الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد
الفصل الأول: مفهوم عمود الشعر العربي
…
الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد:
الفصل الأول: مفهومه ومعناه:
ذلك التعبير الشائع عند النقاد من العرب وهو ما يقصدون به في ذ لك الفن؟ وهو الاشتغال بالأدب.
يقصدون به تلك التقاليد المتوارثة، التي سبق إليها الشعراء الأوائل وأقتفاها من جاء بعدهم حتى صارت سنَّة متبعة، وعرفًا متوارثًا، وهو اصطلاح جديد ظهر في العصر العباسي، وتردَّد منذ القرن الثالث الهجري، ثم ذاع وتداوله النقاد في القرن الرابع، ذلك القرن الذي حفلت فيه مختلف التيارات الأدبية والنقدية. واشتهر هذا الاصطلاح عند من جاء من النقاد بعد ذلك وحتى اليوم.
يقول الدكتور "محمد عبد المنعم خفاجي": وهو من نقاد العصر الذين تحدثوا عن هذا الفن. معرفًا عمود الشعر1.
هو كل التقاليد الفنية التي التزامها القصاد في قصائدهم من الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور وغيرها، فهذه التقاليد جميعها هي عمود الشعر، والذي حتَّم الكثير من النقاد التزامه، والسير على منواله وسموا ما جاء على نمطه من قصائد شعرية للقدماء. ومن جاء بعدهم قصائد عمودية أو قصائد تلتزم عمود الشعر.
وكثرة قضايا اختلاف النقاد كانت في عمود الشعر والتزامه عند بعض الشعراء، وما طرأ عقد الآخرين والأحكام المنصفة في النقد كانت تحتكم إليه، أي إلى هذه التقاليد الفنية الموروثة عن الشعراء الجاهليين والإسلاميين في القصيدة العربية التي هي عمودية الشعر.
وقد يكون لنا أن نسأل. لم دعيت هذه التقاليد الفنية بعمود الشعر؟
ونسب هذا العمود إلى الشعر العربي؟
والإجابة عن السؤال الأول، وهي أن هذه التقاليد الفنية وهي: الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور شبهت بالعمود الفقري في هيكل الإنسان
…
كما أن مجموعها يمثل الأعمدة.
والأسس التي تبنى عليها القصيدة العربية. ذلك أن هذه التقاليد الفنية في مواد البناء للقصيدة الشعرية وبدونها لا تقوم للقصيدة قائمة. وتقوم على تشويه وخلط في صورتها.
أما نسبة "أ" العمود إلى الشعر العربي. وبم ينسب إلى الشعر اليوناني أو الفارسي أو اللاتيني أو غير هؤلاء. فذلك ليس لأن شعر هؤلاء شعر فصحى، فذلك موجود في شعر العرب، وهو ما يقصد منه جمع التاريخ وحفظ الأخبار، ولكنهم لم يطلبوا فيه إطالة الإلياذة وغيرها. فالفرس يفضلون العرب في الإطالة كما فعل الفردوسي في نظم الشاهنامة" وهي ستون ألف بيت من الشعر، تشتمل على تاريخ الفرس.
ولكن السبب هو أن شعر العرب كلي وجداني ينزع عن العاطفة ويمنح عن الوجدان فهو شعر غنائي بالصبغة الأولى.
فعندما تهيج عاطفة الشاعر ويلذع الشوق قلبه. ويضطرم وجدانه ينسكب الشعر على لسانه أرسالًا.
وكان شاعر الجاهلية أول ما يبدأ من قصيدته، التي إياها يشيد ويبني فهو معتمد على الغزل والتشبيب بمحبوبته، وهذا كعب بن زهير يقول في بردته:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم أثرها لم يفد مكبول
واصفًا ارتحالها ونزوحها عن المنازل. التي كان فيها درجة. والبكاء على بعدها وما خلفه لدى الشاعر من الجوى والحنين، واستبكاء الأصحاب أمام أطلال المنازل النازحة البعيدة. وذاك امرئ القيس رائد الشعر يشدو بحنينه:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ثم يأخذ الشاعر الصف الأول في وصف ما يشاهده من الآثار، التي خلفها قوم المحبوبة عند الارتحال، والصحراء وما قاسى من جوها
وعاصف ريحها وظلام ليلها، وما صادف من وحشها. وفجائعها. ثم يتخلص من ذلك في لفط وتسلسل مقبول إلى غرض قصيدته مدحًا كان أو وصفًا، أو للفخر أو حكاية حال، وهذا يتفق تمامًا مع حركة وجدان الشاعر العربي وفطرته. التي جبل عليها والتي تجيش بالغلبان طفرة ثم يعبّر مصورًا في تلك الآونة يعتلج في فؤاده، ويضطرم بنفسه. وعلى ذلك المنهج ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول 1:
"أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا. وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الطاعنين عنها، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد، ولم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب. ويصرف إليه الوجوه. وليستدعي به أصفاء الأسماع إليه؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لاثط بالقلوب، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستمتاع له عقب بإيجاب الحقوق. فرحل في شعره. وشكا النصب والسهر وسرى الليل. وحرَّ الهجير وأنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل. وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المديح: فبعثه على المكافأة وهزّه للسماح. وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل".
وتقدَّم الزمن وجاء العصر العباسي، وأينعت فيه الحضارة الإسلامية بما أخرجت العقول. وما عصرته القرائح بعد ذلك التبادل الثقافي وحركات الترجمة. وتشجيع الخلفاء العباسيين وعكوف الكتاب. يقطفون من ثمار هذا العصر.
وإذا بحركة الوجدان تتغيَّر ويتبدل شكلها، وإذا بأبي نواس يطالعنا ناعيًا هذه المطالع مهجنًا ذلك الطريق البالي العتيق. ألا وهو الوقوف على الديار والبكار على الأطلال، ووصف الآثار الباقية، والتسليم عليها، وسؤالها عن الأحبة النازحين عنها، فليرفع عقيرته منددًا بمطالع القصائد الجاهلية، مستبدلًا بها ذكر الخمر ووصف الصهباء. والتغنّي بنعوتها، ومن الطرب والنشوة ما تصنعه الخمر بالعقل الكثير فيقول:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
…
واشرب على الورد من حمراء كالورد
ويقول:
أيا باكي الأطلال غيرها البلى
…
بكيت بعين لا يجف لها غرب
أشنعت دارا قد عفت وتغيرت
…
فإني لما سألت من نهتها حرب
ويقول:
صفة الطول بلاغة القدم
…
فاجعل صفاتك لأيمنة الكرم
ويقول:
دع الوقوف على ريم وأطلال
…
ودمنه كسحيق اليمن البالي
وعج بنا نصطبح صفراء واقدة
…
في حمرة النار أو في رقة الآل
وكانت هذه دعوة جديدة للخروج على مطالع الجاهليين وعمود الشعر، كان هذا الماجن الخليع "أبو نواس شعوبيًّا في مذهبه كما يقول هو:1
عاج الشقي على رسم يسائله
…
وعجت أسأل عن خمارة البلد
تبكي على طلل الماضين من ابن
…
ثكلت أمك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ومن يمن
…
ليس الأعارب عند الله من أحد
ودعا أبو فارس إلى أن تفتح القصائد الشعرية بأوصاف الراح ونعوتها وتابعة في ذلك "ابن المعتز" الشاعر الناقد، والذي كان يبحث في الصلة بين الأدب والحياة. ويحاول الملاءمة بينهما. وينادي بتحضر الشعوب ورقيّه وترك روح البداوة فيه وصبغة الجاهلية عليه يقول ابن المعتز:
أحسن من وقفة على طلل
…
ومن بكاء في أثر محتمل
كأس مدام أعطتك فضلتها
…
كفّ حبيب والنقل من قبل
وليم الشاعر الماجن "أبو نواس" على دعوته الجديدة إلى تعاطي الخمر وتزيين رجسه. فعاد إلى السخرية ثانية من ذكر الأطلال، والتنادر بالوقوف على الآثار فقال مكرهًا ساخرًا.
أعز شعرك الأطلال والمنزل القفرا
…
فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطول مسلط
…
تضيق ذراعي أن أردّ له أمرا
سمعًا أمير المؤمنين وطاعة
…
وإن كنت قد جشمتني مركبًا وعرا
وهل تحرّر أبو نواس من القيود الفنية للقصيدة العربية ومن عمود الشعر ونهج طريقة غير طريقة أسلافه من الشعراء؟ وها هو ذا يصف من يقف على الديار ويبكي الآثار ويصف الزمن، ويسائل الأطلال والأحجار بالعي والفهامة وتفاهة الخيال، وركود الذهن، ذلك لأنه يرى أن التشبيب إنما يكون بالخمر الصهباء. ووصف محاسنها وتعديد فضائلها وجمال حمرتها الزاهية، ورقتها الصاقية.
والجواب1: إنما كانت هذه الدعوة زيا من أزياء العصر العباسي الأول، الذي يعيشه أبو نواس، والذي تفشي فيه شرب الخمر. والعكوف على الخمارات والعب منها، والحقيقة أن أبا نواس استبدل قيدًا بقيد، فلما مضى الزمن وجاء العصر العباسي الثاني وجدنا شاعره "المتنبي". يتحرَّر بالفعل، وفي أحيان كثيرة من مطالع الغزل لقصائد الشعرية. فيمدح سيف الدولة الحمداني، ويقول في مطلع قصيدته2:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
فقد بدأها بالحكمة، ينتزعها من الجو الذي يسايره.
وإذا ما أراد المتنبي أن ينشئ قصيدة في العتاب ابتدأ بقوله:
أما لسيف الدولة اليوم عاتبا
…
فداه الورى السيوف ضاربا
وهكذا نجد أن الذي تحرَّر من مطالع الجاهليين للقصيدة الشعرية حقًّا هو المتنبي في العصر العباسي الثاني. وليس أبا نواس الذي استبدل قيدًا بقيد.