الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى، أما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة، فهذا ما يرفضه الآمدي ولا يجب أن يطلق على أيهما أشعر للتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في العشر ولا يرى لأحد أن يفعل ذلك، فيستهدف أحد الفريقين، لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر: امرئ القيس، والنابغة وزهير، والأعشى، ولا على جرير، والفرزدق، والأخطل، ولا بشار ومروان. ولا على أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم، لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه.
فإن كنت أدام الله سلامتك ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة.... وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة، التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك، فأبو تمام عندك أشعر، دون أن أفضل أحدهما على الآخر، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى، فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي تلك، ثم أحكم آلت حينئذٍ على جملة ما لكل فيهما، إذا أحطت علمًا بالجيد والرديء".
إذن فالآمدي لا يريد أن يتحيز لأحدهما على غير بينة أو عن هوى، إنما يلاحظ أن من ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لميله إلى اتجاه خاص في الشعر، وأما هو فلا يريد أن يفصح بتفضيل أحدهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يقارن بينهما مقارنات موضوعية. ويترك الحكم الكلي للقارئ. وهذا بلا شك منهج علمي سليم. ومذهب رجل يرى المذاهب المختلفة، ويقبلها. ويسجلها، ثم منهج ناقد دقيق يرفض كل تعميم مخلّ ويقصر أحكامه على ما يعرض من تفاصيل.
ونستطيع أن نقرر أن الآمدي لم يقصد إلى التحيز لأحد الشاعرين ضد الآخر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بتلك الأقوال فقد تكون روح الناقد الفعلية مخالفة للخطة التي يعلنها، وقد يكون في نقده ما يتعارض مع تلك الخطة.
يجب أن نفرض فرضًا كهذا، وذلك لأن كل تلك الأقوال لم تمنع النقاد اللاحقين بأن يتهموا الآمدي بالتعصب على أبي تمام، حتى بلغ الآمر أن رأى فيه الباحثون المحدثون مقابلًا للصولي في تعصبه لذلك الشاعر، فمن أين أتت هذه التهمة؟ !!
ذوقه الأدبي وتعصبه
للفصل في هذه المشكلة الهامة يجب أن نقرّر:
أولا: أن التعصب معناه الفنِّي هو الانحياز كلية إلى ما تتعصب له، فلا ترى منه إلا الخير، وتقلب سيئاته حسنات مسوقًا بالهوى متحملًا الأسباب لتجميل القبيح والمبالغة في قيمة الحسن، وهذه حالة نفسية لا وجود لها في كتاب الآمدي لا صراحة ولا من وراء حجاب. فهو رجل يتبع في النقد منهجًا محكمًا. فيدرس ما أمامه، معللًا أحكامه، قاصرًا لها على التفاصيل التي ينظر فيها، رافضًا إطلاق التفصيل.
ثانيا: لما أن لم يفضل الشعر الطبيعي السهل على الشعر المتكلف المتصنع. فهذا ليس سيئًا وهو من حق كل ناقد، والذوق هو المرجع النهائي في كل نقد. وإنما يأتي خطر تحكيم الذوق عندما نتخذه ستارًا لعمل الأهواء التحكيمية، التي لا تصدر في أحكامها عن نظر في العناصر الفنية. وإحساس صادق بما فيها من جمال أو قبح، أو عندما يكون ذوقًا غفلًا لم تجتمع فيه" الدربة إلى الطبع، كما يقول الآمدي نفسه. "فالذوق الذي يعقد به هو ذوق ذوي البصر بالشعر، وهؤلاء لا يستطيعون عادة أن يعلِّلوا الكثير من أحكامهم، وفي التعليل ما يجعل الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة، وإن كنا لا نذكر أن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤدِّيها الصفة، على حدِّ قول إسحق الموصلي، كما نؤمن بأنه ليس في وسع كل أحد أن يجعلك في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك من نفسك ولا في نفس ولده ومن هو أخص الناس به سبيلًا، ولا أن يأتيك بعلة قاطعة ولا حجة باهرة، وإن كان ما اعترضت فيه اعتراضًا صحيحًا، وما سألت عنه سؤالًا مستقيمًا. لأن ما لا يدرك إلا على طوال الزمان ومرور النهار والأيام لا يجوز أن يحيط به أحد في ساعة من النهار".
وأخيرًا: فإننا نؤمن بأنه "لن ينتفع بالنظر إلا من يحسن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل علم ومن إذا علم أنصف1".
إلى كل تلك الحقائق فطن الآمدي على نحو يدعو إلى الإعجاب، وهو في ذاك يعود بنا إلى التقاليد الأدبية الجميلة، الصادقة النظر كتقاليد ابن سلام، الذي تحدث عن الفروق بين المثقف وغير المثقف أصدق الحديث.
وبالرجوع إلى كتاب الموازنة نفسه نجد أن المؤلف لم يتعصب للبحتري، كما لم يتعصب ضد أبي تمام، وإنما هذه تهمة اتهمه بها النقاء واللاحقون عندما فسد الذوق، وغلبت الصنعة والتكلف على الأدب العربي، ونظر هؤلاء المتأخرون في بعض انتقادات الآمدي لسخافات أبي تمام ووساوسه. ولم يوافقوا على تلك الانتقادات لفساد أذواقهم فقالوا: إن الرجل متعصّب ضدّ أبي تمام أو تعصب ضد البحتري.
الذي لا شكّ فيه أن الآمدي لم يكتب كتابه أيام عنف الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري، وذلك لأن أبا تمام توفي سنة 231هـ والبحتري 284 هـ والمعركة قد احتدمت فيما يظهر بعد موتهما مباشرة، حتى بلغت أقصاها في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، ونحن وإن كنا لا نملك من الكتب التي أُلفت في تلك الفترة غير أخبار أبي تمام للصولي إلى أننا نجد في هذا الكتاب ما يكفي للدلالة على مبلغ الإسراف والعنف، اللذين صحبا تلك المنازعات حول الشاعرين، فالصولي كما رأينا هو الذي يجب أن يتّهم بالتعصب لأبي تمام، وهو الذي يجب أن يرفض الكثير من أحكامه، بل ومن أخباره، لوضوح هواه وفساد ذوقه، وكثرة ادّعائه.
وأما الآمدي فقد جاء بعد أن كان الزمن قد هدأ من حدة الخصومة، وكان الأدباء قد أخذوا في الالتفاف حول رجل آخر هو المتنبي.
جاء الآمدي إذن بعد تراخي الزمن فوجد عدَّة رسائل في التعصب لهذا الشاعر أو ذاك كما وجد ديوانهما قد جمعا. وتعدَّدت منهما النسخ قديمة وحديثة، ونظر في كل تلك الكتب فوجد فيهما إسرافًا في الأحكام، وعدم دراسة تحقيقية. وضعًا في التعليل أو قصورًا، فتناول الخصومة بمنهج علمي أشبه ما يكون بمناهجنا اليوم. بحيث نعتقد أن هذا الكتاب خير ما نستطيع أن نضعه بين أيد الدارسين كمثل يُحتذى للمنهج الصحيح.
الآمدي وتحقيقه للنصوص الأدبية
نلاحظ أن المؤلف يرجع إلى النسخ القديمة حين يحقق الأبيات، وإلى هذا يشير غير مرة في كتابه فيقول "ص 89" "حتى رجعت إلى النسخة العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه، وذلك عند نظره في قول أبي تمام.
دار أحل الهوى عن ألمَّ بها
…
في الركب إلا وعيني من منائحها
وفي ص: 165 يقول: "وما رأيت شيئًا مما عيب به أبو تمام إلا وُجد في شعر البحتري مثله ألا أنه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل، ومن ذلك اضطراب الأوزان في شعر أبي تمام، وقد جاء البحتري ببيت هو عنده أقبح من كل ما عيب به أبو تمام، ومن هذا الباب قوله:
ولماذا تتبع النفس شيئًا
…
جعل الله الفردوس منه براء
ثم يضيف: وكذلك وجدته في أكثر النسخ جعل الله الخلد منه براء فإن لم يكن هذا فقد تخلص من العيب.
وهكذا نراه رجع إلى النسخ الأخرى لتحقيق النص قبل الحكم عليه، وذلك سواء أكان الشعر من شعر أبي تمام كما رأينا في البيت الثاني أو من شعر البحتري، وهذه أولى مراحل النقد المنهجي السليم المستقيم.
والآمدي كذلك يملك روح النقد العلمي الذي ينظر في صحة نسبة الشعر، وهو في ذلك تلميذ لابن سلام، ومن ثمَّ نراه لا يقبل ما ينسب إلى الأعراب انتحالا، ولدينا في الجزء الذي لا يزال مخطوطًا من الموازنة مثل دالّ في هذا. يتحدث المؤلف بمناسبة أبيات يدرسها عن التقسيم، فيقول: "كان بعض شيوخ الأدب تعجبه التقسيمات في الشعر، وكان مما يُعجبه قول عباس بن الأحنف:
وصالكم هجر وحبّكم قلى
…
وعطفكم صد وسلمكم حرب
ويقول: هذا أحسن من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعت سيد العلماء يستحسنه يعني ابن الأعربي، وليس هو عندي من كلام العرب وهو بكلام المولدين أشبه:
وأدنو فتعصيني وأبعد طالبًا
…
رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي
وشكواي تؤذيها وصبري يسوءها
…
وتخرج من بعدي تتمر من قربي
والآمدي في هذا لا يكتفي بملكاته الخاصة في دراسة هذين الشاعرين والموازنة بينهما، كما لا يكتفي بنسخ السابقين على نحو ما فعل غيره فيمن يروُون أحكام الخبر، أو ينقلون عن السابقين مع إغفال ذكر أسمائهم -لم يفعل الآمدي شيئًا من هذا، وإنما فعل كما نفعل نحن اليوم عندما نريد دراسة مسألة من المسائل، فنجمع الكتب التي وضعت في تلك المسألة، وننظر فيها بنفس ما نقل منها، ونعتمد ما نعتبره كسبًا نهائيًّا ثم نراجع ما نراه خطأ، ونكشف عما ترك من الظلال.
ولقد جاء الآمدي كما قلنا بعد أن كانت الخصومة حول البحتري الذي يمثل عمود الشعر وبين أبي تمام كرأس لمذهب البديع. قد أسالت مدادًا كبيرًا، وكانت الكتب العديدة قد ألفت في كل ناحية من نواحيها، فكان من مقتضيات المنهج الصحيح أن يجمع كل تلك الكتب ويدرسها قبل أن يأخذ هو في الموازنة بينها، وهذا ما فعله.
نظر فوجد "أكثر من شاهد وراوٍ من رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد مثله، ورديئه مطروح ومرذول - فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شعر الوليد بن عبيد الله البحتري صحيح السبك حسن الديباجة ليس فيه سفاسف ولا رديء ولا مطروح، ولهذا صار مستويًا يشبه بعضه بعضًا، فوجدهم قد اختلفوا بينهما لغزارة شعريهما، وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحد مما وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري ونسبه إلى طلاوة النفس، وحسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتي، وانكشاف المعنى، وهم الكتاب والإعراب.
والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة. ومنهم من فضل أبا تمام، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يُورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام، وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة وذهب قوم إلى المساواة بينهما وإنهما لمختلفان؛ لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع على مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ، ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور، وأبي يعقوب وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، مستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا هو على حد طريقهم لما به من الاستعارات البعيدة. والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه وعلى أني لا أجد من أقرنه به؛ لأنه ينحط عن درجة مسلم لسلامة شعر مسلم، وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب، ولك هذا الأسلوب لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته، ولست أحب أن أطلق الحكم بأيهما أشعر1.
وعدا كلام ناقد مؤرّخ يرى الخصائص، ويفسّر الظواهر، ويحاول أن يقيم التسلسل بين المذاهب المختلفة، فهو يُخبرنا عمن يفضلون أبا تمام، أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصفة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام.
وهو يحدثنا عن مذهب كل منهما "عمو الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام".
وهو يربط بين الشعراء المعارضين للبحتري من مذهب أشجع السلمي ومنصور وأبي يعقوب، وأبو تمام يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه. وهذا ليس تعصبًا، وهو وإن فضل شعر مسلم على شعر أبي تمام فإنه لم ينكر على هذا الأخير أكثر محاسنه وبدائعه واختراعاته، كما يرفض أن يطلق الحكم بأيهما أفضل.
النقد الموضوعي عند الآمدي:
بعد أن تحدث الآمدي عن السرقات التي تسببت إلى كل منهما، أخذ في دراسة النقد الموضوعي فتحدث عن:
1-
أخطاء أبي تمام وعيوبه وأخطاء البحتري وعيوبه.
2 محاسن أبي تمام ومحاسن البحتري.
2 -
الموازنة التفضيلية بين الشاعرين اللذين يتتبع معانيهما معنًى معنًى.
وهذه الأبواب ليست متساوية في القيمة ولا في الكعبة، فباب الأخطاء والعيوب يشمل جانبًا كبيرًا من الكتاب "أخطاء أبي تمام" وعيوبه من ص 54 - إلى 124، وأخطاء البحتري وعيوبه من ص 150 إلى 166"، وأما باب محاسنهما فلا يعدو عدة صفحات "من ص 165 إلى 174".
وعلى العكس من ذلك بألب الموازنة التفصيلية واستقصاء المعاني فهذا هو الجزء الأساسي من الكتاب. ولقد نشر بعضه "من ص 174 - إلى 197 من الكتاب المطبوع" وأما الباقي فلا يزال مخطوطًا وقد قارنَّاه بصورة فوتوغرافية لهذا الجزء الموجود بدار الكتب المصرية ضمن صورة كاملة للكتاب من أربعة مجلدات المجلدان الأخيران يبدأن من ص 174، 187. الجزء المشهور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول للجزء المنشور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول ما أبدأ به من مدائحهما ذكر السؤدد والمجد وعلو القدر، ثم ما يخصّ من تلك دون غيرهم من الخلافة وما يتصرف عليه القول من معانيهما مثل ذكر الملك والدولة وذكر ما يختص أهل بيت النبوة من المدح دون سواهم، ومن ذلك ذكر طاعتهم والمحبة لهم والمعرفة لحقهم. وذكر الآلة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فصارت إليهم، وذكر علو القدر وعظم الفضل، وذكر تأييد الدين وتقوية أمره، وذكر الرأفة والرحمة، وذكر إفاضة العدل، وإقامة الحق، وذكر سداد الرأي وحسن السياسة والتدبير والاطلاع بالأمور والحلم والعقل، وذكر الجلال والجمال وما إليها والجهارة والهيبة، وذكر كرم الأخلاق، وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة واليأس
…
وبالفعل يستعرض الآمدي كل هذه المعاني بشأن
الخلفاء إلى أن ينتهي المخطوط عند الجلال والجمال وما إليهما، والجهارة والهيبة وذكر الأخلاق ولينها. وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة والبأس، وهذه هي المعاني التي أكثر منها الشاعران، بل كل شعراء العرب، كما لا نجد مدحًا من دون الخلفاء من ولاة وأمراء ووزراء وغيرهم. ممن مدح الشاعر كما ترى في ديوانيهما، وأنها حقا لخسارة كبيرة حين لا نستطيع أن نعثر على بقية الكتاب، خصوصًا وأن الباقي منه يمثل جزءًا كبيرًا جدًّا، وفي الجزء الذي لدينا أدلة وإشارة واضحة للجزء المفقود. منها قول المؤلف في اللوحة 24، وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد الشبياني.
وقد كان مدحًا يضني السرير
…
والبهو يملؤه بالبهاء
مضى خالد بن يزيد بن مزيد
…
قمر الليالي وشمس الضحاء
ويضيف "وهذا يمر في المراثي".
إذن فهناك باب في المراثي التي قالاها والموازنة بينهما لم يصلنا، وهناك هو أكثر من ذلك
…
فالمؤلف يقول "ص 33" وأفراد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال، وأختم بهما الرسالة، وأضع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما، وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم. ليقرب من متناوله ويسهل حفظه، وتقع الإحاطة به إن شاء الله. وليس لدينا في الجزء المنشور ولا في المخطوط هذان البابان عن التشبيه والأمثال فهما لا شك ضمن الجزء المفقود وهذه كلها مسائل شاملة.
الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف:
أبواب الكتاب:
وكتاب الموازنة عند أبي الحسن الآسدي مقسم إلى اثنى عشر قسمًا. وكل قسم ادَّعاه المؤلف باب.
1-
فالباب الأول "من ص 1 - ص 46" وفيه أورد المؤلف محاجة مفندة ومدعمة بالأدلة والبراهين، ويبيّن كلًّا من أصحاب أبي تمام المتعصبين له وأصحاب البحتري المفضلين إياه. ومنهم المؤلف الذي ينتحل الأعذار للبحتري بلسان مرهف حاد.
2-
والباب الثاني من "46 - 120" وفيه أحصى الآمدي سرقات أبي تمام الشعرية، وذلك بعين الباحث المنقب.
3-
والباب الثالث من "120- 226" وهنا عدَّد الآمدي وندَّد في شيء من التحامل والتعصب على الرجل من أخطاء أبي تمام في الألفاظ والأساليب والمعاني.
4-
والباب الرابع من "228، 272"، وذكر فيه أخطاء أبي تمام من قبيح الاستعارات ومستكره الجناس، ومرذول الألفاظ، ومستهجن الطباق وسوء النظم وفساده، والحق يقال أن مثل أبي تمام في شعره كمثل القاضي الفاضل في نثره فلقد أولع كلاهما بفن البديع حتى خرجا إلى التكلف الممجوح.
5-
والباب الخامس من 272 - 275" وفيه أخطاء أبي تمام من الزحاف واضطراب الوزن، وكأني بثلاثة أرباع الموازنة قدحًا في الطائي.
6-
الباب السادس من 227- 347" وفيه أحصى سرقات البحتري من أبي تمام وغيره.
7-
الباب السابع من "348- 379" وذكر فيه أخطاء البحتري في المعاني التي دافع عن الكثير منها.
8-
الباب الثامن من "380 - 382" يومئ فيه إلى اضطراب البحتري في الوزن واختلاف فيه.
9-
الباب التاسع من "382 - 389" أورد فيه رأيه في النقد وطريقه وكيف يكون الناقد؟ واستدلَّ فيه بآراء النقاد.
10-
الباب العاشر من 389 - 391" وفيه فضل البحتري على أبي تمام كشاعر.
11-
الباب الحادي عشر من "391 - 395" وفيه ذكر فضل البحتري، وأن الشاعر القائم بعمود الشعر.
12-
الباب الثاني عشر من "396 - 455" وهنا الموازنة الوحيدة بين الشاعرين وذلك في الوقوف على الأطلال، والبكاء على الآثار وهي مطالع القدماء من الشعراء، والكتاب من الحجم المتوسط بتعليق محمد محيى الدين عبد الحميد.
الموازنة:
والآمدي رحمه الله يُسمِّي كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" ولنا أن نسأل: ما معنى هذه التسمية الموازنة؟ وخاصة بين كتب الأدب، ونقول: إن لكلٍّ أسلوبه كما أن لكل أديب نسجه وبيانه، كذلك لكل شاعر وصفة وإيقاعه ويختلف هذا عن ذاك بعدد تفاوت الوجوه، وهذا التفاوت في الأسلوب والعرض والتحليل والتناول والتصوير يفرض بطبيعته على التذوق النفاذ، خاصة الموازنة بين نص ونص، والمقارنة بين بيت وآخر والمراجحة بين أدب وأدب 1. وترتبط الموازنة بالمنطق الشخصي الصرف أحيانًا. وأخرى تعتمد على التحليل والتعليل وإقامة الحجج، وثالثة دون تعليل أو تفنيد.
ويتطرق الآمدي في الموازنة إلى أشياء كثيرة:
منها البراعة والمهارة في تجويد الأسلوب، ومنها التفنّن في اقتناص المعاني الشاردة، ومنها ما يرجع إلى الحذق في التصوير والتحليق. ومنها ما يستند إلى الموضوعات الأدبية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو غير ذلك. وعلى الجملة فالموازنة هي:
اتجاه من اتجاهات النقد يشغل أذهان النقاد بسبب ما يجدون من معانٍ عامة وخاصّة: يشترك الأدباء والشعراء في التعبير عنها. ولكن لكلٍّ وصفه وأسلوبه.
والموازنة تنقسم إلى قسمين:
1-
قسم يذكر دون تفسير كافٍ يوضح بسبب امتياز أحد النصين على الآخر ويسمى مواجهة. ومن ذلك:
أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها
…
أكسب عليها جاذر متعرق
وقال جميل بثينة في الغرض نفسه:
أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها
…
بقايا سلال لم يدعها لسلالها
وقال جرير الخطفي في المعنى ذاته:
إذا بلغوا المنازل لم تقيد
…
وفي طول الكلام لها قيود
وهنا قال نصيب: ما أشعر ابن الخطفي؟ إنه يفضلني وجميلا.
2-
فإذا ذكرت الموازنة معتمدة على إقامة العلل، وتفنيد الحجج والتفسير الموضح لسبب امتياز أحد النصين على الآخر. دعيت مقارنة ومنها:
اجتمع عند كثير عزة عمر بن أبي ربيعة، والأحوص، ونصيب وجلس كثير ينتقد ثلاثتهم، فلما فرغ من انتقادهم. أقبل عليه عمر بن أبي ربيعة يقول:
قد أنصتنا إليك فاسمع: أخبرنا عن تخيرك لنفسك ولحن تحب حيث نقول:
ألا ليتنا يا عز من غير ريبة
…
بعيران نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عل فمن يرنا يقل
…
على حسنها جرياء تعدصي وأجرب
تكون لذي مال كثير مغفل
…
فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
فقد تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمى والطرد والمسخ.
فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول القائل:
معاداة عاقل خير من مودَّة أحمق
وكأني بعمر بن أبي ربيعة يزهو على كثير في خيلاء عندما يصاوله في فن الغزل والتشبيب بالنساء ولا ريب فهو صاحب قصيدته الرائية والتي مطلعها.
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
…
البيت؟
وهي من عيون الأدب العربي.
فهذا هو التفسير والتعليل للمقارنة. ولقد روى أن ثلاثتهم قاموا بعدها ما يتضاحكون، وجلس كثير ينتفض جسده غضبا.
الشاعر:
أبو تمام شاعر والبحتري شاعر.... وكذلك الآمدي شاعر أيضًا. وقد يتسنَّى لنا أن نسأل: من الشاعر؟
هو ذلك الإنسان المرهف الحس/ المعبر عما في النفس.... من خواطر وهواجس وما يجيش في صدره من خوالج، فهو كإنسان يحبّ ويبغض. ويحزن ويفرح، ويأمل ويتألم، وفوق هذا فالشاعر رقيق الشعور، تضطرم في صدره كل هذه الأغراض أو بعضها فتفيض جيشاشة هادرة منحدرة على لسانه، وينطق ذلك الإنسان مصورًا ما يحسّ ويشعر، ولذا قيل في تعريفه:
هو الإنسان الذي يشعر بما لا يشعر به سواه. ولشفافية الروح عند الشاعر تراه يصور في قالبه الشعري ما تنفعَّل به عواطفه، وما تهتزُّ به نفسه في أسلوب أدبي منظوم ومؤثر، وتصوير رفيع ومعبّر. يُوقظ مشاعر السامع، ويحرك غافي الإحساس في نفس القارئ، في نسج ذاتي متفرّد فيسدي خيوط قصيدته ويضع لحمتها على طابعه المتميز، بتظليل ألوانها واهية وقائمة من خلف مناظره للحياة، ظلامًا ويأسًا كالمعري حين يقول:
تأملنا الزمان فما وجدنا
…
إلى طيب الحياة به سبيلا
أو مجونًا وفسقًا كأبي نواس المتعهر:
يا بدعة في مثال
…
تجوز حد الصفات
فالبدر وجه تمام
…
بعين ظبي فلاة
ومطرن حواشيها بوشى من نضج ثقافة أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود
أو حكمة انضجتها التجارب كالمتنبي حين يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفَّة فلعلة لا يظلم
وهكذا نجد تعريف ذلك للإنسان الذي حبّته السماء بملكة أدبية فذَّة، وموهبة شعرية متفرّجة على لسانه، فلما أتيحت للكثيرين من أمثاله وأقرانه. ولذا فليس ببعيد أن تقوم القبيلة العربية في احتفال صاخب وتتقبل التهاني من باقي القبائل لا شيء إلا لأنه نبغ فيها وليد شاعر، يحمي أعراضها ويدافع عن أحسابها.
النقد عند الآمدي:
النقد عند الآمدي فن موهوب أكثر منه مكتسبًا. فالناقد هو من له موهبة فطرية. وذكاء متوقّد يقدِّر الأمور ويحسن تقديره. والناقد ذواقة يدرك ما في الشعر بذوقه هو. وحاسته الأدبية من جمال وقبيح. والناقد ذو ثقافة أدبية واسعة ترتكز على الرواية والمدارسة، ومطالعة النصوص الأدبية. وفي طول الدرية والمران يقول الآمدي:
"وأنا ذاكر المعاني التي يتفق فيها الطائيان، فأوزان بين معنًى ومعنًى. وأقول أيّهما أشعر في ذلك المعنى نفسه، فلا تطلبني أن أتعدّى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق".
فالآمدي قد وازن بين الطائيين في غرض من الشعر بذاته ثم إنه سوف يعلن أيهما حاز قصب السبق فيه، ويطلب من القارئ في أكثر من مرة أن يعقبه من مسئولية إعلان أيهما أشعر عنده على الإطلاق، فلكل ناقد ذوقه ولكل دلوه. وعقل الناقد هو الذوق، ولذلك لن تجد ناقدًا يستطيع أن يذكر عللًا وأسبابًا لرجحان شاعر على آخر في الكثير الغالب، بالآمدي يبرز مزايا الجيد ويعدّدها، وكذلك مساوئ الرديء ويدمغها. ويقول:
"وسوف أنبه على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرزله وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، ويحفظ به العناية، ويبقى ما لم يكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علَّة ما لا يعرفه إلا بالدرية، ودائم التجربة. وطول الملامسة. وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته".
والأفضل عند الآمدي أن يترك النتيجة ليعلنها القارئ بنفسه، ويحكم فيها بذوقه، فهو يقول:"وأوكلك بعد ذلك إلى اختيارك وما تقضي عليه فطنتك وتمييزك" والآمدي يضرب مثلًا للنقد وفنّه. وأن الفيصل فيه للذوق وحدّه. وهذا لا يتأتَّى إلا لمن كانت له درية ودراية، وعنده موهبة
وعناية. يقول: "فالبيتان من الشعر للشاعرين كالفرسين السليمين من كل عيب، ولكن النخاس لهما قد يجعل الفرق ما بينهما في الثمن كبيرًا. وقد يتقارب البيتان من الشعر وهما جيدان نادران. فيعلم أهل الصناعة بالشعر أيهما أجود. وإن كان معناهما واحدًا. أو أيهما أجود في معناه. وإن كان معناهما مختلفًا".
ولقد امتحن الآمدي في فن النقد فلما طلب منه تعليل الترجيح عنده أرجع العلة في النقد إلى الذوق.
"سألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين وقال: اختر أحدهما؟ فاخترت فقال: من أين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين. ولكنهما تقاربا. وفضل هذا بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبّر عنه اللسان".
ويستدلّ الآمدي على صحة دعواه بكلمة "خلف الأحمر" المشهورة في النقد "وقد قيل لخلف الأحمر: إنك لا تزال تردّ الشيء من الشعر وتقول: هو رديء والناس يستحسنونه؟ فقال: إذا قال لك الصيرفي إن هذا الدرهم زائف. فأجهد جهدك أن تنفعه فلا ينفعك قول غيره أنه جيد".
والآمدي يطلب من غير أصحاب الصنعة أن يسلموا له ولأمثاله الحكم في الشعر، وأن يقبلوا منهم عن رضى تلك الأحكام:
"إذا كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم ولا يخاصمهم فيها ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم، نظرًا في الخبرة، وطول الدربة والملابسة".
وليست الصناعة عند الآمدي بامتلاك خزينة من الكتب. أو حفظ جملة من القصائد، وإنما هي الموهبة، والطبع، والملكة المصقولة على التمييز بين الأبيات، وعلى تذوق الأساليب والوصف الفني لقصيد من الشعر أو رسالة من النثر واسمعه يقول:
"لا تصدق نفسك أيها المدعى. وتعرفنا من أين طرأ لك الشعر. أمن أجل أن عندك خزانة. من الكتب تشتمل على عدة دواوين الشعراء.
وأنت ربما قبلت ذلك أو صفحته. إلى أن في يقول: لقد ظننت باطلًا ورمت عسيرًا؛ لأن الصم أيًّا كان نوعه لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه والانكباب عليه، ثم قد يتأتَّى جنس من العلوم طالبه ويسهل ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذَّر. فينبغي أن تقف حيث وقف بك وتقنع بما قسم لك 1.
وهذه وسائل النقد عند الآمدي وتعريف الفاقد عنده.
بين الجمال والجلال:
من القضايا النقدية، التي سبق بها الآمدي زمانه وعصره، قضية الجمال والجلال، أو الجمال والحلاوة. والفرق بينهما، وحينما ميَّز بينهما النقد الغربي حديثًا. ظن النقاد الأجانب أن هذا من بدع عصرهم وابتكاره.
وهذا خطأ، فمنذ أحد عشر قرنًا شهد النقد العربي القديم هذه القضية، وحدَّدها وفصَّل القول فيها. وخاصة الآمدي في "الموازنة"، والقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة".
وفرق الآمدي بين الجمال في النقد، فجعله محددًا، يقوم على التعليل ومعرفة الأسباب، فقواعده مقرَّرة. يحدِّدها الذوق الأدبي، وبين الحلاوة، "الجلال" التي تأخذ بمجامع القلوب، وتهزُّ المشاعر والوجدان، إذا ما فتشت عن أسباب الانبهار والتأثير لا تقف على سبب معين أو قاعدة مقرَّرة2.
ودفعًا للتكرار فقد تناولت هذه القضية الخطيرة بالتفصيل في نقدنا العربي القديم والأصيل، وذلك في كتابي "الصورة الأدبية: تاريخ ونقد3، وشرحت مفهوم كل منهما والمعالم المميزة لهما، وغير ذلك مما يوضح أصالة النقد الأدبي العربي.
الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد
الفصل الأول: مفهوم عمود الشعر العربي
…
الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد:
الفصل الأول: مفهومه ومعناه:
ذلك التعبير الشائع عند النقاد من العرب وهو ما يقصدون به في ذ لك الفن؟ وهو الاشتغال بالأدب.
يقصدون به تلك التقاليد المتوارثة، التي سبق إليها الشعراء الأوائل وأقتفاها من جاء بعدهم حتى صارت سنَّة متبعة، وعرفًا متوارثًا، وهو اصطلاح جديد ظهر في العصر العباسي، وتردَّد منذ القرن الثالث الهجري، ثم ذاع وتداوله النقاد في القرن الرابع، ذلك القرن الذي حفلت فيه مختلف التيارات الأدبية والنقدية. واشتهر هذا الاصطلاح عند من جاء من النقاد بعد ذلك وحتى اليوم.
يقول الدكتور "محمد عبد المنعم خفاجي": وهو من نقاد العصر الذين تحدثوا عن هذا الفن. معرفًا عمود الشعر1.
هو كل التقاليد الفنية التي التزامها القصاد في قصائدهم من الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور وغيرها، فهذه التقاليد جميعها هي عمود الشعر، والذي حتَّم الكثير من النقاد التزامه، والسير على منواله وسموا ما جاء على نمطه من قصائد شعرية للقدماء. ومن جاء بعدهم قصائد عمودية أو قصائد تلتزم عمود الشعر.
وكثرة قضايا اختلاف النقاد كانت في عمود الشعر والتزامه عند بعض الشعراء، وما طرأ عقد الآخرين والأحكام المنصفة في النقد كانت تحتكم إليه، أي إلى هذه التقاليد الفنية الموروثة عن الشعراء الجاهليين والإسلاميين في القصيدة العربية التي هي عمودية الشعر.
وقد يكون لنا أن نسأل. لم دعيت هذه التقاليد الفنية بعمود الشعر؟
ونسب هذا العمود إلى الشعر العربي؟
والإجابة عن السؤال الأول، وهي أن هذه التقاليد الفنية وهي: الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور شبهت بالعمود الفقري في هيكل الإنسان
…
كما أن مجموعها يمثل الأعمدة.
والأسس التي تبنى عليها القصيدة العربية. ذلك أن هذه التقاليد الفنية في مواد البناء للقصيدة الشعرية وبدونها لا تقوم للقصيدة قائمة. وتقوم على تشويه وخلط في صورتها.
أما نسبة "أ" العمود إلى الشعر العربي. وبم ينسب إلى الشعر اليوناني أو الفارسي أو اللاتيني أو غير هؤلاء. فذلك ليس لأن شعر هؤلاء شعر فصحى، فذلك موجود في شعر العرب، وهو ما يقصد منه جمع التاريخ وحفظ الأخبار، ولكنهم لم يطلبوا فيه إطالة الإلياذة وغيرها. فالفرس يفضلون العرب في الإطالة كما فعل الفردوسي في نظم الشاهنامة" وهي ستون ألف بيت من الشعر، تشتمل على تاريخ الفرس.
ولكن السبب هو أن شعر العرب كلي وجداني ينزع عن العاطفة ويمنح عن الوجدان فهو شعر غنائي بالصبغة الأولى.
فعندما تهيج عاطفة الشاعر ويلذع الشوق قلبه. ويضطرم وجدانه ينسكب الشعر على لسانه أرسالًا.
وكان شاعر الجاهلية أول ما يبدأ من قصيدته، التي إياها يشيد ويبني فهو معتمد على الغزل والتشبيب بمحبوبته، وهذا كعب بن زهير يقول في بردته:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم أثرها لم يفد مكبول
واصفًا ارتحالها ونزوحها عن المنازل. التي كان فيها درجة. والبكاء على بعدها وما خلفه لدى الشاعر من الجوى والحنين، واستبكاء الأصحاب أمام أطلال المنازل النازحة البعيدة. وذاك امرئ القيس رائد الشعر يشدو بحنينه:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ثم يأخذ الشاعر الصف الأول في وصف ما يشاهده من الآثار، التي خلفها قوم المحبوبة عند الارتحال، والصحراء وما قاسى من جوها
وعاصف ريحها وظلام ليلها، وما صادف من وحشها. وفجائعها. ثم يتخلص من ذلك في لفط وتسلسل مقبول إلى غرض قصيدته مدحًا كان أو وصفًا، أو للفخر أو حكاية حال، وهذا يتفق تمامًا مع حركة وجدان الشاعر العربي وفطرته. التي جبل عليها والتي تجيش بالغلبان طفرة ثم يعبّر مصورًا في تلك الآونة يعتلج في فؤاده، ويضطرم بنفسه. وعلى ذلك المنهج ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول 1:
"أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا. وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الطاعنين عنها، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد، ولم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب. ويصرف إليه الوجوه. وليستدعي به أصفاء الأسماع إليه؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لاثط بالقلوب، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستمتاع له عقب بإيجاب الحقوق. فرحل في شعره. وشكا النصب والسهر وسرى الليل. وحرَّ الهجير وأنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل. وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المديح: فبعثه على المكافأة وهزّه للسماح. وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل".
وتقدَّم الزمن وجاء العصر العباسي، وأينعت فيه الحضارة الإسلامية بما أخرجت العقول. وما عصرته القرائح بعد ذلك التبادل الثقافي وحركات الترجمة. وتشجيع الخلفاء العباسيين وعكوف الكتاب. يقطفون من ثمار هذا العصر.
وإذا بحركة الوجدان تتغيَّر ويتبدل شكلها، وإذا بأبي نواس يطالعنا ناعيًا هذه المطالع مهجنًا ذلك الطريق البالي العتيق. ألا وهو الوقوف على الديار والبكار على الأطلال، ووصف الآثار الباقية، والتسليم عليها، وسؤالها عن الأحبة النازحين عنها، فليرفع عقيرته منددًا بمطالع القصائد الجاهلية، مستبدلًا بها ذكر الخمر ووصف الصهباء. والتغنّي بنعوتها، ومن الطرب والنشوة ما تصنعه الخمر بالعقل الكثير فيقول:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
…
واشرب على الورد من حمراء كالورد
ويقول:
أيا باكي الأطلال غيرها البلى
…
بكيت بعين لا يجف لها غرب
أشنعت دارا قد عفت وتغيرت
…
فإني لما سألت من نهتها حرب
ويقول:
صفة الطول بلاغة القدم
…
فاجعل صفاتك لأيمنة الكرم
ويقول:
دع الوقوف على ريم وأطلال
…
ودمنه كسحيق اليمن البالي
وعج بنا نصطبح صفراء واقدة
…
في حمرة النار أو في رقة الآل
وكانت هذه دعوة جديدة للخروج على مطالع الجاهليين وعمود الشعر، كان هذا الماجن الخليع "أبو نواس شعوبيًّا في مذهبه كما يقول هو:1
عاج الشقي على رسم يسائله
…
وعجت أسأل عن خمارة البلد
تبكي على طلل الماضين من ابن
…
ثكلت أمك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ومن يمن
…
ليس الأعارب عند الله من أحد
ودعا أبو فارس إلى أن تفتح القصائد الشعرية بأوصاف الراح ونعوتها وتابعة في ذلك "ابن المعتز" الشاعر الناقد، والذي كان يبحث في الصلة بين الأدب والحياة. ويحاول الملاءمة بينهما. وينادي بتحضر الشعوب ورقيّه وترك روح البداوة فيه وصبغة الجاهلية عليه يقول ابن المعتز:
أحسن من وقفة على طلل
…
ومن بكاء في أثر محتمل
كأس مدام أعطتك فضلتها
…
كفّ حبيب والنقل من قبل
وليم الشاعر الماجن "أبو نواس" على دعوته الجديدة إلى تعاطي الخمر وتزيين رجسه. فعاد إلى السخرية ثانية من ذكر الأطلال، والتنادر بالوقوف على الآثار فقال مكرهًا ساخرًا.
أعز شعرك الأطلال والمنزل القفرا
…
فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطول مسلط
…
تضيق ذراعي أن أردّ له أمرا
سمعًا أمير المؤمنين وطاعة
…
وإن كنت قد جشمتني مركبًا وعرا
وهل تحرّر أبو نواس من القيود الفنية للقصيدة العربية ومن عمود الشعر ونهج طريقة غير طريقة أسلافه من الشعراء؟ وها هو ذا يصف من يقف على الديار ويبكي الآثار ويصف الزمن، ويسائل الأطلال والأحجار بالعي والفهامة وتفاهة الخيال، وركود الذهن، ذلك لأنه يرى أن التشبيب إنما يكون بالخمر الصهباء. ووصف محاسنها وتعديد فضائلها وجمال حمرتها الزاهية، ورقتها الصاقية.
والجواب1: إنما كانت هذه الدعوة زيا من أزياء العصر العباسي الأول، الذي يعيشه أبو نواس، والذي تفشي فيه شرب الخمر. والعكوف على الخمارات والعب منها، والحقيقة أن أبا نواس استبدل قيدًا بقيد، فلما مضى الزمن وجاء العصر العباسي الثاني وجدنا شاعره "المتنبي". يتحرَّر بالفعل، وفي أحيان كثيرة من مطالع الغزل لقصائد الشعرية. فيمدح سيف الدولة الحمداني، ويقول في مطلع قصيدته2:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
فقد بدأها بالحكمة، ينتزعها من الجو الذي يسايره.
وإذا ما أراد المتنبي أن ينشئ قصيدة في العتاب ابتدأ بقوله:
أما لسيف الدولة اليوم عاتبا
…
فداه الورى السيوف ضاربا
وهكذا نجد أن الذي تحرَّر من مطالع الجاهليين للقصيدة الشعرية حقًّا هو المتنبي في العصر العباسي الثاني. وليس أبا نواس الذي استبدل قيدًا بقيد.
الفصل الثاني: الخصائص الفنية لعمود الشعر العربي:
خصائص اللفظ:
نجد العرب يتطلبون فيه الجزالة، والاستقامة، والمشاكلة للمعنى، وشدَّة اقتضائه للقافية.
وما تطلَّبوه في مفهوم المعنى الجزئي هو شرف المعنى وصحته، والإصابة في الوصف، وأما ما يخصّ تصوير المعاني الجزئية في البنية العامة للقصيدة فهو المقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه، للمستعار له، ثم التحام أجزاء النظم والتئامها 1.
وعلى ذلك نلاحظ أن جزالة اللفظ تتوافر له إذا لم يكن غريبًا، ولا سوقيًّا مبتذلًا2، ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته ولا تستعمله في محاربتها3 والأمثلة كثيرة نقتصر منها على قول الحطيئة:
يرسون أحلامًا بعيدًا أناتها
…
وإن غضيوا جاءوا الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
…
من اللوم أو سدّ المكان الذي سدُّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى
…
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا
وبهذه القاعدة عابوا كثيرًا من شعر المحدثين، وفي هذه القاعدة تكتسب الألفاظ نبلًا يشبه النبل الطبقي، وفيها إغفال لموقع اللفظ من الجملة مما انتبه إليه - أمثال "عبد القاهر" على أن استقراء الشعر العربي استقراءً سليمًا يكذب هذه القاعدة.
واستقامة اللفظ تكون من ناحية الجرس حيث يكون اللفظ مستقيمًا بسلامته من تنافر الحروف، وذلك مقياس نسبي، يجب أن يُراعى في اللهجات والأذواق المختلفة، على أن الخطأ هنا أن اللفظة الثقيلة قد تصلح في موضعها إذا أوحت بمعناها المراد في ذلك الموضع.
ومن ناحية الدلالة يكون اللفظ مستقيمًا إذا لم يجاف الشاعر في استعمال أصله ووضعه اللغوي، ولهذا السبب عابوا أقوال البحتري:
تشق عليه الريح كل عشية
…
جيوب الغمام بين بكر وأيم
فالأيم التي لا زوج لها سواء سبق لها الزواج أم لا1 فالمقابلة بينها وبين البكر غير مستقيمة، وهذه قاعدة مستقيمة لا غبار عليها.
وكذلك يكون اللفظ مستقيمًا إذا تجانس بين قرائنه من الألفاظ، لذا أخذوا على مسلم بن الوليد قوله:
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة
…
يثني عليها السهل والأوعار
فكان الأولى أن يقول السهل والوعر، أو السهول والأوعار، ليكون البناء اللفظي واحدًا بالتثنية أو الجمع، على أن مجال التأويل هنا واسع فالسهل في مستوى واحد، على حين الأوعار مختلفة، ثم إن إطلاق القول بذلك يكذبه الاستقراء الصحيح للشعر العربي القديم، والنثر كذلك.
استأثر الله بالوفاء وبالعدل
…
وولى العلامة الرجلا
لأن الملامه تتجه للإنسان أمرأة كان أم رجلًا، ولا تخصّ الرجل وحده، ويتبع الاعتبار الأخير أن تقع الكلمة موقعها في القافية، كأنها الشيء الموعود المنتظر، وبهذا يمدح بيتًا للحطيئة:
هم الذين إذا ألَّمت
…
من الأيام مظلمة أضاءوا
فالإضاءة تتطلب ظلام الأيام، وما استجد فيها من أحداث مدلهمة1، وكذلك يحمدون في المعنى أن يكون شريفًا.
خصائص المعنى:
وهي أن يقصد الشاعر فيه إلى الإغراب، واختيار الصفات المثلى إذا وصف أو مدح، لا يبالي في ذلك بالواقع، فإذا وصف فرسًا يجب أن يكون الفرس كريمًا، وإذا تغزَّل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه، الذي برح له الحبّ. وإذا مدح فعليه أن يذكر ما يدلُّ على شرف المقام إبداعًا وإغرابًا لا مراعاة لصدق ولصفات ممدوحه كما يراه1.
وعلى ذلك فنجد العلماء والنقاد يعنون بصحة المعنى، وألا يقع فيه خطأ تاريخي كقول زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
…
كأحمر عاد ثم تنتج فتتئم
أو خطأ على حساب العرف السائد ولذلك يعيب الآمدي على البحتري قوله:
نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع
…
تلاحقن في أعقاب وصف تصرما2
وذلك لآن الآمدي يرى أن الشوق يشقيه البكاء، ولا يزيد منه، أو مخالفة العرب المعنوي.
كقول أبي تمام:
إذا ما رحى دارتْ أدرتْ سماحة
…
رحى كل إنجاز على كل موعد
إذ جعل إنجاز الوعد بمثابة صحَّته بالرحى، وهو قضاء عليه، وذلك في العرف اللغوي لا يرون إلا خلاف2.
والإصابة في الوصف يذكر المعاني العامة، التي هي ألصق بمثال الموصوف من حيث هو مثال، فيتجنَّب المجهول والخاص من المعاني والصفات، فزهير مثلًا كأن مصيبًا، لا لأنه مدح عرم بن سنان بصفاته الخاصة، بل لأنه مدحه بالصفات العامة للرجل الكريم من حيث إنه مثال
كريم، ولذلك يروون من عمر رضي الله عنه أنه قال رضي الله عنه "كان لا يمدح الرجل إلا ما كان في الرجال 1.
والأمور الخاصة بتصوير المعاني الجزئية، منها المقارنة في التشبيه وأصدقه "ما لا ينتقض عند العكس".
كتشبيه الورد بالخد، والخد بالورد، وأحسنه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في ال صفات أكثر من انفرادهما، كي يبين وجه التشبيه بلا كلفة، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس2.
ثم مناسبة المستعار منه للمستعار له على حسب عرف اللغة في مجازها ولذلك عيب على أبي نواس قوله:
بح صوت المال معا
…
منه يشكو ويبوح
يريد أن المال يتظلم من إهانته وتمزيقه بالإعطاء لكرم صاحبه. والاستعارة قبيحة لأنه لا صلة بين المال والإنسان3.
خصائص النظم والتراكيب:
ويقصدون بذلك إلى الانتقال من كل جزء من أجزاء القصيدة التقليدية إلى الجزء الآخر على نحو جيد على حسب ما جرت به تقاليد القصيدة العربية منذ الجاهلية، على الرغم من أن هذه الأجزاء بما تشتمل عليه من وقوف على الأطلال، وذكر الديار والحبيب، والرحلة إلى المحب، ثم المدح، لا صلة في الواقع بينهما، ولا يمكن أن تتكون منها وحدة عضوية، إنما يريدون وصل هذه الأجزاء وكفى، على أن إجادة هذا الوصل، وهو ما يسمونه حسن التخلص من غرض إلى غرض في القصيدة هي ما عنى به المتأخرون دون الجاهلية والمخضرمين -إذا كانت العرب تقول عند فراغها من وصف الإبل وذكر القفار يقولون: دع ذا، أو عد من ذا1. ليأخذوا فيما يقصدون إليه من غرض القصيدة الأصلي، ولهذا لم يؤثر حديث نقاد العرب عن التحام الأجزاء في بنية القصيدة، بل اتخذوا القصيدة الجاهلية نموذجًا على ما بين أجزائها من تفاوت.
يتناقص مع ما نعرفه اليوم من معنى الوحدة.
وحول عمود الشعر وما تفرغ عنه من أمور النقد ثارت عند نقاد العرب كل مسائل الخصومة بين القدماء والمحدثين. إذ أن هؤلاء المحدثين قد انحرفوا قليلًا في صناعتهم عما يقتضيه عمود الشعر من أصول.
وقد اعترف نقاد العرب في أمر هذه الخصومة، فمنهم من تعصَّب للقديم لقدمه، وبخاصة الرواة واللغويون كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وكان أبو عمرو لا يحتج ببيت من الشعر الإسلامي وكان يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته 1.
ولا وزن لمثل هذه الأراء والقول الفصل في هذا ما قاله ابن قتيبة:
ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين العدل للفريقين، وأعطيت كلا حقَّه ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم1.
ولقد فطن نقاد العرب في موازنتهم بين الشعراء، وفي الخصومة بين المحدثين والقدماء إلى أثر البيئة الطبيعية والثقافية. وأرجعوا إليها
الاختلاف بين جزالة أدب البدو والأعراب، ورقة أهل الحضر، وسهولة ألفاظها ومعانيها، وبخاصة بعد الإسلام حين "اتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزحت البوادي إلى القرى، ونشأ التأدّب والتظرف فاختار الناس من الكلام ألينه وأسهله 2.
ونلاحظ أن أول من نبَّه إلى أثر البيئة في الشعر هو ابن سلام الجمحي في طبقاته، فقد علَّل لين الشعر عند عدي بن زيد، بأنه كان يسكن الحيرة ومراكز الريف وفي قلَّة الشعر في الطائف ومكة لقلة الحروب؛ لأن الشعر إنما يكثر بالحروب كحرب الأوس والخزرج. ولذا قلَّ الشعر بين قريش إذ لم يكن بينهم ثأرة ولم يحاربوا2.
ومبدأ تأثير البيئة في ذاته صحيح، ولكن ابن سلام لم يستطع أن يفيد منه كمبدأ من مبادئ النقد الأدبي، وأن يكن قد حاول به أن يعلل تعليلًا موضوعيًّا للظواهر الأدبية.
وبعد هذه الاتجاهات النظرية العامة علينا أن نفضّل القول في مختلف الاتجاهات في النقد العربي مع تقويمها تقويمًا حديثًا.
ويمكن تقسيمها إلى اتجاهين كبيرين:
ما يخصُّ وحدة العمل الأدبي من حيث أجناس الأدب من شعر ونثر، ثم من حيث ترتيب أجزاء القول والأهداف الإنسانية للأدب.
والاتجاه الكبير الآن الذي يتحدث النقاد فيه عن القيم الجمالية للوحدة البلاغية وأزمة التجديد فيها. ثم فيما سموه اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون.
الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد:
رأي النقاد القدامى في عمود الشعر:
1-
ابن قتيبة 1 226 هـ".
يرى أن نهج الشعر الجاهلي في القصيدة ومسلكه القديم من الوقوف على الديار واستبكاء الأصحاب ونعت الآثار، والتخلص من ذلك في حذق ولطف إلى الغرض الذي أنشأ الشاعر من أجله قصيدته. بعد أن امتلك الإصغاء. ومهد النفوس لما يعد هو مقبل عليهم. انتقل إلى غرضه وما بنى بسببه القول.
يعتبر ابن قتيبة هذا المسلك في منتهى الإجادة شعرًا وشاعرية وهو القائل: "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب. وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد ثم يقول ابن قتيبة:
"وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، فإن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير".
وأضاف ابن قتيبة في نهجه الوحدة الفنية في القصيدة. واقتران المعنى بين الأبيات، وأن تكون الأبيات الشعرية كلًّا واحدًا. وكأنما صبت في قالب واحد، فلا تباين بينها في الألفاظ أو المعاني واعتبر من التكلفة والصناعة في الشعر أن ترى البيت مقرونًا بغيره ومضمونًا إلى غير لفقه.
وليدلل على صحة قوله يورد قصة "عمر بن لجأ" الذي قال لأحد الشعراء أنا أشعر منك. قال: وبم فضلتني؟ فأجابه: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه.
وجعل ابن قتيبة ذلك هو مناط المفاضلة بين الشعراء.
2-
قدامة بن جعفر "328 هـ":1
يوجب تألف اللفظ والمعنى، وكذلك الوزن والقافية، ولكنه مع ذلك يخصص بالدرجة الأولى وحدة البيت، ويشترط أن يكون لكل بيت معنى تام مستقل.
وعقده أن الشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريد في بيت واحد، كأن ذلك أشعر من الذي أتى بذلك في بيتين كقول الشاعر:
إذا أنت لم تستبق أخا لا تلمه
…
على شعث أي الرجال المهذب
مع قول الآخر:
إذا أنت في كل الأمور معا
…
تبا صديقك لم تلق الذي لا تعانيه
فعش واحدًا أو صل أخاك
…
فإنه مقارف ذنبًا تراه ومجانبه
ومن العيب الواضح عند قدامة الناقد احتياج البيت إلى آخر ليتم معناه، فالمعنى يطول عن أن تحتمل العروض تمامه في بيت واحد فيقطعه الشاعر بالقافية ويتمَّه في البيت الذي يليه.
وقد سئل حماد الراوية:
بم تقدم النابغة؟
فأجابه باكتفائك بالبيت الواحد من شعره. لا بل بنصف بيت. لا: بل بربع بيت مثل قولي:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
وقوله كل نصف بيت يغنيك عن صاحبه.
وقوله: أي الرجال المهذب.
وقوله: وربع بيت يغنيك عن غيره.
3 -
"أبو هلال العسكري1 "395 هـ":
وأبو هلال يكتفي من المعنى أن يكون صوابًا. ويشترط جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهاءه وصحة السبك والتركيب. والخلو من إعوجاج النظم والتأليف إذ يقول:
"وليس الشأن في إيراد المعنى، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبادي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، من صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف".
"وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا. ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت.
وذهب أبو هلال إلى أن الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، وسلسًا سهلًا، ومعناه وسطًا دخل في جملة الشعر الجيد، وجرى في صفته مع النادر، واستشهد الناقد البلاغي على صحة مذهبه هذا بقول الشاعر:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهاري رحالنا
…
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
يقول العسكري: "وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى وهي رايقة معجبة".
4-
ابن طباطبا2 "332".
أما ابن طباطبا فذكر في كتابه عيار الشعر أن الشعر صناعة وأن الصناعة تقتضي الفصل بين اللفظ والمعنى مما قال في ذلك:
تألَّت الحكماء: "إن للكلام الواحد جسدًا وروحًا. فجسده النطق وروحه المعنى. فالواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة. بمعنى أن يتقنه لفظًا ويبدعه معنًى".
ثم يجرى ابن طباطبا الألفاظ والمعاني في لفق واحد فيقول:
"وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها، وتقبح في غيرها".
"فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنًا في بعض المعارض دون بعض".
وفضل القول فيما أسماه الأشعار المحكمة وأضدادها:
"والأشعار المحكمة عنده هي المحكمة الوصف، المستوفاة المعنى، السلسلة الألفاظ، الحسنة الديباجة، فهو يهتم باستيفاء المعاني. إلى جانب ثلاثة أمور تحكم الشعر في نظره وهي:
الوصف المحكم -اللفظ السلس- الديباجة الحسنة.
وثلاثتها تحتوي على عمود الشعر، ثم مثل ابن طباطبا لهذه الأمور الثلاثة يقول أبو ذؤيب الهذلي في هذه الأبيات:
من المنون وريها تتوجع
…
أوالدهر ليس بمعقب من يجزع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألغيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
المرزوقي1 "321 هـ":
على أننا لا ندري أحدًا فصل في عمود الشعر، ورتبه وشرح عليه، وهمشه وأفاض في ذلك. وقارب الغاية، وأضفى على النهاية، وأجاد مثل المرزوقي الناقد، يقول المرزوقي:
"الواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب. ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث".
ويتحدَّث المرزوقي عن عمود الشعر، مبينًا ليناته الفنية، التي يبنى منها فيقول: "إنهم كانوا يحاولون شرف فالمعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف. والمقاربة في التشبيه. والتحام أجزاء النظم والتثامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها عياره.
فعيار "1" المعنى أن يكون شريفًا صحيحًا مصيبًا، فإذا عرض على العقل الصحيح والقيم الثاقب واقتنع به كأن مقبولًا. وإلا نقص بمقدار ما فيه من باطل وخطأ. والعقل الصحيح يحكم على المعنى بعد أن يعرضه على واقع الحياة حينًا وعلى معارف العلم حينًا آخر. ومن ذلك:
ذهب جرير يمدح عبد الملك بن مروان فأنشأ يقول:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح
…
عشية هم صحبك بالرواح
فحينما سمع منه الخليفة الشطر الأول من البيت تطير منه ولامه بقوله:
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
فجعل الخليفة يهتز طربًا ويقول: نحن كذلك. ردَّها على. فأعادها عليه والخليفة يزداد زهوًا ويقول: من مدحنًا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت. ولقد استجاد الخليفة بيت الشاعر وجعله نموذجًا للمديح، ولم يكن طربه للفظ أو للنظم فالقصيدة على نمط واحد منهما، ولكن الذي شدا به وآثر هو معنى البيت، فقد يكون الركوب للحرب والنزال أو للصيد والطرد، أو للسبق والمباراة. أو للهلك والحكم، أو لغير ذلك مما يجري على هذا النمط، ومن أجل هذه المعاني جميعًا انتخب البيت، وطرق كوامن الفخار والعزة في نفس الخليفة1.
ب- وعيار اللفظ الذوق المرهف الذي هذبته الرواية، وصقلته الثقافة وكان جزلًا مشاكلًا للمعنى المراد منه.
عندما أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدته. التي يهنئه فيها بالانتصار على الروم في موقعة الحدث2 وانتهى إلى قوله فيها:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم
قالوا: عاب سيف الدولة البيتين بأن شطريهما لا يلتئمن وكان حقهما عنده:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
وحجة سيف الدولة أن طريقته هذه والموت لا شك فيه مع الإشراق والابتسام أدلّ على تناهي الشجاعة وبلوغ الجرأة الغاية، فالألفاظ لم تقع مواقعها في نظر سيف الدولة ودافع المتنبي عن وجهة نظره.
بأنه لم ذكر الموت في أول البيتين أتبعه بذكر الردى ليجانسه. ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا. وعينه من أن تكون باكية. اتبعه بذكر وجه الممدوح الوضاح الباسم، وذلك ليوجد أساسًا للمقابلة بين الشطرين.
ج وعيار الإصابة في الوصف ما أوتيه الأديب من ذكاء وحسن تمييز، وبها يدرك ما هو أشد لصوقًا بالشيء فيكون من صفاته الأساسية، ولذلك عدوا من نوادر الشعر هذا البيت:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه
…
فطيب تراب للقبر دل على القبر
وكذلك البيت الذي وصفه المفضل: بأن أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء
د وعيار المقاربة في التشبيه هو التفطن لما بين الأشياء من صلات، وحسن تقدير هذه الصلات، حتى يوقع التشبيه بين أبرزها وأشدها وضوحًا. ومنه: سمع جرير عدي بن الرقاع وهو ينشد عبد الملك بن مروان قصيدته:
عرف الديار توهمًا فاعتداها
…
من بعد ما شمل البلى بلادها
فلما قال:
تترجى أغن كأن إبرة روقة
قال جرير: إنني رحمته من هذا
التشبيه. وقلت بأي شيء يشبه يا ترى؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها. فقد رحمته من نفسي.
هـ وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن عن الطبع واللسان، فما لم يستثقله الذوق من الأبنية، ولم ينحبس اللسان في النطق به يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة، لأن أجزاءه سليمة متقاربة. ولقد كان النقاد دائمًا يسألون أنفسهم هنا السؤال: أي بيت تقوله العرب أشعر1.
وكانوا يجيبون على هذا السؤال في كل عصر وزمان. ومن ذلك ما رواه ابن عبد ربه. "قال عمرو بن العلاء: هو البيت الذي إذا سمعه سامع سولت له نفسه أن يقول مثله. ولأن يخدش أنفه يظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله.
وقال الأصمعي: هو البيت الذي يسابق لفظه معناه.
وقال زهير:
وإن أحسن بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
"و" وعيار الاستعارة كعيار التشبيه السابق وحسن الشبه. ربما أنها مبنية على التشبيه ينبغي أن يكون التشبيه في الأصل قريبًا حتى يتناسب الشبه والمشبه به ومن ذلك قول الطائي:
وكيف احتمالي للسحاب صنيعة
…
باسقائها قبرًا وفي جوفه البحر
"ز" وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية هو الدرية الطويلة والمدارسة الدائمة، فإذا حكم بأن اللفظ يؤدي المعنى تمام الأداء. ليس فيه جفوة ولا زيادة ولا قصور، وكان اللفظ مقصورًا على مقادير المعاني، فهو البريء من العيب، وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر. يتم بها المعنى، ويستوفي بها كماله، وإلا كانت قلقة في مقرها.
عمود الشعر عند الآمدي:
وفي كتاب1 الموازنة بين أبي تمام والبحتري نجد أبا القاسم للحسين بن بشر الآمدي ينحاز إلى جانب اللفظ كثيرًا، وذلك عندما يقف بين اللفظ والمعنى أو يطبق نظرية في عمود الشعر على الشاعرين السالفين.
وتراه ينوّه بشعر البحتري ويشيد به فيقول:
ودقيق المعاني موجود في كل أمة. وكل لغة. وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه. المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة. وغير منافرة لمعناه. فإن الكلام لا يكتسى البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري.
قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر. لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى. وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهزر الزائد، على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانًا يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري:
والشعر لمح تكفي إشارته
…
وليس بالهذر طولت خطبه
وقال أيضًا:
ومعانٍ لو فصلتها القوافي
…
هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارًا
…
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركن اللفظ الغريب فأدركه
…
به غاية المرام البعيد
فإن اتفق -مع هذا- معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن. فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه. واستغنى عما سواه".
ثم يطبق الآمدي الناقد نظرية عمود الشعر على الشاعر الآخر أبي تمام، فيذري بطبقته لاعتنائه بالمعنى والمحسنات اللفظية كثيرًا، ويضع منه فيقول:
"قالوا: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يعتمد دقيق المعاني من ناصفة اليونان، أو حكمة الهند، أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورد منها بألفاظ متعسّفة، ونسج مضطرب. وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليمه قلنا.
قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سميناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا. ولا ندعوك بليغًا؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب. ولا على مذهبهم. فإن سميناك بذلك "حكيمًا أو فيلسوفًا" ثم نلحقك بدرجة البلغاء، ولا المحسنين الفصحاء. وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورداءه اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق، ويفسده ويعميه، حتى يحتاج مستمعه إلى طول التأمل، وهذا مذهب أبي تمام في عظم شعره.
وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري. ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام.
ونحن نسلم للآمدي بأنه من أتى من الشعراء بالمعنى الدقيق في لفظ رديء، مع سوء في التأليف فقد ذهب بطلاوة المعنى، وأفسدها وعماها، وأحوج المتذوق إلى طول التأمل، وتحير الفهم، وهذا يبعد عن الفطرة والبلاغة العربية.
ولكننا لم نسلم له أن يوازن بين الشاعرين في عمودية الشعر، ومدى التزام شاعرية كلا منهما به، معرفًا مذهب كليهما في الشعر، وهو ينظر إليهما بنظرة الأعور للأشياء المحسوسة.
فهو يركز على اختيار الشاعر لألفاظه ورصفه لحروفه وانتقائه في بنائه. وهذا الاختيار والرصف والانتقاء ووضع الألفاظ مواضعها على اللسان المطبوع في قول الشعر. والذوق المرهف المصقول والملكة الشاعرية. ثم بعد الألفاظ عن التكلف والتصنع والتعقيد. ثم وفائها بالمعاني. فذلك الشاعر عند الأمدي. والآخذ بعمود الشعر، وذلك أيضًا مذهب البحتري.
أما المعاني وهي التي أغرم بها أبو تمام في مذهبه. والدقيق منها بخاصة كما يقول الآمدي فموجودة في كل أمة وكل لغة.
ولأجل اختيار الألفاظ ووفائها بمعانيها بعيدة عن التكلف والتعقيد في سلاسة وسهولة، انفردت اللغة العربية من بين سائر اللغات بالبيان المعجز.
وصاحب المعاني الدقيقة البعيدة الغور. والتي تحتاج إلى طول تأمل وأعمال فكر وكد ذهن. هو في نظر الآمدي حكيم أو فيلسوف. ولا يليق أن ندعوه شاعرًا أو بليغًا.
والحقيقة أن لكل شاعر منحاه الذي ينهج، فهذا شاعر فيلسوف مثل المعري وذلك شاعر حكيم كالمتنبي، وشاعر ثالث ولُوع بالغوص على المعاني كأبي تمام، ولكل شاعر أن يبتعد عن عمود الشعر أو يمتلكه، ولكل نغمه وشدوه، ورخيم صداه وعذوبة لحنه، ولكن ليست الحقيقة أن يوصف الشاعر بالعندليب الصداح وآخر يذكر بالبوم النعاب.
الفصل الرابع: عمود الشعر بين الالتزام والتحرر:
بين القدماء والمعاصرين:
ويتقدم الزمن مع كل جديد. ويجيء الشعراء المحدثون من ذوي الثقافات الجديدة كأبي تمام وابن الرومي وغيرهما. ويخرج شعرهم على عمود الشعر خروجًا واضحًا، ويختلف فيهم النقاد اختلافًا ظاهرًا. كما ترى في أحكام كثيرة على أبي تمام بالخروج على عمود الشعر، وكذلك ابن الرومي الذي قال فيه ابن رشيق:
أولى الناس باسم شاعر. لكثرة اختراعه وحسن افتنائه".
ومع ذلك: أهمله أبو الفرج، وذمَّه القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة، بينما أعجب به النقاد المعاصرين أمثال طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم. وسلفًا تعصَّب لعمود الشعر في القرن الثاني الهجري فريق من النقاد وأهملوا شعر المحدثين من الشعراء لخروجهم على عمود الشعر 1.
وينقسم النقاد القدامى إلى قسمين ولكل رأيه ووجهة نظره:
1-
فأبو عمرو بن العلاء "154 هـ" رأس مدرسة المحافظة كان شديد التعصب على المحدثين لخروجهم على عمود الشعر، وهو صاحب الكلمة المأثورة عن تعصّبه، وذلك عندما سُئل عن شعر المولدين فقال:
"ما كان من حسن فقد سبقوا إليه. وما كان من قبيح فهو من عندهم".
ويتحدث عنه الأصمعي فيقول:
"جلست إليه عشر سنين فما سمعته يحتج ببيت إسلامي فضلًا عن أن يحتج، بشعر المحدثين، وهو القائل: "لو أدرك الأخطل يومًا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدًا".
فأبو عمرو كان شديد التعصب للشعر الجاهلي، ولا يعدّ الشعر إلا ما كان للمتقدمين ويتابع أبا عمرو بن العلاء في الإزراء لشعر المحدثين، ويشيد بشعر القدماء ابن الأعرابي، الذي كان يقول في شعر أبي تمام، "إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل".
وكذلك: أبو عبيدة الذي يرى أن أشعر الناس امرؤ القيس والنابغة وزهير. وأشعر الإسلاميين جرير والفرزدق والأخطل. كما كان الخليفة المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول:
وأيضًا إسحاق بن إبراهيم الموصلي. الذي كان شديد العصبية لشعر الأوائل وينصرهم دائمًا على المحدثين، فطعن على أبي نواس وعلى أبي العتاهية وعلى أبي تمام ولكن لا يعتدّ ببشار.
كما كان زعيم مدرسة تعظم الإقدام على الغناء بالقديم. وتنكر تغييره بالحديث ولنضرب لذلك التعصب مثلًا:
أنشد إسحق الموصلي يومًا الأصمعي هذين البيتين:
هل إلى نظرة إليك سبيل
…
فيروي الصدى ويشفي العليل
أن ما قل منك يكثر عندي
…
وكثيرًا مما تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ قال لبعض الأعراب.
فقال: والله هذا هو الديباج الخسرواني. قال إنهما لليلتهما؟؟
فقال: لا جرم والله إن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما.
والسؤال: لم كان هذا التعصب من القدماء على المحدثين من الشعراء؟ ولعلَّه في اعتذار الباقلاني عن تعصب هؤلاء حيث قال:
إن هذا لميلهم وحبهم للشعر الذي يجمع الغريب والمعاني.
وفي اعتذار ابن رشيق الذي قال2:
لحاجتهم إلى الشاهد وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون.
ذلك مما يجيب عن سؤال السائل. ويطمئن من النفس بعضًا من تساؤلها وإن كان لا يشفي، وهنا ابن رشيق يعود ثانية ليقول:
"إنما مثل القدامى والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه
وأتقنه ثم أتى الآخر فنقشه وزينه فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".
وهذا مثال إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على مقدرة الشعراء القدامى على المحدثين.
2-
والقسم الثاني هو مدرسة الإنصاف بين القديم والحديث. والمحدث وعلى رأسها الناقد خلف الأحمر فارس حلبة النقد، وكان يفاضل بين النماذج المحدثة على الشعر الجاهلي، وهو الذي فضل لامية مروان على لامية الأعشى، وكذلك من النقاد الذين يتابعونه ويسيرون خلف لوائه: الجاحظ وابن قتيبة الذي قرَّر في مقدمة كتابه: مبدأ الإنصاف:
"ولم أنظر إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه. ولا إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره.
بل نظرت بعين العدل على الفريقين. وأعطيت كلًّا حظه ووفرت عليه حقَّه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف قائله. ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم".
ولقد كان الجاحظ ينكر غلوَّ المتعصبين على المحدثين. ومن أمثاله. المبرد وابن المعتز وابن قتيبة وغيرهم.
وظهر الشعراء المحدثون والمولدون إبان العصر العباسي يأخذون في التجديد في الشعر. ذلك لنشأتهم في هذا العصر وحضارته. والنهل من ثقافته ومن ذلك الامتزاج القوي، الذي حدث بين العرب والأمم الأجنبية في كل شيء، من فكر وحضارة وثقافة وغير ذلك: تجدهم زادوا في معاني المتقدمين من الشعراء، واهتدوا إلى معانٍ جديدة. وأتوا بأخيلة وتشبيهات مبتكرة. وكتبوا في أغراض غير الأغراض القديمة فوق ما صنعوه من تسهيل الأساليب والوزن الشعري، فصبغة الثقافات الجديدة من يونانية وفارسية لعقلية المولدين كانت لها آثارها عليهم
في التفكير والمعاني والتقسيم وطرافة الخيال. وخرجوا في أحيان كثيرة عن عاطفة الشاعر إلى عقل المفكر وحكمة الحكيم، فاشتهر صالح بن عبد القدوس وأبو العتاهية ومحمود الوراق في فن الحكمة والمثل.
وكان العتابي يذهب شعره في البديع الذي تكلفه مسلم من المولدين وتبعه أبو تمام. وكانت موجة البديع وتكلفه خروجًا على عمود الشعر في رأي الأكثرية الغالبة من النقاد.
وجاء العصر الحديث وقد نظر الشعراء المعاصرون إلى عمودية الشعر نظرة خاصة، وانصرفوا عن الأوزان القديمة والمولدة جملة. وأقبلوا على الشعر الحر والمرسل والمنثور وغيرها من ضروب التجديد. في القصيدة الشعرية، فيمعنون كل الإمعان في الخروج على عمودية الشعر، وعلى رأسهم رائد مدرسة أبولو الشعرية "دكتور أحمد زكي أبو شادي"1.
وكذلك مدرسة الديوان وجميع الثائرين على القصيدة العمودية، ومن وجهة نظرهم. أنهم يرون أن الخروج على الوزن التقليدي يجر الشاعر إلى استخدام أسلوب وإيقاع "وتكنيكات" تضرب جذورها في اعماق عقله الباطن وتملي عليه الإيقاع والأسلوب والإعجام، فتغلبه على إبداعه وعلى شخصيته، وتجعله غير قادر على التعبير في كل الموضوعات والحالات الشعرية.
ويحسن بنا أن نسأل:
هل ما يزعمه الدكتور أبو شادي على لسان أصحابه الثائرين على القصيدة العمودية صحيحًا أو مجردًا من قيود الفن؟
أو ضريبة الإبداع؟ وثمن الخلود؟
وقد أعجبني ردّ الدكتور خفاجي على هذه التساؤلات فيقول: 1 ونحن لا نتابع مذهب الذين يرمون الصياغة الكلاسيكية بأنها تغلب الشاعر على إبداعه وشخصيته، ففي رأينا أنها لا تقف حائلًا بينه وبين الإبداع وإظهار شخصيته المستقلة، وحريته الفنية الواسعة، إن الشاعر الموهوب لا تعوقه أبدًا قيود الوزن والقافية".
وقد يتسنى لنا أن نقول:
إن النظم أحسن من النثر الذي هو من جنسه، ومع هذا فالنظم قيد على الشعر ولكنه قيد ضروري لا بد منه.
والذين يتداعون إلى الشعر الحر، ويهتفون بحياة الشعر المرسل والمنشور تحت ستار دعوى الحرية والانطلاق في تصوير مشاعرهم وانفعالاتهم وأخيلتهم وأفكارهم وأحاسيسهم زاعمين أن هذه الحرية، وذلك هو الانطلاق يتيح لهم الصور الجميلة والألفاظ العذبة الرقيقة والجرس السلس المنغم.
وإن هذا النظم قيد حديدي. والقافية وثاق يحدّ من انطلاق هؤلاء، وقد يكون من الضروري أن نذكرهم بشعراء خلدهم التاريخ أمثال زهير والنابغة وأبي العلاء والمتنبي والبحتري والبارودي وشوقي وغيرهم. لم يربطهم قيد الأوزان العروضية على العي والتبلد. ولم تكبح القافية انطلاقاتهم الوجدانية، ولم تغل مشاعرهم أو تخبو أفكارهم على صخرة القوانين الإيقاعية، ولم تقف أبحر الخليل بن أحمد حجر عثرة في طريقهم. وإنما كانت في ركابهم ومقياسًا على براعتهم.
والحقيقة أن دعوى الشعر الحر هي دعوة للخمود والتبلد والضعف والعجز، ومناصرة للعي واللحن وهي أيقاظ للعامية والابتذال.
لأن الحقل اللغوي للشعر الحر جدب وقحط، لا تنوع فيه بين الألفاظ ولا بين الأساليب يكتفي فيه الشاعر المتحرّر بما انتهى إليه من ألفاظ وتراكيب في مرحلة زمنية محددة لا يثريها ولا ينميها، ولا يسمو ذوقه الأدبي فيها.
ويكون هذا المستنقع الشعري الراكد مباءة لألفاظ السوقة، وكلمات العامة، وآفات اللغة، وقوارض الإيقاع، واضطراب الوزن، ومنحيات الموسيقى ومطباتها.
وفصل القول في عيوب الشعر الحر أنها تدفع بأصحابها إلى بداية المنزلق، الذي يتدحرجون فيه إلى قبر اللغات، فيخبو نورها، ويذهب سحرها، وينطفئ ضوءها وتتخاوص حيويتها، وأنَّى لهم ذلك فلغة القرآن قد هيأ الله تعالى من يدافع عنها قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
بين الالتزام وهدمه
لكي يكون الشاعر شاعرًا يجب أن يكون قبل كل شيء ذا موهبة فطرية. ثم يكون ذا ذكاء يميزه وحسن تقدير وذوق مرهف يدرك ما في الأوزان من قبح وجمال، وأن يكون عنده ثقافة أدبية واسعة تعتمد على الدربة والدراية، وطول الممارسة والمران للنصوص الأدبية ودواوين الشعراء في كل عصر.
عمود الشعر يتطلب منه معنى صحيحًا وشريفًا ويلبس لفظًا مصيبًا ومختارًا جزلًا منتقى ومشاكلًا للمعنى الذي في النفس، ومطابقًا للأسلوب متفردًا متميزًا. متلائمًا مع نسج التركيب، وموسيقى الوزن ومطابقة الخيال، وقرابة التشبيه. وموافقة الغرض والمقصد، فيكون الشاعر مطبوعًا في كل ذلك. وليس متكلفًا ولا متصنعًا في شيء من ذلك.
فإذا أقام عمود الشعر كان شاعرًا مبرزًا، وإلا فبقدر ما تتضح به قريحته وينزع به دلوه من الشعر.
أما هؤلاء الذين يغوصون على المعاني وبهم نهم إلى سبرها لتخرج على أي معرض التقطت به، ولا يعينهم الأسلوب أو النسج بقدر عنايتهم للمعنى وتهالكهم عليه. فذلك النائون عن عمود الشعر ولهذا اتهم النقاد أبا تمام بالخروج عن عمود الشعر لكلفه بالمحسنات اللفظية. جُلّ هؤلاء يبعتون بأمر الجناس والمطابقة وفنون البديع أكثر من وضوح المعنى وسهولة اللفظ وسلامة الأسلوب. وهم لا يبالون أن يغمض المعنى ويعمى إذا سلم لهم فنم ن فنون المحسنات البديعية.
أولئك البعيدون عن نهج القدماء وعمود الشعر. ومن أجل ذلك أولعوا بالمطابقة والجناس، بينما وصفوا تلميذه البحتري بأنه ملتزم لعمود الشعر لسهولة شعره. وانتقاء لفظه ووضوح معناه وإحكام نسجه، وتوسمه خطى سلفه.
التزام أبي تمام والبحتري:
قد يكون من الإنصاف أن نقدّم نصين للشاعرين أبي تمام والبحتري تحت باب المواجهة بينهما. وكأنهما في ميدان الشعر فرسا رهان.... ننظر أيهما أطول بابًا. وأعلى كعبًا. ونلمس فيها مدى قدرة كل منهما.
الشاعرية على جمال الوصف وأحكام النضج، وسلامة الأسلوب، وانتقاء الألفاظ، ولقد قالا الاثنان في وصف الربيع:
نزلت مقدمة المصيف حميده
…
وبين الشتاء جديدة لا تفكر
مطر يذوب الصحو منه وبعده
…
صحو يكاد من النضارة يمطر
غيثان: فالأنواء غيث ظاهر
…
لكل وجهه والصحو غيث مضمر
يا صاحبي تقصيا نظريكما
…
تريا وجوه الروض كيف تصور
وقال البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
…
أوائل وردكن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه
…
بيت حديثًا كان قبل مكتما
ثمن شجر ردّ الربيع رداءه
…
عليه كما ذكرت وشيًا منمنما
ورق نعيم الروح حتى حسبته
…
يجيء بأنفاس الأحبة نعما
ولا يخفى على القارئ النصان فيرى ولوع أبي تمام وتكلفه بالمحسنات اللفظية وفن البديع، وولوعه بالطباق والجناس والمقابلة. وانظر: غيثان فالأنواء غيث ظاهر لك والصحو غيث مضمر، كما لا يخفى جمال التعبير وسهولة الألفاظ وقدرة التصوير عند البحتري. وانظر قوله أتاك الربيع الطلق البيت، وهكذا فاق البحتري سلفه وأستاذه.
الباب الثالث: عمود الشعر والموازنات الأدبية
الفصل الأول: رأي الآمدي في سرقات أبي تمام والبحتري
…
الباب الثالث: عمود الشعر والموازنات الأدبية:
الفصل الأول: الآمدي في سرقات الشاعرين:
أوردنا في الفصل السابق موجزًا من سرقات الشاعرين في نظر الآمدي الناقد. ولنا أن نسأل صاحب الموازنة.
أليست القاعدة في نقد السرقات الأدبية أن الشاعر إذا سرق معنى من آخر فأدَّاه بأبلغ من المسروق منه انفرد الأخير بالفضل. ولم يكن ذلك عيبًا عليه. وكان صاحب الزيادة مثله في الفضل إن لم يكن أفضل منه.
وإذا سلم لنا الآمدي بتلك وهو الواجب عليه. لأنها قاعدة في ذلك الفن. فأي شرف احتجز أبو تمام به وأقام الدليل عليه فيما أوردناه؟ أهو البيت الذي وصفه الآمدي نفسه بأنه أحسن ابتداءات أبو تمام؟
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
البيت
لم هو بيت الرثاء: توفيت الآمال بعد محمد
…
البيت؟
أم هو البيت والذي وصفه المدعى بالسرقة لأنه الأحسن وأن الشاعرقد جاء فيه بالزيادة، قد ينعم الله بالبلوى وأن عظمت؟ البيت أم هو الآخر الذي أحسن الطائي في لفظه وأجاد في معناه:
باعتراف الآمدي وفيه يقول الشاعر:
نعود بسط الكف حتى لو أنه
…
دعاه لقبض لم تجبه أنامله
ألم هو البيت الذي لا يجحد فضله إلا مكابر؟ وفيه يقول الطائي:
لا تنكري عطل الكريم من الغني
…
فالسيل حرب للمكان العالي
قد يتوجب الاتصاف علينا أن نقول: إن الآمدي ينظر إلى الشاعرين في مساوتهما ومزاياهما معًا بعين تختلف، وهو بعد ذلك يقول:
"وأذكر طرفًا من سرقات أبي تمام -وإحالاته - وغلطه - وساقط شعره" فإذا ما التفت إلى البحتري هشّ له وقال:
- أما مساوئ البحتري - من غير السرقات فقد دققت واجتهدت أن أظفر له بشيء يكون بإزاء ما أخرجته من مساوئ أبي تمام في سائر الأنواع التي ذكرتها فلم أجد في شعره، لشدة تحرزه وجودة طبعه.
وتهذيب ألفاظه - من ذلك ما أرى إلا أبياتًا يسيرة".
فإذا ما استعرضنا ما أوردناه من سرقات البحتري هذا. وجدنا تعريف السرقة للشاعر. يكاد ينطبق عليه تمامًا وانظر معي:
1-
قال أبو تمام:
وإذا أراد نثر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
قال البحتري:
ولن تسبين الدهر موضع نعمة
…
إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
2-
قال أبو تمام:
فكاد بأن يرى للمشرق شرقًا
…
وكاد بأن يرى للغرب غربًا
قال البحتري:
فأكون طورًا مشرقًا للمشرق الأقصى
…
وطورًا مغربًا للمغرب
3-
قال أبو تمام:
وكيف احتمالي للسحاب صيغة
…
بإسقائها قبرًا وفي جوفي البحر
قال البحتري:
ملآن من كرم فليس يضرُّه
…
مرُّ السحاب عليه وهو جهام
4-
قال أبو تمام:
وما خبر برق لاح في غير وقته
…
وواد نجد ملآن قبل أوانه
قال البحتري:
وأعلم بأن الغيب ليس بنافع
…
للناس ما لم يأت في إبانه
وهكذا نجد أن البحتري سرق أبا تمام لفظًا ومعنًى. ثم قصر عنه أسلوبًا وتصويرًا. وكان هو المفضول ولكن الآمدي يرى غير ذلك. ولقد كشف عن هذا التحامل الدكتور خفاجى لائمًا الآمدي بقوله1: "فالآمدي رضي الله عنه لا يترك مؤاخذة أبي تمام على سرقاته في المعاني العابية.
كما فصل مع البحتري. مع أبا تمام في كثير مما أخذ يستبد بشرف المعنى لجودة نظمه، وحسن تأتيه، وارتفاعه بالزيادة على ما أخذه والتأنق في صوغه".
الموازنة بين الشاعرين عند الآمدي:
ينتهي الآمدي في كتابه الموازنة إلى فصل أخير هو الموازنة بين الشاعرين فيقول1: وقد انتهيت الآن إلى الموازنة به وكان الأحسن أن أوزان بين البيتين أو القطعتين إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية. ولكن هذا لا يكاد يتفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد وهي للمرمى والغرض".
ثم يقول: وأنا ابتدئ بإذن الله من ذلك بما افتتحا به القول من ذكر الوقوف على الديار وللآثار ووصف الأمن والأطلال إلى أن يقول: ونحو هذا مما يتصل به من أوصافها ونعوتها وأقدم من ذلك ابتداءات قصائدهم في هذه المعاني إن شاء الله".
1-
الابتاءات بذكر الوقوف على الديار:
قال أبو تمام:
ما في وقوفك ساعة من بأس
…
تقضي حقوق الأربع الأدراس
قال الأمدي "وهذا ابتداء جيد صالح وقوله الأدراس جمع دارس وقليل ما يجمع فاعل على أفعال.
قال البحتري:
ما على من وقوف الوكاب
…
في مغاني الصبا ورسم القصابي
وقال أيضًا:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا
…
مقصرًا عن ملامة أو مطيلا
فقال الآمدي: وهذان ابتداءان في غاية الجودة
2-
التسليم على الديار:
قال أبو تمام:
سلم على الربع من سلمى بذي سلم
…
عليه وسم من الأيام والقدم
قال الآمدي: وهذا ابتداء وليس بالجيد، لأنه جاء بالتجنيس في ثلاثة ألفاظ وإنما يحسن إذا كان بلفظتين:
وقال البحتري:
هذي المعاهد من سعاد فلم
…
أسأل وإن وجمت ولم تتكلم
قال الآمدي: وهذا ابتداء جيد.
3-
البكاء على الديار:
قال أبو تمام:
قرى دارهم من الدموع السوافك
…
وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالك
قال الآمدي: وهذا ابتداء جيد.
وقال البحتري:
أبكاء في الدار بعد الدار
…
وسلوا عن زينب بنوار
قال الآمدي: وهذا من البحتري وصف في البكاء على الديار حسن. ومعان فيه مختلف عجيبة، كلها جيد نادر، وأبو تمام لزم طريقة واحدة لم يتجاوزها والبحتري في هذا الباب أشعر.
وانتهى الحكم وهو أن البحتري أشعر من أبي تمام في باب افتتاح القصائد ولقد قسم الآمدي هذا الباب إلى فصول وهي:
1-
الوقوف على الديار.
2-
التسليم على الديار.
3 تعفية الديار.
4-
إقواء الديار.
5-
تعفية الرياح للديار.
6-
البكاء على الديار.
7-
سوائل الديار.
8 ما يخلفه الظاعنون في الديار.
9-
فيما تهيجه الديار.
10-
الدعاء للديار بالسقيا.
11-
أوصاف الديار:
وهكذا يستمر الآمدي في موازنته بين الشاعرين على هذا النحو، ولا يتزيد عقب كل بيت منهما إلا بقوله: وهذا ابتداء جيد، أو حسن أو صالح أو غاية في البراعة أو رديء وما شبه ذلك. ونسأل الناقد. هل الموازنة بين البيتين من الشعر هي كل ما فيها أن يكتب الناقد هذه الكلمة أو تلك عقب البيت: جيد أو رديء؟
ثم إن الكاتب تحت عنوان "الموازنة. وليس فيه بابًا إلا هذا فقط وازن فيه الناقد على قدر باعه بين الشاعرين في افتتاح القصائد. والباقي في سرقات أبي تمام وأغلاطه وإحالاته. ومرذول شعره، وساقط كلامه وهكذا، ولكن الدكتور خفاجي يعتذر عنه في ذلك ويقول1: لقد جاء على ذلك تكرار الآراء عند المؤلف ونقده في غضون الصفحات المتباعدة وهو ما عليه أغلب التأليف العربية، فلا داعي للوم الآمدي وحده والنسخ التي بين أيدينا من كتاب الموازنة، والتي طبعت في مصر ناقصة، فليس فيها من الموازنة بين الشاعرين إلا الموازنة في معنى واحد من معنيهما. وهو بكاء الديار وما يتبعه".
وقولنا: ربما كان العذر للآمدي إذا صح القول بأن النسخة ناقصة وقد يكون في الناقص موازنة بين الشاعرين في اتجاهات أخرى الأسلوب، والابتكار والمعاني، والألفاظ والتشبيه وإصابة الأمثال وغير ذلك من احتذاء القدماء في نهج عمود الشعر، وتناول القصيدة العربية، ولذلك قال الدكتور خفاجي في كتابه أصول النقد1.
"ونقد الآمدي لشعر الطائيين ليس نقدًا للروح الشعرية. بما فيها من جوانب "شتى ومن مظاهر متنوعة، وآراء ذهب إليها الشاعر، وشخصية فرضت نفسها على إنتاجه، وحياة تلون هذا الإنتاج بلونها".
قال الآمدي بعد أن أتم محاجة خصمي أبي تمام والبحتري في نحو ست وأربعين صفحة اختتمها على هواه وكما أراد، ووقف بين الشاعرين موقف القاضي العابس، والباش، وموقف المحامي للبحتري والحاجب أيضًا يقول:
وأنا ابتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين لأختم بذكر محاسنهما وأذكر طرفًا من سرقات أبي تمام وإحالاته وغلطه وساقط شعره. ومساوئ البحتري في آخذه من معاني أبي تمام. إلى أن يقول: وأنا أذكر ما وقع في كتب الناس من سرقاته، "يعني أبا تمام" وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله".
وهذا بعض بعضها$$ مما عدد الأمدي على أبي تمام من السرقات1:
1-
قال الكميت الأكبر:
ولا تكثروا فيه اللجاج فإنه
…
فما السيف ما قال ابن دارة أجمعا
أخذه الطائي فقال:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
وقال الآمدي في ذلك: وهو أحسن ابتداءات أبي تمام.
2-
قال أبو تمام:
أما الهجاء فدق عرضك دونه
…
والمدح فيك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طابق عرضك
…
إنه عرض عززت به وأنت ذليل
أخذه من قول هشام المعروف بالحلو يهجو بشارا:
بذلة والديك كسبت عزا
…
وباللؤم اجترأت على الجواب
3-
وقال مسلم بن الوليد:
يصيب منك من الآمال طالبها
…
حلمًا وعلمًا ومعروفًا وإسلاما
أخذه أبو تمام فقال وبرز عليه. وإن كان بيت مسلم أجمع للمعنى:
ترمي بأشباحنا إلى ملك
…
تأخذ من ماله ومن أدبه
4-
وقال مسلم بن الوليد يرثي:
سلكت بك الحرب السبيل إلى العلا
…
حتى إذا سبق الردى بك دارو
نفضت بك الآمال إخلاص المنى
…
واسترجعت نزاعها الأمصار
أخذه أبو تمام فقال:
توفيت الآمال بعد محمد
…
فأصبح مشغولًا من السفر السفر
5-
وقال مسلم بن الوليد وهو معنى سبق إليه:
لا يستطيع يزيد من طبيعته
…
عن المروءة والمعروف إحجاما
أخذه الطائي "أبو تمام" المعنى فكشف وأحسن اللفظ وأجاد فقال:
تعود بسط الكف حتى لو أنه
…
معاها لقبض لم تجبه أنامله
6-
قال أبو العتاهية:
كم نعمة لا يستقل بشكرها
…
لله في على المكاره كامنه
أخذه الطائي فقال وأحسن. لأنه جاء بالزيادة التي هي عكس الشيء الأول:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
…
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
5-
وقال حسان بن ثابت الانصاري رضي الله عنه:
والمال يغشي رجالًا لا طباع لهم
…
كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
أخذه الطائي فقال:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
…
فالسيل حرب للمكان العالي
ثم يورد الآمدي فصلًا آخر يعقده لسرقات البحتري من أبي تمام يقرر في بدايته 1.
"أن أقبح مساوئ الرجل أن يقصد ديوان واحد من الشعراء فيأخذ من معانيه كما فعل البحتري مع أبي تمام، ولو كان فقط عشرة أبيات فكيف والذي أخذه منه يزيد على مائة بيت؟ "
وأما غير السرقات من المساوئ عند البحتري، فقد اجتهد الآمدي أن يظفر له بشيء منها مثل أبي تمام فأعيته الحيلة وعبثًا وجد.
وذلك لشدة تحرز البحتري في شعره وجودة طبعه، وتهذيب ألفاظه التهم إلا أبيات لا تذكر، وهذه السرقات للبحتري من الآمدي:
وبعض مما استقصاء أبو الضياء بشر بن تميم. ذلك الرجل الذي بالغ في استقصاء سرقات البحتري، حتى يتجاوز في نظر الآمدي ما ليس بمسروق فعدده وأحصاه عليه.
وإليك بعض من سرقات البحتري لمعاني أبي تمام خاصة:
1-
قال أبو تمام:
وكيف احتمالي للسخاب صنيعه
…
بأسقائها قبرا وفي جوفه البحر
وقال البحتري:
ملآن من كرم فليس يضره
…
مر السحاب عليه وهو جهام
قال أبو تمام:
وإذا أرد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
وقال البحتري:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة
…
إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
2-
قال أبو تمام:
رأيت رجائي فيك وحدك همة
…
ولكنه في سائر الناس مطمع
وقال البحتري:
ثني أملى فاحتازه عن معاشر
…
يبيتون والآمال فيهم مطامع
3-
قال أبو تمام:
فكاد بأن يرى للشرق شرقًا
…
وكاد بأن يرى للغرب غربًا
وقال البحتري:
فأكون طورًا مشرق للمشرق الأقصى
…
وطورًا للمغرب
4-
قال أبو تمام:
وما خير برق لاح في غير وقته
…
وواد نجد ملآن قبل أوانه
وقال البحتري:
وأعلم بأن الغيب ليس بنافع
…
للناس ما لم يأت في إبانه 1
الفصل الثاني: الشاعران في ميزان النقد الأدبي:
أصحاب البحتري بين الجرح والتعديل:
سلفا أوردنا في هذا البحث أن الآمدي رحمه الله ذكر في الباب الأول من كتابه الموازنة محاجته مفتدة ومدعمة بالأدلة والبراهين، وذلك بين كل من أصحاب أبي تمام المتعصبين له، وأصحاب البحتري المفضلين إيَّاه.
وللأمانة والإنصاف في ذلك الفن، يجب علينا أن نلقي نظرة على عدالة الشهود. ومدى صحة شهادتهم. وتحري الصدق والإنصاف لديهم، وخاصة الذين ذكرت أسماؤهم من أصحاب البحتري، وربما لم يورد لنا الآمدي غير هؤلاء الأربعة وهم:
1-
دعبل الخزاعي.
2-
ابن الأعرابي.
3 أبو على السجستاني.
4-
المبرد.
وذلك لنطمئن إلى حكم محكمة الآمدي. وإن حكم الناقد: إنما ينزع عن ضمير منصف ثم إنه رائد في هذا المجال وهو مجال النقد الأدبي، والرائد لا يكذب أهله "أي تلامذته" وهذا ابن قتيبة أستاذ النقد "من الأوائل" يقول:
"ولم أنظر إلى المتقدم منهم -شعراء الصف الأول- بعين الجلالة لتقدمه ولا إلى المتأخر منهم "المولدون والمحدثون" بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على طريقين، وأعطيت كلًّا حقَّه، ووفرت عليه حقَّه، ومع هذا يقول فيه أستاذ النقد الأول. أبو عمرو بن العلاء:
"لو أدرك الأخطل يومًا واحدًا في الجاهلية ما قدمت أحدًا عليه".
وربَّ قائل يقول: إن قوله ابن العلاء لهي دليل على التعصب بين النقاد، وليس دليل إنصاف، لأن القائل معلوم تعصبه على الشعراء المحدثين والمولدين وهو رأي مدرسة المحافظين في النقد العربي القديم.
والجواب لقد كان الرجل أولا: شديد التعصب على المحدثين لخروجهم على عمود الشعر. وتلك هي علة التعصب عنده، وثانيًا: فقد اتفقنا نحن وإياك على وصف القدامى والمحدثين كما نعتهم ابن رشيق.
الأديب الناقد بقوله: "أنما مثل القدامى والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه، ثم أتى الآخر بنقشه وزينته. فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن. والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".
ولنتفق الآن على أن الناقد الأدبي كقاضي المحكمة المنصف العادل. فإذا ما أشتم من أحدهما ريح التعصب وقع الحكم باطلًا، وبات مطعونًا في سلامته وصلاحيته. ولنعد إلى أصحاب البحتري أو هؤلاء الشهود. الذي قبل الآمدي الناقد شهادتهم من أحد الخصمين:
1-
دعبل بن علي الخزاعي:
كان يقول في أبي تمام1: "أن ثلث شعره محال. وثلثه مسروق. وثلثه صالح" وكان يقول فيه أيضًا:
"ما جعله الله من الشعراء. بل شعره كالخطب والكلام المنثور وهو أشبه منه بالشعر" ولم يدخله في كتاب المؤلف في الشعر وقال: أهذا شاهد أم خصم.
يقول الدكور خفاجي: "ولعمري لقد كان دعبل يضع من شأن أبي تمام". ثم يدلل على صحة ذلك ويقول أيضًا تحت باب التنديد على الآمدي الناقد. وتعديد هفواته "يقبل الآمدي ما وضعه دعبل على أبي تمام مع معرفته بحقيقة موقفه منه، ومع ظهور تحامله عليه" ويدلّل أيضًا على صحة ذلك في كتابه "أصول النقد ص 188، 189".
والآمدي نفسه يقول في دعبل هذا: "قال صاحب أبي تمام: "فقد بطل احتجاجكم بالعلماء، لأن دعبلا كان يشنا أبا تمام ويحسده وذلك مشهور معلوم منه، فلا يقبل قول شاعر في شاعر".
ونسأل الآمدي: "بعد هذا تضع شهادة دعبل؟ وهو رجل حاسد لأبي تمام متحامل عليه بشهادتك أنت؟ وإذا لم تحكم بشهادته فلم أوردتها؟ وما الفائدة منها؟
2-
ابن الأعرابي:
وفي هذا الرجل سوف نفسح المجال للآمدي نفسه ليحدثنا عنه -الآمدي قاضي الموازنة- والحكم في حلبة السباق بين الشاعرين يقول الآمدي1: في صاحب البحتري، وشاهد الوقائع:
"وكان شديد التعصب على أبي تمام، لغرابة مذهبه، ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لا يفهمه ولا يعلمه، فكان إذا سأل عن شيء منها يأنف أن يقول: لا أدري، فيعدل إلى الطعن عليه. والدليل على ذلك "والكلام للآمدي" أنه أنشد يومًا أبياتًا من شعره. وهو لا يعلم قائلها.
فاستحسنها وأمر بكتابتها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرقوه: والأبيات من أرجوزته التي أولها:
فظن أني جاهل من جهله
عجبا للآمدي. وابن الأعرابي معًا، وهل الإنصاف في النقد أن يكون الناقد متحاملًا؟ يحكم على الشاعر لا على النص الأدبي، وبلا دليل ومقدما نؤمن الحكم ونوثقه، أن الذاتية في الناقد أضرّ على الشعر والنقد من الشاعر والناقد، لأنها طريق للهدم والتدمير والأنانية والعجز والشأن في منهج النقد الموضوعي، أن يكون منهجيًّا قاليًا على الذوق الأدبي الأصيل.
وهل يثق الآمدي في رجل وصفه هو بشدَّة التعصب على الشاعر ومن رجل اتَّسم بعدم الفهم وعدم الدراية والتحامل على الشاعر ومن رجل يستكبر ويأنف أن يقول قوله الصدق والحق إذا عجز: وهي لا أدري، ومن رجل يعدل الحق إلى الطعن سترًا لقصوره؟ ومن رجل يغمط الحق، ويشوه العدل، وبعد استحسانه وتحيزه يعلن النكرات وينكث على الجحود، ويمزق الأبيات المختارة، لا لشيء إلا لأنها تنسب إلى أبي تمام؟
ولنسأل الآمدي:
لم وضعت هذا الرجل في زمرة البحتري؟ واستشهدت بقوله ورويت خصومته لأبي تمام؟ وما الفائدة من حشو الكتاب بمثل هذا إن لم يستمع إليه الآمدي؟
3-
أبو على محمد بن العلاء السجستاني:
وكان السجستاني هذا صديقًا للبحتري. باعتراف الآمدي نفسه وأسمعه يقول 1:
"والذي نرويه عن أبي علي محمد بن العلاء السجستاني، وكان صديق البحتري" وأستمع إلى ما يرويه الآمدي عن هذا الصديق:
"قال أبو علي محمد بن العلاء كان البحتري إذا شرب وأنس أنشد شعره وقال: ألا تعجبون وكان مع هذا أحسن الناس أدَّب نفسه، لا يذكره شاعر محسن أو غير محسن إلا قرظه ومدحه. وذكر أحسن ما فيه، قال أبو على: ولم لا يفعل ذلك وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم".
الصداقة التي توجب أحيانًا على الإنسان أن يجامل صديقه وينافح عنه بمثل هذا أو أكثر تعد هدمًا له لا بناء. وقضاء عليه لا أحياء له. وإجحافًا بالنقد لا إنصافًا له؛ لأن التماس الحق والصواب والإنصاف. لا يعترف بالتحيز، ولا المحاباة، ولا المجاملة، ولا الصداقة، ولا غير ذلك مما يشبهه.
ولا أدري لم جعل الآمدي أصحاب البحتري وشهود قضيته من أخلص أصدقاء الشاعر مثل السجستاني هذا. وأشدهم بغضًا وحسدًا لأبي تمام مثل الخزاعي وابن الأعرابي، وأظن أن ثقة الآمدي في أصحاب الشاعر البحتري هي التي جرحت نقده عند الخارجين على الآمدي، حتى رموه بالتحامل على أبي تمام والتعصب للبحتري.
على أن رواية السجستاني ذلك الصديق فيها خمس كلمات -على قصرها- ولا أدري أكانت مدحًا في الرجل أو قدحًا، وإليك الكلمات:
1-
كان البحتري "إذا شرب" بمعنى تعاطي الخمر، وتماجن. وعليه فهي حطة في عقيدة الرجل. وكان البحتري أبو نواس عصره.
2-
أنشد شعره وقال: "ألا تعجبون" وتلك مذمة أخرى في طوية الرجل ومنقصة في طبعه، ودليل مؤكد عما قيل عن حياته وطبعه ولنستمع إليه1:
"وكان من أوسخ خلق الله ثوبًا وآلة. وأبغضهم إنشادًا" وأكثرهم افتخارًا بشعره، حتى ليروي عنه أنه كان إذا أنشد شعرًا قال لمستمعيه: لم لا تقولون أحسنت. هذا والله ما لا يقدر أحد أن يقول مثله".
وفي يقيني: إنه ليس هناك أسمح ولا أشد وقاحة من شاعر يمدح نفسه ويزكيها. بل ويطلب من مستمعيه. في الحاج وعتاب أن يطروه ويجاروا هواه، ويقولون له: أحسنت.
3-
"لا يذكر شاعر محسن أو غير محسن" ولم هذا الاستدراك؟
وماذا يجدي تقريظ ومدح غير المحسن من الشعراء؟
4-
ألا قرظه ومدحه وذكر أحسن ما فيه" ولم أفعل التفضيل هذا ليذكرني أفعل التفضيل هذا بشهادة أخرى وضعها السجستاني في صديقه البحتري رواية على لسان الآمدي.
"قال الآمدي: سمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضًا يقول1:
كان البحتري عند نفسه أشعر من أبي تمام: وسائر الشعراء المحدثين: حيث قيد شهادته بذلك القيد الذي أكل ألفاظ الشهادة كلها فلم يبق على حرف واحد، وكان لها كالأرضة عند نفسه ويخيّل أن أفعل التفضيل في الشهادة الأولى وهذا القيد في الشهادة الثانية إن هما إلا مذمة في الرجل، ومنهما يشتم رائحة التنقيص والسخرية.
5-
وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخيرهم" وعلى الرغم من هذا العدد الجرار أسقطهم البحتري. وفوق هذا ذهب بخيرهم.
والذي نعرفه عن البحتري أنه ولد عام مائتان وست من الهجرة. وتُوفي عام مائتان وأربع وثمانون ومدة حياته ثمان وسبعون سنة، وهذا العمر لا يتسع لخمسين شاعرًا على مثاله يسقطهم البحتري ويذهب بخيرهم.
ولقد اعترف البحتري نفسه بتلمذته على أستاذه أبي تمام واغتراله من فيضه ونهله من نبعه؟
وقيل للبحتري يومًا2: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام؟ فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخير إلا به ولوجدت أن الأمر كما قالوا: ولكني والله تابع له أخذ منه لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي انخفض عند سمائه".
لقد كانت منزلة أبي تمام عند الخلفاء والأمراء والشعراء والنقاد لا تقل عن منزلة البحتري ولا أدلّ على ذلك من أن النقاد تحاملوا على أبي تمام، وتعصبوا للبحتري وفي التحامل دلالة على شأوه وعلوّ منزلته، وفي التعصب للبحتري حماية له من خصمه وأستاذه.
4-
أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
كان هذا الإمام يفضل البحتري ويستجيد شعره، ويكثر أنشاده ولا يمليه لأن البحتري كان باقيًا في زمانه "وكان يقول1.
"ما رأيت أشعر من هذا الرجل يعني البحتري - لولا أنه ينشدني لملأت كتبي من أمالي شعره".
وهذه شهادة كان الواجب قبولها خاصة وأنها من رجل عالم. وإمام فاضل لم يشهر عنه البغض لأبي تمام مثل ابن الأعرابي والخزاعي، ولم يعرف عنه أنه كان خليلًا للبحتري مثل السجستاني.
لولا أن البحتري وهو المشهود في حقه طعن المبرد هذا وهو الشاهد طعنة نجلاء، أطاحت بشهادته من بين أيدينا، فلم يبق للبحتري شيئًا. إذ وصفه بأنه لا يعرف الشعر ولا ذوق له فيه: وليس بناقد ولا مميز للألفاظ، وإليك وصف البحتري للمبرد دون أن نحذف منه حرفًا.
"في رواية الإمام عبد القاهر الجرجاني "471 هـ" عن بعضهم أنه قال2. وأني البحتري ومعي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنقري قال: وإلى أين تمضي به؟ قلت: إلى أبي العباس المبرد أقرؤه عليه قال: قد رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدًا للشعر ولا مميزًا للألفاظ ورايته يستجيد شيئًا وينشده وما هو بأفضل شاعر. فقلت له: أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى. ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه فما كان ينشد؟
قال: قول الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا -أميم أخي-
…
فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون مجللا
…
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
فقال: أين الشعر الذي فيه عروق الذهب؟
فقلت مثل ماذا؟ فقال: مثل أبي ذؤاب.
إن يفتنوك فقد ثلث عروشهم
…
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلبًا على أعدائهم
…
وأعزهم فقدًا على الأصحاب
ونقول: إن أبا العباس محمد بن المبرد هو من علماء النحو. انتهت إليه رياسة النحاة في الكوفة في القرن الثالث الهجري صحيح أنه لم يكن له باع طويل في فن النقد، ولا يسعنا إلا أن نقبل شهادة البحتري فيه؟.
تحامل الآمدي:
من خلال سطور الموازنة للآمدي دائمًا تجد وأنت تقرأ طريقة العنف الشديد على الشاعر أبي تمام والعطف على الشاعر البحتري. وهذه الطريقة تكشف عن تحامل الآمدي على أبي تمام وتعصبه الشديد عليه مما جعل الرجل يتلعثم في قولهنّ ويتناقض في موازنته.
ولسنا نذهب إلى هذا المذهب وحدنا ولكن هناك من يؤيدني في قضية ظهور التحامل عند الآمدي ومن ذلك:
8-
ما كتبه الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد المحقق لأصول الموازنة والمعلق عليها حيث يقول1:
واذكر ما تجمع لدي من الملاحظات عليه "كتاب الموازنة للآمدي بعد أن صحبته عمرا ليس بالقصير" وأحدثك. على الأخص - عن تحامله "أي الآمدي" على أبي تمام، وإغضائه البالغ عن البحتري".
2-
وأيضا ما كتبه الناقد الدكتور خفاجي حيث يقول:
"تحامل الآمدي في كتابه على أبي "تمام" وذلك ظاهر كما أسلفنا من روح الموازنة واتجاهها".
3-
وثالثة ما كتبه المؤرخ للأديب ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباب حيث يدلي برأيه في كتابه الموازنة للآمدي فيقول 2:
وكتاب الموازنة للآمدي بين الطائيين في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إليه الميل، مع البحتري فيما أورده
…
ثم يقول الحموي عن الآمدي: إنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري.
ولنأخذ بعضًا من الأمثلة التي تدل على اضطراب الرجل في قوله، ذلك لأنه نصب نفسه مدافعًا منافحًا عن البحتري، وواضعًا من أبي تمام، فتجده يقول على لسان أصحاب البحتري1:
1-
أما الصحبة فيما صحبه ولا تلمذ له. ولا روى ذلك أحد عنه ولانقله. ولا أرى قط أنه محتاج إليه".
في هذا نفي قاطع لصحبه البحتري لأبي تمام والتلمذة عليه. لأن البحتري ليس محتاجًا لمثل هذا، ثم إنك تجد الآمدي يقول على الفور ثانية وبدون انقطاع.
"ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعها وتعارفهما عند أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وقد دخل إليه البحتري بقصيدته التي أولها:
أأقاق صب من هوى فافيقا
وأبو تمام حاضر:
فما معنى هذا التناقض؟ أيمكن أن يطمئن القارئ إلى خبر اجتماعهما وتعارفهما بهذا الدليل الموجود عند أبي سعيد اللغوي، الذي وصفه الأمدي بأنه خبر مستفيض؟
أم أن القارئ يجعل هذا دبر أذنه ويسير مع هوى الآمدي في أن البحتري لم يصحب أبا تمام ولم يتتلمذ له لأنه ليس محتاجًا له.
ولنضرب مثلًا آخر:
"عندما أنشد ابن الأعرابي ذات يوم أبياتًا فاستحسنها واختارها وأمر بكتابتها وهو لا يعلم قائلها فلما علم بعد أن استجادها أن هذه الأبيات لأبي تمام أخذه التحامل والتعصب وقال على الفور: خرقوها وهذا ليس بعدل بداهة، لكن الآمدي سامحه الله يعتقد عن ابن الأعرابي، ويجد له مندوحة في تصرفه هذا فيقول:
"ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم". لأن الذي يورده ابن الأعرابي وهو محتذ على غير مثال أحلى في النفوس وأشهى إلى الأسماع وأحق بالزيادة والاستجابة مما يورده المحتذي على الأمثلة، وعذر ابن الأعرابي في هذا إذا صح أنه قد سبق الأصمعي:
وذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي:
هل إلى نظرة إليك سبيل
…
فيروي الصدى ويشفي العليل
إن ما قل منك يكثر عندي
…
وكثير مما تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ قال لبعض الأعراب.
فقال الأصمعي: هذا والله هو الديباج الخسرواني.
قال: أنهما لليلتهما؟
فقال: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بيّن عليهما ويكون الآمدي وابن الأعرابي في أبي تمام أقرب عذرًا من الأصمعي في إسحاق.
فانظر بالله هل تجد عذرا أو هي ولا أقبح من هذا؟ وماذا رأى الآمدي فيما لو كانت قصة ابن الأعرابي مع البحتري، أكان يعتذر عن الناقد المتعصب المبين في تحامله كهذا الاعتذار؟ . ويقول عنه ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم؟
وثالثة: يقول الآمدي 1: وبعد فيبتغي أن تتأملوا محاسن البحتري ومختار شعره، والبارع من معانيه والفاخر من كلامه، فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا مما أخذه أبو تمام"، ولا أدري أن ناقدًا مثل الآمدي يحمله التعصب فيتخبط في قوله مثل هذا التخبط ولنسأله. ما معنى كلمة "ما"؟
أليس سياق النقي معه كان عليه أن يقول:
فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا أخذه من أبي تمام "ولكنه وضع "من" للتبعيض وما الموصولة "مما". من بعض الذي أخذه من أبي تمام. وإذا كان كذلك فما معنى كلمتي ومعناهما: "حرفًا واحدًا"؟ التي قبلها؟
الإنصاف في نقد الآمدي:
لو كان أبو تمام حيًّا حينما تناوله الآمدي في كتابه لاستغاث من تعصبه عليه وتحامله وتمثل بقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
…
ولا الأصيل ولا ذو الرأي والجدل
والبحتري إن هو إلا تلميذ لأبي تمام أخذ منه. ونأهل من فيضه ومقتفى لأثره. وإذا سألتم البحتري نفسه يقول1:
"كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه. واتَّكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي:
يا أبا عبادة: تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظَّها من الراحة، وقسطها من النوم.
فإذا أردت التشبيب فأجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رقيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة وقلق الاشتياق ولوعة الفراق.
وإذا أخذت في مدح سيد ذي أباد، فأشهر مناقبه. وأظهر مناسبه وابن معالمه. وشرف مقامه، ونضد المعاني، وأحذف المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد.
ولهذا عارضك التضجر فأرح نفسك، ولا تتعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، وأجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين.
وجملة الحال: أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده: وما تركوه فاجتنبه. ترشد إن شاء الله".
ولقد وصف الآمدي شعر أبي تمام فقال فيه1:
ولأن أبا تمام شديد التكلف. صاحب صنعة. ومستكره الألفاظ والمعاني. وشعره لا يشبه أشعار الأوائل. ولاعلى طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة.
بينما نجد الحسن بن وهب يصف شعر أبي تمام هو الآخر من رسالة كتبها إليه فيقول2:
"أنت -حفظ الله - تحتذى من البيان في النظام مثل ما يقصد بحر في الدرر من الأفهام، والفضل لك -أعزك الله- إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار. لىغاية الاقتصار. في منظوم الاشعار. فتحلّ معقده وتربط متشرده. وتنظم أشطاره. وتجلو أنواءه. وتفصله في حدوده وتخرجه من قيوده ثم لا تأتِ به. مهما اقتبسه مشتركًا فيلبس ولا متعقدًا فيطول. ولا متكلفًا فيحول فهو كالمعجزة تضرب فيها الأمثال، ويشرح فيها المقال".
فأيها الصادق في قوله: المتحرى لحقيقة الشاعر؟ وفي وصفه؟ ليردّ عظم أبي تمام حكم الأمدي. ويدلي بهذه البراهين على براعته. في الشاعرية وأنه أستاذ البحتري ومن فضله عرف الأخير.
فيحدثنا جحظة فيقول2: "تحادثنا يومًا في أبي تمام الطائي والبحتري أيهما أشعر؟ قال بعض من حضر مجلسنا.
هل يحسن الطائي أن يقول قول البحتري:
تسرع حتى قال من شهد الوغي
…
لقاء عدو أم لقاء حبيب
فقلت من الطائي سرقه حيث يقول:
حن إلى الموت حتى قال جاهله
…
بأنه حق مشتاقًا إلى وطن
وهذا امتحان لسرعة بديهية أبي تمام. وحضور خاطره في الشعر، وأنه القارض لذلك الفن على الطبع والسليقة، دون قصور منه أو توقف وتجبل وعي. فنجده في نصاعة البيان وسرعة البديهية. وذلك الإلهام المصيب. وعلو الكعب في قرض الشعر فوق الذي كنا نأمل. وذلك عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم مدحته التي مطلعها.
ما في وقوفك ساعة من باس
…
تقضي حقوق الأربع الأدراسي
وانتهى إلى قوله:
أقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكاء إياسي
قال له الفيلسوف "أبو يوسف الكندي" وكان حاضرًا: الأمير فوق من وصفت فأطرق أبو تمام قليلًا ثم رفع رأسه وقال:
لا تشكروا ضربي له من دونه
…
مثلًا شرودًا في الندى والباس
والله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلًا من المشكاة والنبراس
الهوامش:
حرف 15
1 أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 128.
2 انظر كتاب الوساطة بين المعنى وخصومه.
3 الموازنة ص 33، 34.
4 الموازنة ص 204.
1 وصية أبي تمام للبحتري.
2 المرزوقي في شرح ديوان الحماسة.
3 يحيى بن حمزة العلوي ص 241
1 العمدة جـ 1 ص 159 - ابن رشيق.
2 البيان والتبيان للجاحظ جـ 1 ص 221.
1 ابن قتبية الشعر والشعراء ص 2.
2 البيان والتبيان للجاحظ جـ 1 ص 221.
2 طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي.
1 الشعراء والشعراء: لابن قتبية جـ 1 ص 75.
1 نقد الشعراء: القدامة بن جعـ ر ص 130.
1 الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 57، 68 الطبعة الثانية بمطبعة صبيح.
2 عيار الشعر لابن طباطبا 5، 8، 31، 41.
1 شرح ديوان الحماس للمرزوقي ص 8، 9، 11.
1 أسس النقد الأدبي عند العرب للدكتور أحمد بدوي ص 534 وما بعدها.
1 العقد الفريد لابن عبد ربه جـ3 ص 311.
2 يتيمة الدهر جـ 1 ص 21.
1 العقد الفريد جـ ص 173: ابن عبد ربه.
1 الموازنة للآمدي ص 391 وما بع دها.
1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 86، وما بعدها.
1 إعجاز القرآن: الباقلاني.
2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 92.
1 الشعر والشعراء: لابن قتيبة جـ 1 ص 59 وما بعدها.
1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 84 وما بعدها.
1 المرجع السابق د سه ص 84.
1 الموازنة من ص 47 - 88.
1 الموازنة ص 277 وما بعدها.
1 الموازنة ص 291 - 300.
الهوامش حرف 15
1 معجم الأدباء ياقوت الحموي. ص 75.
2 183 الموازنة: الأمدي: تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - الطبعة الأولى 1363 هـ - 1944 م.
2 البيان والتبيين ص 176.
1 نقد الشعر: قداحة بن جعفر.
1 87 جـ معجم الأدباء.
2 تاريخ النقد الأدبي لطه إبراهيم.
1 25 الموازنة: الآمدي.
2 282 المثل الشاعر: ابن الأثير.
1 الموازنة ص 176: الآمدي.
2 الموازنة ص 2: الآمدي.
1 الموازنة ص 21: الآمدي.
1 الموازنة ص 3. الآمدي.
1 الموازنة ص 176 - 180.
1 الموازنة ص 3: الآمدي.
1 الموازنة للآمدي من ص 1 - ص 455 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. الطبعة الأولى 1363 هـ - 144 م.
1 اتجاهات النقد الأدبي. د. محمد السعدي فرهود ص 161 وما بعدها.
1 الموازنة: الآمدي ص 281.
1 الموازنة: المقدمة.
2 طبع ونشر دار الحارثي بالطائف: السعودية.
1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 81 وما بعدها.
1 الأدب المقارن للدكتور خفاجي ص 101.
1 الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 74، 75.
1 الأدب العرية في العصر العباسي الأول للدكتور خفاجي ص 174، 175.
1 اتجاهات النقد الأدبي للدكتور فرهود ص 256 وما بعدها.
2 ديوان المتنبي ص 183.
1 المرزدقي: شرح ديوان الحماسة ص 1.
2 أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 49.
3 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 2 ص 202.
1 ابن سنان الخفاجي: سر الفصاحة ص 73.
الهوامش حرف 15
1 أصول النقد: للدكتور خفاجي ص 188.
1 أصول النقد: ص 188.
1 الموازنة ص 396 وما بعدها.
1 أصول النقد للدكتور خفاجي ص 172.
1 أصول النقد ص 180.
1 الموازنة ص 12، 17.
1 الموازنة ص 9.
1 الموازنة ص 6 مقدمة.
1 الموازنة ص 9.
2 الموازنة ص 17.
1 الموازنة ص 16.
2 دلائل الإعجاز ص 195 الطبعة الرابعة دار المنار سنة 1367 هـ.
1 مقدمة الموازنة ص 3.
2 أصول النقد د. خفاجي ص 185، 189.
1 الموازنة ص 524.
1 العمدة لابن رشيق جـ 2 ص 114.
1 الموازنة ص 4.
2 زهرة الآداب جـ 3 ص 263.
3 الأمالي لأبي علي القالي جـ 3 ص 93.
1 أنظر أخبار أبو تمام ص 246.
1 الموازنة ص 11.
1 أخبار أبي تمام للصولي ص 231.
2 طبقات الأدباء لابن الأنباري ص 213.
1 إعجاز القرآن ص 53.
1 الموازنة ص 6.
القسم الثاني: قضايا المعنى واللفظ والأسلوب والنظم والصورة والموسيقى:
الفصل الأول: القضايا النقدية في صحيفة بشر بن المعتمد
صحيفة بشر بن المعتمر وأثرها في النقد الأدبي:
بشر بن المعتمر:
هو أبو سهل بشر بن المعتمر المتوفى عام 210 هـ، من طبقة الكتاب والنقاد والمتكلمين، عاش في القرن الثاني الهجري، وعاصر الشاعر أبا تمام "172 - 231 هـ] وكذلك الأديب الناقد ابن سلام الجمحي [م 231 هـ] .
ولد أبو سهل في الكوفة، ثم تحول عنها إلى البصرة، واستقر في بغداد، وطار ذكره فيها، وتوثقت صلته بالرشيد وبالفضل بن يحيى البرمكي، ويعدّ بشر شيخ فرقة البشرية التي سميت باسمه، تسمو بالعقل، وتعتدّ بمقاييسه في جوانب الفكر والكلام، ومن شعره الذي يذم فيه التقليد:1
1 الحيوان: الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون 6، 286.
قد غمر التقليد أحلامهم
…
فناصبوا القياس ذا السبر
ويذم إباضية الخوارج ورافضة الشيعة، الذين يعتقدون أن كتابهم "الجفر" جمع العلوم كلها إلى يوم القيامة: فيقول:
لست إباضيًّا غبيًّا ولا
…
كرافضي غره الجفر
كما يغر الآل في سبب
…
سفرًا فأودى عنده السَّفر
لسنا الحشو الجفاة الأولى
…
عابوا الذي عابوا ولم يدروا
لا تنجح الحكمة فيهم كما
…
يبنو عن الجرولة القطر
ولئك الداء العضال الذي
…
أأعيا لديه الصاب والمقر1
1 الآل: السراب السبب الصحراء. السفر: المسافرون. الجرولة: الصخرة الملاء. الصاب والمقر: نباتان حاران.
ومن شعره هذا وغيره يظهر لنا أنه شاعر، لكنه في شعره تعليمي، ومن ذلك قصيدته التي يعتز فيها بالعقل، ويشيد بمنزلته السامية في الإنسان يقول:
لله درُّ العقل من رائد
…
وصاحب في العسر واليسر
وحالكم يقضي على غائب
…
قضية الشاهد للأمر
وإن شيئًا بعض أفعاله
…
أن يفصل الخير من الشر
لذو قوى قد خصه ربه
…
بخالص التقديس والطهر
وله قصائد كثيرة تصوّر الطبيعة والحياة، يستدل من خلالهما بعقله على قدرة الخالق المبدع لها سبحانه وتعالى2:
1 الحيوان: 292. 6.
2 الحيوان: 229. 4، 62. 6، 284، 299 وغيرها.
وهو بهذا الاتجاه العقلي كان يتصدَّى لأهل الملل والنحل، ويحاورهم بالعقل والبرهان، ليردّ الحجة بالدليل العقلي القاطع1.
ذكر المرتضى أن له أرجوزة تحمل مذهبه العقلي بلغت أربعين ألف بيت2، والجاحظ يفضل بشرًا في الشعر التعليمي على إبان بن عبد الحميد، فهو أقوى منه، وخاصة في نظم المخمس والمزدوج3. ومنها أرجوزته في تفضيل علي بن أبي طالب على الخوارج يقول فيها:
ما كان في أسلافهم أبو الحسن
…
ولا ابن عباس ولا أهل السنن
غير مصابيح الدجى مناجب
…
أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص ومَنْ حرقوص؟
…
فقعة قاع حولها قصيص
1 رأي د. شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي 3، 427.
2 آمال المرتضى: 186.1.
3 الحيوان: 239.4.
ليس من الحنظل يشتار العسل
…
ولا من البحور يصطاد الورل1
وذكر له الجاحظ قصيدتين طويلتين في موطن آخر بقوله: أول ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشعر بشر بن المعتمر، فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيها كثيرًا من هذه الغرائب والفرائد. ونبَّه بهذا على وجوه كثيرة من الحكمة العجيبة والموعظة البليغة.... وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف على بيوت هذين الشعرين وقع ذكرهما مصنفًا، فيصير حينئذٍ آنق في الأسماع، وأشدّ في الحفظ2.
ويذكر فيها طبائع الإنسان وما تأصَّل فيه من الطمع، وكذلك طبائع الحيوان والطير، وما فيهما من غرائب، وعدَّه العلماء والنقاد قديمًا وحديثًا من أشهر بلغاء ونقاد القرن الثاني الهجري، إذ تركت صحيفته المشهورة أثرًا واضحًا وكبيرًا في
1 حرقوص من زعماء الخوارج. القصيص. شجر ينبت فيه الفقع تدوسه الإبل الورل: دابة كالضب.
2 الحيوان: 284.6 وما بعدها.
علماء البلاغة والنقد، ومن ذلك ما ذكره الجاحظ من إشادة إبراهيم السكوني، "مر بشر بإبراهيم بنجيلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو ليكون رجلًا من النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا، واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه
…
ثم قال بشر: فلما قرأت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان"1.
ثم بعد الجاحظ بشرًا من الطبقة المتميزة عنده، ذات النبع الثرار الصافي، وهي طبقة الكتاب في القرن الثاني الهجري، ومنها أيضًا عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع وسهل بن هارون، والحسن بن سهل، والفضل بن سهل، وابن الزيات وغيرهم، قال الجاحظ:"أما أنا فلم أَرَ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا"2.
البيان والتبيين "الجاحظ: 134.1 تحقيق عبد السلام هارون.
2 المرجع السابق: 135. 1.
منزلة الصحيفة من الفنون الأدبية:
الأدب شعر ونثر، ويتنوع النثر الأدبي إلى فنون من أهمها الخطبة والرسالة والقصة والأقصوصة، والمسرحية النثرية وفن السيرة والمقالة بأقسامها المختلفة، وهي المقالة الأدبية، والمقالة النقدية، والمقالة الفلسفية، والمقالة التاريخية، والمقالة العلمية، والمقالة الاجتماعية، والمقالة السياسية ولكل من هذه الأقسام والفنون بناؤه وتركيبه، وخصائصه الفنية وأغراضه، وطريقته في المعالجة والكتابة1.
وتعدُّ هذه الصحيفة لبشر بن المعتمر مقالًا أدبيًّا في النقد والبلاغة، إذا أردنا أن نقيسها بمقياس النقد الحديث، لتطابق الخصائص الفنية فيها، على ما اصطلح عليه النقد الحديث، من خصائص المقالة في هذا الجانب المتعدد، فيشمل المقال في الأدب والنقد والبلاغة، وبذلك تكون صحيفة بشر مقالة أدبية نقدية، جمعت بين خصائصهما
1 انظر: دراسات في الأدب العربي الحديث ومذاهبه د/ خفاجي، فن المقالة د/ محمد يوسف نجم - أدب المقالة الصحفية في مصر د / عبد اللطيف حمزة - فنون الأدب ترجمة د/ زكي نجيب محمود
معًا، أي بين خصائص المقال الأدبي وبين خصائص المقال في النقد.
فالمقال الأدبي في النقد لا يحتاج كثيرًا إلى الخيال، لتحلق صورة في كل عبارة فصاحب الصحيفة هنا يحدّد معالم الأسلوب الجيد، وخصائص الأدب الرفيع، ويضع المنهج في الصياغة الجيدة، ويحدّد الأصول والقواعد في التراكيب، ويشخّص معالم البلاغة في باب "مقتضى الحال"، وما يتناسب من مقال مع كل مقام، ومثل هذه الموضوعات لا تحتاج كثيرًا إلى الخيال بصوره المختلفة من التشبيهات والاستعارات والكنايات، ومع استغنائه عن الخيال غالبًا، فقد كانت الصحيفة تتفجر قوة، وتنساب جمالًا، وذلك في التعبير عن هذه الحقائق في أسلوب قوي، وتركيب محكم، ونظم بديع، لا قلق فيه ولا اضطراب، فصارت قطعة أدبية رائعة، تشدّ انتباه السامع، وتأخذ بعقله وقلبه.
وليس من الضروري أن يعتمد التصوير الأدبي في كل الحالات على وسائل البيان السابقة، فقد تخلو الصورة عن الألوان البيانية، وتعتمد على دعائم أخرى، تقوم عليها
الصورة، مثل انتقاء الألفاظ، وسلكها في نظم دقيق، يتوخى فيه الأديب معاني النحو، من تقديم وتأخير، وتنكير وتعريف، وغير ذلك مما ورد في علم المعاني وموافقة الصورة لمقتضى الحال، وهذه الدعائم هي التي اعتمد عليها بشر في التصوير الأدبي لهذا المقال النقدي البلاغي.
ومع ذلك لم يخل كلام بشر من ألوان الخيال البياني: مثل: خذ من نفسك ساعة نشاطك - واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول - فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد - والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك -ويشين ألفاظك- والمعنى ليس يشرف وكذلك ليس يتصنع - أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة - التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء.... وغيرها من الصورة البيانية التقليدية في الأسلوب الذي اشتمل على المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والتجريد.
وإن كنت أرى أن هذه الصور البيانية صور لم يقصد بها الكاتب التصوير الخيالي كعادة الشعراء والأدباء، وإنما كان يقصد الحقيقة، والكشف عنها بأسلوب دقيق يشدُّ انتباه النفس، ويثير كوامن الشعور، ليكون من باب الإيقاظ.
والاندماج مع القارئ، ومن ناحية أخرى أن هذه الصور من لوازم التعبير، بحيث لا يستطيع بشر أن يتخلى عنها، فقد جاءت مساقة مع الفكرة، ومتجاوبة مع التعبير، وضرورية في تصوير الحقيقة، فهي لا بديل لها في إقامة هذا البناء الفني في منهج المقال النقدي والبلاغي، ولهذا المنهج الفني عرض بشر الحقائق عرضًا دقيقًا يقوم على تنظيم الفكرة، وتوزيعها توزيعًا منسقًا مثل قوله: وكن في ثلاث منازل.... ثم يقول: فالمنزلة الأولى.... فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك. فإذا انتهى من المنزلة الثانية قال: فإن تمنع عليك بعد ذلك فالمنزلة الثالثة إلى غير ذلك.
ولكي يقع القارئ يدعم رأيه بالدليل، فرأى أن للمتلكملين ألفاظًا واصطلاحات لا بد من رعايتها في الكلام فقال:"إذا كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن...." وغير ذلك كثير في صحيفته.
هذه المقومات في صحيفة بشر يجعلها متميزة في اتجاهها الفني، وذلك بالخصائص والسمات التي اصطلح عليها النقد الحديث للمقال الأدبي في النقد والبلاغة، وقد
اتضحت خصائصه وهي: بناؤه على فكرة واضحة، وترابط بين أجزائها، والتدليل عليها، والإقناع بأدلة من ذات الأسلوب مرة، وعقلية ثانية، وتمثيلية تطبيقية ثالثة، وكذلك البناء التركيبي في الصحيفة يعتمد على اختيار اللفظ، الذي يفصح عن معناه بدقة، حتى في الألفاظ البيانية السابقة، التي انسابت مع التعبير، ثم انتقاء الأساليب التي تعبر عن الحقيقة بوضوح سافر، وجلاء كاشف، وكذلك لم تسيطر العاطفة على بشر، ولم تظهر مشاعره فيها، لأن العاطفة والمشاعر الذاتية تطغى على الحقيقة، وتستهلك منهج الإقناع العقلي والواقعي في مجالي علمي النقد والبلاغة، ولذلك ظهرت الصورة البيانية فاترة من الشعور، وخلوا من العاطفة الجياشة، التي تلبد سماء الحقيقة بالغيوم، فيذهب العقل فيها كل مذهب، لكن بشرًا يقصد من وراء الصحيفة مذهبًا واحدًا فقط لا كل مذهب.
ومع هذه القيم الفنية للصحيفة، فهو مقال أدبي أيضًا في النقد والبلاغة لأنه خلا من المنهج الفني للمقال العلمي، الذي يقوم على الإحصائيات والأرقام وسوق الفروض والمقدمات صريحة لاستنتاج البرهان، وغيرها مما تجردت عنه الصحيفة، وبذلك دخلت في باب المقال الأدبي، الذي يتضمن النقد والبلاغة.
وإذا تأملنا موضوع الصحيفة وانسجام الأفكار والمعاني فيها، وجدنا أن الفكرة في موضوعها تشدُّ الفكرة، والمعنى يتفجر من المعنى، وجميع الأفكار والمعاني تسير في اتساق وانسجام، وتتقدم في تآلف ومؤاخاة، متآزرة في الكشف عن موضوع الصحيفة، وهو بلاغة الأدب وروعته، ولذلك تحدَّث بشر عن الصدق العاطفي ثم عن المشاعر الحارة والإحساس الدقيق، ثم عرض خصائص الأدب الرفيع، مما اقتضى أن يوضح مراتب الأدب، وهي الأدب الجيد، والرديء، والوسط، وكذلك مراتب الأديب تبعًا لمراتب الأدب، ثم كان ختام حديثه عن مقتضى الحال، ليكون كالحكم على ما سبق بالجودة أو غيرها، فإن تحقق ما يقتضيه الحال فهو الأدب الجيد وإن خلا من ذلك فهو الأدب الوسط أو الرديء.
مجال التأثير والتأثر:
في التراث النقدي:
يُعدّ بشر في نظرنا أول ناقد كتب في بعض قضايا النقد العربي القديم في صحيفته المشهورة؛ لأنه توفي عام [210 هـ] وكان يعاصر صاحب أول كتاب في تاريخ الأدب والنقد لابن سلام الجمحي المتوفى [231 هـ] وكانت نقداته في كتابه "طبقات الشعراء" نظرات عامة، وكل النقاد الذين دوَّنوا نقداتهم أتوا بعد بشر في عصر التدوين، وظهر إنتاجهم النقدي بعد صحيفته التي أشار فيها أبو سهل إلى قيم نقدية، ونظرات واضحة في بعض قضايا النقد الأساسية، ثم تأثر النقاد الذين جاءوا بعده به تأثرًا كبيرًا وخطيرًا، وترسَّموا خطاه، وإن تميَّز بعضهم في بعض الجوانب دون البعض بالإطناب والتخصص والتفصيل.
وأما وصية أبي تمام لتلميذه البحتري الذي عاش ما بين [172 - 231 هـ] فإنني أخرجها عن مجال التأثر والتأثير، لأن بشرًا كان يعاصر أبا تمام، يتجاوبان معًا في
تيارات الحركة الأدبية والنقدية في هذا العصر، وهما إن كانا متفقين معًا في بعض الآراء، فلا نستطيع بحال، أن نجزم بمن سبق الآخر في رأيه، ولم أقف على دليل بعين السابق منهما في هذا الرأي، والأقرب إلى الإنصاف أن نقول: بأن العصر الذي جمعهما يحمل طابعًا في النقد الأدبي، هو من سمات ذلك العصر، وبشر وأبو تمام من الذين كان لهم دور كبير في هذا البناء النقدي لعصرهم.
ومن هذا المنطلق نقول: إن وصية أبي تمام لتلميذه لم تخضع لمجال التأثر والتأثيرن الذي يهز كيان بشر في صحيفته، حتى لا نقول بأن بشرًا متأثر بالوصية، ويؤيد رأيي هذا أن شخصية كل منهما متميزة في التعبير عما يقول الآخر، ويظهر ذلك جيدًا حينما أعرض الوصية، ثم ما يتفق معها في الاتجاه من صحيفة بشر.
جاء في وصية أبي تمام لتلميذه: "يا أبا عبادة تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو ضبطه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم.... وإذا عارضك الضجر، فأرح
نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب"1.
أما قول بشر: "خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة، أكرم جوهرًا، وأشرف نسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش القول، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة"2.
والفرق بينهما كبير، وهما في عصر واحد، فأبو تمام في وصيته أديب شاعر وبشر في صحيفته أديب ناقد، وكل منهما يعبر عن رأيه وشخصه في هذا الجانب وليس ببعيد أن يتلقى كل منهما رأي الآخر، ولا يتهمه بالتأثر، لأنهما يعيشان معًا في جو أدبي وفكري وثقافي واحد.
وأما ابن سلام الجمحي فله اتجاه في تاريخ الأدب العربي ونظرات في النقد تختلف عن اتجاه بشر في
1 العمدة: ابن رشيق 2/ 114 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.
2 البيان والتبيين: الجاحظ 134.1.
صحيفته، وإن اتفقا في بعض الوجوه، فذلك أيضًا خارج عن مجال التأثر والتأثير، لأنهما يعيشان معًا في جو أدبي وفكري وثقافي واحد أيضًا.
لأن مجال التأثر والتأثير الدقيق يكون في عصرين أحدهما سابق والآخر لاحق، ولا مجال للحاضر والمعاصر، وبشر وابن سلام وأبو تمام كانوا جميعًا يعيشون في عصر واحد. فمجال الصحيفة في التأثير والتأثر كان له دور كبير في العصور اللاحقة في البلاغة والنقد، وعند الأدباء والنقاد وعلماء البلاغة، وسنوضح هذا المجال في التأثير عندما نتحدث عن القضايا النقدية التي أثارها بشر في صحيفته.
القريحة والاكتساب:
يعدّ بشر أول ناقد كتب في النقد عن الموهبة والاكتساب والطبع والصنعة في صحيفته، فقد ميز بين الأدب الذي خرج عن طبع وسليقة وبين الأدب الذي صدر عن تعب وجهد، وتأمل وصنعة، فالأدب المطبوع يكون صاحبه
ملهمًا، فإذا ما أراد موضوعًا تزاحمت عليه المعاني، وتفتحت موهبته عن مخزونها من أفكار وخواطر، وانقادت له الألفاظ، وتلاحقت على لسانه الكلمات، وانصاعت له الأساليب، وكان عليه أن يتجاوب مع طبعه، فيكتب عن طبع بلا جهد ولا معاناة وينساب مع موضوعه بلا تأمل ولا ضجر، وهذا ما أطلق عليه النقاد فيما بعد "أدب الطبع" فمصدره القريحة الصافية، والطبع الأصيل، والاكتساب يأتي بعد ذلك تبعًا لا أصلًا.
أما الأدب المصنوع فلا يخلو من الموهبة أولًا، لكن صاحبه يعاني أثناء الكتابة والصياغة جهدًا شاقًّا، ووقتًا مضنيًا، يفتش فيه بين جوانب نفسه ليصطاد الخواطر التي تنسجم مع موضوعه، ويبحث خارج ذاته عن أفكار وأساليب وصور، وربما يترك الكتابة وقتًا، ليستعين عليها بوقت آخر، يعاني فيه من المعاودة والتكرار، والتهذيب والصقل والمتابعة، حتى يكتب في النهاية، ويصدر عن صنعة في أدب مصقول مهذب، كان الاكتساب فيه أظهر وأقوى من الطبع والقريحة. أما من لا طبع له، ولا موهبة قادرة على الاكتساب والتهذيب، فالأولى له أن ينصرف عن الأدب إلى صناعة أخرى، تتجاوب معه، وهذا ما أشار إليه بشر في صحيفته:
"كن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا وفخمًا سهلًا ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا
…
فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك
…
فإن أنت ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة: إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق
…
فإن تمنع عليك.... فالمنزلة الثالثة أن تتحوَّل عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك" 1.
ثم يتناول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ "م 255 هـ] الطبع والصنعة بصورة أوسع وأعمق متأثرًا بما سبق من كلام بشر، فيرى أن المعاني مشتركة لكن تميز الأديب يرجع إلى صحة الطبع في الصياغة والتصوير يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي
…
وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ،
1 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 135.
وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير"1.
ويقول الجاحظ في الطبع والإلهام عندما تحدث عن الخطابة عند العرب: فكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إحالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام
…
فتأتيه المعاني أرسالًا وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا"2.
ثم يتحدث الجاحظ عن الصنعة في الأدب لأنه يعرف أن: "من شعراء العرب من كان يدع العقيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا"، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويقلب فيها رأيه اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله ذمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات، والمنقحات والمحكمات"3.
1 الحيوان 3/ 40.
2 البيان والتبيين: 2/ 15.
3 المرجع السابق: 2/ 21.
وأما ابن قتيبة [م 276 هـ] فيصف الشاعر المطبوع بأنه إذا امتحن لم يتلعثم
…
ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر، كزهير والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأمثالهما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين"1 والمقصود بالمتكلف عنده هو المصنوع لأن المتكلف ساقط من باب الأدب الجيد جملة.
ويوضح ابن قتيبة الطبع أكثر حين يقول: والشعراء بالطبع مختلفون فمنهم من يسهل عليه المديح ويتعذَّر عليه الهجاء
…
فهذا ذو الرمة أحسن الناس تشبيبًا، وأجودهم تشبيهًا، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع وذلك الذي أخره عن الفحول" 2.
والذي يدل على أن المتكلف عنده هو أدب الصنعة قوله: "والمتكلف وإن كان جيد الشعر محكمه فليس فيه
1 الشعر والشعراء: 8: 12.
2 المرجع السابق: 14.
الشعراء يتفاوتون في شعرهم بالطبع، ثم يعين الطبع أمورًا أخرى كالرواية والذكاء والدربة يقول:"إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه"1.
ويوضح التصنع ليفرق بينه وبين المطبوع فيقول: "إن رام أحدهم الأغراب لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلف، وأتمّ تصنع، ومع التكلف المقت، وللنفس عن التصنع نفرة، وفي مفارقة الطبع قلة حلاوة، وذهاب الرونق، وإخلاق الديباجة، وربما كان ذلك سببًا لطمس المحاسن فصار هذا الجنس إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب، إلا بعد إتعاب الفكر، وكدّ الخاطر، والحمل على القريحة.... وهذه جريرة التكلف"2.
ويفصل ابن رشيق بين المطبوع والمصنوع فيقول: [م 463 هـ] "ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولًا، وعليه المدار، والمصنوع وإن وقع
1 الوساطة بين المتنبي وخصومه: 21.
2 المرجع السابق: 24.
عليه هذا الاسم، فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين"1
ثم يقرّر ذلك ابن الأثير [م 627هـ] فيقول: "اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى الآت كثيرة
…
وملاك هذه كله الطبع فإنه لا تغنى تلك الآلات شيئًا، ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يقدح بها ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار، لا تفيد تلك الحديدة شيئًا" 2.
وغيرهم من النقاد وعلماء البلاغة كثيرون، الذين تأثروا بصحيفة بشر في حديثه عن الطبع والصنعة مثل أبو هلال العسكري [م 395 هـ] وابن طباطبا [م 322 هـ] والآمدي "م 370 هـ] .
1 العمدة: 1/ 82.
2 المثل السائر: ص 3
منزلة العاطفة من الأدب:
العاطفة القوية الصادقة هي التي تجعل الأدب قويا والشعر نابضًا بالحياة، فهي من النص الأدبي بمنزلة الروح من الجسد، فيها يسمو الأدب ويخلد الشعر، ولذلك تنبه لها النقاد القدامى، وأشادوا بمنزلتها من الأدب، وتحدثوا عن مصادرها القوية، ومنابعها المندفقة، وأوارها المتأجج، فاختاروا لها أنسب الأوقات وأصفاها، وأجمل الأماكن وأهدأها، ووضح أبو سهل في صحيفته وقت احتدام العاطفة، ومنطلق صدقها، وحرارتها، ومنزلتها من الأدب، حين تبعث فيه القوة والحياة قال بشر:"خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف نسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش القول، وأجلب لكل عين وغرة1، من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة"2.
1 أجلب: أكثر طلبًا، عين: نفيس، وغرة: حرارة وتوقد، أشرف نسبًا: أحسن اختيارًا للألفاظ. أكرم جوهرًا أكثر معرفة بفصاحة الكرم.
2 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 134.
ينبغي على الاديب أن ينتقي أنسب الأوقات لكتابة الأدب أو إنشاد الشعر أو إلقاء الخطب، ويمتنع عن الكتابة في وقت فتور العقل، وخمود البدن، وتبلد الإحساس وامتلاء المعدة، فكما قالوا: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وإنما يكتب الأديب أثناء النشاط في البدن، واليقظة في العقل، والحركة في الذهن، وانفعال المشاعر، ورقة الأحاسيس، لتكون العاطفة صادقة، والخيال خصبان فتتمكن منه الألفاظ الكريمة، والكلمات الفصيحة، والنظم البليغ، والتراكيب القوية، والمعاني البديعة، والأفكار المبتكرة، فإن مثل هذه الفترة، مهما كانت وجيزة فهي أفضل من أيام خفتت فيها العاطفة الصادقة، حين يعاني منها الأديب أثناء الصياغة من آلام الكد والمطاولة ومتاعب الجهد والمحاولة.
فالعاطفة الصادقة هي التي تؤجج في الأدب شعورا متدفقًا، وإحساسًا عميقًا، ونشاطًا فكريًّا وذهنيًّا، فينبض الأدب بالحياة، والحياة فيه هي الصدق العاطفي والفني، فيرتفع إلى سمو الغرض، وشرف الهدف، ووضوح المعنى، وينقاد اللفظ خفيفًا سهلًا على اللسان، ويجري رقيقًا عذبًا، كالماء العذب الرقيق، والينبوع الثر الصافي.
وحرارة العاطفة لا تزج بالأديب في دروب الخطأ، ومنحنيات التيه، لأن العقل يوجهها ويسدّد خطاها، وينظم شراراتها، فلا تهبط في الشعاب المتوعرة، أو تنزل في مخالق التعقيد، الذي يلف المعنى في ضباب كثيف، أو يدرج الغرض في أثواب قائمة، فيكون الأديب في أسلوبه الذي اختفى فيه المعنى، أسوأ حالًا قبل أن يكشف عنه.
وأبو تمام الذي عاصر بشرًا تحدَّث عن وقت نشاط العاطفة، وعن مصدر القوة والصدق في الأدب بما وصَّى به تلميذه البحتري: يا أبا عبادة تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، وأعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر.... فإذا عارضك الضجر، فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب.
وسار ابن قتيبة على نهج بشر، متأثرًا به في حديثه عن العاطفة، ووقتها وصدقها قال: "وللشعر أوقات يسرع أتيه1، ويسمح فيها أبيه، منها أول الليل قبل تغشي
1 أتيه: سبك.
الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في المجلس وفي المسير، ولهذه العلل تختلف أشعار ورسائل المترسل"1. ويسير أبو هلال العسكري [م 395 هـ] في هذا الطريق الذي بدأه بشر، فيذكر الأديب بالكف عن الأدب إذا شعر بفتور أو ملل، ويحثه على العمل يقول فاعمل: "ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخونك الملال، فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع، يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الري، وتنال إربك من المنفعة فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلَّ عنك غناؤها"2.
وغيرهم من النقاد الذين تأثروا بالصحيفة مثل الآمدي3، والقاضي الجرجاني 4، وعبد القاهر الجرجاني5.
1 الشعر والشعراء: 9
2 الصناعتين: 128.
3 الموازنة: ص 173 وما بعدها.
4 الوساطة: 360.
5 دلائل الإعجاز: 88.
الوزن والقافية:
وتحدث بشر عن قوة الوزن والقافية، وتناسبهما، وحسن موقعهما بين الألفاظ، وتلاحم المعاني في الأبيات، يقول بعد أن تحدث جودة الألفاظ:"والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاطى قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتك، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا.... عابك من أنت أقل عيبًا منك"1.
ويتأثر أبو هلال بما ذكره بشر عن الوزن والقافية، فيقول أبو هلال: "وإن أردت أن تعمل شعرًا، فأحضر المعاني التي تريد نظمها فكرك وأخطرها على قلبك وأطلب لها وزنًا، يتأتى فيه إيرادها، وقافية يحتملها، فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية، ولا تتمكن منه في أخرى، أو تكون في هذه أقرب طريقًا، وأيسر كلفة منه في
1 البيان والتبيين: الجاحظ 135.1.
تلك، وإذا عملت قصيدة فهذّبها ونقّحها بإلقاء ما غثَّ من أبياتها، ورثَّ ورذل والاقتصار على ما حسن وفخم، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه، حتى تسوّى أجزاءها، وتتضارع هواديها وأعجازها"1.
ويذكر ذلك أيضًا ابن رشيق فيقول: "ومنهم يحكم القافية في انتاجه، فينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر، مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك لا يعدو بها ذلك الموضع، إلا أن انحلَّ عنه نظم أبياته، وذلك عيب في الصنعة شديد ونقص بين، لأنه أعنى الشاعر بصير على شيء واحد بعينه، مضيقًا عليه، وداخلًا تحت حكم القافية، وكانوا يقولون: ليكن الشعر تحت حكمك، ولا تكن تحت حكمه.... ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب عن القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها وشريفها وما سعد معانيه وما وافقها، واطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها، ليكرر فيها نظره، ويعيد عليها تخيره في حين العمل، هذا الذي عليه حذاق القوم.... ومن الشعراء من إذا جاءه البيت عفوًا أثبته ثم
1 الصناعتين: 133.
رجع إليه فنقحه، وصفاه من كدره، وذلك أسرع له، وأخف عليه، وأصح لنظره، وأرخى لباله، وآخر لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدل على القدرة
…
والصواب ألا يصنع الشاعر بيتًا لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد في ذلك طبعي جملة، ولا أقدر عليه بل أصنع القسيم الأول على ما أريده، ثم ألتمس في نفس ما يليق به من القوافي بعد ذلك، فأبني عليه القسيم، أفعل ذلك، كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخلٍ عليّ، ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئًا من لفظ القسيم الأول إلا في الندرة، التي لا يعتدّ بها أو على جهة التنقيح المفرط"1.
وصاحب الصحيفة أول ناقد تحدث عن القافية والوزن في ميزان النقد الأدبي، ثم جاء النقاد بعده لينظروا فيها نظرة نقدية تقوم على التحليل والتعليل حينًا، وعلى تجربة الناقد نفسه في الشعر حينًا آخر كابن رشيق في عمدته.
1 العمدة: ابن رشيق 140، 141.
منازل الأديب ومراتب الأدب:
الأدب موهبة وفن وصنعة ماهرة، لا يستطيع كل من مالت إليه نفسه أن يكون أديبًا فقد أجمع النقاد على أن الأديب يوجد ومعه الموهبة، التي تعينه على إجادة هذا الفن، ومن لم توجد معه هذه الموهبة فعليه أن ينصرف إلى صنعة أخرى، تتناسب مع ميله وطبعه، وهذا ما قرره بشر أول النقاد، حين حدَّد منازل الأديب من الأدب، فجعل في المنزلة الأولى الأديب الموهوب ذا القريحة الملهمة، ليصدر عن أدب رفيع جيد، وفي المنزلة الثانية الأديب، الذي يعاني في أدبه من الكد والمطاولة، فيكون أدبه وسطًا، وفي المنزلة الدانية وهي الثالثة، ينتج صاحبها كلامًا مهلهلًا متكلفًا، وهو الأدب الرديء، يقول بشر:1.
"كن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا،.... فإن كانت المنزلة
1 البيان والتبيين: الجاحظ 1، 134 العمدة: ابن رشيق 142.1.
الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها
…
فإن أنت تكلفتها، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا محكمًا لشأنك، بصيرًا بما عليك ولك، عابك من أنت أقل منه عيبًا، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإذا أنت ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح الطباع فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك، أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك، وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك، فإنك لم تشته ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله"1.
ذكر بشر ثلاث منازل للأديب حسب منزلة أدبه، ومكانه من الجودة أو الرداءة أو التوسط بين الجودة والرداءة، ووضح خصائص الأدب الجيد في المنزلة الأولى للأديب،
1 حاذقا: ماهرًا - مطبوعًا: مفطورًا وهي ضد الصنعة - طبيعة: موهبة.
حيث يرتقي إلى الدرجات الرفيعة من البلاغة، وذلك إذا تراشق الأسلوب عنده باللفظ الخفيف على اللسان، وبالكلمة اللطيفة في الصياغة، فتسيل عذوبة، وتختال رشاقة، ويحسبها القارئ فخمة عند النظر إليها، فإذا بها تنساب إلى النفس سهلة عند التعرف عليها.
وذلك لأن المعاني ظاهرة للأبصار، والأفكار واضحة للأفهام، قريبة إلى أنفس العلماء والأدباء، فيبلغ بها الأديب أعلى المنازل، فتنحني أمامه طرائق التعبير، وتذوب على لسانه توعر الكلمات، وتسهل لديه بيداء الأساليب، فينسج من الأدب لونًا واحدًا، يقع من نفوس الجميع موقعًا بليغًا، لا يخفى على الدهماء، ولا ينكره البلغاء.
فإن حرم الأديب المنزلة الأولى، التي اجتمعت لها خصائص الأدب الرفيع من أول وهلة، وأحس بأن اللفظة قلقة في التعبير، والكلمة ناشزة في الأسلوب، والتراكيب تموج بالقلق والاضطراب، وندت الفقرات عن مواقعها ونفرت العبارات من قرارها، ووقعت القافية من البيت موقعًا قلقًا، وسارت إلى غير مركزها في القصيدة، يكرهها الشاعر على اغتصاب المواقع في التصوير، وتنزل من الأسلوب في غير موطنها الدقيق واللائق بها، وغير ذلك من الصفات
الرديئة التي تنزل بالأدب عن منازل الحذق والمهارة، والطبع والقريحة، فيهوى بها إلى الصنعة والكلفة، وتمجّه الأذواق السليمة.
ومثل هذا الرجل الذي لم تأتِ إليه الصياغة طوعًا لأول وهلة، قد لا يحرم من موهبة الأديب، ولا من طبيعة القول البليغ الذي شابه شيء من صنعة المتأدّبين، مثل هذا المتأدّب، قد تتحرك فيه العاطفة الصادقة بعد فترة قصيرة، فيستجيب له اللفظ الذي يتناسب مع المعنى، وتخضع له التراكيب التي تتلاءم مع الغرض، وإن واتته على مهل، وطاوعته بعد عصيان فنزل أدبه إلى درجة التوسط بين الجيد والرديء.
فإن استعصى على الرجل هذا اللون الثاني من الأدب أثناء المحاولة بعد فترة قليلة من الزمن، والذي لم يخل من الصنعة المهذبة، فكان اللفظ قلقًا، والكلمة ناشزة، والقافية مضطربة، والتراكيب تستعصى على المعاني، وتتنافر مع الأغراض فيصير أدبه رديئًا، يجرد صاحبه من الأدب، وعليه حينئذٍ أن يترك الأدب، ويتجه إلى صنعة أخرى تتناسب مع ميوله وغريزته، وينزل عند حرفة أخرى.
تتواءم مع طبعه، وتلتقي مع مزاجه، لأن لكل طبيعة بشرية صنعة تجيد العمل فيها، ولكل فطرة إنسانية حرفة تنقاد لها، فنرى الأديب والشاعر، والخطيب والناثر، والتاجر والصانع، والزارع والصائغ إلى غير ذلك من ألوان الصناعات.
ثم يتزاحم النقاد بعده متأثرين به في توضيح منازل الأديب ومراتب الأدب ودرجاته، يقول أبو هلال العسكري:"إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطر معانيه ببالك وتنوق له كرائم اللفظ1، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك طلبها، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلقت بذيله.... وإذا أردت أن تعمل شعرًا فحضر المعاني التي تريد نظمها" إلخ ما سبق ذكره.
ويرى الناقد ابن رشيق أن معاناة الشاعر في شعره أحيانًا تؤدي إلى كدّ فكره، وانصرافه إلى المعنى حتى يبلغ مراده، ويضرب لذلك مثلًا من شعر الفرزدق قال:
فإني أنا الموت الذي هو ذاهب
…
بنفسك فانظر كيف أنت محاوله
1 تنوق: تخير وانتق اللفظ.
وحلف الفرزدق أن جريرًا لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء حتى نقضه بقوله:
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد
…
فجئني بمثل الدهر شيئًا يطاوله
ثم يأتي محمد بن طباطبا [م 322 هـ] ليفصل القول في هذا تفصيلًا قائمًا على تجربته الشعرية الذاتية، ومعاناة الأدب بنفسه، ليقرر أن الأديب يمرّ بمرحلة التفكير وترتيب المعاني، التي يريد نظمها، ثم مرحلة الإنتاج ليواخي بين المعاني بعضها مع بعض، وبينها وبين ما يتلاءم معها من القوافي والأوزان في اتساق وترتيب، بلا فجوة أو خلل، ثم مرحلة الترتيب والتنسيق بين الأبيات متوخيًا معانيها، ثم المرحلة الرابعة وهي التهذيب والتثقيف كالذكر أو الحذف، والتقديم والتاخير، والصقل والتثقيف، حتى يظهر النص في أجمل صورة، يقول ابن طباطبا:
"إذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى1 الذي
1 مخض: قلب وتدبر.
يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتت منها، ثم يتأمَّل ما قد أدَّاه إليه طبعه، ونتحته فكرته، فيستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضادّ للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يقوف وشيه بأحسن التقويف، ويسديه وينيره، ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه1، وكالنقاش الرقيق
1 يقوف: قوف الثوب صنع فيه خطوطًا بيضاء على الطول - والسدي من الثوب خلاف اللحمة وهو ما مدَّ من خيوطه - وينيره: جعل له نيرًا خلاف سداه - هلهل الثوب: نسجه سخيفًا.
الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها" 1.
ويذكر ب شر خصائص الأسلوب الجيد فيقول: "ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم عن معدنه وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما، وقضاء حقهما"2.
1 عيار الشعر: ص 5.
2 البيان والتبيين ك الجاحظ 135.1.
مقتضى الحال:
وهذه القضية من أبواب البلاغة التي اشتغل بها من بعده علماء البلاغة، وأدخلوها في علم المعاني، وهي من أهم قضايا نقد الأدب العربي، ووضح بشر أن مقتضى الحال هو أساس علم البلاغة، وبه يسمو الشعر والأدب قال: "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، واقدار المستمعين على اقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، تجنب1 ألفاظ المتكلمين، كما إنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا، أو مجيبًا، أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن، وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك
1 تجنب: التزم
المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسميته ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف وقدوة لكل تابع"1.
يتناول بشر في هذه الفقرة أساسًا من أسس الجودة، وبابًا من أبواب البلاغة الذي يهتم به الأديب في أدبه اهتمامًا كبيرًا وهو باب مقتضى الحال، ويعدّ هذا الباب الأساس الأول في علم البلاغة؛ إذ به يصحّ النص الأدبي، وعلى الأديب أن يحدّد المعنى الذي يخاطب به الآخرين، سواء أكان هذا المعنى في اللغة أو الأدب أو البلاغة أو التوحيد أو غير ذلك، ويتعرَّف على أجزائه، ثم يحدّد الطبقة من المستمعين، لأن لكل طبقة طريقة في التعبير يحسنون فهمها، فطريقة علماء الكلام تختلف عن أسلوب النحاة، ثم يتعرف على أحوال المستمعين، فتارة يكونون في حالة ينكرون فيها المعنى، وتارة يجهلونه، وتارة يشكون فيه، ولكل حالة من هذه الحالات الثلاث أسلوب معين يعتمد على التوكيد أحيانًا، أو لا يعتمد، ويضرب أمثلة كثيرة لطرائق التعبير في باب مقتضى الحال، مثل مخاطبة المتكلمين من
1 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 135.
أهل علم الكلام، ومخاطبة العروضيين، ومخاطبة النحويين، ومخاطبة علماء الرياضة والحساب.
وعلماء البلاغة ينسبون هذا القول إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، فكلام بشر هذا إن كان أساسًا من أسس علم البلاغة، لكنه مع ذلك قيمة من قيم النقد الأدبي، لأنه وثيق الصلة بالتصوير الأدبي فالغرض من التصوير هو التأثير في النفس، بحيث يسيطر على العقل والعاطفة والمشاعر وهذا التأثير للصورة لا يقوى إلا إذا اتفق مع الحالة التي يعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الأديب ويشخصه الشاعر المصور.
ولا يخلو عالم من علماء البلاغة بعد بشر إلا وقد تناول مقتضى الحال كما لا يخلو كتاب من كتب البلاغة إلا اشتمل على هذا الجانب.
النظم والتصوير الأدبي:
تنبّه بشر بن المعتمر قبل غيره من النقاد إلى قضية النظم، فهو لا يرتفع باللفظ وحده، ولا بالمعنى وحده، ولكن يقصدهما معًا، ممهدًا لنظرية النظم يقول:"إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا، وهو يفسد الصورة الأدبية، ويخلّ بالتعبير، ويفقد روح التاثير فيها ويقول بعد ذلك: "ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما".
فموطن الجمال عند بشر في العمل الأدبي يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى فلا بدّ للمعنى الشريف من لفظ شريف ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليست في اللفظ وحده ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محل الصورة الأدبية، التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء.
عصره. فقد نشأ النقد الأدبي قبل أن يعرف مصطلحاته الحديثة.
وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة الأدبية، التي تحددت معالمها فيما بعد، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذكرت من أجله.
يقول بشر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما:
ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف
…
إلى قوله: إن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا1.
ويأتي الجاحظ بعد بشر ليرد الجمال والبلاغة إلى الألفاظ، لأنها محصورة محدودة، بينما المعاني عنده ممتدة مبسوطة، لكنه بعد ذلك يربط بين اللفظ والمعنى فهو يجعل
1 البيان والتبيين: الجاحظ 135.1.
الشأن للصياغة، والشعر ضرب من التصوير، والصياغة والتصوير يرتبط فيها اللفظ بالمعنى يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير 1.
ويتفق أبو هلال العسكري مع الجاحظ في تأثرهما بصحيفة بشر بن المعتمر. ويرى ابن قتيبة أن القصيد يعلو ويهبط حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، فقسمه إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وعلا فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه 2.
ويسير ابن طباطبا بما جاء به بشر بن المعتمر فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فأحضر المعاني الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، أو أعدَّ له مما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي تواققه
…
فإذا اتفق له
1 الحيوان 40.3.
2 الشعر والشعراء: 7.
بيت يشاكل المعنى الذي يرومه ابتدأ وعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على ما بينه وبين ما قبله " 1.
هذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية، يحضر الشاعر المعاني، وينتقي لها من الألفاظ والقالب الموسيقي ما يتناسب معها، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات، فهو يربط بين اللفظ وإيقاعه وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم التي تتبني عليها الصورة الأدبية.
ويهتم الآمدي "م 370 هـ " باللفظ والمعنى في النظم والتصوير فيقول: "وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأنِّي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى اللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله
…
والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة.... وينبغي
1 عيار الشعر: 23.
أن تعلم أن سوء التأليف ورديء اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل
…
وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه أحدث فيه غربة لم تكن وزيادة لم تعهد"1.
ويكاد يتفق علي بن عبد العزيز الجرجاني مع الآمدي في فهمه للنظم والصورة الأدبية، وتأثرهما بالناقد الأدبي بشر بن المعتمر.
ويعقد ابن رشيق باب اللفظ والمعنى، ليربط بينهما كما ربط بشر بن المعتمر، يقول ابن رشيق: أن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحدِّه ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية في العلاقة التي تتم بين الألفاظ وتكشف عن المعنى2.
وهذا ما قرَّره عبد القاهر الجرجاني "م 471 هـ" واكتمل على يديه، حيث انتهى إليه الحديث عن النظم والصورة الأدبية، بعد أن بدأه بشر بن المعتمر، ليبلغ عبد
1 الموازنة بين أبي تمام والبحتري 173.
2 العمدة: 124.1.
القاهر فيه الغاية، ويرسي قواعد النظم ومفهومه ويحدّد معالم التصوير الأدبي، يقول عبد القاهر:"أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم"1.
ويوضح هذا أكثر فيقول: "وأعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشَّك، ألا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يتعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب تلك.... وإذا كان كذلك فعلينا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله"2 ويقول: واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله.... إنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مزجها لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب،
1 دلائل الإعجاز: 473 تحقيق د/ محمد عبد المنعم خفاجي.
2 دلائل الإعجاز: 97.
وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر والشاعر في توخييهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم....
وسبيل الكلام هو سبيل الصيغة والتصوير، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه، سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصنع، كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا على بيت من أجل معناه لا يكون تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فاعرفه"1.
وبهذا يكون عبد القاهر وضح نظرية النظم، والعلاقات التي ينبني عليها التصوير الأدبي، فأعطى للفظ حقَّه، وللمعنى حقه، والصورة تأتي من العلاقة بينهما معًا،
1 المرجع السابق 118، 123، 255.
ويرجع أساس الجمال إلى النظم والصباغة والتصوير، ولا بد لكل كلمة في النظم أو الصورة أن تأخذ مكانها بين أخواتها على أساس توخي معاني النحو حتى تحقق الوحدة الفنية في النص الأدبي.
وتحدث بشر أيضًا عن الوحدة الفنية: أو مناسبة الكلمة لموقعها يقول: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تعدّ إلى قرارها، إلى قوله، أوجريت من الصناعة على عرق.
فصياغة الشعر ليست سهلة أو ميسورة، لأن تصوير المعنى يحتاج إلى دقة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين والشريفتين، أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة، لتستقر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها وتتوازن مع نظائرها، وتتشاكل مع أخواتها.
وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية والوحدة الفنية بين الألفاظ فيها، بحيث لا توافق الكلمة
أختها، فتعبر أحداها عن الصبابة والثانية عن الفخر، فيصير النسج بذلك مهلهلًا، والتماسك ضعيفان وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل يومًا وليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتتواءم كل كلمة مع أختها، ويتم التلاحم بين أجزاء الصورة الأدبية، وتتحقق الوحدة الفنية فيها.
وليسمها بشر تناسبًا بين الكلمات، أو توافقًا بين المعاني فلا يضر ذلك في عناصر التصوير حين يسميها النقد الحديث الوحدة الفنية وغيرها مما يدل على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير.
وبهذا يكون أبو سهل بشر بن المعتمر أول ناقد أدبي سجل هذه القضايا النقدية، والقيم الجمالية في النقد العربي القديم، وإن لم يفصل القول، كما هو مألوف في التطور التاريخي لنشأة العلوم، حيث يبدأ رويدًا رويدًا، ثم تأخذ في التكامل والنضوج على أيدي النقاد الذين جاءوا من بعده كما وضحت ذلك.
وهذه المنزلة الرائدة في النقد لبشر، لا تغض من
مكانة ابن سلام الجمحي لأنهما كانا يعيشان في عصر واحد وفي جو علمي واحد، مع أن النقاد جعلوا الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء" مؤرخًا للأدب وإن كانت له نظرات نقدية عميقة، ولا يغض أيضًا من نظرات أبي تمامة وخاصة في وصيته لتلميذه البحتري، لأنهما أيضًا كانا معًا في عصر واحد.
القسم الثاني: قضايا المعنى واللفظ والأسلوب والنظم والصورة والموسيقى
الفصل الأول: القضايا النقدية في صحيفة بشر بن المعتمد
…
خفاء على ذوي العلوم، لتبينهم ما نزل بصاحبه فيه: من طول التفكر، وشدة العناء،
…
بأن ترى البيت مقرونًا بغير جاره، ومضمومًا إلى غير لفقه
…
والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر، واقتدر على القوافي، وأراك في صدر البيت عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع، ووشي الغريزة"1.
ويوضح المرزوقي [م 421 هـ] المطبوع والمصنوع أيضًا فيقول: "متى رفض التكلف والتعمل، وخلى الطبع المهذب بالرواية، المدرب في الدراسة لاختياره.... أدَّى من لطافة المعنى وحلاوة اللفظ ما يكون صفوا بلا كدر، عفوًا بلا جهد، وذلك هو الذي يسمى: المطبوع، ومتى جعل زمام الاختيار التعمل والتكلف عاد الطبع مستخدمًا متملكًا، وأقبلت الأفكار تستحمله أثقالها
…
مطالبة له بالإغراب في الصنعة.... وذلك هو المصنوع" 2.
ويرى أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني [م 392 هـ] أن الشعر يعتمد أول ما يعتمد على الطبع، لأن
1 الشعر والشعراء: 12.
2 شرح ديوان الحماسة: 12.