المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف: - في النقد الأدبي

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف:

‌الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف:

أبواب الكتاب:

وكتاب الموازنة عند أبي الحسن الآسدي مقسم إلى اثنى عشر قسمًا. وكل قسم ادَّعاه المؤلف باب.

1-

فالباب الأول "من ص 1 - ص 46" وفيه أورد المؤلف محاجة مفندة ومدعمة بالأدلة والبراهين، ويبيّن كلًّا من أصحاب أبي تمام المتعصبين له وأصحاب البحتري المفضلين إياه. ومنهم المؤلف الذي ينتحل الأعذار للبحتري بلسان مرهف حاد.

2-

والباب الثاني من "46 - 120" وفيه أحصى الآمدي سرقات أبي تمام الشعرية، وذلك بعين الباحث المنقب.

3-

والباب الثالث من "120- 226" وهنا عدَّد الآمدي وندَّد في شيء من التحامل والتعصب على الرجل من أخطاء أبي تمام في الألفاظ والأساليب والمعاني.

4-

والباب الرابع من "228، 272"، وذكر فيه أخطاء أبي تمام من قبيح الاستعارات ومستكره الجناس، ومرذول الألفاظ، ومستهجن الطباق وسوء النظم وفساده، والحق يقال أن مثل أبي تمام في شعره كمثل القاضي الفاضل في نثره فلقد أولع كلاهما بفن البديع حتى خرجا إلى التكلف الممجوح.

5-

والباب الخامس من 272 - 275" وفيه أخطاء أبي تمام من الزحاف واضطراب الوزن، وكأني بثلاثة أرباع الموازنة قدحًا في الطائي.

6-

الباب السادس من 227- 347" وفيه أحصى سرقات البحتري من أبي تمام وغيره.

7-

الباب السابع من "348- 379" وذكر فيه أخطاء البحتري في المعاني التي دافع عن الكثير منها.

ص: 25

8-

الباب الثامن من "380 - 382" يومئ فيه إلى اضطراب البحتري في الوزن واختلاف فيه.

9-

الباب التاسع من "382 - 389" أورد فيه رأيه في النقد وطريقه وكيف يكون الناقد؟ واستدلَّ فيه بآراء النقاد.

10-

الباب العاشر من 389 - 391" وفيه فضل البحتري على أبي تمام كشاعر.

11-

الباب الحادي عشر من "391 - 395" وفيه ذكر فضل البحتري، وأن الشاعر القائم بعمود الشعر.

12-

الباب الثاني عشر من "396 - 455" وهنا الموازنة الوحيدة بين الشاعرين وذلك في الوقوف على الأطلال، والبكاء على الآثار وهي مطالع القدماء من الشعراء، والكتاب من الحجم المتوسط بتعليق محمد محيى الدين عبد الحميد.

ص: 26

الموازنة:

والآمدي رحمه الله يُسمِّي كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" ولنا أن نسأل: ما معنى هذه التسمية الموازنة؟ وخاصة بين كتب الأدب، ونقول: إن لكلٍّ أسلوبه كما أن لكل أديب نسجه وبيانه، كذلك لكل شاعر وصفة وإيقاعه ويختلف هذا عن ذاك بعدد تفاوت الوجوه، وهذا التفاوت في الأسلوب والعرض والتحليل والتناول والتصوير يفرض بطبيعته على التذوق النفاذ، خاصة الموازنة بين نص ونص، والمقارنة بين بيت وآخر والمراجحة بين أدب وأدب 1. وترتبط الموازنة بالمنطق الشخصي الصرف أحيانًا. وأخرى تعتمد على التحليل والتعليل وإقامة الحجج، وثالثة دون تعليل أو تفنيد.

ويتطرق الآمدي في الموازنة إلى أشياء كثيرة:

منها البراعة والمهارة في تجويد الأسلوب، ومنها التفنّن في اقتناص المعاني الشاردة، ومنها ما يرجع إلى الحذق في التصوير والتحليق. ومنها ما يستند إلى الموضوعات الأدبية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو غير ذلك. وعلى الجملة فالموازنة هي:

اتجاه من اتجاهات النقد يشغل أذهان النقاد بسبب ما يجدون من معانٍ عامة وخاصّة: يشترك الأدباء والشعراء في التعبير عنها. ولكن لكلٍّ وصفه وأسلوبه.

والموازنة تنقسم إلى قسمين:

1-

قسم يذكر دون تفسير كافٍ يوضح بسبب امتياز أحد النصين على الآخر ويسمى مواجهة. ومن ذلك:

أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها

أكسب عليها جاذر متعرق

وقال جميل بثينة في الغرض نفسه:

أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها

بقايا سلال لم يدعها لسلالها

ص: 27

وقال جرير الخطفي في المعنى ذاته:

إذا بلغوا المنازل لم تقيد

وفي طول الكلام لها قيود

وهنا قال نصيب: ما أشعر ابن الخطفي؟ إنه يفضلني وجميلا.

2-

فإذا ذكرت الموازنة معتمدة على إقامة العلل، وتفنيد الحجج والتفسير الموضح لسبب امتياز أحد النصين على الآخر. دعيت مقارنة ومنها:

اجتمع عند كثير عزة عمر بن أبي ربيعة، والأحوص، ونصيب وجلس كثير ينتقد ثلاثتهم، فلما فرغ من انتقادهم. أقبل عليه عمر بن أبي ربيعة يقول:

قد أنصتنا إليك فاسمع: أخبرنا عن تخيرك لنفسك ولحن تحب حيث نقول:

ألا ليتنا يا عز من غير ريبة

بعيران نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عل فمن يرنا يقل

على حسنها جرياء تعدصي وأجرب

تكون لذي مال كثير مغفل

فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب

فقد تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمى والطرد والمسخ.

فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول القائل:

معاداة عاقل خير من مودَّة أحمق

وكأني بعمر بن أبي ربيعة يزهو على كثير في خيلاء عندما يصاوله في فن الغزل والتشبيب بالنساء ولا ريب فهو صاحب قصيدته الرائية والتي مطلعها.

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

البيت؟

وهي من عيون الأدب العربي.

فهذا هو التفسير والتعليل للمقارنة. ولقد روى أن ثلاثتهم قاموا بعدها ما يتضاحكون، وجلس كثير ينتفض جسده غضبا.

ص: 28

الشاعر:

أبو تمام شاعر والبحتري شاعر.... وكذلك الآمدي شاعر أيضًا. وقد يتسنَّى لنا أن نسأل: من الشاعر؟

هو ذلك الإنسان المرهف الحس/ المعبر عما في النفس.... من خواطر وهواجس وما يجيش في صدره من خوالج، فهو كإنسان يحبّ ويبغض. ويحزن ويفرح، ويأمل ويتألم، وفوق هذا فالشاعر رقيق الشعور، تضطرم في صدره كل هذه الأغراض أو بعضها فتفيض جيشاشة هادرة منحدرة على لسانه، وينطق ذلك الإنسان مصورًا ما يحسّ ويشعر، ولذا قيل في تعريفه:

هو الإنسان الذي يشعر بما لا يشعر به سواه. ولشفافية الروح عند الشاعر تراه يصور في قالبه الشعري ما تنفعَّل به عواطفه، وما تهتزُّ به نفسه في أسلوب أدبي منظوم ومؤثر، وتصوير رفيع ومعبّر. يُوقظ مشاعر السامع، ويحرك غافي الإحساس في نفس القارئ، في نسج ذاتي متفرّد فيسدي خيوط قصيدته ويضع لحمتها على طابعه المتميز، بتظليل ألوانها واهية وقائمة من خلف مناظره للحياة، ظلامًا ويأسًا كالمعري حين يقول:

تأملنا الزمان فما وجدنا

إلى طيب الحياة به سبيلا

أو مجونًا وفسقًا كأبي نواس المتعهر:

يا بدعة في مثال

تجوز حد الصفات

فالبدر وجه تمام

بعين ظبي فلاة

ومطرن حواشيها بوشى من نضج ثقافة أبي تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

ص: 29

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

أو حكمة انضجتها التجارب كالمتنبي حين يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفَّة فلعلة لا يظلم

وهكذا نجد تعريف ذلك للإنسان الذي حبّته السماء بملكة أدبية فذَّة، وموهبة شعرية متفرّجة على لسانه، فلما أتيحت للكثيرين من أمثاله وأقرانه. ولذا فليس ببعيد أن تقوم القبيلة العربية في احتفال صاخب وتتقبل التهاني من باقي القبائل لا شيء إلا لأنه نبغ فيها وليد شاعر، يحمي أعراضها ويدافع عن أحسابها.

ص: 30

النقد عند الآمدي:

النقد عند الآمدي فن موهوب أكثر منه مكتسبًا. فالناقد هو من له موهبة فطرية. وذكاء متوقّد يقدِّر الأمور ويحسن تقديره. والناقد ذواقة يدرك ما في الشعر بذوقه هو. وحاسته الأدبية من جمال وقبيح. والناقد ذو ثقافة أدبية واسعة ترتكز على الرواية والمدارسة، ومطالعة النصوص الأدبية. وفي طول الدرية والمران يقول الآمدي:

"وأنا ذاكر المعاني التي يتفق فيها الطائيان، فأوزان بين معنًى ومعنًى. وأقول أيّهما أشعر في ذلك المعنى نفسه، فلا تطلبني أن أتعدّى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق".

فالآمدي قد وازن بين الطائيين في غرض من الشعر بذاته ثم إنه سوف يعلن أيهما حاز قصب السبق فيه، ويطلب من القارئ في أكثر من مرة أن يعقبه من مسئولية إعلان أيهما أشعر عنده على الإطلاق، فلكل ناقد ذوقه ولكل دلوه. وعقل الناقد هو الذوق، ولذلك لن تجد ناقدًا يستطيع أن يذكر عللًا وأسبابًا لرجحان شاعر على آخر في الكثير الغالب، بالآمدي يبرز مزايا الجيد ويعدّدها، وكذلك مساوئ الرديء ويدمغها. ويقول:

"وسوف أنبه على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرزله وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، ويحفظ به العناية، ويبقى ما لم يكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علَّة ما لا يعرفه إلا بالدرية، ودائم التجربة. وطول الملامسة. وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته".

والأفضل عند الآمدي أن يترك النتيجة ليعلنها القارئ بنفسه، ويحكم فيها بذوقه، فهو يقول:"وأوكلك بعد ذلك إلى اختيارك وما تقضي عليه فطنتك وتمييزك" والآمدي يضرب مثلًا للنقد وفنّه. وأن الفيصل فيه للذوق وحدّه. وهذا لا يتأتَّى إلا لمن كانت له درية ودراية، وعنده موهبة

ص: 31

وعناية. يقول: "فالبيتان من الشعر للشاعرين كالفرسين السليمين من كل عيب، ولكن النخاس لهما قد يجعل الفرق ما بينهما في الثمن كبيرًا. وقد يتقارب البيتان من الشعر وهما جيدان نادران. فيعلم أهل الصناعة بالشعر أيهما أجود. وإن كان معناهما واحدًا. أو أيهما أجود في معناه. وإن كان معناهما مختلفًا".

ولقد امتحن الآمدي في فن النقد فلما طلب منه تعليل الترجيح عنده أرجع العلة في النقد إلى الذوق.

"سألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين وقال: اختر أحدهما؟ فاخترت فقال: من أين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين. ولكنهما تقاربا. وفضل هذا بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبّر عنه اللسان".

ويستدلّ الآمدي على صحة دعواه بكلمة "خلف الأحمر" المشهورة في النقد "وقد قيل لخلف الأحمر: إنك لا تزال تردّ الشيء من الشعر وتقول: هو رديء والناس يستحسنونه؟ فقال: إذا قال لك الصيرفي إن هذا الدرهم زائف. فأجهد جهدك أن تنفعه فلا ينفعك قول غيره أنه جيد".

والآمدي يطلب من غير أصحاب الصنعة أن يسلموا له ولأمثاله الحكم في الشعر، وأن يقبلوا منهم عن رضى تلك الأحكام:

"إذا كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم ولا يخاصمهم فيها ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم، نظرًا في الخبرة، وطول الدربة والملابسة".

وليست الصناعة عند الآمدي بامتلاك خزينة من الكتب. أو حفظ جملة من القصائد، وإنما هي الموهبة، والطبع، والملكة المصقولة على التمييز بين الأبيات، وعلى تذوق الأساليب والوصف الفني لقصيد من الشعر أو رسالة من النثر واسمعه يقول:

"لا تصدق نفسك أيها المدعى. وتعرفنا من أين طرأ لك الشعر. أمن أجل أن عندك خزانة. من الكتب تشتمل على عدة دواوين الشعراء.

ص: 32

وأنت ربما قبلت ذلك أو صفحته. إلى أن في يقول: لقد ظننت باطلًا ورمت عسيرًا؛ لأن الصم أيًّا كان نوعه لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه والانكباب عليه، ثم قد يتأتَّى جنس من العلوم طالبه ويسهل ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذَّر. فينبغي أن تقف حيث وقف بك وتقنع بما قسم لك 1.

وهذه وسائل النقد عند الآمدي وتعريف الفاقد عنده.

بين الجمال والجلال:

من القضايا النقدية، التي سبق بها الآمدي زمانه وعصره، قضية الجمال والجلال، أو الجمال والحلاوة. والفرق بينهما، وحينما ميَّز بينهما النقد الغربي حديثًا. ظن النقاد الأجانب أن هذا من بدع عصرهم وابتكاره.

وهذا خطأ، فمنذ أحد عشر قرنًا شهد النقد العربي القديم هذه القضية، وحدَّدها وفصَّل القول فيها. وخاصة الآمدي في "الموازنة"، والقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة".

وفرق الآمدي بين الجمال في النقد، فجعله محددًا، يقوم على التعليل ومعرفة الأسباب، فقواعده مقرَّرة. يحدِّدها الذوق الأدبي، وبين الحلاوة، "الجلال" التي تأخذ بمجامع القلوب، وتهزُّ المشاعر والوجدان، إذا ما فتشت عن أسباب الانبهار والتأثير لا تقف على سبب معين أو قاعدة مقرَّرة2.

ودفعًا للتكرار فقد تناولت هذه القضية الخطيرة بالتفصيل في نقدنا العربي القديم والأصيل، وذلك في كتابي "الصورة الأدبية: تاريخ ونقد3، وشرحت مفهوم كل منهما والمعالم المميزة لهما، وغير ذلك مما يوضح أصالة النقد الأدبي العربي.

ص: 33