الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الشاعران في ميزان النقد الأدبي:
أصحاب البحتري بين الجرح والتعديل:
سلفا أوردنا في هذا البحث أن الآمدي رحمه الله ذكر في الباب الأول من كتابه الموازنة محاجته مفتدة ومدعمة بالأدلة والبراهين، وذلك بين كل من أصحاب أبي تمام المتعصبين له، وأصحاب البحتري المفضلين إيَّاه.
وللأمانة والإنصاف في ذلك الفن، يجب علينا أن نلقي نظرة على عدالة الشهود. ومدى صحة شهادتهم. وتحري الصدق والإنصاف لديهم، وخاصة الذين ذكرت أسماؤهم من أصحاب البحتري، وربما لم يورد لنا الآمدي غير هؤلاء الأربعة وهم:
1-
دعبل الخزاعي.
2-
ابن الأعرابي.
3 أبو على السجستاني.
4-
المبرد.
وذلك لنطمئن إلى حكم محكمة الآمدي. وإن حكم الناقد: إنما ينزع عن ضمير منصف ثم إنه رائد في هذا المجال وهو مجال النقد الأدبي، والرائد لا يكذب أهله "أي تلامذته" وهذا ابن قتيبة أستاذ النقد "من الأوائل" يقول:
"ولم أنظر إلى المتقدم منهم -شعراء الصف الأول- بعين الجلالة لتقدمه ولا إلى المتأخر منهم "المولدون والمحدثون" بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على طريقين، وأعطيت كلًّا حقَّه، ووفرت عليه حقَّه، ومع هذا يقول فيه أستاذ النقد الأول. أبو عمرو بن العلاء:
"لو أدرك الأخطل يومًا واحدًا في الجاهلية ما قدمت أحدًا عليه".
وربَّ قائل يقول: إن قوله ابن العلاء لهي دليل على التعصب بين النقاد، وليس دليل إنصاف، لأن القائل معلوم تعصبه على الشعراء المحدثين والمولدين وهو رأي مدرسة المحافظين في النقد العربي القديم.
والجواب لقد كان الرجل أولا: شديد التعصب على المحدثين لخروجهم على عمود الشعر. وتلك هي علة التعصب عنده، وثانيًا: فقد اتفقنا نحن وإياك على وصف القدامى والمحدثين كما نعتهم ابن رشيق.
الأديب الناقد بقوله: "أنما مثل القدامى والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه، ثم أتى الآخر بنقشه وزينته. فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن. والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".
ولنتفق الآن على أن الناقد الأدبي كقاضي المحكمة المنصف العادل. فإذا ما أشتم من أحدهما ريح التعصب وقع الحكم باطلًا، وبات مطعونًا في سلامته وصلاحيته. ولنعد إلى أصحاب البحتري أو هؤلاء الشهود. الذي قبل الآمدي الناقد شهادتهم من أحد الخصمين:
1-
دعبل بن علي الخزاعي:
كان يقول في أبي تمام1: "أن ثلث شعره محال. وثلثه مسروق. وثلثه صالح" وكان يقول فيه أيضًا:
"ما جعله الله من الشعراء. بل شعره كالخطب والكلام المنثور وهو أشبه منه بالشعر" ولم يدخله في كتاب المؤلف في الشعر وقال: أهذا شاهد أم خصم.
يقول الدكور خفاجي: "ولعمري لقد كان دعبل يضع من شأن أبي تمام". ثم يدلل على صحة ذلك ويقول أيضًا تحت باب التنديد على الآمدي الناقد. وتعديد هفواته "يقبل الآمدي ما وضعه دعبل على أبي تمام مع معرفته بحقيقة موقفه منه، ومع ظهور تحامله عليه" ويدلّل أيضًا على صحة ذلك في كتابه "أصول النقد ص 188، 189".
والآمدي نفسه يقول في دعبل هذا: "قال صاحب أبي تمام: "فقد بطل احتجاجكم بالعلماء، لأن دعبلا كان يشنا أبا تمام ويحسده وذلك مشهور معلوم منه، فلا يقبل قول شاعر في شاعر".
ونسأل الآمدي: "بعد هذا تضع شهادة دعبل؟ وهو رجل حاسد لأبي تمام متحامل عليه بشهادتك أنت؟ وإذا لم تحكم بشهادته فلم أوردتها؟ وما الفائدة منها؟
2-
ابن الأعرابي:
وفي هذا الرجل سوف نفسح المجال للآمدي نفسه ليحدثنا عنه -الآمدي قاضي الموازنة- والحكم في حلبة السباق بين الشاعرين يقول الآمدي1: في صاحب البحتري، وشاهد الوقائع:
"وكان شديد التعصب على أبي تمام، لغرابة مذهبه، ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لا يفهمه ولا يعلمه، فكان إذا سأل عن شيء منها يأنف أن يقول: لا أدري، فيعدل إلى الطعن عليه. والدليل على ذلك "والكلام للآمدي" أنه أنشد يومًا أبياتًا من شعره. وهو لا يعلم قائلها.
فاستحسنها وأمر بكتابتها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرقوه: والأبيات من أرجوزته التي أولها:
فظن أني جاهل من جهله
عجبا للآمدي. وابن الأعرابي معًا، وهل الإنصاف في النقد أن يكون الناقد متحاملًا؟ يحكم على الشاعر لا على النص الأدبي، وبلا دليل ومقدما نؤمن الحكم ونوثقه، أن الذاتية في الناقد أضرّ على الشعر والنقد من الشاعر والناقد، لأنها طريق للهدم والتدمير والأنانية والعجز والشأن في منهج النقد الموضوعي، أن يكون منهجيًّا قاليًا على الذوق الأدبي الأصيل.
وهل يثق الآمدي في رجل وصفه هو بشدَّة التعصب على الشاعر ومن رجل اتَّسم بعدم الفهم وعدم الدراية والتحامل على الشاعر ومن رجل يستكبر ويأنف أن يقول قوله الصدق والحق إذا عجز: وهي لا أدري، ومن رجل يعدل الحق إلى الطعن سترًا لقصوره؟ ومن رجل يغمط الحق، ويشوه العدل، وبعد استحسانه وتحيزه يعلن النكرات وينكث على الجحود، ويمزق الأبيات المختارة، لا لشيء إلا لأنها تنسب إلى أبي تمام؟
ولنسأل الآمدي:
لم وضعت هذا الرجل في زمرة البحتري؟ واستشهدت بقوله ورويت خصومته لأبي تمام؟ وما الفائدة من حشو الكتاب بمثل هذا إن لم يستمع إليه الآمدي؟
3-
أبو على محمد بن العلاء السجستاني:
وكان السجستاني هذا صديقًا للبحتري. باعتراف الآمدي نفسه وأسمعه يقول 1:
"والذي نرويه عن أبي علي محمد بن العلاء السجستاني، وكان صديق البحتري" وأستمع إلى ما يرويه الآمدي عن هذا الصديق:
"قال أبو علي محمد بن العلاء كان البحتري إذا شرب وأنس أنشد شعره وقال: ألا تعجبون وكان مع هذا أحسن الناس أدَّب نفسه، لا يذكره شاعر محسن أو غير محسن إلا قرظه ومدحه. وذكر أحسن ما فيه، قال أبو على: ولم لا يفعل ذلك وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم".
الصداقة التي توجب أحيانًا على الإنسان أن يجامل صديقه وينافح عنه بمثل هذا أو أكثر تعد هدمًا له لا بناء. وقضاء عليه لا أحياء له. وإجحافًا بالنقد لا إنصافًا له؛ لأن التماس الحق والصواب والإنصاف. لا يعترف بالتحيز، ولا المحاباة، ولا المجاملة، ولا الصداقة، ولا غير ذلك مما يشبهه.
ولا أدري لم جعل الآمدي أصحاب البحتري وشهود قضيته من أخلص أصدقاء الشاعر مثل السجستاني هذا. وأشدهم بغضًا وحسدًا لأبي تمام مثل الخزاعي وابن الأعرابي، وأظن أن ثقة الآمدي في أصحاب الشاعر البحتري هي التي جرحت نقده عند الخارجين على الآمدي، حتى رموه بالتحامل على أبي تمام والتعصب للبحتري.
على أن رواية السجستاني ذلك الصديق فيها خمس كلمات -على قصرها- ولا أدري أكانت مدحًا في الرجل أو قدحًا، وإليك الكلمات:
1-
كان البحتري "إذا شرب" بمعنى تعاطي الخمر، وتماجن. وعليه فهي حطة في عقيدة الرجل. وكان البحتري أبو نواس عصره.
2-
أنشد شعره وقال: "ألا تعجبون" وتلك مذمة أخرى في طوية الرجل ومنقصة في طبعه، ودليل مؤكد عما قيل عن حياته وطبعه ولنستمع إليه1:
"وكان من أوسخ خلق الله ثوبًا وآلة. وأبغضهم إنشادًا" وأكثرهم افتخارًا بشعره، حتى ليروي عنه أنه كان إذا أنشد شعرًا قال لمستمعيه: لم لا تقولون أحسنت. هذا والله ما لا يقدر أحد أن يقول مثله".
وفي يقيني: إنه ليس هناك أسمح ولا أشد وقاحة من شاعر يمدح نفسه ويزكيها. بل ويطلب من مستمعيه. في الحاج وعتاب أن يطروه ويجاروا هواه، ويقولون له: أحسنت.
3-
"لا يذكر شاعر محسن أو غير محسن" ولم هذا الاستدراك؟
وماذا يجدي تقريظ ومدح غير المحسن من الشعراء؟
4-
ألا قرظه ومدحه وذكر أحسن ما فيه" ولم أفعل التفضيل هذا ليذكرني أفعل التفضيل هذا بشهادة أخرى وضعها السجستاني في صديقه البحتري رواية على لسان الآمدي.
"قال الآمدي: سمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضًا يقول1:
كان البحتري عند نفسه أشعر من أبي تمام: وسائر الشعراء المحدثين: حيث قيد شهادته بذلك القيد الذي أكل ألفاظ الشهادة كلها فلم يبق على حرف واحد، وكان لها كالأرضة عند نفسه ويخيّل أن أفعل التفضيل في الشهادة الأولى وهذا القيد في الشهادة الثانية إن هما إلا مذمة في الرجل، ومنهما يشتم رائحة التنقيص والسخرية.
5-
وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخيرهم" وعلى الرغم من هذا العدد الجرار أسقطهم البحتري. وفوق هذا ذهب بخيرهم.
والذي نعرفه عن البحتري أنه ولد عام مائتان وست من الهجرة. وتُوفي عام مائتان وأربع وثمانون ومدة حياته ثمان وسبعون سنة، وهذا العمر لا يتسع لخمسين شاعرًا على مثاله يسقطهم البحتري ويذهب بخيرهم.
ولقد اعترف البحتري نفسه بتلمذته على أستاذه أبي تمام واغتراله من فيضه ونهله من نبعه؟
وقيل للبحتري يومًا2: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام؟ فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخير إلا به ولوجدت أن الأمر كما قالوا: ولكني والله تابع له أخذ منه لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي انخفض عند سمائه".
لقد كانت منزلة أبي تمام عند الخلفاء والأمراء والشعراء والنقاد لا تقل عن منزلة البحتري ولا أدلّ على ذلك من أن النقاد تحاملوا على أبي تمام، وتعصبوا للبحتري وفي التحامل دلالة على شأوه وعلوّ منزلته، وفي التعصب للبحتري حماية له من خصمه وأستاذه.
4-
أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
كان هذا الإمام يفضل البحتري ويستجيد شعره، ويكثر أنشاده ولا يمليه لأن البحتري كان باقيًا في زمانه "وكان يقول1.
"ما رأيت أشعر من هذا الرجل يعني البحتري - لولا أنه ينشدني لملأت كتبي من أمالي شعره".
وهذه شهادة كان الواجب قبولها خاصة وأنها من رجل عالم. وإمام فاضل لم يشهر عنه البغض لأبي تمام مثل ابن الأعرابي والخزاعي، ولم يعرف عنه أنه كان خليلًا للبحتري مثل السجستاني.
لولا أن البحتري وهو المشهود في حقه طعن المبرد هذا وهو الشاهد طعنة نجلاء، أطاحت بشهادته من بين أيدينا، فلم يبق للبحتري شيئًا. إذ وصفه بأنه لا يعرف الشعر ولا ذوق له فيه: وليس بناقد ولا مميز للألفاظ، وإليك وصف البحتري للمبرد دون أن نحذف منه حرفًا.
"في رواية الإمام عبد القاهر الجرجاني "471 هـ" عن بعضهم أنه قال2. وأني البحتري ومعي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنقري قال: وإلى أين تمضي به؟ قلت: إلى أبي العباس المبرد أقرؤه عليه قال: قد رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدًا للشعر ولا مميزًا للألفاظ ورايته يستجيد شيئًا وينشده وما هو بأفضل شاعر. فقلت له: أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى. ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه فما كان ينشد؟
قال: قول الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا -أميم أخي-
…
فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون مجللا
…
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
فقال: أين الشعر الذي فيه عروق الذهب؟
فقلت مثل ماذا؟ فقال: مثل أبي ذؤاب.
إن يفتنوك فقد ثلث عروشهم
…
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلبًا على أعدائهم
…
وأعزهم فقدًا على الأصحاب
ونقول: إن أبا العباس محمد بن المبرد هو من علماء النحو. انتهت إليه رياسة النحاة في الكوفة في القرن الثالث الهجري صحيح أنه لم يكن له باع طويل في فن النقد، ولا يسعنا إلا أن نقبل شهادة البحتري فيه؟.
تحامل الآمدي:
من خلال سطور الموازنة للآمدي دائمًا تجد وأنت تقرأ طريقة العنف الشديد على الشاعر أبي تمام والعطف على الشاعر البحتري. وهذه الطريقة تكشف عن تحامل الآمدي على أبي تمام وتعصبه الشديد عليه مما جعل الرجل يتلعثم في قولهنّ ويتناقض في موازنته.
ولسنا نذهب إلى هذا المذهب وحدنا ولكن هناك من يؤيدني في قضية ظهور التحامل عند الآمدي ومن ذلك:
8-
ما كتبه الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد المحقق لأصول الموازنة والمعلق عليها حيث يقول1:
واذكر ما تجمع لدي من الملاحظات عليه "كتاب الموازنة للآمدي بعد أن صحبته عمرا ليس بالقصير" وأحدثك. على الأخص - عن تحامله "أي الآمدي" على أبي تمام، وإغضائه البالغ عن البحتري".
2-
وأيضا ما كتبه الناقد الدكتور خفاجي حيث يقول:
"تحامل الآمدي في كتابه على أبي "تمام" وذلك ظاهر كما أسلفنا من روح الموازنة واتجاهها".
3-
وثالثة ما كتبه المؤرخ للأديب ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباب حيث يدلي برأيه في كتابه الموازنة للآمدي فيقول 2:
وكتاب الموازنة للآمدي بين الطائيين في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إليه الميل، مع البحتري فيما أورده
…
ثم يقول الحموي عن الآمدي: إنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري.
ولنأخذ بعضًا من الأمثلة التي تدل على اضطراب الرجل في قوله، ذلك لأنه نصب نفسه مدافعًا منافحًا عن البحتري، وواضعًا من أبي تمام، فتجده يقول على لسان أصحاب البحتري1:
1-
أما الصحبة فيما صحبه ولا تلمذ له. ولا روى ذلك أحد عنه ولانقله. ولا أرى قط أنه محتاج إليه".
في هذا نفي قاطع لصحبه البحتري لأبي تمام والتلمذة عليه. لأن البحتري ليس محتاجًا لمثل هذا، ثم إنك تجد الآمدي يقول على الفور ثانية وبدون انقطاع.
"ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعها وتعارفهما عند أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وقد دخل إليه البحتري بقصيدته التي أولها:
أأقاق صب من هوى فافيقا
وأبو تمام حاضر:
فما معنى هذا التناقض؟ أيمكن أن يطمئن القارئ إلى خبر اجتماعهما وتعارفهما بهذا الدليل الموجود عند أبي سعيد اللغوي، الذي وصفه الأمدي بأنه خبر مستفيض؟
أم أن القارئ يجعل هذا دبر أذنه ويسير مع هوى الآمدي في أن البحتري لم يصحب أبا تمام ولم يتتلمذ له لأنه ليس محتاجًا له.
ولنضرب مثلًا آخر:
"عندما أنشد ابن الأعرابي ذات يوم أبياتًا فاستحسنها واختارها وأمر بكتابتها وهو لا يعلم قائلها فلما علم بعد أن استجادها أن هذه الأبيات لأبي تمام أخذه التحامل والتعصب وقال على الفور: خرقوها وهذا ليس بعدل بداهة، لكن الآمدي سامحه الله يعتقد عن ابن الأعرابي، ويجد له مندوحة في تصرفه هذا فيقول:
"ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم". لأن الذي يورده ابن الأعرابي وهو محتذ على غير مثال أحلى في النفوس وأشهى إلى الأسماع وأحق بالزيادة والاستجابة مما يورده المحتذي على الأمثلة، وعذر ابن الأعرابي في هذا إذا صح أنه قد سبق الأصمعي:
وذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي:
هل إلى نظرة إليك سبيل
…
فيروي الصدى ويشفي العليل
إن ما قل منك يكثر عندي
…
وكثير مما تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ قال لبعض الأعراب.
فقال الأصمعي: هذا والله هو الديباج الخسرواني.
قال: أنهما لليلتهما؟
فقال: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بيّن عليهما ويكون الآمدي وابن الأعرابي في أبي تمام أقرب عذرًا من الأصمعي في إسحاق.
فانظر بالله هل تجد عذرا أو هي ولا أقبح من هذا؟ وماذا رأى الآمدي فيما لو كانت قصة ابن الأعرابي مع البحتري، أكان يعتذر عن الناقد المتعصب المبين في تحامله كهذا الاعتذار؟ . ويقول عنه ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم؟
وثالثة: يقول الآمدي 1: وبعد فيبتغي أن تتأملوا محاسن البحتري ومختار شعره، والبارع من معانيه والفاخر من كلامه، فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا مما أخذه أبو تمام"، ولا أدري أن ناقدًا مثل الآمدي يحمله التعصب فيتخبط في قوله مثل هذا التخبط ولنسأله. ما معنى كلمة "ما"؟
أليس سياق النقي معه كان عليه أن يقول:
فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا أخذه من أبي تمام "ولكنه وضع "من" للتبعيض وما الموصولة "مما". من بعض الذي أخذه من أبي تمام. وإذا كان كذلك فما معنى كلمتي ومعناهما: "حرفًا واحدًا"؟ التي قبلها؟
الإنصاف في نقد الآمدي:
لو كان أبو تمام حيًّا حينما تناوله الآمدي في كتابه لاستغاث من تعصبه عليه وتحامله وتمثل بقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
…
ولا الأصيل ولا ذو الرأي والجدل
والبحتري إن هو إلا تلميذ لأبي تمام أخذ منه. ونأهل من فيضه ومقتفى لأثره. وإذا سألتم البحتري نفسه يقول1:
"كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه. واتَّكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي:
يا أبا عبادة: تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظَّها من الراحة، وقسطها من النوم.
فإذا أردت التشبيب فأجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رقيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة وقلق الاشتياق ولوعة الفراق.
وإذا أخذت في مدح سيد ذي أباد، فأشهر مناقبه. وأظهر مناسبه وابن معالمه. وشرف مقامه، ونضد المعاني، وأحذف المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد.
ولهذا عارضك التضجر فأرح نفسك، ولا تتعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، وأجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين.
وجملة الحال: أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده: وما تركوه فاجتنبه. ترشد إن شاء الله".
ولقد وصف الآمدي شعر أبي تمام فقال فيه1:
ولأن أبا تمام شديد التكلف. صاحب صنعة. ومستكره الألفاظ والمعاني. وشعره لا يشبه أشعار الأوائل. ولاعلى طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة.
بينما نجد الحسن بن وهب يصف شعر أبي تمام هو الآخر من رسالة كتبها إليه فيقول2:
"أنت -حفظ الله - تحتذى من البيان في النظام مثل ما يقصد بحر في الدرر من الأفهام، والفضل لك -أعزك الله- إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار. لىغاية الاقتصار. في منظوم الاشعار. فتحلّ معقده وتربط متشرده. وتنظم أشطاره. وتجلو أنواءه. وتفصله في حدوده وتخرجه من قيوده ثم لا تأتِ به. مهما اقتبسه مشتركًا فيلبس ولا متعقدًا فيطول. ولا متكلفًا فيحول فهو كالمعجزة تضرب فيها الأمثال، ويشرح فيها المقال".
فأيها الصادق في قوله: المتحرى لحقيقة الشاعر؟ وفي وصفه؟ ليردّ عظم أبي تمام حكم الأمدي. ويدلي بهذه البراهين على براعته. في الشاعرية وأنه أستاذ البحتري ومن فضله عرف الأخير.
فيحدثنا جحظة فيقول2: "تحادثنا يومًا في أبي تمام الطائي والبحتري أيهما أشعر؟ قال بعض من حضر مجلسنا.
هل يحسن الطائي أن يقول قول البحتري:
تسرع حتى قال من شهد الوغي
…
لقاء عدو أم لقاء حبيب
فقلت من الطائي سرقه حيث يقول:
حن إلى الموت حتى قال جاهله
…
بأنه حق مشتاقًا إلى وطن
وهذا امتحان لسرعة بديهية أبي تمام. وحضور خاطره في الشعر، وأنه القارض لذلك الفن على الطبع والسليقة، دون قصور منه أو توقف وتجبل وعي. فنجده في نصاعة البيان وسرعة البديهية. وذلك الإلهام المصيب. وعلو الكعب في قرض الشعر فوق الذي كنا نأمل. وذلك عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم مدحته التي مطلعها.
ما في وقوفك ساعة من باس
…
تقضي حقوق الأربع الأدراسي
وانتهى إلى قوله:
أقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكاء إياسي
قال له الفيلسوف "أبو يوسف الكندي" وكان حاضرًا: الأمير فوق من وصفت فأطرق أبو تمام قليلًا ثم رفع رأسه وقال:
لا تشكروا ضربي له من دونه
…
مثلًا شرودًا في الندى والباس
والله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلًا من المشكاة والنبراس