورًا:

خشيتك. حتى قيل إني لم أثق

بأنك تعفو عن كثير وترحم

وطورًا يأمل في تلك الرحمة:

عظمت آمالي وصغرت الورى

من دالها إن لم تك المأمولا؟

وهو لا يدل بطاعته على الله:

حاشا لمثلي أن يدل بطاعته

فيها مسجلة على الغفار

أو أن يعد وثيقة ينجو بها

يوم القيامة من يد القهار

لأنه يعتقد أن وجود الله أعظم من طاعته وما قدمت يداه:

ما جئت أطلب أجر ما قدمته

حاشا لجودك أن يكون قليلا

ومن الأغراض التي احتلت صفحات عديدة في الديوان "الرثاء"، وقد رثى صبري بعض أصدقائه وأبناءهم، ورثى بعض أعضاء الأسرة الحاكمة، ورثاء صبري غاص بالحكم والواعظ من مثل قوله:

1 مجلة أبوللو أكتوبر 1934 ص199.

ص: 389

يا من يغد بدنياه وزخرفها

تالله يوشك أن يودي بك الغرر

وقوله في مطلع قصيدته التي يرثى بها توفيق باشا.

نحن لله ما لحى بقاء

وقصارى سوى الإله فناء

ويكرر قوله أن الدنيا غرارة، وكل من فيها إلى فناء، من يعيش ألف عام ومن يعيش أيامًا معدودات سواء، وهو معنى بديهي لا قيمة له، ولكنه أعجب به فذكره أكثر من مرة في قوله:

سواء من يعيش الألف فيها

ومن أيامه فيها قليلة

وفي قوله:

نحن لله راجعون فمن مات

ومن عاش ألف عام سواء

ولا تشعر في رثائه بلوعة الأسى وحرقه العاطفة، والتفجع والجزع، شأن الشعراء المرهفي الإحساس، الجياشي العواطف إلا نادرًا، من مثل التي قالها في الإمام الشيخ محمد عبده.

تدفق دموعًا، أو دمًا، أو قوافيا

مآتم أولي الناس بالحزن هاهيا

أيجمل أن تنعى الفضائل للوردي

ولم تك في الباكين ويحك باكيا

وإن كان البيت الثاني قد جاء ضعيفًا متخاذلًا؛ لأنه لا يبكي إلا لأن ذلك لا يجمل به وهو يبكي مشاركة للباكين لا لباعث خاص سواء بكى الناس أم لم يبكوا، شأن المحزون الصادق الحزن:

وقد بينا لك فيما سبق موقفه من رثاء مصطفى كامل، وكيف بكى فيه الصديق، ولم يبك فيه الزعيم الوطني، وأن رثاءه هين فاترن ومعظم معانيه في الرثاء مأخوذة من مراثي السابقين؛ لا سيما شعر الفحول أمثال أبي تمام وابن الرومي، فمن ذلك هذه الأبيات المشهورة التي يرثى بها "عمر" ولد الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد.

يا مالئ العين نورًا والفؤاد هوى

والبيت أنسًا، تمهل أيها القمر

ص: 390

لا تخل أفقك يخلفك الظلام به

والزم مكانك لايحل به الكدر

في الحي قلبان باتا يا نعيمهما

وفيهما إذا قصيت النار تستعر

وأعين أربع تبكي عليك أسى

ومن بكاء الثكالى السيل والمطر

قد كنت ريحانة في البيت واحدة

يروح فيها ويغدو نفحها العطر

ما كان عيشك في الأحياء مختصرًا

إلا كما عاش في أكمامه الزهر

فأرحل تشيعك الأرواح جازعة

في ذمة القبر بعد الله يا عمر

وقد تأثر في هذه الأبيات برثاء أبي تمام لولدي عبد الله بن طاهر وقد ماتا صغيرين.

نجمان شاء الله ألا يطلعا

إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا

إن الفجيعة بالرياض نواضرًا

لأجل منها بالرياض ذوابلا

لهفي على تلك الشمائل فيهما

لو أمهلت حتى تكون شمائلا

إن الهلال إذا رأيت نموه

أيقنت أن سيكون بدرًا كاملًا

وإن كان صبري قد تصرف في هذه المعاني، وزاد عليها، وألبستها ثوبًا رقيقًا جميلًا ومن مراثيه المشهورة قوله في رثاء صديقه أمين فكري وفيها يقول:

وهبتك يا دهر من تطلب

أبعد أمين أخ يصحب

طويت المودة في شخصه

فأي وداد امرئ أخطب

وأي بديل له ارتضى

وأي شمائله أندب

أمين اتئد في النوى وارعني

فبيني وبينك ما يوجب

أتذكر إذا أنت مني النياط

من القلب أو أنت لي أقرب

وإذ نحن هذا لهذا أخ

وهذا لذا ابن، وهذا أب

حسبت بأنك لي خالد

فكان الذي لم أكن أحسب

ومطلع القصيدة فيه خلل فني واضح، رذ كيف يهب صبري للموت من يطلب -وهو من يحبه- في هدوء شامل وسخاء عميم؟ وهل يدل هذا على أنه

ص: 391

يحبه؟ إن المرء يتشبث بمن يحب، وينازع الموت عليه، ولو استطاع أن يستخلصه منه لفعل، وهذا هو الشريف الرضي ينبئنا عن شعوره إزاء الموت بقوله:

لو كان يدفع ذا الحمام بقوة

لتدكدست عصب وراء لوائي

بمدربين على القراع تفيئوا

ظل الرماح لكل يوم لقاء

ولعل صبري يريد أن من مات "وهو أمين فكري" كان أعز إنسان لديه وليس بعده من الإخوان والأهل من يحرص عليه صبري، فإذا طلب الموت أحدًا بعده هان عليه أن يجود به؛ لأن الذي يحرص على حياته قد مات وهو معنى قديم جدًّا قاله امرؤ القيس حين بلغه أن بني أسد قتلوا والده:

بنو أسد قتلوا ربهم

ألا كل شيء سواه جلل

ويقول صبري بعد هذه الأبيات شعرًا فيه محاكاة غير مرغوبة في عصرنا الحاضر للشعر العربي القديم، ذلك الذي يستمطر السماء على أجداث الموتى، وقد كان مقبولًا في الصحراء التي يشح فيها المطر، والذي يعد فيها الغيث رحمة. استمع لصبري يقول:

ويا تربة حل فيها الأمين

لأنت الفراديس أو أخصب

حبست على رحمات الرحيم

وجاءك رضوانه الصيب

ولا زالت السحب منهملة

وأنت لأذيالها مسحب

وتشبيه القبر بالروضة ليس بالجديد، وقد قال تمام:

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة

غتداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

وقد بلغ المتنبي الغاية في هذا حيث يقول:

وما ريح الرياض لها ولكن

كساها دفنهم في الأرض طيبًا

وأما الدعوة لهذا القبر بأن يجوده الحيا، فالأدب العربي القديم غاص به، ولا يحتاج منا إلى دليل فهو من التقاليد الموروثة منذ أن رثى شاعر جاهلي عزيزًا عليه.

ولا تشعر في رثاء صبري بتلك اللوعة التي تحس بها في رثاء المفجوعين، وإنما يسير في رثائه على هينة كأنه يقص خبرًا من الأخبار ولقد صدق الأستاذ

ص: 392

العقاد حين قال في شعر صبري: "إن شعره لطيف لا تعمل فيه، ولكنه كذلك لا قوة فيه ولا حرارة. وإن شئت فقل: إن أدب الرجل كان أدب الذوق، ولم يكن أدب النزعات والخوالج، وأدب السكون، ولم يكن أدب الحركة والنهوض، وأدب الاصطلاح الحسن، ولم يكن أدب الابتكار الجسور" وضرب مثلًا على أن صبري ناعم يمثل الترف في حزنه، وحماسته، وعاطفته، وأنه تنقصه الحرارة والانفعال والعاطفة بقول:"إذا قال شاعر إن عزيمة البطل الممدوح تصدم الصخر الأشم فتهده وتمهده، قال صبري: إن عزيمة بطله "تلامس" الصخر فتنبت فيه الأزهار:

وعزيمة ميمونة لو لامست

صخرًا لعاد الصخر روضًا أزهرًا

ولعلك ترى مما ذكرت لك من أغراض صبري الشعرية، ومن غرض بعض ما قاله، ودراسته أن صبري شاعر مقلد، ولم يوهب تلك الشاعرية المبدعة المبتكرة، وأنه كان قصير النفس، لا يستطيع نظم القصائد الطويلة، وأنه لم يكن شاعرًا محترفًا، وإنما كان يقول الشعر لخطرات ترد على ذهنه.

هذا وقد كان صبري في مطلع حياته الشعرية مغرمًا بفنون البديع يتصنع التورية والجناس كقوله:

وألبس على طول المدى حلل "الرضا

بشعار مأمون ورشد رشيد

وقوله:

فيا "مالكي نعمان خدك شافعي

لدى حنبلي العذل إذ قام بالعذر

وقوله:

عن رفده حدث فكم في رفده

إنعام بحر وافر ومديد

وقوله:

يا عاذلي أقصر وكن عاذري

ولا تطل لومي على سهدي

وقوله:

قد قلبي وانثنى معجبًا

قال لي كيف ترى قدي

إلى غير ذلك من الحلى اللفظية والمعنوية، وظل مغرمًا بهذا النوع حتى

ص: 393

أواخر حياته وإن خفت وطأته كثيرًا في شعره الأخير كما اختفى التاريخ الشعري، وقد ضربت لك منه أمثلة في أول هذا الفصل.

لقد اشتهر صبري بحسن الديباجة، ورقة الشعر، والعناية باللفظ والأسلوب ومع ذلك وجدت له عدة أخطاء، وجل أخطائه في استعمال الكلمات والحروف من مثل قوله:

حسبت بأنك لي خالد

فكان الذي لم أكن أحسب

يقال حسبته وحسبت أنه، فلا محل للباء في بأنك، ومن مثل قوله:

غرها سعدها، ومن عادة السعد

يؤاتى يومًا ويخذل دهرًا

يقال من عادته أن يفعل كذا، فلا وجه لإسقاط أن، ومن مثل قوله:

يا آسي الحي هل فتشت عنه في كبدي

وهل تبيت داء في زواياها

يقال: فتشت الشيء وفتشت عنه، لا فتشت في، ومثل قوله:

إذا خانني خل قديم وعقني

وفوقت يومًا في مقاتله سهمي

ففوق السهم جعل له فوقًا، وهو موضع الوتر منه، وقد أتى الشاعر بهذه الكلمة مضمنًا إياها معنى سددت أو صوبت، والصحيح أن يقال: إلى مقاتله لا فيها، ومثل قوله:

لك الإمارة والأقوام ما برحت

بكل عاري الذرى في الكون تأتمر

يقال ائتمر الأمر امتثله، وبه أمر نفسه. وائتمر فلانًا شاوره. وبفلان هم به "إن الملأ يأتمرون بك"، ولم يرد ائتمر به بمعنى اقتدى أو اتبع أمره.

ومثل قوله:

فأقمنا عليه في كل ناد

مأتمًا داويًا بصوت البكاء

والمعروف في كتب اللغة "مدويًا" بتشديد الواو.

ومثل هذه الهنات غير قليلة في شعر صبري، وقد أتت له من الاستعمال الشائع في الصحف، وعدم التمكن في الدراسة؛ ولكنها لا تقدح في رقة ديباجته، وصقل شعره وعنايته الفائقة بأسلوبه، وهذه أظهر ميزاته الشعرية وهو بهذا يمثل أهم خصائص المدرسة التقليدية الحديثة.

ص: 394