المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد: - في النقد الأدبي

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد:

‌الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد:

رأي النقاد القدامى في عمود الشعر:

1-

ابن قتيبة 1 226 هـ".

يرى أن نهج الشعر الجاهلي في القصيدة ومسلكه القديم من الوقوف على الديار واستبكاء الأصحاب ونعت الآثار، والتخلص من ذلك في حذق ولطف إلى الغرض الذي أنشأ الشاعر من أجله قصيدته. بعد أن امتلك الإصغاء. ومهد النفوس لما يعد هو مقبل عليهم. انتقل إلى غرضه وما بنى بسببه القول.

يعتبر ابن قتيبة هذا المسلك في منتهى الإجادة شعرًا وشاعرية وهو القائل: "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب. وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد ثم يقول ابن قتيبة:

"وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، فإن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير".

وأضاف ابن قتيبة في نهجه الوحدة الفنية في القصيدة. واقتران المعنى بين الأبيات، وأن تكون الأبيات الشعرية كلًّا واحدًا. وكأنما صبت في قالب واحد، فلا تباين بينها في الألفاظ أو المعاني واعتبر من التكلفة والصناعة في الشعر أن ترى البيت مقرونًا بغيره ومضمونًا إلى غير لفقه.

وليدلل على صحة قوله يورد قصة "عمر بن لجأ" الذي قال لأحد الشعراء أنا أشعر منك. قال: وبم فضلتني؟ فأجابه: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه.

وجعل ابن قتيبة ذلك هو مناط المفاضلة بين الشعراء.

ص: 47

2-

قدامة بن جعفر "328 هـ":1

يوجب تألف اللفظ والمعنى، وكذلك الوزن والقافية، ولكنه مع ذلك يخصص بالدرجة الأولى وحدة البيت، ويشترط أن يكون لكل بيت معنى تام مستقل.

وعقده أن الشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريد في بيت واحد، كأن ذلك أشعر من الذي أتى بذلك في بيتين كقول الشاعر:

إذا أنت لم تستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

مع قول الآخر:

إذا أنت في كل الأمور معا

تبا صديقك لم تلق الذي لا تعانيه

فعش واحدًا أو صل أخاك

فإنه مقارف ذنبًا تراه ومجانبه

ومن العيب الواضح عند قدامة الناقد احتياج البيت إلى آخر ليتم معناه، فالمعنى يطول عن أن تحتمل العروض تمامه في بيت واحد فيقطعه الشاعر بالقافية ويتمَّه في البيت الذي يليه.

وقد سئل حماد الراوية:

بم تقدم النابغة؟

فأجابه باكتفائك بالبيت الواحد من شعره. لا بل بنصف بيت. لا: بل بربع بيت مثل قولي:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

وقوله كل نصف بيت يغنيك عن صاحبه.

وقوله: أي الرجال المهذب.

وقوله: وربع بيت يغنيك عن غيره.

ص: 48

3 -

"أبو هلال العسكري1 "395 هـ":

وأبو هلال يكتفي من المعنى أن يكون صوابًا. ويشترط جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهاءه وصحة السبك والتركيب. والخلو من إعوجاج النظم والتأليف إذ يقول:

"وليس الشأن في إيراد المعنى، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبادي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، من صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف".

"وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا. ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت.

وذهب أبو هلال إلى أن الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، وسلسًا سهلًا، ومعناه وسطًا دخل في جملة الشعر الجيد، وجرى في صفته مع النادر، واستشهد الناقد البلاغي على صحة مذهبه هذا بقول الشاعر:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهاري رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

يقول العسكري: "وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى وهي رايقة معجبة".

4-

ابن طباطبا2 "332".

أما ابن طباطبا فذكر في كتابه عيار الشعر أن الشعر صناعة وأن الصناعة تقتضي الفصل بين اللفظ والمعنى مما قال في ذلك:

ص: 49

تألَّت الحكماء: "إن للكلام الواحد جسدًا وروحًا. فجسده النطق وروحه المعنى. فالواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة. بمعنى أن يتقنه لفظًا ويبدعه معنًى".

ثم يجرى ابن طباطبا الألفاظ والمعاني في لفق واحد فيقول:

"وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها، وتقبح في غيرها".

"فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنًا في بعض المعارض دون بعض".

وفضل القول فيما أسماه الأشعار المحكمة وأضدادها:

"والأشعار المحكمة عنده هي المحكمة الوصف، المستوفاة المعنى، السلسلة الألفاظ، الحسنة الديباجة، فهو يهتم باستيفاء المعاني. إلى جانب ثلاثة أمور تحكم الشعر في نظره وهي:

الوصف المحكم -اللفظ السلس- الديباجة الحسنة.

وثلاثتها تحتوي على عمود الشعر، ثم مثل ابن طباطبا لهذه الأمور الثلاثة يقول أبو ذؤيب الهذلي في هذه الأبيات:

من المنون وريها تتوجع

أوالدهر ليس بمعقب من يجزع

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألغيت كل تميمة لا تنفع

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

المرزوقي1 "321 هـ":

على أننا لا ندري أحدًا فصل في عمود الشعر، ورتبه وشرح عليه، وهمشه وأفاض في ذلك. وقارب الغاية، وأضفى على النهاية، وأجاد مثل المرزوقي الناقد، يقول المرزوقي:

"الواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب. ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث".

ص: 50

ويتحدَّث المرزوقي عن عمود الشعر، مبينًا ليناته الفنية، التي يبنى منها فيقول: "إنهم كانوا يحاولون شرف فالمعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف. والمقاربة في التشبيه. والتحام أجزاء النظم والتثامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها عياره.

فعيار "1" المعنى أن يكون شريفًا صحيحًا مصيبًا، فإذا عرض على العقل الصحيح والقيم الثاقب واقتنع به كأن مقبولًا. وإلا نقص بمقدار ما فيه من باطل وخطأ. والعقل الصحيح يحكم على المعنى بعد أن يعرضه على واقع الحياة حينًا وعلى معارف العلم حينًا آخر. ومن ذلك:

ذهب جرير يمدح عبد الملك بن مروان فأنشأ يقول:

أتصحوا أم فؤادك غير صاح

عشية هم صحبك بالرواح

فحينما سمع منه الخليفة الشطر الأول من البيت تطير منه ولامه بقوله:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

فجعل الخليفة يهتز طربًا ويقول: نحن كذلك. ردَّها على. فأعادها عليه والخليفة يزداد زهوًا ويقول: من مدحنًا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت. ولقد استجاد الخليفة بيت الشاعر وجعله نموذجًا للمديح، ولم يكن طربه للفظ أو للنظم فالقصيدة على نمط واحد منهما، ولكن الذي شدا به وآثر هو معنى البيت، فقد يكون الركوب للحرب والنزال أو للصيد والطرد، أو للسبق والمباراة. أو للهلك والحكم، أو لغير ذلك مما يجري على هذا النمط، ومن أجل هذه المعاني جميعًا انتخب البيت، وطرق كوامن الفخار والعزة في نفس الخليفة1.

ب- وعيار اللفظ الذوق المرهف الذي هذبته الرواية، وصقلته الثقافة وكان جزلًا مشاكلًا للمعنى المراد منه.

ص: 51

عندما أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدته. التي يهنئه فيها بالانتصار على الروم في موقعة الحدث2 وانتهى إلى قوله فيها:

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

قالوا: عاب سيف الدولة البيتين بأن شطريهما لا يلتئمن وكان حقهما عنده:

وقفت وما في الموت شكّ لواقف

ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

كأنك في جفن الردى وهو نائم

وحجة سيف الدولة أن طريقته هذه والموت لا شك فيه مع الإشراق والابتسام أدلّ على تناهي الشجاعة وبلوغ الجرأة الغاية، فالألفاظ لم تقع مواقعها في نظر سيف الدولة ودافع المتنبي عن وجهة نظره.

بأنه لم ذكر الموت في أول البيتين أتبعه بذكر الردى ليجانسه. ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا. وعينه من أن تكون باكية. اتبعه بذكر وجه الممدوح الوضاح الباسم، وذلك ليوجد أساسًا للمقابلة بين الشطرين.

ج وعيار الإصابة في الوصف ما أوتيه الأديب من ذكاء وحسن تمييز، وبها يدرك ما هو أشد لصوقًا بالشيء فيكون من صفاته الأساسية، ولذلك عدوا من نوادر الشعر هذا البيت:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه

فطيب تراب للقبر دل على القبر

وكذلك البيت الذي وصفه المفضل: بأن أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء:

ص: 52

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

د وعيار المقاربة في التشبيه هو التفطن لما بين الأشياء من صلات، وحسن تقدير هذه الصلات، حتى يوقع التشبيه بين أبرزها وأشدها وضوحًا. ومنه: سمع جرير عدي بن الرقاع وهو ينشد عبد الملك بن مروان قصيدته:

عرف الديار توهمًا فاعتداها

من بعد ما شمل البلى بلادها

فلما قال:

تترجى أغن كأن إبرة روقة

قال جرير: إنني رحمته من هذا

التشبيه. وقلت بأي شيء يشبه يا ترى؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها. فقد رحمته من نفسي.

هـ وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن عن الطبع واللسان، فما لم يستثقله الذوق من الأبنية، ولم ينحبس اللسان في النطق به يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة، لأن أجزاءه سليمة متقاربة. ولقد كان النقاد دائمًا يسألون أنفسهم هنا السؤال: أي بيت تقوله العرب أشعر1.

وكانوا يجيبون على هذا السؤال في كل عصر وزمان. ومن ذلك ما رواه ابن عبد ربه. "قال عمرو بن العلاء: هو البيت الذي إذا سمعه سامع سولت له نفسه أن يقول مثله. ولأن يخدش أنفه يظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله.

وقال الأصمعي: هو البيت الذي يسابق لفظه معناه.

وقال زهير:

وإن أحسن بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

ص: 53

"و" وعيار الاستعارة كعيار التشبيه السابق وحسن الشبه. ربما أنها مبنية على التشبيه ينبغي أن يكون التشبيه في الأصل قريبًا حتى يتناسب الشبه والمشبه به ومن ذلك قول الطائي:

وكيف احتمالي للسحاب صنيعة

باسقائها قبرًا وفي جوفه البحر

"ز" وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية هو الدرية الطويلة والمدارسة الدائمة، فإذا حكم بأن اللفظ يؤدي المعنى تمام الأداء. ليس فيه جفوة ولا زيادة ولا قصور، وكان اللفظ مقصورًا على مقادير المعاني، فهو البريء من العيب، وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر. يتم بها المعنى، ويستوفي بها كماله، وإلا كانت قلقة في مقرها.

ص: 54

عمود الشعر عند الآمدي:

وفي كتاب1 الموازنة بين أبي تمام والبحتري نجد أبا القاسم للحسين بن بشر الآمدي ينحاز إلى جانب اللفظ كثيرًا، وذلك عندما يقف بين اللفظ والمعنى أو يطبق نظرية في عمود الشعر على الشاعرين السالفين.

وتراه ينوّه بشعر البحتري ويشيد به فيقول:

ودقيق المعاني موجود في كل أمة. وكل لغة. وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه. المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة. وغير منافرة لمعناه. فإن الكلام لا يكتسى البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري.

قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر. لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى. وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهزر الزائد، على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانًا يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري:

والشعر لمح تكفي إشارته

وليس بالهذر طولت خطبه

وقال أيضًا:

ومعانٍ لو فصلتها القوافي

هجنت شعر جرول ولبيد

حزن مستعمل الكلام اختيارًا

وتجنبن ظلمة التعقيد

وركن اللفظ الغريب فأدركه

به غاية المرام البعيد

ص: 55

فإن اتفق -مع هذا- معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن. فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه. واستغنى عما سواه".

ثم يطبق الآمدي الناقد نظرية عمود الشعر على الشاعر الآخر أبي تمام، فيذري بطبقته لاعتنائه بالمعنى والمحسنات اللفظية كثيرًا، ويضع منه فيقول:

"قالوا: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يعتمد دقيق المعاني من ناصفة اليونان، أو حكمة الهند، أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورد منها بألفاظ متعسّفة، ونسج مضطرب. وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليمه قلنا.

قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سميناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا. ولا ندعوك بليغًا؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب. ولا على مذهبهم. فإن سميناك بذلك "حكيمًا أو فيلسوفًا" ثم نلحقك بدرجة البلغاء، ولا المحسنين الفصحاء. وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورداءه اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق، ويفسده ويعميه، حتى يحتاج مستمعه إلى طول التأمل، وهذا مذهب أبي تمام في عظم شعره.

وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري. ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام.

ونحن نسلم للآمدي بأنه من أتى من الشعراء بالمعنى الدقيق في لفظ رديء، مع سوء في التأليف فقد ذهب بطلاوة المعنى، وأفسدها وعماها، وأحوج المتذوق إلى طول التأمل، وتحير الفهم، وهذا يبعد عن الفطرة والبلاغة العربية.

ولكننا لم نسلم له أن يوازن بين الشاعرين في عمودية الشعر، ومدى التزام شاعرية كلا منهما به، معرفًا مذهب كليهما في الشعر، وهو ينظر إليهما بنظرة الأعور للأشياء المحسوسة.

ص: 56

فهو يركز على اختيار الشاعر لألفاظه ورصفه لحروفه وانتقائه في بنائه. وهذا الاختيار والرصف والانتقاء ووضع الألفاظ مواضعها على اللسان المطبوع في قول الشعر. والذوق المرهف المصقول والملكة الشاعرية. ثم بعد الألفاظ عن التكلف والتصنع والتعقيد. ثم وفائها بالمعاني. فذلك الشاعر عند الأمدي. والآخذ بعمود الشعر، وذلك أيضًا مذهب البحتري.

أما المعاني وهي التي أغرم بها أبو تمام في مذهبه. والدقيق منها بخاصة كما يقول الآمدي فموجودة في كل أمة وكل لغة.

ولأجل اختيار الألفاظ ووفائها بمعانيها بعيدة عن التكلف والتعقيد في سلاسة وسهولة، انفردت اللغة العربية من بين سائر اللغات بالبيان المعجز.

وصاحب المعاني الدقيقة البعيدة الغور. والتي تحتاج إلى طول تأمل وأعمال فكر وكد ذهن. هو في نظر الآمدي حكيم أو فيلسوف. ولا يليق أن ندعوه شاعرًا أو بليغًا.

والحقيقة أن لكل شاعر منحاه الذي ينهج، فهذا شاعر فيلسوف مثل المعري وذلك شاعر حكيم كالمتنبي، وشاعر ثالث ولُوع بالغوص على المعاني كأبي تمام، ولكل شاعر أن يبتعد عن عمود الشعر أو يمتلكه، ولكل نغمه وشدوه، ورخيم صداه وعذوبة لحنه، ولكن ليست الحقيقة أن يوصف الشاعر بالعندليب الصداح وآخر يذكر بالبوم النعاب.

ص: 57