المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم: - في النقد الأدبي

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثاني: موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم:

‌الفصل الثاني: موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم:

الصورة الأدبية في النقد الأدبي القديم:

قبل أن أبدأ الحديث عن موقف القدماء من الصورة الأدبية، أستميح القارئ عذرًا في استعمال لفظ الصورة مع بعض القدماء، لأن البعض ربما كان لا يقصدها في حديثه عن الشعر، وغالبًا ما يقصد اللفظ أو الشكل، والأسلوب أو الصياغة والعبارة أو التركيب والنظم أو التأليف، إلى غير لك مما تسمح له ظروف التعبير والحياة، ومدى قدرته للإصابة فيه.

والذي قد يجيز لي التعبير بلفظ الصورة عندهم هو مقام البعث عنها في آرائهم وهل قد أصابوا في الوقوف على معناهما أولًا؟ لأكشف من خلال ذلك عن مفهومهما عند كل منهما غالبًا، هذه ناحية.

وناحية أخرى، وهي أن من البدهي ألا أرتقي فجأة إلى مفهوم الصورة الأدبية عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أوشكت أن تبلغ للكمال لديه، أو أغفله هو كذلك وأبدأ بالنقد الحديث فيها، كما قام بذلك بعض الباحثين المحدثين 1 ظنًّا منهم أن مفهومها لم يصل إليها النقاد القدامى من العرب إلا نادرًا، فرأيت من الضروري أن أعرض الصورة في النقد القديم قبل النقد الحديث، وهي أولًا بذرة، ثم أوضح كيف نبتت وترعرعت؟ وشبت واستوت، ونضجت واستقام أمرها.

1 د. مصطفى ناصف في "الصورة الأدبية" والدكتور ماهر حسن فهمي في "المذاهب النقدية" ص 211.

ص: 147

وليس من المعقول أن نفصل الصورة قديمًا عن قضية اللفظ والمعنى وهي جوهرها ولبّها وما اللفظ إلا الشكل؟ وما المعنى إلا المضمون؟ - وهما اللذان أثارهما النقاد المحدثين. وكيف لا يتناول النقد الأساس الأول الذي قامت عليه المذاهب الأدبية في العصر العباسي فوجدنا منه شعرًا مطبوعًا، وآخر مصنوعًا، شعرًا يهتمّ بالمعنى، وآخر يهتم باللفظ. يقول نقادنا عن الشعر: إنما هو عواطف الشاعر وشعوره بركبها خيال وملكات قادرة ومقدرة فنية موهوبة في صور من الألفاظ والأساليب1.

ولا مبرر لدعوة الذين يغمضون أعينهم عن هذه القضية، مدَّعين أنها دراسة عميقة لا قيمة لها في الصورة، وتبدأ القيمة عندهم من ابن رشيق وعبد القاهر بل هما أيضًا كانت نظرتهما قاصرة، لم توفِ بالغرض المنشود.

وهذا بعدٌ عن الصواب، ونكران للحقيقة، وهم أشبه في ذلك بالذي سقط فجأة على ثمرة ناضجة، فقطفها، وأعمل أضراسه فيها، ولم يوجّه أنتباهًا لكيفية وجودها عندما كانت بذرة، ثم تحولت إلى جذور وجذوع، وسيقان وفروع، وأوراق وأزهار، ثم مضى على ذلك وقت طويل، ونشط إليها من تعهدها ورعاها لقصير ثمرة شهية، تسيل لعاب المتذوق ويتلفظ بها فم الآكل.

وهكذا فلندعهم سادرين في غيّهم، مخدوعين بما سمعوا وقرءوا، فهم أناس ألفوا الراحة، واكتفوا بما تحت أيديهم من غير جهد ولا تعب، أو تعقب للمراحل السابقة، قبل الوصول إلى نهاية الطريق، ثم يدعون باطلًا أن المراحل السابقة لا قيمة ولها ولا وزن، ولا أهمية ولا اعتبار إلا للنتيجة النهائية في مفهوم الصورة الأدبية التي انتهى إليها النقاد في العصر الحديث.

1 دراسات في تاريخ الأدب العربي في أزهى عصوره: د. محمد عبد المنعم خفاجي، د. عبد الرحمن عثمان - القسم الأول ص 123 مطبعة المدني 1972.

ص: 148

مفهوم الصورة في العصرين الجاهلي والإسلامي:

يكون من الصعب قبل عصر التدوين أن نقف بدقة على مدى الفهم للصورة الأدبية في العصر الجاهلي وفي بداية عصر الإسلام، لأن تعليقاتهم الموجزة على الشركات في الغالب غير مدونة، فأصبحت عرضة للضياع، فإذا كان الشعر قد ضاع معظمه، ولم يبق إلا أقله، وليس هو مظنة الضياع، لتمكنه من النفس والعقل معًا، فكيف بالنثر الذي قيل حوله، ولو انتهى إلينا خبر عن بعض النقاد في العصر الجاهلي يبين مدى اهتمامه بالصياغة والصورة فقد يتسرب الشك فيه وفي نقله، كما حدث فيما ورد عن النابغة الناقد في سوق عكاظ تحت القبة الحمراء، ليصدر حكمه في شعر وقع لمشاهير ثلاثة الأعشى والخنساء وحسان، قد فاضل بينهم على الترتيب السابق، فسأله حسان عن سرّ تفوق الخنساء عليه، وهي في نفس الوقت دون الأعشى في الحكم، فقال النابغة لحسان: "قلت: الجفنات، وهي جمع قلة لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللمعان يختفي ويظهر، ولو قلت يشرفنَ لكان أفضل وقلت بالضحى، وكل شيء يلمع في الضحى، ولو قلت بالدجى لكان أفضل، وقلت يقطرن، ولو قلت يجرين، لكان أفضل.

كان مثل هذا يحدث من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المحاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدَّى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة.

ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة وللصباغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير بن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر

ص: 149

آنذاك- ومعلوم إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير، لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا- حتى سميت القصائد بالحوليات فيتميز اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسول، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيهه ويستبدل بآخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا تحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى ويقول الجاحظ:

"ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رآيه اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عبارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها حذيذا وشاعرًا مفلقًا"1.

لذا يقول الدكتور خفاجي: "وكان ارتباط الشعر الجاهلي، بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذه المذهب الفني"3.

وقال أيضًا: "كان زهير بن أبي سلمى يسمى كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعى: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عدد كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجردة"3.

1 البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9. د. محمد عبد المنعم خفاجي 1958.

2 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص 250.

3 المرجع السابق جـ 2 ص 13.

ص: 150

لهذا كله كان النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم وتصويرهم، فيقولون: إن ربيعة بن عيد كان يسمى المهلهل، لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه1، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه3، وكذلك قالوا: الأفوه، والمثقب، والمنخل، وسموا القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات 3.

وبدل هذا على اهتمام مدرسة الصنعة بالأسلوب والصياغة، وعنهما كانت الصورة الأدبية بعد ذلك وهكذا استمر مذهب التثقيف وطول التهذيب مذهبًا فيما يسير عليه بعض الشعراء حتى بعد العصر الجاهلي وكان أساسًا لمذهب البديع الذي نشأ على يد مسلم وأبي تمام من المحدثين 4. وقد غالى من رمي الشعر الجاهلي كله ونقده بالشك وعدم صحة الإخبار عنه5 ولست معهم في هذا الشك المطلق، ما دام هناك في الأدب العربي صناعة شعرية، وللصناعة في أي فنّ، مادة وشكل، ومعنى وصورة.

لذلك تجد ذا الرمة الشاعر الإسلامي، يعجب بالصورة والشكل في أبيات للكميت ولم يصرح بهذا اللفظ، وإن ذكر خاصة تتصل بالصورة لا المعنى قال:"أحسنت ترقيص هذه القوافي"6.

1 الأغاني: الأصفهاني ط دار الكتب جـ 5 ص 57.

2 المفضليات للضبي جـ1 ص 410.

3 البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9.

4 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 244، 247. طبعة ثانية 1958 م.

5 مثل د. طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي وغيره ".

6 المذاهب الأدبية: د. ماهر حسن فهمي ص 27.

ص: 151

كما تعجب الكميت من تصوير ذي الرمة حينما أنشد قوله:

دعاني ما دعاني الهوى من بلادها

إذا ما نأت خرقاء عنى بغافل

فقال الكميت: لله بلاء هذا الغلام، ما أحسن قوله وأجود وصفه يقول: الأستاذ الدكتور خفاجي: "وهذا يدل على إنصاف الكميت في النقد وتمييز الجيد من الرديء في الشعر"1.

بشر بن المعتمر والصورة الأدبية:

أول من تنبَّه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر2 في ضحيفته المشهورة3، فهو لا يرتفع باللفظ وحدّه، ولا بالمعنى وحدّه، ولكن بقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشيد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول:

"إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك ممانيك ويشين ألفاظك".

فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير ويفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك:

"ومن أراد معنى كريمًا فيلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حتهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما".

1 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 100 طبعة أولى.

2 هو أبو سهل بشر بن المتعمر المتوفي عام 210 هـ زعيم فرقة من المعتزلة تدعى "البشرية" تنسب إليه وكان شاعرًا.

3 البيان والتبيينك الجاحظ: تحقيق السندوبي جـ 1 ص 82 وما بعدها، وتحقيق عبد السلام هارون جـ 1 ص 134 وما بعدها.

ص: 152

فموطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محلّ الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية.

وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة التي تحدَّدت معالمها فيما بعدُ، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذُكرت من أجله.

يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما "ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف.. إلى قوله: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا".

أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وقوة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمماودة".

أليس هذا حديث العاطفة في الكلام؟ فإنها لا تتولَّد إلا ساعة النشاط والحيوية والحرارة والانفعال، وعند ذلك تعطى الكثير في وقت قليل، كمًّا وكيفًا في النظم والتصوير، وتتوافر لديها المعاني البكر والألفاظ الغرر.

ص: 153

وفي غير هذا الوقت الذي تتوهَّج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلَّف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقّق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة ونثور عاطفة.

والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرّر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثنى عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول:

"فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقِّها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك للطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أوجرت من الصناعة على عرق".

فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى

ص: 154

ما يحتاج إلى دفة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة" لتستمر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها، وتتوازن مع نظائرها وتنشأ كل مع أخواتها، وبذلك يصير كلٌّ من الكملة والقافية غير قلق في مكانه، ولا نافر من موضعه، وغير مكره على اغتصاب ولا مضرب في غير أوطان.

وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية الوحدة الفنية بين الألفاظ فيها بحيث لا توافق الكلمة أختها، بأن تعبّر إحداهما عن العشق والصبابة والأخرى عن الحماسة والفخر، مما يهلهل النسج، ويضعف التماسك، وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل الأدبي يومًا أو ليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتقع الكلمة مع أختها، لا مع الغريبة عنها وبذلك يتم التلاؤم بين أجزاء الصورة، ودور الصياغة المنثورة، وتتحقَّق الوحدة الفنية فيها.

وليسمها بشر بن المعتمر بين الكلمات، وتوافق في القوافي، حين تأخذ الكلمة موطنها وتتلاءم القافية مع أخواتها فيتحقق من عناصر الصورة دلالة الألفاظ في مدلولها وبموسيقاها على غرض الشاعر، وقد أخذ اللفظ والقافية مكانهما من النظم أو البيت وليسمّها النقاد اليوم الوحدة الفنية أو العضوية، مما يدلّ على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير.

ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الرابعة للصورة الأدبية، أو عن النظم والتأليف.

ص: 155

بين الكلم وهي تلاؤم الصورة أو التركيب، مع المقام والغرض الذي يهدف إليه الشاعر فيقول:

"وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار للمعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين، على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، لم يتجنب ألفاظ للمتكلمين، كما أنه إن عبَّر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسم، وبها أشغف ".

وعالم البلاغة عندنا يسمع حديث بشر يحكم عليه هنا بأنه لا يصلح إلا لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، ولا يمت للصورة الأدبية إلا بأدنى ملابسة، والحق أن كلام بشر السابق وما قبله لا يستطيع أحد ألا يلحقه بعلم البلاغة فحديثه وثيق الصلة بها، وينبغي أن يدخل في باب الصورة الأدبية، لأن الغرض من التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتمّ ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر للصور مثل قول ابن الرومي في "النقيل البارد":

يا أبا القاسم الذي ليس يدري

أرصاص كيانه أم خلايد

أنت عندي كما يثرك في الصيف

ثقيل بعلوّه برد شديد

وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة ناقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد

ص: 156

اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهرا في الغار واتخذا أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع.

فأبو القاسم بارد كهذين المعدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشدّ وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة ليغلانه وليونقه، ثم يرتفع بها إلى معدن غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد.

وقد اختار الألفاظ في النظم التي تناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقيل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العنيف الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته ينقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشمور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به.

وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتمَّ العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإقناع، ولعل هذه الشبهة هي التى وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية وبالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس، إن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.

ص: 157

موقف الجاحظ من الصورة الأدبية:

بعد أن نشط التدوين، وراحت الكتابة، وتسابقت الأقلام، أصبح من السهل أن نقف على آراء النقاد في الصورة والشكل، وكان أول من أثار هذه القضية هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ1، وبعضها كنظرية نقدية، وظاهرة أدبية، وقضى فيها بما يراه لائقًا بالأدب والشعر، وما عدَّه مناطًا للحسن والجودة، ومرتقى للسبق والفضل والتفوق.

ووضح موقفه منها، حينما انتهى إلى سمعه أن أبا عمرو الشيباني استحسن بيتين من الشعر لمعناهما، مع سوء العبارة التي تصورهما، فقال الجاحظ وهو يتهجم عليه: "ذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمى والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير3.

فهو يرى أن المعاني ممتدة واسعة بعكس الألفاظ، فإنها محصورة محدودة، يقول: المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدَّة إلى غير نهاية 3".

وبين أن البلاغة والجمال، إنما يرجعان إلى اللفظ، لأن المعنى الشريف قد يؤدي باللفظ الرديء يقول:"ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط لأن الرديء، من اللفظ، يقوم مقام الجيد منها في الأفهام4".

1 هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني المتوفي سنة 255 هـ.

2 الحيوان: الجاحظ جـ 3 ص 40 تحقيق عبد السلام هارون.

3 البيان والتبيين جـ 1 ص 43 تحقيق محب الدين الخطيب.

4 المرجع السابق ص 253.

ص: 158

والجاحظ في اتجاهه يفصل بين اللفظ والمعنى "وينظر إلى اللفظة والجملة 1 "، وهذا حديث المضمون والشكل، والمحتوى والصورة، وأن المعنى قد يكون واحدًا، ولكنه يعرض في صورة متعدَّدة وصياغات مختلفة، لأن الشأن في الصياغة والشعر ضرب من التصوير، ونطاق الصياغة والتصوير ضيق صعب، لا يلينان إلا لمن وهب القدرة والموهبة. بخلاف المعنى فهو ممتدّ ميسور يقع للغبي والذكي ويقصد الجاحظ بالصورة في حديثه الأسلوب والصياغة، وإحكام النسج في العبارات وتخير الالفاظ والأوزان، لأن الحديث عنده نبع من الهجوم على أبي عمرو الشيباني نصير المعنى، ونعى عليه اتجاهه، وأقرَّ بأن اللفظ هو مقياس الجمال وحدّه.

وهذا الرأي ردَّده كثير ممن أتى بعده من أنصار اللفظ، الذين انتصروا له وأيدوا الصورة، بينما كان هناك من اهتمَّ بالمعنى بجوار اللفظ، وانتصر كل على حدّة، حتى جاء بعد ذلك من انتصر لهما معًا بدعوة النظم، ورأى أن الصورة إنما تسكون في النظم، لا في اللفظ المفرد، ولا في المعنى المفرد.

موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية:

كان ابن قتيبة من أنصار المعنى الذي شايعوه، ولم يعتبروا اللفظ إلا بشرف معناه، ولم يرفعوا الشكل إلا بنبل مغزاه، فلا قيمة للصورة عندهم إلا بشرف مضمونها، ولكنهم تفاوتوا في النظرة إلى درجة الجودة في اللفظ والمعنى، فمنهم من سوَّى بينهما في الشرق والجودة، ومنهم من رجح المعنى على اللفظ.

1 أبو عثمان الجاحظ: د. عبد المنعم خفاجي ص 229 - طبعة أولى -0 المطبعة المحمدية بالقاهرة.

ص: 159

ويرى ابن قتيبة1 أن القصيد يعلو ويهبط، ويسمو ويقبح حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، ولكنه رجح جانب في الشعر على جانب اللفظ حينما قسمه على أربعة أضرب:

أولًا: ضرب حسن لفظه وجاد معناه:

ثانيًا: ضرب حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.

ثالثًا: ضرب جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه.

رابعًا: ضرب تأخر معناه، وتأخر لفظه 2.

ويظهر ترجيحه للمعنى حينما يفقد أبيات كثير المشهورة التي يقول فيها:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسَّح بالأركان من هو ماسح

وشدَّت على حدب المهاري رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطى الأباطح

فهي عنده خالية من كل معنى مفيد، على أنه يجب بمثل قول أبي ذؤيب:

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

وذلك لتضمنه معنى أخلاقيًّا3، ومن هنا يظهر "باد$$ رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى4" وهذا الاتجاه يوضح عدم اعتداده بالصورة الأدبية إلا إذا صور الشاعر بها معنى لطيفًا ومغزى شريفًا، أما التي تحمل معنًى وسطًا أو ساقطًا - وإن اكتملت عناصرها وتلاءمت أجزاؤها، فلا تعدّ صورة عنده، ولا يقيم لها ورنًا كأبيات كثير السابقة، لأن الأساس عنده في الشعر هو شرف المضمون.

1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة 276 هـ.

2 الشعر والشعراء: ص 7 وما يليها.

3 الشعر والشعراء: ابن قتيبة ص 10، 11.

4 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 130.

ص: 160

ابن طباطبا والصورة الادبية:

ويؤيّد ابن طباطبا1 ما جاء به بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا أو أعدّ له ما يلبسه إيَّاه، من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت، يشاكل المعنى الذي يرومه، ابتدأ وعمل فكرة في شغل القوافي، بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت، يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات، وفق بيتها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلسكًا جامعًا لما اتشتت منها، ثم يتأمّل ما قد أدَّاه إليه طبعه، ونتجته فكرته، فيستقصى انتقاده، وبرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظه مستكرهة، لفظ سهلة نقية، وإذا اتفق له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد المعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار، الذي هو أحسن وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالمنساج الحاذق، الذي يفوق وشيه بأحسن التفويف ويسديه

ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه، وكالنقاش الدقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم تنشئه، ويشبع كل صبغ منها، حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر، الذي يؤلّف بين النفيس منها، والثمين الرايق ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها، وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي والفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها2".

1 هو محمد بن أحمد بن طباطبا المتوفي سنة 322 هـ.

2 عيار الشعر: ابن طباطبا ص 23 في القاهرة 1956 م.

ص: 161

وهذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية وهو ممتزج بالصورة الأدبية امتزاجًا كاملًا في العملية الشعرية، عندما ينقل الشاعر بموضوع ما ويعاقبه، فيعمد إلى نظمه في قصيدة، ويحضر المعاني، ويعيش معها في صراع داخلي، يعمل فيه العقل والوجدان والمشاعر، فإذا استوى لديه الشكل في ألفاظ تتلاءم معها، ثم اختار لها القالب الموسيقي الذي يتناسب معها قافية ووزنًا، شدَّ جزئيات القالب بألفاظ وصور على هذا النمط، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات يختار لكل معنى في أبيات القصيدة صورة أدبية، تتفق معه دلالة وإيقاعًا، فإذا فرغ من القصيدة عاودها مرة مرة، فإذا وجد هناك ثغرات ملأها في المعاودة والمراجعة، فيصل ما انقطع بين المعاني بمعنى مناسب، أو ما قدر بين الصور "الأبيات" بصورة تتآلف مع أخواتها، وكذلك الأمر في لفظة شاردة أو قافية قلقة، فيأخذ بيده هذه ويضع بالأخرى تلك.

والشاعر في تصويره وتأليفه كالنساج الحاذق، الذي يحكم نسجه، ويصقل ثوبه وكالنقاش الذي يختار في نقشه أحسن الألوان، ويرتبها، يمزجها بالقدر اللازم، ويركز فيها حتى تخلب العيون، وكناظم الجواهر، الذي يؤلف بين حباته النفسية لتأخذ كل حبة مكانها الأصغر فالصغيرن فالكبير فالأكبر، وهكذا يصنع في نظم العقد وتنسيقه، والناقد الكبير يبين:

أولًا: عملية التحضير للقصيدة بما فيها من إعداد المعنى الذي هو هنا أوسع نطاقًا من الفكرة والغرض والتجربة الشعرية، يدل عليه قوله "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه".

ثانيًا: المعاني المجردة إنما تكون في الذهن "في فكر الشاعر نثرًا".

ثالثًا: أن الشاعر وهو يعاني التجربة، يشكل أثناء ذلك عن المعاني صورًا شعرية متناثرة:"ويعدّ لها ما يلبسها إيَّاه من الألفاظ التي تطابقه".

ص: 162

رابعًا: أن العقل والفكر يتدخل في النهاية، ليؤلف بين الصور، التي تكون بيتًا يتفق مع المعنى" فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى، ابتدأ وأعمل فكرة في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني

إلخ".

خامسًا: أنه يربط بين اللفظ بإيقاعه ودلالته وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم وبه تتحقق الصورة الشعرية. "وأعدَّ له ما يلبسه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه".

سادسًا: أن التجربة الشعرية في الذهن، التي تحسمها الصورة في الخارج، غامضة ومزلقة للشاعر، فيحتاج إلى معاودة الصور مرات ليستردّ ماند من الصور أو ما خفي منها، ويبرزها في مكان تتناسب فيه مع أخواتها في الخارج. "فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها

إلى قوله وطلب لمعناه قافية تشاكله".

سابعًا: والفقرة السابقة تؤكد التلاحم بين الصور والأبيات، فتشيع بيتها الوحدة ويسري فيها الترابط، وابن طبا طبا يشير إلى الوحدة في الصورة الأدبية في موطن آخر فيقول: "بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا وفصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معانٍ، وصواب تأليف.

حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغًا، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نوعها 1" وهذه هي الوحدة الموضوعية بأدقّ معناها، كما يراها النقاد المعاصرون فهو يرى أن تكون الألفاظ في الصورة، والصور في البيت، والبيت في القصيدة، كلمة واحدة في تلاؤم النسج والحسن والفصاحة والجزالة وصواب التأليف، حتى لا يحدث ضعف في مبنى الصورة، ولا ثغرة فيها، ولا تتكلف في نسجها.

1 عيار الشعر: ابن طباطبا ص 126، 127 ط القاهرة 1956.

ص: 163

ويؤكد هذه الوحدة في موطن آخر فيقول: -

"وينبغي للشاعر أن يتأمَّل تأليف شعره وتنسيق أبياته

فلا يباعد كلمة عن أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد مصراع كل يشاكل من قبله "1.

على الشاعر أن يتأمل نظمه وتأليفه فيتجنب الحشو فيه، ولا يفصل بين الأخوات من الكلام بأجنبي، ويضع الصراع متلائمًا مع قرينه.

ومن الخطأ أن تذهب كما ذهب بعض الدارسين إلى أن ابن طباطبا لا يهتم بالوحدة العامة في القصيدة أو في الصورة الكلية، وإنما يهتم بالوحدة في البيت الواحد، أو في الصورة الجزئية كما يقول د. غنيمي هلال3، لأن ابن طباطا ناقدنًا الجليل قد حدَّد الوحدة الموضوعية تحديدًا كاملًا.

والذي أعنيه ويتصل بالبحث، هو موقف ابن طباطبا من الصورة الأدبية في الشعر ومدى إدراكه لها وكيف عالجها، ولا يضر هنا كثيرًا أنه عالجها في صورها الجزئية أو في البيت الواحد أو أنها ترتبط بالنظم والتأليف، أو كانت رافدًا قويًّا من روائد النصوح في النظم والصورة الأدبية كما عند الإمام عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك.

ثامنًا: الذي يدل على أنه اهتم بالصياغة والتأليف وسلامة النظم، أنه جعل الشاعر كالتاج الحاذق والنقاش الماهر، وناظم الجواهر الدقيق، هنا يربط ابن طباطبا بين التصوير الأدبي، وبين فنون التصوير الأخرى المحسة من نسج ونقش وصوغ ليوضح أن هذه الصناعة من تلك، إذن بالصورة الأدبية عنده

1 المرجع السابق ص 124.

2 النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ص 216.

ص: 164

كالنسج والنقش والصوغ، وبهذا المفهوم وتلك الموازنة تأثر عبد القاهر فيما بعد "ويكون كالنساج

إلى قوله وكذلك الشاعر".

تاسعًا: التلاؤم الشديد بين اللفظة واللفظة في الجزلة والدقة، وفي غرابة اللفظ وبداوته في الحضرية المولدة يقول:"إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي - الفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها" وكذلك قوله: "في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا، ونصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معانٍ وصواب تأليف".

قدامة بن جعفر والصورة الأدبية:

وممن أشار إلى الصورة الأدبية قدامة بن جعفر الذي اعترف بها عنصرًا من عناصر الشعر، وربطها بغيرها من العناصر الأخرى فهو يرى "أن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها فيما أحبَّها وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بد ليها من شيء موضوع يقل تأثير الصورة منها، مثل المحب للتجارة، والفضة للصباغة 1".

وكلام قدامة أدخل في باب التصوير من رأى الجاحظ فيه، فقد جعل للشعر مادة وهي المعاني، وصورة وهي الصناعة اللفظية، وبالتجويد في الصياغة، يقول:"وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة أو الصنعة.... وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة أن يتوخَّى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة 2".

1 نقد الشعر: قدامة بن جعفر ص 13 المتوفي سنة 337.

2 المرجع السابق.

ص: 165

ويضيف قدامة عنصرًا جديدًا في بيان مفهوم الصورة الشعرية، حيث يشبه صناعة الشعر بغيره من سائر الصناعات كالتجارة للخشب، والصياغة للفضة، فالجميع يعتمد على مادة وشكل، فالفضة مثلًا يتخذ منها أشكالًا مختلفة، وكل شكل يسمى صورة كالخاتم مثلًا، وكذلك الأمر في الشعر لأنه كسائر الصناعات يقول ابن سلام الجمحي عن الشعر "صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات"1.

ويبيّن أيضًا فضل الصورة في العمل الأدبي، إذ بها تقاس قدرة الشاعر ومهارته في صناعة الشعر، فالقطعة من الخشب أو الفضة في ذاتها لا تفصل قطعة أخرى إلا بالصورة التي ظهرت فيها، وقد يتناولها الصانع في صورتين، فتظهر إحداهما ذميمة، والأخرى جميلة، مع أن المادة من الخشب أو الفضة واحدة فيها.

وكذلك الشعر عند ابن جعفر، قد يتناول الشاعر موضوعًا واحدًا، يصوره تصويرًا حسنًا في مواطن، ويعرض إيَّاه في معرض قبيح في موطن آخر، ويدل هذا -مع اتحاد المادة- على قدرة الشاعر ونبوغه، التي ترجع إلى التصوير يقول في ذلك.

"إن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا، ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا بينًا غير منكر عليه، ولا معيب من نعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها2".

وفي مكان آخر ينتصر اللفظ والصورة، ويقدمها على المعنى والمادة، فيرى أن

1 طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي المتوفي عام 332 هـ ص 3.

2 نقد الشعر: قدامة ابن جعفر ص 13، 14.

ص: 166

معيار الجمال يرجع إلى الشكل أكثر مما يرجع إلى المعنى، مما لا يستغنى عنه شاعر ولا خطيب ويذكر الخصائص التي تتصل به وتنبني عليه، وهي موسيقى الصورة التي ترجع إلى الشكل لا إلى المعنى كالترصيع والسجع. واعتدال الوزن وغيرها مما يتصل بالشكل ويرجع إلى بنائه يقول:

"وأحسن البلاغة الترصيع والسجع، واتساق البناء، واعتدال الوزن، واشتقاق لفظ من لفظ، وعكس ما نظم من بناء وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة، وإيرادها موقورة بالتمام، وتصحيح المقابلة بمعانٍ متبادلة. وصحة التقسيم بإنفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفي الخلاف، والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف، وتكافؤ المعاني في المقابلة والتوازي، وإرداف اللواحق، وتمثيل المعاني

فهذه المعاني مما يحتاج إليه في بلاغة المنطق، ولا يستغنى عن معرفتها شاعر ولا خطيب 1".

والحديث هنا حديث الألفاظ والصياغة، والإيقاع والوزن وغيرها مما تعتمد عليه الصورة الأدبية من ترصيع وسجع، وتلاؤم وزن، وطباق واستعارة، وتقسيم ومقابلة وتكافؤ ومبالغة في الوصف، وتوازن وكناية، وغير ذلك مما يتصل بالشكل واللفظ اتصالًا مباشرًا لا بالمادة والمعنى.

ومن هذا نعلم أن قدامة قد اعترف بالصورة الأدبية وعرف لها مكانها في العمل الأدبي ولم يجحد العناصر الأخرى المكونة مع الصورة للعمل الأدبي".

ابن بشر الآمدي والصورة الأدبية:

والآمدي2 في تحديده للنظم، والاهتمام به، وعنايته بالصورة الجزئية كمعاصرة القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني، ويتفق معه في جميع الوجوه التي ستأتي ولكن

1 جواهر الألفاظ: قدامة بن جعفر ص 3: 8 ط القاهرة "1350 هـ - 1932 م".

2 هو الحسن بن بشر الآمدي المتوفي سنة 390 هـ.

ص: 167

معالم الصورة عنده زادت وضوحًا أكثر من القاضي، كما سيظهر من خلال اهتمامه باللفظ والمعنى "أي النظم" والصورة التي تقوم عليها معًا، وسنعرض اتجاهه على النحو التالي:

أولًا: رجع الآمدي البحتري على أبي تمام في شعره، وذكر أدلة قوية تؤيّد اتجاهه حيث فرق فيها بين العلم والشعر، فلكل منهما طابعه وخصائصه فالشعر عنده غير العلم، والعلم حكمة وفلسفة، والشاعر مصور، وليس حكيمًا أو فيلسوفًا، والصورة الأدبية تكون من اللفظ والمعنى، في حسن تأنٍ، وقرب مأخذ، واختيار الوضع المناسب لكل لفظ، الذي يطابق المعنى في الاستعمال المعتاد، من غير كلفة ولا صنعة، مع اللياقة في الاستعارة والتمثيل للمعنى، حتى لا يقع بينهما تأثر، وبذلك يكتسي النظم رونقًا وبهاء، وهذا هو الأصل في بلاغة الصورة، من إصابة المعنى بألفاظ سهلة بعيدة عن التكلف، لا تزيد عن الغرض، فإن اتفق للنظم معنى لطيف، زاد من روعته، وإلا - فالصورة غنية في نفسها ودلالاتها يقول وليس الشعر عند أهل العلم به، إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير مغافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسى بالبهاء والرونق، إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة للبحتري.... والبلاغة إنما هي إصابة المبنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف لا تبلغ الهذر الزائد، على قدر الحاجة

فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك رائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه.... قالوا:

ص: 168

وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يستمدّ دقيق المعاني من فلسفة اليونان، وحكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر مما يُورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة، ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سمعناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا"1.

ويلتقي الآمدي مع القاضي في النص السابق، في أن جلال الصورة وجمالها لا يرتبط بفخامة اللفظ، ومهارة الصنعة، وكثرة ألوان البيان والبديع.

ثانيًا:

يدرك الآمدي الجمال في اللغة، وسحره في الصورة، فيجعل اللغة غاية في ذاتها ولو مجردة عن حكمة أو فلسفة، فهي كفيلة في ذاتها بالروعة والجمال، لأن الغرض منها إصابة المعنى، وإدراك الهدف، لا أن يحمل الشاعر لغته ما لا تطيق، وهو متأثر في هذا يقول البحتري:

والشعر لمح تكفي إشارته

وليس بالهذر طولت خطبه

يقول الآمدي: "وإن اتفق له معنى لطيف، زاد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق قد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه"2.

ويرى د. مندور أن الآمدي اهتدى بهذا إلى أن اللغة ليست وسيلة، ولكنها غاية لأنها تتضمن عناصر التصوير والموسيقى: "ويكون من حسن الذوق، وسلامة الحس بحيث يقيم للنسب الدقيق بين اللغة كوسيلة، واللغة كغاية في

1 الموازنة: للآمدي، ص 173 وما بعدها.

2 المرجع السابق: الآمدي.

ص: 169

الأدب فلا يسرف في اعتبارها وسيلة لأنه يحرم نفسه بذلك من عناصر هامة في التأثير، عناصر التصوير، وعناصر الموسيقى" 1.

"الجلال الحق في حسن التأليف، وبراعة اللفظ، ومهما يرتفع المعنى حتى يبدو غريبًا، وذلك مثل شعر البحتري، الذي هو عكس أبي تمام في شعره يقول: "وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورديء اللفظ، يذهب طلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميهنّ حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره، وحسن التأليف وبراعة اللفظ، يزيد المعنى المشكوف بهاء وحسنًا ورونقًا حتى كأنه أحدث فيه غرابة لم تكن وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري، ولذلك قال الناس لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام" 2:

رابعًا:

ويرفع من جانب التصوير في الشعر، ويفضله على المعنى اللطيف، فلا جمال للصياغة الرديئة، وإن تضمنت معنًى نادرًا، أو مغزى لطيفًا، بل لا بد أن يكون المعنى اللطيف نتاج الصورة نفسها جاء من غير قصد ابتداء، وعلى ذلك فالشعر للشعر لا للعلم، وللعلم مجال آخر.

ويشبه الآمدي المعنى اللطيف في نسج رديء بالطراز الجيد على الثوب المتهتك، أو كرائحة الطيب على وجه جارية قبيح. يقول:

"وإذا كان لطيف المعاني في غير غرابة، ولا سبك جيد، ولا لفظ حسن، كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق، أو نفث العبير على خدّ الجارية القبيحة الوجه" ويقول: "فقيمة التأليف في الشعر وكل صناعة هي أقوى دعائمه، بعد

1 النقد المنهجي عند العرب. د. محمد مندور ص 120.

2 الموازنة: الآمدي.

ص: 170

صحة المعنى، وكلما كان أصبح تأليفًا كان أقوم بتلك الصناعة مما اضطرب تأليفه".

ويؤكد النص الأخير عنايته التامة بالتأليف والنظم، كالشأن في كل صناعة تتألف من مادة وصورة، فقيمة التأليف له المنزلة الأولى ما دام المعنى صحيحًا، وأما اضطراب التأليف فلا مدخل له في الشعر، كالشأن في سوء التشكيل لمادة من المواد المعدنية وغيرها.

خامسًا:

ويكاد الآمدي يبلغ الغاية في توضيح الصورة التي فضل بها البحتري أستاذه أبا تمام وهو يتحدث في باب العلاقة بين اللفظ والمعنى، فقد فسَّر التأليف وهو النظم في الصورة، حينما عقد موازنة بين صناعة الشعر وبين غيرها من الأشياء في سائر للصناعات الأخرى، فيبنى الشعر الجيد المحكم وكذا الصناعات الأخرى، على دعائم أربع:

أولًا: جودة الآلة.

ثانيًا: إصابة الغرض.

ثالثًا: صحة التأليف.

رابعًا: بلوغ الغاية في التأليف بدون نقصان لولا زيادة.

وكذلك الأمر في كل محدث مصنوع في الخلق والإيجاد، يحتاج إلى أربعة أشياء:

أولًا: علة هيولانية، وهي الأصل.

ثانيًا: علة تصويرية.

ص: 171

ثالثًا: علة فاعلة.

رابعًا: علة تمامية1.

وعلى هذا تقابل الآلة الأصل "الهيولانية"، وإصابة الغرض: وهو التأليف والنظم يساوي العلة الصورية، وصحة التأليف، وهي استقامة الفكر الناتجة من التأليف تساوي العلة الفاعلة. ووفاء الجودة وتمام الصنعة: يقابل العلة التمامية والمقابلة الأخيرة هي التي أراد بها الآمدي البلاغة في الصورة في قوله السابق: "فالبلاغة: إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة.... إلخ ".

يقول الآمدي في الموازنة التي عقدها بين صناعة الشعر وغيره من الصناعات الأخرى "زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء: جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة، من غير نقص فيها، ولا زيادة عليها، وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات.

ذكرت الأوائل أن كل محدث مصنوع محتاج إلى أربعة اشياء، علة هيولانية وهي الأصل وعلة صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية.

وأما الهيولي فإنهم يمنون الطينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى، ويخترعها ليصور ما يشار تصويره من رجل أو فرس أو غيرهما من الحيوان، أو برة أو كريمة من أنواع النبات. والعلة الفاعلة. هي تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة، والعلة التمامية هي أن ينميها تعالى ذكره، ويفرغ من تصويرها

1 يرى الدكتور محمد مندور آن الأمدي ذكر العلة التمامية بدل الغائية، ليستقيم له المعنى في الشعر، وتفيد كمال الصنعة والجودة فيه، لا الغائية، وقال الدكتور أن الآمدي، لم يستطع فهم هذه العلة "النقد المنهجي عند العرب د. مندور ص 130 ".

ص: 172

من غير انتقاص منها وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علمه الله عز وجل إيَّاها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة.

وهي آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار

وألفاظ الشاعر والخطيب وهي العلة الهيولانية، التي قدموا ذكرها وجعلوها الأصل، ثم إصابة للغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته، من غير نقص منها ولا زيادة عليها، وهي العلة التمامية فهذا قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنًى لطيفًا مستنريًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض فذلك رائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها".

وهكذا يوضح الآمدي، ما يعتمد عليه الشعر وغيره من سائر الصناعات والصور التي يسببها الشعر في التركيب والبناء، وينص أيضًا على الصورة الشعرية نصًّا واضحًا، ولا يكتفي بالنظم والتأليف والصياغة كالسابقين، الذين اكتفوا بمجرَّد الذكر أو بإشارات مهمة وهم يقصدون الصورة، ولكنه قطع شوطًا في توضيح الصورة وذكر معالمها لمرحلة نامية دافعة في أطوار مفهومها.

فاقترن الشعر عنده -كصناعة- بسائر الفنون والصناعات، وتناول الصورة -باستقامة ذوقه ودقة فهمه، وحددها بحدود ينبغي مراعاتها في التصوير، ومن أخلَّ بشيء منها اختلت هي كذلك، وهذه الحدود هي:

1 حسن التأتي وقرب المأخذ في اللفظ والمعنى.

2 انتقاء الألفاظ، واختيار الكلام الجيد الحسن.

ص: 173

3-

وضع الألفاظ في مكانها، وهذا ما يسمى حديثًا، بالوحدة في الصورة والملاءمة بين أجزائها.

4-

ألا يحمل اللفظ أكثر من معناه بالتكلف والتصنع، وهو ما يسمى حديثًا بالخروج عن التصوير الدقيق الواقعي.

5-

الترابط التام بين الصور الجزئية بعضها مع بعض، وبينها وبين المعنى المصور من غير تنافر "وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة

إلخ " وكما سيأتي في بيت أبي تمام "ملطومة بالورد.... إلخ".

6-

قوة العاطفة في الصورة لتعلق في القلوب وتتداخل في النفس من غير تريث، وهذه هي البلاغة في الصورة التي يقصدها الآمدي من قوله:"والبلاغة إنما هي إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة".

7-

الشعر غير العلم فالأول عماده العاطفة والشعور، والثاني عماده العقل والفكر وهو نفسه الفرق بين الشاعر والعالم.

8-

حسن التأليف، وتنسيق النظم، وتلاؤم الصياغة، يكشف عن المعنى في وضوح وروعة، وكذلك الأمر بالعكس فاضطراب النظم وفساد الصورة، يعقد المعنى، ويزداد به غموضًا.

9-

العبرة في الشعر بالصورة، لأنها هي التي تنقل ما في النفس، من خواطر ومشاعر بصدق ودقة، وتبرزه للغير، فلو كانت رديئة التأليف، مضطربة التنسيق، ولو اشتملت على نادرة أو حكمة فإنها تسقط في الاستعمال وتقبح في مرأى العين وتضعف في تأثيرها على النفس. "كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق.

10-

الشعر صناعة وتصوير كسائر الحرف والصناعات، والجميع تشكيل وتجسيد للعواد وتصوير لها.

ص: 174

سادسًا:

وفي مجال التطبيق لفهمه الواعي للصورة نذكر شاهدًا ومثلًا واحدًا، لبيان مدى إدراكه لمفهومهما أولًا. وذوقه الأدبي في فهمه للصور الشعرية ثانيًا. فيقول في نقد صورة أبي تمام، القائل فيها:

بيضاء تسري في الظلام فيكتسى

تورًا وتبدو في الضياء فيظلم

ملطومة بالورد أطلق طرفها

في الخلق فهي مع المنون محكم

وقوله ملطومة بالخدّ يريد حمرة خدّها، فلو لم يقل مصفوعة بالقار؟ يريد سواد شعرها، ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها، ومضروبة بالقطن يريد بياضها، إن هذا الأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه وأوسخه، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، ولكن بوجه حسن، قال النابغة "مقذوفة بدخيس اللحم" يريد أنها قذفت بالشحم، أي كأنه رمي على جسمها رميًا، وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نواس:"وتلطم الورد بعضاب" وهذه كانت تلطم في الحقيقة في ماتم، على ميت بأنامل مخضوبة الأطراف، فجعلها عنابًا تلطم به وردًا، فأتى بالظرف كله، والحسن أجمعه والتشبيه على حقيقته، وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه والحمق بأضره، والخطأ بعينه" 1.

وفي نقده لصورة أبي تمام، يتجلَّى فهمه للصورة الأدبية، لأنه يكشف بذوقه الأدبي الرفيع عن وجه الخطأ فيها، وأن على الشاعر تجنّب مثل هذه الأخطاء حتى تصح له الصورة، وتعلم جودتها، وأن لكل لفظ له معنى، وكل فكرة تخضع لصورة تتناسب معها، فالمقام في بيتي الشاعر هو مقام المدح، والمعنى الذي كسته

1 الموازنة: الآمدي ص 173.

ص: 175

الصورة في الأبيات هو سحر جمال المرأة، الذي يصعق المقيم كالموت. وعلى ذلك فلا محلّ في صورة المدح للنظم، الذي يتأدَّى به السمع، فهو يفسد التلاؤم فيها ويذهب انسجام أجزائها.

فالشاعر لم يضع الألفاظ في مواضعها، ولم يورد للمعنى باللفظ المعتاد فيه ووقع تنافر في المعنى بين طرفي الاستعارة، وغير ذلك مما سبق ذكره، مما جعل الآمدي بتهكم بالشاعر، ويرميه بالحمق والجهل والخطأ، كما هو واضح من النص السابق ويرى ايضًا أن التقليد الأعمى في الصورة ذهب برونقها وصحتها، ويطمس معالم الأصالة فيها، وقد يجعل المقلد الغرض الذي كسته الصورة.

فأبو تمام لم يستعمل اللطم في مكانه المناسب في نظم الصورة، مقلدًا النابغة الذي أحسن أداءه في التصوير، حيث قال:"مقدومة بدخيس الشحم" وهي على نصيب موفور من الجودة والحسن، لأن القذف بالشحم معناه: أنه رمى على جسمها رميًا وهو مصيب في حكمها هذا الذي يدلّ على سلامة ذوقه في فهم الصور، وإصابته في الحكم عليها.

فصورة النابغة بلغت غاية الجمال على عكس صورة أبي تمام، فقد أحسن الشاعر الجاهلي التعبير بالقذف لغزارة الشحم المتزايد في تتابع كسرعة القذف والرمي واختيار لفظ "القذف" هنا لا بديل عنه، لأن كثرة الشحم وغزارته، كما هو مفهوم من لفظ "دخيس" ينقص من جمال المرأة، ويودي برشاقتها ويسوي النتوء في جسدها، فلا يكون لها ردف وخاصرة، ولا ثدي ظاهر، وتقاطيع بارزة، مما يزيد من جمال المرأة وفتنة جسدها، ولكن التي طغى عليها الشحم، تستحق، لإهمالها نفسها - ألفاظ السباب والشتم، وهو ما اختاره النابغة في

ص: 176

صورته، حيث قال:"مقذوفة" و"دخيس" أظن أن ليس هناك صورة أروع من هذه الصورة، وخاصة وقد وقعت لشاعر جاهلي.

ولكن أبا تمام على الرغم من إيغاله في حضارة الدولة الإسلامية وفي عصورها الذهبية أساء التقليد والفهم معًا لموطن الكلمة السابقة في صورته، وقد نقده الآمدي نقدًا لاذعًا.

وتعقب الناقد صورة أبي تمام ليكشف عن عيبها، ويفضح عجزه فيها، ويبين فهمه الخاطئ لصورة أبي نواس، وهي "وتلطلم الورد بعناب" فلم يفهم الفرق بين المقامين، فمقام صورة أبي نواس يقتضي هذا، لأن المرأة التي صورها كانت في الحقيقة كذلك، تلطم في مأتم خدها الأحمر بأصابعها المخضبة كالخضاب.

وصحيح أن أبا تمام أساء الفهم والتقليد لصورة ابي نواس، التي تطابق واقع المرأة اللاطمة، وهو ما ذهب إليه الآمدي.

ولكن الذي قصر فيه الناقد أن الغرض في صورة أبي نواس هو الحزن والبكاء، ولا يتلاءم معه ذكر الورد والعناب بجوار اللطم فيها، ولذلك نرى أن صورتي أبي تمام وأبي نواس دون صورة النابغة بكثير.

وبهذا يكون الناقد قد حقق كثيرًا في مفهوم الصورة الأدبية وفي إيضاح بعض معالمها ليمثل مرحلة هامة من مراحل نضوجها وتمامها في النقد القديم، وذلك في جانبيها النظري والعملي التطبيقي.

ص: 177

القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني:

ويقفز القاضي 1 خطوات إلى الأمام بالصورة الأدبية فتزداد وضوحًا وعمقًا وتشيع في مفهومها ألوان جديدة فوق ما سبق.

أولًا: يرى أن ليس من الضروري في كل نظم أو تأليف أن يكون فيه تصوير أدبي، يشير النفوس بسحره، ويهز الأعطاف بجماله، يقول في فصل "ما عيب على أبي الطيب من معانيه وألفاظه3".

وأنا أعدل إلى ذكر ما رأيتك تفكر من معانيه وألفاظه، وتعيب من مذاهبه وأغراضه، وتحيل في ذلك الإنكار على حجة أو شبهة، وتعتمد فيما تعيبه على بينة أو تهمة، إذ كان ما قدمت حكاية عنك، وما عددته من مطاعنك، وأثبته من الأبيات التي أسقطتها وملَّت على هذا الرجل لأجلها من باب ما يمتحن بالطبع لا بالفكرة".

ثانيًا: يوضح النظم الساقط الذي لا يرقى إلى مستوى التصوير الأدبي، والجمال الفني، من التأليف الذي به جهامة تعافها النفس، وكزازة تنفر منه، ويصبح خاليًا من بهاء ورنقه وحلاوة ومنظره، وعذوبة وقعه، وجمال نثره ورشاقة عرضه، متعسف الديباجة متعمل الطلاوة أفسده التصنع، وأخفى التعقيد معناه، فالنظم الذي يكون بهذه الطريقة يصير قلقًا متكلفًا، والصورة التي تتسم بهذه الصفات تكون متعسفة منحوتة، لا حياة فيها ولا روح، وقد حشيت بالتزويق والتجنيس، والترصيع والمطابقة، والبديع والغموض واختلاف الترتيب واضطراب

1 صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه المتوفي سنة 392 هـ.

2 الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني ص 310 وما بعدها - ط صبيح.

ص: 178

النظم، وقد وصف مندور، هذا اللون الذي لا يستقيم من النظم عند القاضي بقوله:"ظاهر شكلي تخطيطي سقيم وهو يصدر عن البديع 1".

يقول القاضي في بيان ذلك: "والقسم الذي لاحظ فيه للمحاجة، ولا طريق له إلى المحاكمة، وإنما أقصي ما عند عائبه، وأكثر ما يمكن معارضه أن يقول: فيه جهامة سلبته القبول، وكزازة نفرت عنه النفوس، وهو خال من بهاء الرونق وحلاوة المنظر وعذوبة المسمع، ودمائه النثر، ورشاقة العرض، وقد حمل التعسف على ديباجته واحتكم التعمل في طلاوته، وخالف التكلف بين أطرافه، وظهرت فحاجة التصنع في أعطافه، واستهلك التعقيد معناه، وقيد التنوص مراده

ثم كان همه وبغيته أن يجد لفظًا مزوقًا، قد حشي تجنيسًا وترصيعًا وشحن مطابقة وبديعًا، أو معنى غامضًا

ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف، وهلهلة النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها 3".

ثالثًا: ويقرّر القاضي الجرجاني من معالم الكمال في الصورة، أن تكون مهمة اللفظ فيها ليست للكشف عن المعنى فحسب بل لا بد أن يصير حلوًا رشيقًا، أحظى في القلب، وأوقع في النفس "ولا يرى اللفظ إلا ما أدَّى إليه المعنى" ولكنه "أحلى وأرشق، وأحظى وأوقع2 " والكلام فيها لا يصور الغرض فقط، ولكن ينبغي أن يكون ذا وقع قوي، يشتقّ الآذان ويستولى على القلوب، كما تشدّ مناظر الطبيعة الفاتقة إليها النواظر، فلا ترى غير الجمال فيها، يقول:"ولا الكلام إلا ما صور له الغرض" إنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار 4".

1 الفقد المنهجي عند العرب: د. محمد مندور ص 285.

2 الوساطة للقاضي الجرجاني ص 310 وما بعدها.

3 المرجع السابق.

4 المرجع السابق.

ص: 179

وليس الحسن مقصورًا على البديع، ولا الرونق للتصنيع فحسب ولكن لا بد من التهذيب فيهما، والتثقيف لهما، والترشيح لمنطقها يقول:

"ولا الحسن إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع" ولكن لا بد أن "نجد منه الحكم الوثيق، والجزل القوي، والمصنع المحكك، والمنطق الموشح، قد ذهب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف 1".

هذه هي الصورة الحقة عند القاضي، وذلك هو النظم القوي الموحي، والتأليف الرائق الخلاب، وبه يفوق بين الشعر المطبوع والمصنوع، ثم يقول: إن هذا الحسن في النظم والجمال في تصويره والمعنى لا نهاية له "ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاءه، واتسع حجمها، للاستيفاء له، لاسترسلت فيه ولأشرفت بك على معظمه 2 ".

رابعًا: ليس من الضروري في كل نظم أن تكون ألفاظه رصيفة جزلة، ولا أجزاء الصورة قوية تخمة تشتمل على استقصاء ألوان البديع، واستقطاب جموع التصنيع لتستكمل شروط الإحسان، وتستوفي كل كمال، ليس من اللازم هذا كله في الصورة الأدبية، فقد يلج الشاعر المصور، والعبقري البارع صورة لا تستوفي أسباب الكمال للمسابقة، فألفاظها سهلة التناول، مألوفة الأخذ، لا تشتمل على حشد من الاستعارات، وقلما تجد فيها بديعًا، أو اتفاقا في الصنعة، ولكن الشاعر يبثها سره، وينفث فيها من سحره، ويبعث فيها الجلال الذي هو أسمى من الجمال، وهنا يعجز الإنسان عن إدراك كل أسبابه، وإن أدرك البعض فقد لا يعرف له سببًا، لا يستطيع أن يستوفي موارد السحر الحلال، ولا يتمكن من نفسه إلا شيء واحد، وهو أثر الصورة فيها، وعلوقها بقلبه كالنور الذي يبهر

1 المرجع السابق.

2 المرجع السابق.

ص: 180

البصر. ويهدي البشر، ولا يعرف الإنسان أسراره وتركيبه، مع وضوحه وشيوعه وألفته.

وما أشبه الصورتين السابقتين بصورة رجلين، أحدهما اكتملت فيه الأعضاء وأوفت أجزاؤها على الغاية في التمام، واتسقت مقاطعة، وأصبح كل عضو فيه على حدة غاية الجمال، وثانيهما صورة رجل دون السابقة في كمال الأعضاء وتمام الأجزاء ولكنها في حسن موقع كل عضو منها وانسجام الأجزاء فيها، قد تكون أقوى من الأولى وأحظى بالحلاوة، ولا يدري المأخوذ بفتنتها لذلك سببًا، ثم يشير أخيرًا إلى صدق العاطفة في الصورة وقوتها حيث تلقي موقعها من القلب وتسرع إلى النفس، وهو عنصر هام في نجاح الصورة الشعرية.

يقول القاضي الجرجاني:

"وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال وتقف بالتمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها، وفي انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناسب الأجزاء وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلبن ثم لا تسلم، - وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سببًا، ولما خصَّت به مقتضيًا، ولو قيل لك كيف صارت هذه الصورة، وهي مقصرة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصبغة، وفيما يجتمع أوصاف الكمال، وينتظم أسباب الاختيار أحلى وأرشق وأحظى وأوقع، لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورددت ردّ المستهجم الجاهل، ولكن أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك، أن تقول موقعة في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق

كذلك الكلام منثورة ومنظومة، ومجمله ومفصله تحد منه المحكم الوثيق، والجزل القوي والمصنع المحكك،

ص: 181

والمنطق المرشح قد هذب كل التهذيب وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى أضحى ببراءته عن المعايب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك نجوة"1.

ثم يضرب صورة للمصنوع المثقل بالألفاظ، والبدائع، من البيان، بشتى ألوانها، ويضرب صورة أخرى لما هو دون ذلك في الاهتمام، من لفظ سهل قريب المأخذ، ونظم خالٍ من الصنعة، يكاد يخلو من البيان والبديع، ومع ذلك لا تجد الصورة الأولى طريقها إلى القلب، وتجد الثانية في سحر وبراعة، وتستريح إليها النفس، وتغتريها من الغنوة والطرب، ما يجعلها للثانية، وتقتر من الأولى وتضعف، يقول القاضيك "وقد تنزل أبو تمام فقال:

دعنى وشرب الهوى يا شارب الكاسي

فإنني للذي حسيته حاسي

لا يوحشنك استسجت من سقمي

فإن منزله من أحسن الناس

من قطع أوصاله توصيل مهلكتي

وصل ألحاظه تقطيع أنفاسي

متى أعيش بتأمل الرجاء إذا

ما كان قطع رجائي في يدي باسي

فلم يخل بيت منها، من معنى بديع، وصفة لطيفة، طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة من المختار من غزله -وحق لها- فقد جمعت على قصرها فنونًا في الحسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة، والقوة ما تراه ولكن ما أظنك، تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب:

أقول لصاحبي والعيس تهوى

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتَّع من شميم عرار نجد

فما بعد العنية من عرار

1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص 37.

ص: 182

ألا حبذا نفحات نجد

وريا روضة غب القطار

وعيثك إذ يحل القوم نجدا

وأنت على زمانك غير زاد

شهور يقتضين وما شعرنا

بإنصاف لهن ولا سرار

فأما ليلهن فخير ليل

واقصر ما يكون من النهار

فهو كما تراه بعيد عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التنايل 1.

خامسًا:

وبهذا الفهم الواعي للصورة الأدبية يسبق القاضي الزمن، ويفرق بين الجمال والجلال فيها2، فالجمال موضوعي، يستطيع للفنون بروعته أن يقف على أسبابه، ويحدّد بعض عناصره، ويدرك خصائصه فيها، ويتعرّف على مصادره في انتقاء الألفاظ، وسحر الكلمات، وإحكام التراكيب، وانسجام أجزاء النظم ومناسبة الوزن والقافية للمعنى، وسمو الخيال، وروعة التشبيهات، وحيوية الاستعارات، ووحى الكنايات، إلى غير ذلك من زهرات الرياض المتفتحة، ولا يحتاج في التعرف عليه من الناقد إلا ذوقه المستقيم، وإحساسه الصادق، ونفاذ البصيرة وحذق اللغة والإيمان بالفن الجميل.

وأما الجلال وهو فوق الجمال وغايته التي يسمو بها إلى مرحلة الإعجاز، ولم يكن ذلك ولن يكون إلا في "القرآن الكريم" المتفرد بالإعجاز، وسمو البيان.

1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص 37: 39 ط صبيح.

2 يرى الدكتور محمد نايل أن القاضي الجرجاني سبق النقاد المحدثين في التفرقة بين الجمال والحلاوة في كتابه اتجاهات وآراء في النقد الحديث ص 23 مطبعة العاصمة.

ص: 183

والجلال لا يعرف الناقد البصر كل وسائله، وجميع مصادره، وليس في طاقته القدرة على كشف دلائل ومعامله، وإن انتهى إلى البعض فيمظل حائرًا إلى الأبد، عن البعض الآخرن وينتهى في حيرة إلى القول، بأن الجلال في الصورة الأدبية، أو في نفسه، أو فيها معًا، وهنا يعجز العقل الذي يبرهن ويدلّل، ويترك للإحساس، والوجدان مملكته وسلطانه، فالقفل لوضوحه وتحديه له مجاله وله غاية ونهاية غالبًا، أما الإحساس والشعور لغموضه، فلا غاية له ولا نهاية فهو يدرك ما وراء الظاهر، ويحس وحده بالجمال المطلق، الذي هو في ذاته مصدر الجمال، وهو ما يقصده القاضي بالجلال في قول الأعرابي السابق:"لا نعلم - وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت بهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا..... إلى قوله: وهو بالطبع أليق".

سادسًا:

ويتعرض للصورة الأدبية في دفاعه عن المتنبي حين يقول:

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه

ويردّ القاضي العيب الذي وجَّهه النقاد إلى هذه الصورة، حيث إن المشبه به وهو "وقوف الشحيح" الذي ضاع في الترب خاتمه، لا يوفي بالغرض في المشبه لأن الاستمرار في الوقوف على أطلال الحبيب، وترديد ذكريات الصبابة والعشق، فهذا يحتاج إلى وقت طويل يغيب فيه المحب عن الوجود، بينما البخيل لحرصه وشراهته فهو يجيد البحث عن خاتمة، ليحصل عليه بسرعة ولكن القاضي يصحح هذا الخطأ الذي ظنه النقاد عيبًا. في صورة المتنبي السابقة فيقول:

"إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة فإذا كان الشاعر وهو يريد إطالة وقوه قد قال: إني أقف وقوف شحيح صناع.

ص: 184

خاتمه فإنه لم يرد للتسوية بين الوقولين في القدر والزمان والصورة، وإنما يريد: لأقفن وقوفًا زائدًا على القدر المعتاد، خارجًا عن حدِّ الاعتدال، كما أن وقوف الشحيح يزيد على ما سعرف في أمثالهن وما جرت به العادة في أضرابه".

والقاضي يرى أن الصورة لا عيب فيها، لأن الشاعر يقصد في تصوره وقوف المحب وغيبوبته في ذكريات الحبيب، واقفًا في جنبات الأطلال، إنه وقوفه خارج عن المألوف، وكذلك الشأن في وقوف الشحيح في هذه الصورة، فهو يخرج عن عادة الناس، وإن أشار إلى الصورة بسرعة، ولم يقف عندها كثيرًا على عادة النقادة في عصره.

وأنا مع القاضي في هذا، بل إن المتنبي أحكم صوره الصبّ، وأتقنها غاية الإتقان لأن البخيل يفني كله في سبيل جمع الأموال، وتراه في حرصه يبحث عنه كالمجنون ويقوم بحركات غريبة وتصرفات، متتابعة، ويقلب اليدين ويحرك الرجلين ويتابع النظرات ويستقصى كل جزئية حوله، ويعاود ويطاول ويجاهد من غير ملل ولا سأم ويصرعلى ذلك حتى يجد بغيته، وينال طلبته.

وكذلك الشأن في المحب المقيم، حيثما يقف بطلل حبيبه، ومنازل ذكرياته الخوالي مشدوها مأخوذًا، غائبًا عن نفسه وعن الوجود كله، إلا في هذه الذكريات ومع تلك المنازل والأطلال.

أبو هلال العسكري والصورة الأدبية:

يتعصَّب أبو هلال للفظ، ويتعقَّب خطوات الجاحظ فيه، فينقل عباراته. كاملة في تفضيل الصياغة، وإنها موطن الجمال وحده فيقول:

1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص 324.

ص: 185

وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته: وحسنه، وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف" 1.

تحديثه عن اللفظ وطلاوته، والسبك والتركيب، والنظم والتأليف، إنما يرجع غالبًا إلى التصوير، الذي لا يتمّ إلا بهذه الأمور، وبه يتحقَّق الجمال في العمل الأدبي فلولا الشكل لما تميَّز شاعر عن آخر، واتَّصف بالحذق والمهارة، حتى لو كان المعنى الذي يصوره وسطًا، فإنه يدخل في جملة الرائع من القول، لحسن عرضه، وحذق صناعته، وحلاوة لفظه وعذوبته وسلاسته.

وهذا كله يدفع الخطيب والشاعر إلى المبالغة في التجويد والتصوير، ولو كان الأمر يرجع إلى المعنى لوفرا على أنفسهما تعبًا طويلًا 2.

وعدَّ أبو هلال قول الشاعر كثير عزة من الرائع النادر، مع بساطة معناه ودنوّ مادته، وإنما حظى بالجمال، بجودة صوغة، وروعة تصويره، قال كثير:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

إلى آخر الأبيات الثلاثة المشهورة، يقول أبو هلال معقبًا عليها:"وليس في هذه الألفاظ كثير معنى، وهي رائقة معجبة"3.

وإن كان اهتمامه بالشكل واللفظ لا ينسيه المضمون والمعنى، فالشاعر يحتاج إلى شرف المعنى والإصابة نيَّة، كاحتياجه إلى الحسن في الصياغة، ونسج الألفاظ.

1 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص 57، 58 "المتوفى عام 395".

2 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص 57، 58.

3 المرجع السابق ص 59.

ص: 186

والمعاني كالأبدان والصورة كالثوب الذي يلف البدن، ويكسوه وقارًا ونبلًا، يقول أبو هلال:

"الكلام ألفاظ تشتمل على معانٍ تدل عليها، ويعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى، ولأن المعاني تحلّ من الكلام محلّ الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة"1.

وهكذا ترى أبا هلال العسكري يعوق للعمل الأدبي عناصره المكونة له كما فعل قدامة ويرفع مع ذلك من شأن اللفظ والصياغة كما فعل الجاحظ.

واتجاه أبي هلال يجعله دون الجاحظ وقدامة في فهمه لصورة المعنى، فقد عدَّ الصورة كالكسوة، التي هي منفصلة عن البدن، ومستقلة عنه، فأصبح اللفظ عنده أجوف مجردًا من كل معنى وروح، ويجرّد اللفظ من القوة والحيوية.

وهذا يدل على عدم أصالته، على عكس الجاحظ وقدامة، اللذين أعطيا الصياغة والتصوير نوعًا من الحيوية، من غير فصل يفقد الروح في اللفظ، فصورة الخشب ليست منفصلة عن مادته انفصال الثوب عن البدن، كما هو واضح في اتجاه العسكري الذي أوقفه في التقليد والخطأ، لأن العقل لا يتصور مطلقًا لفظًا من غير معنًى يرتبط به، وصنيع ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة هو صنيع أبي هلال نفسه 2.

1 المرجع السابق ص 29.

2 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 259 وما بعدها. وسر الفصاحة: ابن سنان الخفاجي "466 هـ" ص 72، 82.

ص: 187

الباقلاني والصورة الأدبية:

يربط الباقلاني 1 بين اللفظ والمعنى في الظاهر ولكنه في الحقيقة يفضل المعنى على اللفظ، لأن مقياس الجمال عنده: أن المعنى البارع، إذا جاء في لفظ بارع فهو أفضل من وقوع المعنى المألوف في لفظ بارع.

ومثل هذا يلحقه بأنصار المعنى، وإن كان يرجع الفضل في إشارته إلى علاقة اللفظ بالمعنى، وإن لم يوضحها، ويعمق جوانبها، ويبين مدى الترابط التام بينهما لكن عبد القاهر الجرجاني أفاد منه كما أفاد من غيره.

وعلى ذلك فمجال الصورة الأدبية لا يتحقق إلا في اللفظ البارع، الذي يحمل معنًى لطيفًا، يقول الباقلاني:

"إن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتكرة، ولكن إذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب، من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر"3.

والعبارة الأخيرة تدل على عدم الدقة في فهمه لقضية النظم، لأن الألفاظ البارعة في المعنى تجعله شريفًا لطيفًا.

ابن رشيق:

والحسن بن رشيق 3 يذكر في باب "اللفظ والمعنى" آراء السابقين عليه بعد ذكر رأيه فيهما فيقول:

1 صاحب إعجاز القرآن المتوفى 403 هـ.

2 إعجاز القرآن: الباقلاني ص 63.

3 هو أبو على الحسن بن رشيق القيرواني المتوفي عام 456 هـ - 1064 م.

ص: 188

"للناس فيما بعد آراء ومذاهب، منهم من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ووكده، وهم فرق:

"أ" قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب، من غير تصنيع كقول بشار:

إذا ما غضبنا غضبة مضربة

هتكنا حجاب الشمس أو قطوت دما

إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة

ذُرى منبر صلى علينا وسلما

وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار

ب وفوقه هي أصحاب جلبة وقمقمة بلا طائل إلا القليل النادر كأبي القاسم ابن هانئ، ومن جرى مجراه، فإنه يقول:

أصاخت فقال وقع أجرد شيظم

وشامت فقالت لمع أبيض مخذم

وما ذعرت إلا لجرس حليها

ولا رمقت إلا يرى في مخدم1

وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد.

جـ- ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ، فعنى بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط، وهم يرون الغاية في قول أبي العتاهية:

يا إخوتي إن الهوى قاتلي

فيسروا الأكفان من عاجل

ولا تلوموا في اتباع الهوى

فإنني في شغل شاغل

إلخ الأبيات.

ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ، فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته.

وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى" 2.

1 أجرد شيظم: فرس قصير الشعر طويل الجسم، سيف قاطع، محل الخلخال.

2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 124 - 127 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.

ص: 189

وليست هذه الآراء هنا محل مناقشة فقد توقشت قل ذلك، والذي يعنينا منذ هو اتجاه ابن رشيق: والآراء السابقة في النص تحدَّد اتجاهه عن طريق النفي والسلب، فهو يستعرض مذاهب العرب في اللفظ والمعنى، لينفيها عن "جهته"، ويبني رأيه على نقائضها، فيكون من أنصار اللفظ والمعنى معًا:"النظم".

ويرى أن الصورة في الشعر أو للنظم، تقوم على العلاقة بين اللفظ والمعنى، فلا اللفظ ينهض بالصورة والجمال، ولا المعنى كذلك، كالإنسان الحي، فكلاهما يسقط بسقوط الآخرن ويسمو بسموه يقول:

"اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته"1.

ولو اختلَّ التركيب في الشعر بعض الخلل، واستقام المعنى، هوى ركن من أركانه لا يقوى إلا به، كالعرج والشلل الذي يغض من تمام الخلقة وكمال الجسم، ويظل صاحبه حيًّا يتحرك هنا وهناك، وكذلك الأمر في ضعف المعنى، ينال من جمال اللفظ، ويكون النظم أشبه بالجسم الأجوف الفارغ الذي لا روح فيه، يقول ابن رشيق:

فإذا سلم المعنى واختلَّ بعض اللفظ، كان نقصًا للشعر، وهجنه علية، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح - وكذلك إن ضعف المعنى، واختلَّ بعضه، كان اللفظ من ذلك أوفر حظًّا، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح" 2.

ويقرد ابن شيق أساسًا قويًّا، لم يسبق إليه، في فهمه للنظم، وتقديره للصورة

1 المرجع السابق جـ 1 ص 124.

2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 124.

ص: 190

الأدبية، وهو ما وضحه الإمام عبد القاهر، وانتهى إليه النقد الحديث في أحدث نظرياته مع أن الأول في المغرب والثاني في المشرق.

حيث نرى أن الخلل في المعنى يحدث من خلل في النظم، ورهن في العلاقات بين الألفاظ، فالمفعول الأول على صحة المعنى يرجع إلى النظم، ووضع الألفاظ في مواضعها، والصورة الأدبية لا تبدو إلا في هذه العلاقات، وذلك الالتحام بين الشكل والمضمون، وهو ما سبق به ابن رشيق غيره، وإن كان في إيجاز.

فالفساد في المعنى أو الضعف فيه، يرجع إلى اختلال اللفظ، والمقصود باللفظ عنده هنا هو النظم والتركيب، وإلا كيف يختل اللفظ الواحد؟ كما يقال ألقى الخطيب كلمة، والمعنى كلام، وإلا لما شبه اللفظ بالجسد، وليس هو عضوًا واحدًا، بل أعضاء اشتركت جميعًا في بناء هيكله العام، وهو ما يقصد ابن رشيق من اللفظ، بدليل أنه عبر عنه بعد ذلك بقوله:"وإن اختلَّ اللفظ جملة"، يقول في ذلك:

ولا تجد معنى يختلّ إلا من جهة اللفظ، وجربه على غير الواجب، قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح.

ووضح نظريًّا ما وصل إليه فيرى أن اختلال المعنى يرجع إلى تفكّك عرى الألفاظ واختلال مواضعها، التي من شأنها أن تكون فيها، كانغلاق الدائرة الكهربائية، ينتج عنها النور والحياة، وانفصال جزئية واحدة منها يقطع التيار فيعم الظلام، وكذلك لو اختلفت قطعة صغيرة، عن مكانها في آلة "اتوماتيكية" فإنها تتوقف عن عملها، الذي بمنزلة الروح في الجسد، ولا يعلم الإنسان أين مكانها، فربما تكون الروح في الجسد نتيجة لتمام أجزائه، واتخاذ كل جزئية في مكانها، وبذلك تسري في الجسد، واختيار الأعضاء المناسبة.

ص: 191

وتنسيقها وترتيبها وانتظامها وعلاقة بعضها ببعض، سر من أسرار الله وأمر لا يعلمه إلا هو {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .

وكذلك الأمر بالكس حين اختلاق الألفاظ يضعف المعنى ويسقط لأنه لا يعقل أن يكون في الحياة النافعة جسدًا بدون روح، ولا روحًا بدون جسد ألبته، يقول "فإن اختلَّ المعنى كله وفسد بقي اللفظ، مواتًا لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأس العين إلا أنه لا ينتفع به، ولا يقيد فائدة، وكذلك إن اختلّ اللفظ جملة، وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحًا في غير جسم البتة 1.

ولهذا يرى الناقد الأدبي، أن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية، في العلاقة التي تتم بين الألفاظ، وتكشف عن المعنى والمضمون المستقيم الصحيح. ويزداد تمسكًا بهذه الحقيقة النقدية الخالدة، وما انتهى إليه من جديد في فهم طبيعة اللغة والشعر حينما لم يقتنع بآراء السابقين من أنصار اللفظ مستقلًّا، وهم كثيرون وأنصار المعنى كذلك وإن كانوا قلة، وذكر رأيه أولًا، وطرح أقوالهم بقوله:

"وللناس فيما بعدُ آراء ومذاهب". ثم يعقب على اتجاه ابن هاني، في عنايته بالجلبة والصخب في اللفظ، بدون كبير معنى، وينفي عنه الجودة وبرميه بالفساد يقول معقبًا:"وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد" وإن حكم له وبجودة هذا البيت حين يصف شجاعًا فيقول:

لا يأكل السرجان شلو عقيرهم

مما عليه من القنا المتكسر

1 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 125.

ص: 192

ليرى أن تنسيق الألفاظ فيه، واختيار الكلمات، ووضع كل كلمة في موضعها، جعل البيت جيدًا، وحقَّق ما يصبو إليه الشاعر، من المدح بالشجاعة، وذلك كله راجع إلى اختيار الألفاظ، وعلاقة بعضها ببعض، حتى انتهت الصورة الشعرية إلى الغاية في الجودة.

ولو يدل الشاعر في النظم بتغيير بعض الألفاظ أو التقديم أو التأخير فيها، بأن كان الأعداء، هم كثير من قتل ممدوحه باليد؛ لكانت الصورة هجوًا له، وأنه ما ثبت في ساحة النضال لحظة، حتى قتل، ولكن الشاعر انتقى الكلمات، وأحكم النظم، ليحقق الغرض ويسمو بالمعنى، فأراد رياحًا لا رمحًا واحدًا - تتساقط عليه من كل جانب حتى كست جسده، وتعذر على الذئب أن ينهشه، فهو مصون في حياته ومماته، يقول ابن رشيق مع الإيجاز، الذي يوحي بما سبق:

"والعقير ههنا منهم، أي: لم يمت لشجاعته، حتى تحطم عليه من الرماح -ما لا يصل معه الذئب إليه كثيرة، ولو كان العقير هو الذي مقرّره هم، لكان ليت هجوًا لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحدًا1.

ولا يعتمد أيضًا برأي ابن وكيع الذي مثل المعنى بالصورة، واللفظ مثل، واللفظ حذو، والحذو يتبع المنال، فيتغير بتغيره، ويثبت بشانه"2.

ولا يرضى عن قول العباس بن حسن العلوي في صفة البليع: "معاقبة قوالب ألفاظه" وغير ذلك من الآراء التي خالفها ليتميز رأيه ويتحدَّد اتجاهه وينفرد هو به.

1 المرجع السابق جـ 1 ص 127.

2 المرجع السابق جـ 1 ص 127، 128.

ص: 193

ابن شرف القيرواني والصورة الأدبية:

يفضل ابن شرف المعنى على اللفظ، ويقدَّمه عليه، فمرجع الجمال في العبارة، ومجال الروعة في الصياغة، يكون في المعنى، ثم يأتي بعد ذلك اللفظ، فهو دونه في المرتبة والدرجة، فإن كان المتفي رائقًا، فلا عليه أن يقع في لفظ رائق بارع. ولا يعتمد إلا بالمعنى الذي يسكن اللفظ، أي: لفظ يقول:

فإن كان "أي المعنى" في البيت ساكنًا، فتلك المحاسن، وإن كان خاليًا فاعدده جسمًا باليًا"1

الإمام عبد القاهر الجرجاني 2:

وبعد الشوط الطويل يأتي فارس الميدان، وأستاذ النقد العربي القديم الإمام القاهر، ويصلنا وهو في القرن الخامس الهجري بما انتهى إليه النقد الحديث في القرن الخامس عشر، في توضيح معالم الصورة الأدبية.

ولا يظن القارئ الكريم أن من ذكرتهم قبل الإمام من النقاد العرب ليسوا هم وحدهم الذين تكلموا في اللفظ والمعنى، وما تفرع عن ذلك من النظم والصورة. بل هناك غيرهم كثيرون منهم الصاحب بن عباد، والمرزوقي وغيرهما، وكذلك فعل جار الله الزمخشري بعده، وغيره مما سار على نهج ما ذكرت من فهمهم للصورة وتحليلها ونقدها. مما جعلني أستقصي في نمو وتحليل، وتفصيل وموازنة واستنتاج كل المراحل التي مر بها مفهوم الصورة الأدبية، وذلك ما دعاني إلى الاكتفاء بأشهر الأعلام في النقد القديم. على أن الإمام عبد القاهر، يكفي عمن ذكرتهم، ومن لم أذكرهم، لسعة ثقافته، وفرط ذكائه، فقد أفاد من هؤلاء جميعًا حتى انتهى إليه القول في النظم والتصوير الأدبي قديمًا.

1 أعلام الكلام: ابن شرف القيرواني ص 27.

2 المتوفى 471.

ص: 194

فإذا حدَّد الإمام معنى النظم، ليصل عن طريقه إلى الصورة، فإنما يحدِّده بناء على مشاركة منه مع النقاد الذي سبقوه، فهم جميعًا قد شاركوا كلٌّ بقدر، واستقطبت عبقرية الإمام كل المنابع الثرة، وتجمعت في نفس واحدة، لتخرج قضية النظم والصورة، ممتزجة بروح ذلك الناقد القديم، وفاضت عن ذوقه الأدبي وأصالته المتميزة، مما يخيل للدارس أنها من صنعته، ومن ابتكار شخصه. وتلك عظمة العباقرة في قدراتهم، فإنها توهم الغير بأن أصحابها وحدهم هم أهل الفضل فيها وصلوا إليها، ولا فضل للعصور السابقة عليهم، ولا لمن سبقه ومهد له الطريق ولا لعصره عليه.

والحق أننا في الحكم عليه بشخصيته الفذة وعقليته الخارقة، وعبقريته المجددة المتنكرة، لا يصح أن نغمط حق من قبله، وحق العصور السالفة عليه، وفضل عصره عليه، الذي هام الناس فيه باللفظ، وقد ثبت أركانه الجاحظ، حتى كاد الشكل في الصورة يقضي على الأدب، ووقف بجانب أنصار اللفظ وهم كثير، وجمع قليل بناصر المعنى، ثم تلك العامية التي انتشرت في عصره، وأوشكت أن تقضي على جمال اللغة.

وفي وسط هذا الصراع بتياراته المختلفة تمكن أهل المجال والطاعنون في إعجاز القرآن وبلاغته من المساس بأعظم مقدساتنا لرأي باللفظ جعل الطاعنين يذهبون إلى دعاوى باطلة كمثل قولهم: إن اللفظ عربي، والعرب أقدر على الناس على مجاراته، ولذا فهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك لتظل هيبة القرآن في النفوس متفردًا بالجلال والإعجاز، والرأي بالمعنى جعل طائفة تنفي الإعجاز أيضًا لأن الأمر يتصل بالمعنى وليس هذا في طاقة العرب وفي قدرة البشر.

وفي كلا الأمرين تسقط المعارضة، ولا تصح المجارة فالتفوق والتفاوت لا يتم

ص: 195

في أحدهما، إلا إذا أمكن التحدى حتى يتحقق العجز من المعترض من ناحية، ويسمو القرآن بإعجازه في ميدان المعارضة من ناحية أخرى، يقول الإمام عبد القاهر في خط نصرة المعنى:

"واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه، إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يقضي بصاحبه، إلى أن ينكر الإعجاز، ويبطل التحدِّي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أنه لا يجب فضل ولا رمزية إلا من جانب المعنى 1".

وهذا الصراع هذا الذي اضطر الإمام إلى حسم القضية في عمق، وإلى أن يقيم الأدلة والبراهين - في تحليل أدبي وإطالة وتفصيل- ليقف على مصادر العظمة، وموارد البلاغة في كتاب الله، وأساس التفرد والإعجاز في معجزته الخالدة.

ويضيف في حديثه عن القرآن الكريم نماذج رائقة من الأدب العربي، لأن اللغة واحدة وهي اللغة العربية، وردَّ الأساس والمصدر في ذلك إلى ما نحن بصدده الآن وهو النظم، وما يتبع ذلك من التصوير الفني الأدبي، في لغتنا الحية الثرية.

والإمام عبد القاهر يتناول الصورة الأدبية في موطنين: أحدهما حينما يتحدث عن قضية النظم، وثانيها حينما يتكلم عن مشكلة السرقات الأدبية في الشعر العربي، وسنتناول ذلك بإيجاز، نقصد من ذلك بيان مفهوم للصورة الأدبية ومعالمها في نقدنا العربي الأصيل القديم، ومدى الصلة بينها وبين مفهومها في النقد الحديث.

1 دلائل الإعجاز: عبد القادر الجرجاني ص 257 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

ص: 196

أولا النظم:

وقف الإمام قبل أن يرسي قواعد النظم ويحدّد معالم الصورة موقف الباحث الدقيق، والناقد الذواقة الأديب، من أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، ليضع الأساس الثالث وهو النظم ويفنّد ما انتهى إليه السابقون حيث قالوا:"إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث 1 نبيّن موقفه من المعنى على حدّة، ثم اللفظ على حدّة، ليسلم له الأساس الفني الدقيق في الصورة وهو النظم. وما تلجلج الإمام في موقفه من كل من اللفظ والمعنى، قبل أن يستقر في النهاية إلى قضيته كما زعم بعض المعاصرين 2. ولكن الرجل على عادته، كان يهدم جزءا جزءا وقيل أن يهدم يحدّد الخصائص اللازمة للفظ على انفراد، وكذلك المعنى، فيحدد صفات اللفظ البليغ، ويتخير منه ويعلي من قدره منفردًا على المعنى ثم في موطن آخر يبرز سمات المعنى ويعلي من شأنه منفردًا فإذا انتهى إلى النظم، لم يعط الميزة للفظ وحده حتى يفضل المعنى، ولا يمنح الدرجة للمعنى حتى يسمو على اللفظ، فلا هذا ولا ذاك، وإنما الفضل الحق أن يكون للثالث وهو النظم وكفى3 فالإمام أعطى لكل حقه على انفراد، ولا قيمة لكل منهما وحده في الصورة وإنا يستحقان هذه القيمة، بل أكثر منها، إذا ارتبطا بالنظم وهو وحده له القيمة الكبرى في الصورة الأدبية. فأما سمات اللفظ عنده، والخصائص التي ينبغي أن تكون فيه هي كما يقول: "أن اللفظة مما يتعارفه الناس واستعمالهم، ويتدا$$ ولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا، أو عاميًّا سخيفًا

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.

2 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ض 113، وعز الدين إسماعيل في الاسس الجمالية في النقد العربي.

3 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

ص: 197

سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة 1 ويقول:"أن يكون حروف الكلمة أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد2 ولكن الإمام يخشى على نفسه أن يكون متهمًا بأنه من أنصار اللفظ وحده، والجمال مقصور عليه فبعثور عليهم وينكر عليهم ذلك بشدة فيقول: "لا جمل في اللفظ من حيث صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما تكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب3.

ويقول: "هل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمته معناها لمعاني جارتها، وفضل مواستها أخواتها 4 ".

ويضربهم بأنصار المعنى فيقول: "إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها حدم للمعاني وتابعه لها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ والدالة عليها في النطق5 ". ويطمئن أنصار المعنى لمذهبهم لوقت ما، بعد أن انتقض مذهب منافسيهم فيقرّر الخصائص التي يشرف بها المعنى، بأن تكون غريبة نادرة، أو تشتمل على حكمة أو أدب " يقول:

"واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه، من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا، أو حكمة، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف مما ليس كذلك بل عابوه.

" 1، 2، 3 " دلائل الإعجاز عبد القاهر 425، 37، 88.

4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.

5 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ص 113، وعز الدين إسماعيل في الأسس الجمالية في النقد العربي.

ص: 198

لأجل الاعتداد بهذا الشرف وحده، وعدم النظر إلى ما سواه، وإن كان من الأول بسبيل أم متصلًا به اتصال ما لا ينفكّ عنه1".

ثم ينور عليهم ليحطم مذهبهم في المعنى مع اعتماده خصائص في ذاته فيقول: "واعلم أن الداء الدري والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللافظ، وجعل لا يعطيه من المزية، إن هو أعطى إلا ما فضل من المعنى يقول: ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه2".

وبعد أن هوى بالمذهبين أخذ يترفق بأصحابهما، لعلهما يجدان الصواب معه كما وقع له فيقول:"أتراك استصغت تجنيس أبي تمام":

ذهبت بمذهبه السماحة فالقوت

فيه الظنون مذهب أو مذهب

أو استحسنت تجنيس القائل:

حتى تحيا من خوفه وما يحب

وقول المحدث:

ناظراه فيما جنى ناظراه

أو دعاني أمت بما أودعاني

لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفًا مكررة، تروم لها فائدة، فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة

1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3. تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

2 دلائل الإعجاز. عبد القاهر ص 425.

3 المرجع السابق ص 37. وهو أسرار البلاغة: عبد القاهر.

ص: 199

ووفاها

إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة لم يتم إلا بنصرة المعنى، ولو كان فيه مستحسن ولما وجد فيه معيب مستهجن".

إذن فلا بد عند الإمام من الانتصار لهما معًا، ولن يتم الفضل للكلام إلا بالنظم وبعد أن أقنع الفريقين، أخذ يقرّر مبدأه الهام ونظريته في اللغة، وليست هي حشدًا من الألفاظ، ولا اهتمامًا بالمعاني الغريبة النادرة، بل اللغة علاقات بين ألفاظها لا تعرف إلا بارتباط بعضها ببعض لتوضح ما في الذهن من علائق على جهة الرمز لا النقل يقول الإمام:

"إن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسهان ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف معانيها في أنفسها، لأدَّى ذلك إلى ما لا يشكّ عاقل في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها....

حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنها تجهل معانيها، فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا نتصور إلا على معلوم؟ فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة، لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أننا لم نعرف الرجل والفرض والضرب والقتل إلا من أساعها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا.

ص: 200

الاسم، من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفته

وإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا نتصور إلا فيما بين شيئين الأصل والأول هو الخبر، إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول، والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبريه ومخبر عنه، ومن ذلك استمتع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت أضرب لم تستطيع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخير به عن شيء مظهر أو مقدر، وكأن لفظك به إذا أتت لم ترد ذلك، وصوت تصوته سواء 1".

والإمام هنا يقرر أن ألفاظ اللغة لا أهمية لها مفردة، لنتعرف على معانيها في ذاتها، ولكنها وضعت لأن يضم بعضها إلى بعض، ويتعلق بعضها ببعض حتى تعرف معانيها، وتبلغ الغرض منها، فلو أردنا أن نعرف ما يدل عليه كلمة "فرس" محددًا محصورًا، لما استطعنا ذلك، لأنه اسم جنس عام لا وجود له، إلا في أفراده فإذا وقع بين ألفاظ أخرى في عبارة كما تقول:"فرس في الحديقة" فقد دلَّت الكلمة في التركيب على منظور، ورمزت إلى شيء معين، ولم يكن المسمى في الحديقة هو كل المعنى للكملة السابقة.

ولذلك استطاع عبد القاهر عن طريق الكشف لرمزيه اللغة، أن يعتبر اللفظ الذي يرمز إلى معنى لا وزن له مفردًا، ولا ينهض وحده بتصوير معناه، إلا إذا اشترك مع غيره، وارتبط بألفاظ أخرى، في نظم محكم، عند ذلك يكون لكل لفظ قيمة يقدر اشتراكه في تحديد الصورة العامة للمعنى المراد، ويكون حينئذ للنظم

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني ص 473، 474 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

ص: 201

وحدُّه الميزة في الكشف عن المعاني المبهمة واضحة ومحددة، بينما يعجز اللفظ عن النهوض بالمعنى وحده، ولا يتصور حدوث ذلك بالمعنى الذهني المجرد، لأن السامع لا يعرف عنه شيئًا إلا إذا أشار المتكلم إليه بكلمة ترمز إليه، فيحرك الرمز الصورة الذهنية المترسبة في الباطن، ازدحام الصور الأخرى في الذهن لألفاظ اللغة التي اكتسبها الإنسان في حياته".

وقد فسر ذلك د. مندور بالرمزية في اللغة، التي وصل إليها النقد حديثًا في القرب وألحق عبد القاهر يواضع هذه النظرية "فقت"1.

وألا مع الدكتور نايل 2 في أن الإمام قد سبق النقد الحديث إلى هذه النظرية وبرع فيها واتخذها وسيلة للكشف عن أهمية النظم، وقدرته على تصوير المعنى والغرض بدقة وإحكام.

ولم يبق للإمام عبد القاهر بعد هذا الصراع إلا أن يحدّد معنى النظم، لترتقي منه في النهاية إلى توضيح معالم الصورة الأدبية عنده.

وفي تحديد معنى النظم يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه للشك، أنه لا نظم في الكلم، ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك

وإذا كان كذلك تعاقبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبقاء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله 3؟..

1 الميزان الجديد. د. محمد مندور ص 186.

2 نظرية العلاقات للدكتور محمد نايل أحمد ص 100.

3 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 97 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

ص: 202

فيصبح الاسم فاعلًا لفعل أو مفعولًا أو خبرًا أو مجرورًا أو استفهامًا أو شرطًا إلى غير ذلك من ألوان العلاقات في علم النحو، الي يربط بين النظم فيقول عبد القاهر: واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيع عنها

وذلك أن لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في وجوه الحال، وفي الحروف والفرق بينها بعضها عن بعض وفي حروف العطف والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإضمار والإظهار والجمع والتقيم، والتشبيه التمثيلي 1.

وحينما نتخذ الكلمة بخصائصها السابقة مكانها من النظم المبني على معاني النحو، تتألف الصور الأدبية عند الإمام، لأن في الصيغة كلمات مرتبطة، وجملًا مشدودة بعضها ببعض في اتساق وإحكام ليتم عن التصوير الدقيق للغرض من الصياغة والنظم يقول عبد القاهر عن الصورة الناتجة من النظم:

"إنك ترى الرجل فلا يهتدى في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم 2".

1 المرجع السابق راجع ص 117، 118 التحقيق السابق.

2 المرجع السابق ص 123.

ص: 203

لذلك أصبح النظم عنده وسبيل الكلام لديه هو "سبيل الصياغة والتصوير وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، في جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصفعة كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود، أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا على بيت من أجل معناه ألا يكون تفضيلًا له، من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فأعرفه 1".

هذا إذا كانت الكلمة التي اتخذت مكانها من النظم قامت على الحقيقة، لا تمت إلى الخيال بصلة، فكيف يراها الإمام إذا نبعت الكلمة من منابع الخيال الثرة، والخيال كما نعلم حديثًا عنصر حيّ من أهم عناصر الصورة الأدبية في النقد الحديث، وعبد القاهر يرى أنه رافد من روافدها الكثيرة، وأعظمها هو النظم، وهو الأساس الذي بدونه لا يقبل الخيال ولا تحسن وسائله، فلو وقعت استعارة في نظم، فالجمال في الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فقط، ولكنه يرجع أولًا إلى جمال النظم، وإنما الاستعارة التي وقعت موقعها من الجملة، أو التركيب قد زادت النظم جمالًا على جمال.

فالكلمة المستعارة مثلًا هنا حققت غايتين: إحداهما الجمال الذي نبع من موقع الكلمة في النظم، واتخاذها الوضع اللائق بها، وثانيهما الجمال الذي أضافه الخيال على الكلمة، ولكن الجمال الثاني لا اعتبار له إلا بالنظم الذي تتألف منه الصورة،

1 دلائل الإعجاز: عبد المقاهر ص 255 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

ص: 204

ولذلك لو اختلَّ النظم - مهما حوى من وسائل الخيال - سقطت الصورة وتجرَّدت من كل عناصر الجمال.

وهذه نظرية دقيقة من الغمام في الصورة، أغفلها النقد الحديث إلا نادرًا كما سنرى ويذكر اتجاهه في مواطن كثيرة منها قوله بشأن الاستعارة:

"واعلم أن هذا - أعنى الفرق ب ين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون المزية في النظم - باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنًا قد أخطأ بالاستحسان موضعه فينحل اللفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظنت أن حسنه ذلك كله للفظ دون النظم، مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز:

وإني على إشفاق عيني من العدا

لتجمح مني نظرة ثم أطرق

فترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النظر يجمح، وليس هو لذلك، لأن قال في أول البيت "وإني" حتى أدخل اللام في قوله "لتجمع" ثم قوله:"مني" ثم لأن قال: "نظرة" ولم النظر مثلًا؟ ثم لمكان "ثم" في قوله "ثم" أطرق" وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله:

"على إشفاق عيني من العدى"، وغير ذلك كثير من ألوان الخيال التي وفد إليها الجمال عن طريق النظم.

وبهذا العمق في التناول والاستقصاء، اعتدّ عبد القاهر بالنظم وحده في تأليف الصورة وتكون أركانها، كما هو واضح في نقده لأبيات كثيرة عزة، التي استحسنها بعض النقاد قبله لتفرد ألفاظها بالجمال، مع أنها لا تحمل كبير معنى،

ص: 205

وخالفهم الإمام وبين لهم أن الجمال فيما يرجع إلى حسن النظم، وبه يرتفع حيث يقول عقب قول كثير السابق:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

.... إلخ الأبيات.

قال الإمام لائمًا عليهم صفيفهم "ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم متصرفًا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، أصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن.... إلى قوله الذي بين فيه وجه الصواب، فقل الآن هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها، حتى إن فضل الحسنة يبقى لتلك اللفظة، ولو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وتوصيفه، ثم يقول بعد أن يشبه النظم فيه اللآلي، في العقد بل حق هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكيمة والتشبيهية بعضًا، وازدياد الحسن منها بأن تجامع شكل منها شكلًا، وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها".

ولاهتمام عبد القادر بالنظم وعنايته به جعل بعض النقاد يزعم أنه شكلي لا يهتم بشرف المعنى وندرته، لذلك استحسن الصورة الأدبية السابقة للشاعر كثير، مع أنها لم تحفل بمعنى شريف.

والذي أراه أن نظرية عبد القاهر في النظم والصورة بريئة من الشكلية الصرفة التي اتهم بها، ونستطيع دفعها بالتالي:

ص: 206

أولًا: أنه اهتم أولًا بالمعنى المفرد، وأعطى له سمات النبل والشرف وسبق ذلك في موضعه.

ثانيًا: النظم ينبني على اختيار معاني الألفاظ، وانتقائها، ثم تآلف هذه المعاني والتوخي بينها، ولا شك أن هذا يثبت المعنى في النظم شرفًا ونبلًا1.

ثالثًا: الصورة الأدبية التي تألفت من خيوط النظم إنما يرجع جمالها وسحرها إلى ما تحققه من شرف الغرض وسمو المغزى.

رابعًا: وعلى ذلك فاهتمام عبد القاهر بالنظم والصورة إنما هو من أجل المعاني والأغراض، التي تكون الصورة خير سفارة عنها، وأقواها توصيلًا إلى النفس وتأثيرًا فيها.

خامسًا: وأدَّى اهتمامه بالمعنى والغرض، إلى أن يرتقي بالصورة إلى ما وراء الحس الظاهر عن طريق الوحي في الصورة، وهو ما يسميه عبد القاهر "بمعنى المعنى" "الذي يزيد المضمون شرفًا.

ويرى أنه ليس من المراد من الألفاظ في التراكيب ظواهر معناها فقط، ولكن يراد فوق هذا أن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى "حتى يكون هناك متجاز واتساع، وحتى لا يراد من ألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى" 2 ويجلي "معنى المعنى" وضوحًا، لعنايته التامة به.

ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية إلى الغرض3 ويضرب لذلك أمثلة عدَّة منها قولهم: "كثير

1 دلائل الإعجاز: راجع منهج عبد القاهر في الكتاب للدكتور خفاجي ص 27.

2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 264.

3 المرجع السابق ص 262.

ص: 207

رماد القدر" وينتقل اللفظ فيه إلى المفهوم الذي هو المعنى الوضعي للغة إلى معنى الكرم، وهذا المعنى هو معنى المعنى، والمعنى الأول، هو الوضعي بمثابة الوشي والمعارض للمعنى الثاني، الذي قصد إليه عن طريق معنى المعنى، والمعنى الثاني، هو الذي كسى ذلك الوشي وزينه وحلى به 1.

ويضيف إلى مفهوم الصورة فوق ما تقدم إيضاحًا لمعالمها، وكشفًا لجوانبها، مشاركة الألفاظ، بموسيقاها، ودلالتها الصوتية مما يزيد حسن النظم وجمال التأليف فتثري الصورة بعناصر عديدة تمنحها القوة والتأثير.

ولذلك ينبغي ألا تكون الكلمة غريبة وحشية، بل مألوفة للسمع، مستعملة غير مهجورة، وحروفها خفيفة، منسجمة بعضها مع بعضن متلائمة مع معناها، وأن تتواءم بسماتها الساقة مع جاراتها في النظم، إذ لا اعتداد بها مفردة، إلا حينما يتسق مغانيها بعضها مع بعض يقول "أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها "2.

ويقول: "فلا جمال إذن في اللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما يكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب.

فالملاءمة بين حروف الكلمات، وخفة المنطق بها، وتناسبها مع معناها شدة أو لينًا وخفة وثقلًا، كل ذلك حسن للألفاظ لا شكّ فيه، راجع إلى ذاتها ولكنه يزيد النظم فضلًا، إذا وقعت منه في مكانها، كالشأن في ألوان الخيال.

وينتقي أقوى أنواع الإيقاع في النظم، وأعمق موسيقى في التأليف،

1 المرجع السابق ص 262، 263.

2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 88.

ص: 208

كالمزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء، والتعليق والتقسيم مع الجمع، والتنبه المتمدد والمركب حيث تتجاوب أصداء النظم مع أنغام الموسيقى، التابعة من زوايا متعدّدة لتشارك في جمال النظم الذي تتألف منه الصورة الأدبية ويذكر تحت عنوان "فصل في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" فيقول:

"واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثانٍ منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تصعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن تكون حالت فيها حال الباني، يضع بيمينه ها هنا في حال ما يضع بيساره هناك نعم وفي حال ما يبصر مكانًا ثالثًا، ورابعًا بعضهما بعد الأولين، وليس لما يجيء في هذا الوصف حدّ يحصره أو قانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتَّى، وأنحاء مختلفة فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط، والجزاء معًا كقول البحتري:

إذا ما نهى الناهي فلج به الهوى

أصاخت إلى فلج بها الهجر

ويضرب الأمثلة لأنواع مختلفة من موسيقى النظم إلى أن يقول: ونوع ثالث هو ما كان كقول كثير:

وإني وتهيامي بعزة بعد ما

تخليت مما بيننا وتخلت

لكالمرتجى ظل الغمامة كلما

تبوأ منها للعقيل اضمحلت

ثم ذكر منه التنسيم مع الجمع والتشبيه المتعدد والمركب1.

وملاءمة وضع الكلمة مع أختها في الشطرة، ثم ملاءمتها مع الشطرة الأخرى،

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 127 وما بعدها بتصرف.

ص: 209

ثم ملاءمة البيت مع البيت، ومع أبيات القصيدة، وهكذا حتى يتم النظام الهندسي الموسيقي للقصيدة، لأن الرجل مغرم في الاهتمام بالأجزاء إلا نادرًا، لاعتقاده أن استقامة الجزء، وملاءمته مع الآخر سيؤدي في النهاية إلى سلامة الإيقاع في القطع أو القصيدة 1.

واهتمام الإمام بالجزئيات في النظم دعا بعض النقاد 2 أن يقصر عنايته التامة بالجزئية فحسب، ولم يهتم بالصورة الكلية في الأدب العربي ونقده.

والحق أنه وجه اهتمامه للصورة الجزئية إلا نادرًا، وكان الدكتور نايل موفقًا حينما أثبت أن الإمام تناول الصورة الكلية في نقده قليلًا، نظريًّا وتطبيقيًّا، ومن أراد تفصيلًا فليرجع مشكورًا إلى كتابه دفعًا للإطالة 3.

والذي أحب أن أذكره هنا ما أشار إليه الإمام من العناية بالصورة الكلية في قوله:

"واعلم أن من الكلام، ما أنت ترى المزية في نظمه الحسن، الأجزاء من الصيغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لم تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق، والاستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة، حتى تستوفي القطعة وذلك ما كانت من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري 4:

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا

إلخ الأبيات 5.

1 نظرية العلاقات: د. محمد نايل أحمد ص 48.

2 د. محمد غنيمي هلال في النقد الأدبي الحديث.

3 نظرية العلاقات: د. محمد نايل ص 44 وما بعدها.

4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 124.

5 المرجع السابق ص 120.

ص: 210

ومن الصور الكلية التى تناولها أيضًا قول ابن الرومي:

خجلت خدود الورد من تفضيله

خجلًا توردها عليه شاهد

لم يخجل الورد المورد لونه

إلا وناحله الفضيلة عاند

للنرجس الفضل المبين وإن أبي

آبٍ وحاد عن الطريقة حائد

وفضل القضية أن هذا قائد

زهر الرياض وأن هذا طارد

شتان ما بين اثنين هذا موعد

بتسلب الدنيا وهذا واعد

ينهى النديم عن القبيح بلحظه

وعلى المدامة والسماع مساعد

اطلب بعقلك في السماع سميه

أبدًا فإنك لا محالة واحد

والورد إن فكرت في اسمه

ما في الملاح له سمى واحد

هذي النجوم هي التي ربيتها

بحيا السحاب كما يربى الوالد

فانظر إلى الأخوين من أدناهما

شبهًا بوالده فذاك الماجد

أين الخدود من العيون نفاسة

ورياسة لولا القياس الفاسد

وترتيب الصفة في القطعة أنه عمل أولًا على قلب التشبيه فشبَّه حمرة الورد بحمرة الخجل، ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خجل على الحقيقة، ثم لما اطمأن ذلك في قلبه، واستحكمت صورته طلب لذلك الخجل علة، فجعل علته أن فضل على النرجس، ووضع في منزلة ليس يرى نفسه أهلًا لها، فصار يصوب من ذلك ويتخوف عقيب الغائب وغميرة المستهزي وتجد ما يجد من مدح مدحه يظهر الكذب فيها، ويفرط حتى تصير كالهزء بمن قصد بها، ثم زادته القطنة الثاقبة الطبع المثمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع وحجاج في شأن النرجس، وجهة استحقاقه على الورد فجاء يحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له1.

1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص 229، 330 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

ص: 211

أشار الإمام إلى للصورة الكلية في القطعة السابقة لابن الرومي وإن لم يصرح بها وقد ذكرها في معرض التنبيه؛ حيث شبه حمزة الورد بحمرة الخجل تشبيهًا مقلوبًا، ولو كان حديثه عن الصورة الجزئية لوقف عند هذا الحد، ولكنه استمرّ في تحليل الصورة كلها ليقف على مواطن الحسن فيها غير مكتفٍ بالتشبيه فقط، الذي يدل على ذلك الفقرة الأخيرة حيث قام النرجس بقطنته الثاقبة لتقديم الحجج والأدلة ليستحق الفضل على الورد وينال الشرف وحده ثم ختم حديثه بقوله فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له.

وصحيح أن الإمام لم يصرح بلفظ الصورة الكلية إلا أن تحليله يدل عليها، وتناول غيرها في الدلائل في قطع صغيرة تشبه السابقة، وفي بعض آيات القرآن الكريم.

ثانيًا: للصورة الشعرية في باب السرقات:

ولن يكون حديثنا هنا عن السرقات الأدبية فذلك له مجال آخر، ولكن الحديث سيكون عن الصورة الأدبية التي كشف عنها الإمام أثناء حديثه عن السرقات.

ولذلك تراه يتصدَّى للقوم، ويصف رأيهم بالخطأ المحض، لأنهم اعتبروا الصورتين المختلفتين لمعنًى واحد يعدان شيئًا واحدًا، ولا تفاوت بينهما؛ لأن المعنى في الصورة الأولى هو نفسه في الصورة الثانية، إنما الاختلاف في هئة النظم وتركيب الصورة وهذا لا يفيد شيئًا.

ويوضح لهم بأن التفاوت بين الصورتين على هذه الصفة السابقة أمر محتم ولازم، وأن التغاير في المعنى بعد التصوير جاء نتيجة الاختلاف في هيئة الصورة،

ص: 212

مع أن المعنى كان واحدًا في البداية، فتباين الصورتين عليه أعطى لهما معنًى جديدًا.

ولا يعقل أن يتم الاتفاق بينهما إلا في حالة واحدة، حينما يغيّر الشاعر المتأثر كل لفظة عند الشاعر الأول بلفظة تشبهها في المعنى، وهكذا حتى آخر الصورة فيكون بين الصورتين اتفاق تام ولا تفاوت بينهما؛ لأن الشاعر الثاني لم يعرض للمعنى في نظم أو صورة جديدة يقول الإمام عن القوم: "وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا للكلامين على الكلمتينن فلما رأوا إذا قيل في الكلمتين أن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في أحدهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل، وقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الحطيئة:

دع المكارم لا ترحل لبنيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ذر الفاخر لا تذهب لمطلبها

واجلس فإنك أنت الآكل اللابس

وما كان هذا سبيله كان بمنزل من أن يكون به اعتداد.... ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى، ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعًا شيئًا يستحق أن يدّعى من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر 1....".

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر. تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص 429، 430.

ص: 213

لأن اللفظ للفرد، لا يمكن أن يخفى المعنى، إنما الذي يخفيه النظم والصورة ولو كان المعنى معادًا على صورته وهيئته وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئًا غير أن يبدل لفظًا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالًا؛ لأن اللفظ لا يخفى المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها1".

وكذلك ليست العبرة بمعنى اللفظ في نفسه وذاته، بل في نظمه وصورته كما لا يكون الذهب بنفسه وإنما بصورته خاتمًا كان أو سوارًا يقول الإمام:"وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتمًا، أو الذهب سوادًا أو غيرهما من أصناف الحليّ بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلامًا وشعرًا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخّي معاني النحو وأحكامه 2".

وتأسيسًا على ذلك يضع الإمام عبد القاهر الأساس في التفاوت والمفاضلة بين شاعرين في صورتهما، إذا تناولا معنى متحدًا، فيقسمه قسمين: قسم يكون فيه أحد الشاعرين قد أخفق في تصويره، والآخر جاء بصورة فائقة، قسم جاء فيه كل من الشاعرين في المعنى الواحد بصورة غريبة جديدة.

يقول الإمام في الشاعرين اللذين صورا معنًى واحدًا: "وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين قيمة قد أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.

وقسم أنت ترى واحد من الشاعر قد صنع في المعنى وصور.

ويعلل سر التفاوت في القسم الأول بقوله: "إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم،

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 427.

2 المرجع السابق ص 430.

ص: 214

وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي:

بئس الليالي سهرت من طربي

شوقًا إلى من ببيت يرقدها

مع قول البحتري:

ليل يصادفني ومرهفة الحشا

ضدين أسهره لها وتنامه1.

والقسم الثاني: ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة، ويُورد أمثلة كثيرة منها قول النابغة:

إذا ما غدا بالجيش حلق فوقه

عصائب طير تهتدي بعصائب

جوائح قد أيقن أن قبيله

إذا ما التقى الصفان أول غالب

مع قول أبي نواس:

يتأبَّى الطير غدوته

ثقة بالشبع من جزره

قال عمرو الوراق لأبي نواس: "أما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول:

إذا ما غدا بالجيش: البيتين فقال "أي أبي نواس": اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع.

يقول عبد القاهر: وهذا الكلام من أبي نواس من دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة ذلك؛ لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئًا لكان قوله فما أسأت الاتباع محالًا، لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ.

ويبين عبد القاهر بعد ذلك الفرق بين الصورتين البارعتين فيقول: "ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها، في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن هاهنا معنيين أحدهما أصل، وهو علم الطير بأن الممدوح

1 المرجع السابق ص 431.

ص: 215

إذا غزا عدوا كان الظفر له، وكان هو الغالب، والآخر نوع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، قد عمد النابغة إلى الأصل، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب نذكره وصريحًا وكشف عن وجهه، واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى، وعكس أبو نواس القصة نذكر الفرع الذي هو طعمها في لحوم القتلى صريحًا فقال كما ترى "ثقة بالشبع من جزره" وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون الممدوح على الفحوى، ودلالة على علمها أن الظفر للممدوح هي في أن قال:"من جزره" وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، فيكون شيء أظهر من هذه في النقل من صورة إلى صورة1"؟

ولعل القارئ الكريم معي في نقل النص كله كاملًا هنا؛ لأنني أقصد ذلك وأعنيه فالمقام هنا يستدعي ذكر هذا النص الذي يكشف عن وجهة نظر الناقد ورأيه في الصورة الأدبية، لأنني في مجال بيان مفهوم الصورة عند النقاد القدامى المفترى عليهم حديثًا في أنهم لم يفهموا معنى الصورة الأدبية، ولم يتذوَّقوها ولعلَّ النص الأخير للإمام يعطي لنا صورة صادقة عن وعيه التام بالصورة الأدبية فهمًا وتذوقًا وتحليلًا أدبيًّا وتطبيقًا في الشعر العربي على اختلاف صوره، وقد أثبت الفرق الكبير بين اختلاف الصورتين مع أن الغرض واحد وهو الظفر الممدوح وهما في نفس الوقت صورتان بارعتان ورائعتان، ثم ذلك الاعتداد القوي بالصورة الأدبية في الموازنة والتقدير، والحكم على صاحبها بالسرقة أو بالإنكار فيها، مع إهمال اللفظ منفردًا؛ إذ لا قيمة له وحده في الشعر والتصوير، وإنما تكون له إذا ظهر دوره مع غيره في النظم والصورة،

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 440، 442.

ص: 216

وبعدُ فهذا ما وصل إليه النقد العربي القديم في شخص الإمام عبد القاهر -لتوضيح مفهوم الصورة الأدبية التي نبعت في النهاية من النظم المحكم الجيد، وبيان أراكانها ومعالمها وخصائصها عن طريق التحليل للنصوص الأدبية وإيراد النماذج القوية من الصور، والتعرف على خصائص الجمال والجلال فيها من غير قصد إلى التبويب أو العنونة لها والنص الصريح، أو التقعيد لخصائصها وأركانها، هذا هو ما ينقص النقد القديم في تناوله لمفهوم للصورة وليس عيبًا، لأنه كان يمثل مرحلة من المراحل التاريخية في التعرف عليها وبيانها وتوضيحها.

وفي نهاية المطاف مع الإمام عبد القاهر، نُجمل ما وصل إليه في توضيح الصورة الأدبية والتعرف على خصائصها وذلك في إيجاز:

أولًا: أنه أعطى للفظ حقَّه، كما أعطى للمعنى حقه كذلك.

ثانيًا: أنكر الإمام إتيان الصورة من اللفظ وحده، كما أنه ينبغي ألا يكون جمل الصورة راجعًا إلى المعنى فقط.

ثالثًا: اللفظ عنده تابع للمعنى وعند ابن خلدون وغيره أن المعنى تابع للفظ والأصح ما ذهب إليه الإمام لأنه مجال لظهور العبقريات في التصوير، والواقع أن بينهما فوارق كبيرة أهمها:

أ- الصورة الأدبية عند الإمام تشكل في الذهن أولًا، ثم تبرز إلى الخارج بعد انتظامها، بعكس رأي ابن خلدون، فهي عنده تشكل خارج الذهن، لأن الأديب يجمع ألفاظًا قد تفرّقت هنا وهناك، وأحيانًا يخطئ الغرض بذلك الجمع الخارجي.

ب- الصورة عند الإمام ما دامت داخلية أولًا، فيكون للعقل والعاطفة والمشاعر أثر في حيويتها وقوتها، بينما نجدها على رأي ابن خلدون ربما لا يعمل فيها غير العقل، في عملية جمع الألفاظ لتحقيق غرض ما.

ص: 217

جـ- الصورة عند الإمام يكون لها معنى مقصود، وغرض يهدف إليه الشاعر، وعلى ذلك ينظمها في ذهنه حسب الغرض، بينما في رأي ابن خلدون قد يخطئ الشاعر الغرض، لأن عملية الجمع التي يقوم بها الشاعر ابتداء، ربما تكون على غير اتفاق مع الغرض الذي يهدف إليه.

د- الصورة عند الإمام فيها احتمال للإيحاء بمعنى ثانٍ خلاف المعنى الأول - الذي بنيت عليه الصورة في الذهن، بخلافها عند أمثال ابن خلدون، فإن لها معنًى واحدًا ناتجًا عن نظم الألفاظ، بعد اختيار موقع كل كلمة فيها.

هـ - اتجاه عبد القاهر فيه مجال لظهور العبقريات في الفن، أما اتجاه ابن خلدون فالمجال فيه ضعيف يأتي عن طريق المصادفة غالبًا، كالطفل الذي يلعب بالمكعبات، حتى يقع على تشكيل فريد بالمصادفة، وهذا نادر بينما في الأول تكون له الإرادة، والتحكم في التشكيل، وذلك أقرب إلى العبقرية من الثاني.

وعلى ذلك فإذا حضر المعنى للصورة عند الإمام أتت إليه الألفاظ ميسورة سهلة وأما عند أمثال ابن خلدون فسنجد صعوبة في تحضيرها، وحتى إذا تيسر ذلك فلن نصل إلى المعنى إلا بعد محاولات عديدة.

رابعًا: أساس الجمال عنده يرجع إلى النظم والصياغة والتصوير.

خامسًا: الصورة الادبية الحقة تتكون من العلاقات بين الألفاظ، وتتألف من خيوط النظم الجيد.

سادسًا: كل كلمة في النظم أو الصورة لا بد أن تاخذ مكانها بين أخواتها، يرتبط معناها بمعاني الكلم تيهما على أساس التوخي لمعاني النحو 1.

1 ويرى الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي أن عبد القاهر متأثر في النظم بأستاذه الروحي ابن جني في كتابه الخصائص قبل أن يستفيد من أي إنسان آخر: منهج عبد القاهر في كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر: تحقيق الدكتور خفاجي صاحب الرأي الفريد في هذا.

ص: 218

سابعًا:

لهذا تحقَّقت الوحدة الفنية والترابط الوثيق بين أجزاء النظم والصورة والتلاؤم بين عناصرها.

ثامنًا:

الصورة عنده لا تتعلق بالشكل وحده، ولكنها تتعانق مع المضمون، من حيث التبع والنتيجة، وإنما جاءت الصورة لتوضيح المعنى وتعميقه، والكشف عن الغرض من القصيد، الذي يترابط فيه التصور لتأدية المراد.

تاسعًا:

ولصلة الصورة بالمضمون صلة وثيقة، توحي بمعان جديدة لتأكيد المعنى الأول فيزداد جلاء ووضوحًا، وهو ما سمَّاه الإمام "معنى المعنى".

عاشرًا:

قيمة الخيال في الصورة لا يعدو أن يكون رافدًا واحدًا من الروافد العديدة فيها، وإن وقع في نظم زاد الصورة جمالًا على جمال النظم المحكم.

الحادي عشر:

أهم روافد الصورة هو النظم، أما ما عدا ذلك من روافد اللفظ الحسن والخيال والموسيقى والمزاوجة وغيرها، فهي روافد إضافية تزيد من جمال النظم.

الثاني عشر:

الإمام عبد القاهر صرَّح بوسائل الموسيقى الداخلية التي يتدفق بها النظم، وجعلها من أدق أنواع الصنع، وأشرف ألوان النظم، كالمزاوجة والتقسيم وغير ذلك مما سبق، ولم يهتم بالموسيقى لشيوعها.

ص: 219

الثالث عشر:

أنه ركَّز اهتمامه على نقد الصور الجزئية والتعرف على خصائصها، والتحليل لها، إلا القليل من الصور الكلية.

الرابع عشر:

أدى كشفه لنظرية الرمز في ألفاظ اللغة لتوحي معانيها إلى توفيقه في توضيح معاني النظم، وتثبيت دعائمه، واعتماد الصورة الأدبية عليه وحدة أولًا وقبل كل شيء.

الخامس عشر:

أفاد الإمام من سابقيه فيما انتهى إليه، فأصبح اتجاهه في الصورة الأدبية واضحًا لا غموض فيه.

السادس عشر:

المرجع في التفاضل عنده بين الصور في الشعر والأدب إلى الصورة الأدبية في ذاتها، وما أوحت إليه من معانٍ، لا إلى ذات المعنى والمضمون وحدهما.

السابع عشر:

اختلاف النظم عنده، وتباين التعبير لمعنى واحد لا يمكن بحال أن تتفق فيه صورتان لشاعرين مختلفين يستقلّ كل منهما بنظم يخالف الآخر مع اتحاد المعنى، مثل ما سبق بين النابغة وأبي نواس بل لا بد من الاختلاف في التأليف والإيحاء ودرجة التأثير في النفس.

الثامن عشر:

استطاع عبد القاهر بذوقه الأدبي أن يربط بين النظم وصورته في الشعر وبين الفنون الأخرى، مما يصح فيه التصوير، كالنقش والصياغة للمعادن وأصباغها،

ص: 220

وأن الصورة تلائم النظم كتلاؤم الهيئة والشكل للمعادن في صورها المختلفة من خاتم وأسورة مثلًا، أو ملازمة الألوان والأصباغ وتوزيعها ومقاديرها على قرعة الصورة، في تشابه تام بين الصناعتين، صناعة الشعر وغيرها من الصناعات الأخرى.

التاسع عشر:

عرض الإمام وسائل الخيال من تشبيه واستعارة وغيرها، وأنها أحد الروافد في النظم، والنظم فوقها، لأنه لم يعتد بألوان الخيال إلا بعد اعتداده بالنظم في تأليف الصورة، وأما تحديد معالم الخيال في ذاته، فقد تردَّد عبد القاهر في مفهومه وسماه التخييل أو الإبهام، وذكر د. غشيمي هلال أن النقاد العرب القدامى لم يصلوا إلى مفهوم دقيق للخيال وأثره في الصورة 1.

ويعبر الإمام عن الخيال بالتخيلات، فيذكر بعد قول الشاعر:

إن السحاب لتستحي إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها

وعلق عليه بقوله: وكذلك بوهمك بقوله: "إن السحاب لتستحتي" إن السحاب حيّ يعرف ويعقل، وأن يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح، فيخزى ويخجل.

فالاحتفال والصنعة في التصورات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهزّ الممدوحين وتحركهم شبيه بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش والنقر، فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه

1 ورد هذا بالتفصيل: "النقد الأدبي الحديث " د. محمد غنيمي هلال صفحات 167، 169، 232، 240.

ص: 221

كذلك حكم الشعر، فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني، التي يتوهم بها الجامد الصامت في صورة الحي الناطق

والمعدوم المفقود في حكم الموجود الشاهد، كما قدمت القول في باب التمثيل حتى يكسب الدني رفعة والغامض القدر نباهة1.

والإمام يعبّر عن الخيال في الصورة الشعرية التي تشبه الصناعات الخلابة الرائقة بالتخيلات، فترى الصورة التي قامت عليها تحيل الجامد حيًّا ناطقًا، والمعدوم منظورًا مشاهدًا أمام الحسن والعين، وبذلك يكتسب المعنى الغامض قدرًا ونبلًا.

ومع اعترافه بأن التخييل له قدرة وقيمته، إلا أنه يخلط بينه وبين الوهم، وهو غير الخيال كما في قوله: "من المعاني التي يتوهم بها الجامد الصامد

الخ ".

وهو مع ذلك يفضله في الشعر عن الحقيقة، فيقول معقبًا على بيت البحتري:

كلفتمونا حدود منطقكم

في الشعر يكفي عن صدقه كذبه

أراد كلفتمونا أن تجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجأ إلى موجبه مع أن الشعر يكفي فيه التخييل، والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إليه من التعليل، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد وإياه عمد 2.

وما ذهب إليه الإمام هنا يفسره النقد الحديث بالخيال، لأن الشعر يعتمد أساسًا على هذا الركن، وأنه لا يهتم بالحقيقة، بقدر ما يصور إحساس الشاعر بصدق ودقة، ما دام هذا تطمئن إليه النفس، وتستريح إلى سماعه لقيامه لا على القياس والحقيقة بل على حسن التعليل.

1 أسرار البلاغة: عبد القاهر ص 275، 276 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

2 أسرار البلاغة: عبد القاهرة ص 217، 218، تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

ص: 222

ومع تقديره لقيمه الخيال في الشعر إلا أنه في تحديد مفهومه. يخلط بينه وبين الوهم، فكلاهما له أثره في الصورة الأدبية الحديثة.

ويزداد الأمر وضوحًا عند الإمام حينما يفرق بين التخييل1 والاستعارة، وكلاهما من ألوان الخيال في الصورة "وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ها هنا ما يثبت فيه الشاعر أمرًا هو غير ثابت أصلًا، ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولًا يخدع فيه نفسه، ويريها ما لا ترى.

أما الاستعارة فسبيلها سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله ووجدت قائله، وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا، ويدّعي دعوى لها شبح في العقل، وستمرّ بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن الحقيقة تكشف وجهه في أنه خداع العقل وضرب من التزويق"2.

فهو يرى أن التخييل في قولهم: فلان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى للإنسان المتردد أمر غير ثابت، لأنه دعوى باطلة، يمكن تحصيلها وتحقيقها، وأنه خادع للنفس لأنها ترى غير الحقيقة فيها، كما يرى أن الاستعارة دعوى لها شبح في العقل.

وفي هذا يربط الإمام ألوان الخيال بالعقل، ويقيه بالحقيقة، ويرى أنه وهم وخداع للنفس، ودعوى باطلة وشبح وغير ذلك من الأوصاف المبتورة، التي إن كشف عن جانب من مفهوم الخيال في الصورة، فلا تكشف عن الجوانب الحية فيه بل الخيال كالعقل، لكن لغته الصور المحسة من تخيل واستعارة وتشبيه وكناية وغيرها والإمام جعله أشباحًا وصورًا لا صلة لها بالإحساس، تخدع.

1 التخييل عند عبد القاهر وهو التمثيل.

2 اسرار البلاغة: عبد القاهر ص 221 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

ص: 223

النفس لأنها لا تعرف طريقًا إلا طريق العقل، والعقل وحده هو الذي يربط بين الصورة المحسة في المثال السابق وبين المعنى الذهني، ويرى الصلة بينهما في الجامع، فيأنس للصورة لأنها تتفق مع المتردّد حين يأخذ ويعطي في أمرها، كالرجل المتردّد حين يقدم رجلًا ويؤخّر أخرى، وحينئذ يرى العقل أيضًا أن هذا المعنى أصبح حيًّا متحركًا ولذلك يكون تأثيره في النفس أعظم من الحقيقة المكشوفة التي يتلقفها العقل من غير روية ولطف نظر، وموازنة تجرى، وصلات تعقد، ومن غير تقارب واتفاق.

هذا هو ما يفهم من الخيال عند الإمام وهو إن كان تفسيرًا غير دقيق وشامل للخيال فهو قريب نوعًا من مفهوم الخيال حديثًا لأسباب هي:

أ- أنه يخالف الحقيق بغض النظر عن التشبيه الذي قالوا عنه: إنه فرع الحقيقة لا المجاز، فيكفي فيه حسن التعليل لا المنطق.

ب- الخيال الركن الركين للشعر.

جـ- الخيال يهز العواطف ويحرك النفس.

د- أنه يتخذ مادته من المشاهدات المحسة.

هـ- أنه يبعث الحياة والحركة والمعاينة في الجامد والمعدوم والمفقود.

و أنه يجتاج في الوقوف عليه إلى دقة ولطف ونظر وروية.

ز- أنه يعقد الصلات بين الأشتات حتى تظل مقبولة في النفس.

وهذه الخصائص تمثل شوطًا لا بأس به، في تحديد مفهوم الخيال وتوضيحه وبيان أثره في النفس، وهو في نفس الوقت يمثل طورًا من أطوار مفهومة التي مر بها في الأدب العربي، حتى اكتملت معالمه في العصر الحديث.

ص: 224

والنقاد العرب قطعوا شوطًا كبيرًا في توضيح مفهوم الصورة الأدبية، بعد أن مرت هي كذلك بمراحل النمو والتدرج الطبيعي للأشياء، وإن اتجهت عنايتهم التامة بالصورة الجزئية، مغفلين أمر الصورة الكلية إلا نادرًا، وهذا لا يضر بمفهومها في ذاته.

ولا يصح أن نفرض مفهومًا حديثًا، ونطبقه على المفهوم القديم، لنتهمهم بالتنصير لعدم المطابقة بين المفهومين، ليس هذا بمعقول، لأن النقد القديم كان يمثل مرحلة تاريخية في بناء الفهم للصورة الأدبية، ولذلك كان النقاد غالبًا ما يستعملون الشعر والكلام مكان الصورة كالآمدي، أو النظم والتأليف - والصياغة كما هو الشأن عند معظمهم، حتى من فطن منهم إلى التعبير بالصورة كان يمر بها خاطفًا كالبرق، ولعل فن التصوير والرسم لم يبلغوا فيه درجة ما بلغناه في عصرنا، حتى أصبح هذا اللفظ على كل لسان حديثًا، فاستخدموه في التجارب العملية، وفي معامل العلوم الحديثة. وكذلك يرجع الإقلال من التعامل بالصورة قديمًا، وإحلال النظم أو الصياغة إلى غير ذلك محلها، إلى حداثة الامتزاج بالأعاجم وشيوع اللحن في اللغة العربية توجد النقاد والأدباء أن الأنسب في مواجهة هذا التيار المشوب باللكنة والعجرمة، والتعبير باللفظ والمعنى والنظم والتأليف للصياغة والكلام مما يدل بالنص والتصريح على اللغة وخصائصها، لأن الصورة تعبير غير مباشر، لبيان المراد في اللغة، وإن تردَّدت على ألسنتهم متأثرين بما ترجموه من الاعاجم، فما زالت الصورة غير مختمرة بعقولهم ولا ممتزجة بعواطفهم، لذلك تجنبوا التعبير بها إلا قليلًا، حتى يتخمّر وتمتزج بنفوسهم ليعبروا بها عن أصالة وإحساس صادق وقد نبعت من حياتهم ولغتهم وأدبهم.

ص: 225

بين التأثر والتأثير وقضية السرقات الأدبية:

أريد أن أوضح في إيجاز محددًا المفاهيم لبعض المصطلحات، التي تلاحقت في نمو" المعنى الفيَّاض وهو التاثر والتأثير، فتشرق الأسس التي ينبني عليها هذا الفصل، وتتضح معالمه، وتسير على قاعدة مقرَّرة، وأرض صلبة، واتجاه واضح، فقضية التأثر، لازمت الفكر الإنساني من زمن مبكر، واختلفت نظرة النقادة لها مفهومًا ودرجة وعمقًا، في شتَّى العصور حسب المستوى الفكري والثقافي لكل عنصر.

ويرجع التأثر بمعناه الواسع إلى عوامل فرضت على المجتمع وهي في إيجاز:

أ- الرواية.

ب- الحفظ.

جـ- الإحياء.

و المعارضة.

هـ عمود الشعر.

"و" البيئة الثقافية التي تعاقبت عليها ثقافة الأجيال السابقة، من التذكر التلقائي أو المتعمد كما يدّعي بعض الباحثين1 وإن كان يرجع رأيي إلى العوامل السابقة على اتساعها.

واخذت هذه المشكلة من اهتمام الباحثين قديمًا وحديثًا، قدرًا لم يغفل في أي عصر وأفردوها في كتب مستقلّة مثل سرقات أبي نواس لمهلهل بن يموت، والمنصف في الدلالات

1 السرقات في النقد العربي: محمد مصطفى هدارة ط أولى 1958 ص 251.

ص: 227

على سرقات المتنبي لابن وكيع التنيسي: والإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنًى، لأبي سعيد محمد بن أحمد العميدي. والموازنة للآمدي. والوساطة للقاضي الجرجاني وغيرها كثير. وأما البحوث الحديثة مثل السرقات الأدبية لبدوي طبانة، ومشكلة السرقات في النقد الأدبي لمحمد مصطفى هدارة وغيرهما.

وأما الكتب المشتركة بين هذه المشكلة وبين قضايا أخرى، فكثيرة أهمّها طبقات الشعراء لابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني. والصناعتين لأبي هلال العسكري والعمدة لابن رشيق وغير ذلك.

واستطاع ابن رشيق أن يجمع أنواع السرقات المتفرقة في كتب السابقين وهي كثيرة 1.

أولًا: الاصطراف: أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر: فيصرفه إلى نفسه.

ثانيًا: الاختلاب أو الاستلحاق: البيت من الشعر عند الشاعر إن صرفه إليه على جهة المثل فهو اختلاب واستلحاق.

ثالثًا: الانتحال حين يدعي الشاعر جملة البيت ويكون لغيره.

رابعًا: الادعاء هو أن يدّعي البيت من الشعر من ليس شاعرًا.

خامسًا: الإغارة أن يصنع الشاعر بيتًا، ويخترع معنًى مليحًا، فيتناوله من هو أعظم منه ذكرًا وأبعد صوتًا فيروي له دون قائله.

سادسًا: الغصب. هو الاستيلاء على بيت من الشعر الآخر عنوة، فليس له بعد التهديد ويسير في الناس باسمه.

سابعًا: المرادفة والاسترقاد: أن يأخذ الشاعر بيتًا من غيره على سبيل الهبة.

ثامنًا: الاهتدام. وهو السرقة فيما دون البيت ويسمى أيضًا نسخًا.

تاسعًا: النظر والملاحظ: وهي التساوي في المعنيين دون اللفظ مع خفاء الأخذ، أو تضاد المعنيين، ودلالة أحدهما على الآخر وقيل أن الأخير يُسمّى "إلمامًا".

عاشرًا: الاختلاس: وهو تحويل المعنى من نسب إلى مديح أو من غرض إلى آخر عامة ويسمى النقل.

الحادي عشر: الموازنة: وهي أخذ بنية الكلام فقط.

ص: 228

الثاني عشر: العكس: هو جعل مكان لكل لفظة ضدها.

الثالث عشر: المواردة: اتفاق الشاعرين في المعنى، وتواردهما في اللفظ، مع عدم لقاء أحدهما بالآخر وسماع شعره.

الرابع عشر: الالتقاط والتلفيق: تأليف البيت من أبيات، قد ركب بعضها من بعض وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب.

الخامس عشر: كشف المعنى من الشعر وتوضيحه بعد إبهامه.

السادس عشر: المجدود من الشعر: وهو ما رزق جدًّا واشتهارًا مع تأخر قائله.

السابع عشر: سوء الاتباع: أن يعمل الشاعر معنى رديئًا ولفظًا رديئًا مستهجنًا، ثم يأتي من بعده فيتبعه على رداءته.

الثامن عشر: تقصير الأخذ عن المأخوذ، فينزل الآخذ عن المأخوذ منه في معناه، درجة أو درجتين، مع بقاء روح الاتصال بينهما.

وأما الأخذ الحسن فذكره ابن رشيق في أمور: المخترع معروف له فضله متروك له من درجته غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاده بأن:

أ- يختصره إن كان طويلًا.

ب- أو يبسطه إن كان كزًا.

جـ- أو يبينه إن كان غامضًا.

د- أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافًا.

هـ- أو رشيق الوزن إن كان جافيًا، فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك إن قلبه، أو عرفه عن وجهه إلى وجه آخر.

فأما إن ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها. فإن قصر كان ذلك دليلًا على سوء طبعه، وسقوط همته، وضعف قدرته 1.

ويرى أنه لو التقى شاعران معاصران كابن الرومي وابن المعتز مثلًا، على معنى واحد، التحق المعنى بأقدمهما سنًّا، أو موتًا، أو أجودهما، وإن تساوى المعنيان في الجودة روى لهما على السواء 2.

1 المرجع السابق ابن رشيق جـ 2، 290.

2 المرجع السابق جـ 2 292.

ص: 229

وأنواع التأثر البديعة عنده هي:

أ- البديع النادر في العبارات.

ب- الخارج عن المألوف في الألفاظ.

يقول: السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة، وذلك في العبارات التي هي الألفاظ 1 ثم في موطن آخر.

جـ الإيغال.

د- التتبع.

هـ- المبالغة.

و التتميم.

س- الالتفات 2.

واستطاع الإمام عبد القاهر أن يفرق بين أنواع التأثر، ويحدد مصطلحاتها ويميز الجيد منها والرديء بصورة أوشكت عن الكمال، ولا نقول: إنه ابتكرها ابتداء، ولكنه اعتمد على ما وصل إليه المتقدمون وأخذ يلم الشتات بنظرته الشاملة، وبعمق في قدرة عجيبة على التطبيق، وبإسلوب متنوع يدلّ على أصالته. وشخصيته الفذة، ولذلك جاء من بعده وسار على طريقه من غير تجديد ولا ابتكار.

ونراه يقسم المعنى إلى قسمين.

أ- معنى عقلي: وهو المعنى الذي يقرّه العقلاء، ويجري في كل أمة وعلى أي لسان، وهو يقابل المعنى المشترك عند من سبقه من النقاد، وهذا لا يصح الحكم فيه بالسرقة وإنما المفاضلة فيه بالتصوير والإجادة في التعبير، وإحكام الصناعة، يقول الإمام:

واعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره، وسرق واقتدى بمن تقدم وسبق

لا يخلو أن يكون في المعنى صريحًا أو في صيغة تتعلق بالعبارة

فقوله:

وما الحسب الموروث لا درّ درّه

بمحتسب إلا بآخر متكسب

ونظائره كقوله.

1 المرجع السابق 292.

2 قراضة الذهب في نقد شعار العرب: الحسن ابن رشيق القيرواني: نشرة الخانجي بمطبعة النهضة بمصر. ط عام 1926.

ص: 230

إني وإن كنت ابن سيد عامر

وفي السر منها والصريح المهذب

فما سودتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

معنى صريح محض، ويشهد له العقل بالصحة ويعطيه من نفسه أكرم النسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجبه في كل جيل وأمة، ويوجد لها أصل في كل لسان ولغة" 1:

ويوضح التفاضل في المعنى المشترك فيرجعه إلى اللفظ، الذي يلبس المعنى، والعبارة التي تكسوه وتوضحه أو تؤدّيه بطريق الاختصار أو التفصيل، أو يكون المعنى على نقيضه".

يقول الإمام معقبًا على قول الشاعر. "وكل امرئ يؤتي الجميل محبب" صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضده، وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم:"جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، بل قول الله عز وجل:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .

ب- معنى تخييلي: وهو ما يمتّ إلى العقل بسبب، بل يرجع إلى الإحساس والشعور وغالبًا ما يختلفا من شخص إلى آخر، وهو ما يسمى عند النقاد المتقدمين بالمعنى الخاص، ويغلب في هذا المعنى السرقة والأخذ إلا من استطاع أن يُولد منه معنى آخر، أو يستوحى منه معنًى تخيليًّا جديدًا، وذلك لا يدخل في باب السرقة المحضة، وهذا ما ذكره الإمام:

"وأما القسم التخييلي فهو الذي لا يمكن أن يقال: إنه صدق، وأن ما أثبته ثابت، وما نفاه منفي، وهو مفتن المذاهب كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريبًا، ولا يحاط به تقسيمًا وتبويبًا، ثم أنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعًا قد تلطف فيه، وأستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطي شيئًا من الحق، وغثي رونقًا من الصدق، باحتجاج يخيل وقياس يصنع فيه ويعمل، ومثاله قول أبي تمام:

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسيل حرب للكان العالي

1 أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني ص 211، 212 تحقيق السيد محمد رشيد رضا ط السادسة القاهرة 1959.

2 المرجع السابق ص 213.

ص: 231

فهذا قد خَيّل إلى السامع أن الكريم، إذا كان موصوفًا بالعلو والرفعة في قدره، وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه، وعظم نفسه وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم، ومعلوم أنه قياس تخييلي، وإبهام لا تحصيل وإحكام، فالعلة في أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية، وإن المال سيال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الإنصاب، وتمنعه من الانسياب، وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال:" 1.

ويعقب بقوله: "مع أن الشعر يكفي فيه التخييل والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إلى من التعليل 1: ويفسر الإمام المعنى المشترك والخاص بتفسير أوضح. من التفسير السابق ويرى أن الشاعرين لا يعدو اتفاقهما في أحد أمرين.

أولهما: أن يتفقا في الغرض العام والمعنى المشترك كالشجاعة والسخاء، وهذا لا يقع فيه الأخذ والسرقة والاستعداد والاستعانة يقول: "والاشتراك في الغرض على العموم أن يقصد كل واحد منهما، وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسرعة وما جرى هذا المجرى

فأما الإنفاق في عموم الغرض فما لا يكون الاشتراك فيه داخلًا في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة، لا ترى من به حس يدعى ذلك، ويأبى الحكم بأنه لا يدخل في باب الأخذ 2.

وهذا ما يسميه الإمام بالمشترك العامي، والظاهر الجلي، ولا يدخله التفاضل ولا يقوم به التفاوت، ما دام صريحًا ظاهرًا ساذجًا، لا حذق فيه، ولا تعمل وإفراغ بحث.

أما إن تعمل في المعنى العامي المشترك، أو عرضه إليه معنًى آخر، أو استولد لطيفه، أو أدخله في باب الكناية والتعريض. أو عرضه في صورة الزمن والتلويح فقد لبس طريقة جديدة وصورة لطيفة، ومعرضًا حديثًا، ودخل في دائرة الخاص، لأنه كثيرًا ما تدبّر فيه وتأمَّل يقول الإمام: واعلم أن ذلك الأول هو المشترك العامي والظاهر، والجلي، والذي قلت: إن التفاضل لا يدخله والتفاوت لا يصح فيه، إنما يكون كذلك منه، ما كان صريحًا ظاهرًا، لم تلحقه صنعه، وساذجًا لم يعمل فيه نقش فأما إذا ركب

1 المرجع السابق ص 214.

2 المرجع السابق 217.

3 المرجع السابق 272، 271.

ص: 232

عليه معنى ووصل به لطبقة، ودخل إليه من باب الكناية والتعريض والرمز والتلويح، فقد صار بما غير من طريقته. واستؤنف من صورته واستجد من المعرض1، وكسى من ذلك التعرض داخلًا في قبيل الخاص الذي يملك الفكرة، والعمل، ويتوصل إليه بالتدبير والتأمل، وذلك كقولهم وهم يريدون التشبيه "سلين الظباء العيون" كقول بعض العرب:

سلين ظباء ذي قفر طلاها

ونجل الأعين البقر الصوارا2

فقد أوهم أن ثمّ سرقة وأن العيون منقولة إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرت أنه يريد أن يقول: أن عيونا كعيون الظباء في الحسن والهيئة، وفترة النظر3.

ثانيهما: أن يتفق الشاعران في الإتجاه الخاص وجهة الدلالة التي يهدف إليها كل منهما، والانفراد بحسن التعليل، كإثبات دلائل الشجاعة وعلامات السخاء، وهذا الأمر على ضربين:

أحدهما إن كان الإتفاق في هذا مما يشترط فيه الناس وتألفه العقول، وتجاري العادات، فيدخل في القسم الأول وهو المشترك العامي.

وثانيهما: هو ما ينتهي إليه الشاعر عن تدبر واجتهاد وبعد منال ومعاناه، وغوص وعرق فيختص صاحبه به، ويجوز فضل السبق والتقدم ويكون مجال المفاضلة والتفاوت، وهذا ما يسميه الإمام بالمعنى الخاص.

يقول:

وأم وجه الدلالة على الغرض، فهو أن يذكر ما يستدل به على إثباته له بالشجاعة

والسخاء مثلًا

كالتشبيه بالأسد وبالبحر في الناس والجود، وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة بالإشراق

وأما الاتفاق في وجه الدلالة على الغرض، فيجب أن ينظر: فإن كان مما اشترك الناس في معرفته وكان مستقرًّا في العقول والعادات، فإن حكم ذلك وإن كان خصوصًا

1المعرض هو ثوب العروس التي تتزين به.

2 الطلا بالضم جمع طلبة وهي الاعناق، نجل الأعين العيون النجلاء، أي الجميلة والصور بالضم وبالكسر التطبيع من بقر الوحش:

3 أسرار البلاغة: الإمام عبد القاهر الجرجاني 273 - 275.

ص: 233

في المعنى حكم العموم الذي تقدم ذكره من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء. ..

وإن كان ما ينتهى إليه المتكلم بنظر وتدبر، ويناله بطلب واجتهاد ولم يكن الأول في حضوره إياه، وكونه في حكم ما يقابله، الذي لا معاناة عليه فيه، ولا حاجة به إلى المجادلة والمزاولة والقياس والمباحثة والاستنباط والإستنارة، بل كان من دونه حجاب إلى خرقه بالنظر، وعليه كم1 يفتقر إلى شقة بالتفكر

نعم إذا كان هذا شأنه وههنا مكانه وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية، أن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد، وأن يقضي بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين، وأن أحدهما فيه أكمل من الآخر وأن الثاني زاد عن الأول أو نقص عنه وترقى إلى غاية أبعد من غايته، أو انحط إلى منزلة هي دون منزلته 2".

ثم يبين هذا التدبر والإهمال والمعاناة في قوله: "فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم، وتقول فعلُا شبيهُا بما يقع في نفس الناظر، إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق والتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر، فكما أن تلك تعجب وتخلب وتروق وتونق

كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني، التي يتوهم بها الجامد الصامت، في صورة الحي الناطق

حتى يكسب الدنيء رفعة والغامض القدر نباهة 2".

وبه أبو هلال العسكري قبل عبد القاهر إلى هذا الاتجاه في التأثير، وأن العبرة عنده مكسورة المعنى من الصياغة والألفاظ وعنهما تكون السرقة والتأثر.

ويرد أبو هلال الأخذ الحسن إلى أن يكسي التابع معنى المتبوع تعبيرات من عنده، أو يصوغه صياغة جديدة أو يضفي عليه زيادة في حسن تأليف وجودة تركيب وتمام حلية 1، إلا أن عبد القاهر جعل الصورة الأدبية هي عماد التأثر بأنواعه المختلفة، وموطن

1 الكم بكسر الكاف الغلاف الذي يحيط بالثمر والزهر.

2، 3 اسرار البلاغة الإمام عبد القادر 272 - 276.

4 الصناعتين أبو هلال العسكري ص 196 تحقيق البيجاوي أبو الفضل بدار إحياء الكتب المصرية 6952.

ص: 234

الإبداع الفني للشاعر، الذي به يستحق المعنى وينفرد بالصورة ولو كان المعنى قد ملت منه الأسماع، وتلاقت عنده العقول.

والاطمئنان الإمام لما وصل إليه، وهو غاية ما وصل إليه النقاد العرب، أخذ بعض قضية التأثر في كتابه دلائل الإعجاز بصورة أوسع وأبعد عمقًا، وقد بناها على فكرة النظم وعلاقات الألفاظ التي اعتمد عليه الكتاب كل الاعتماد.

ويربط التأثر بمشكلة النظم، وضحت أنواع التأثر وانكشفت معالمه وظهر الفرق بين السرقة والأخذ وبين الاحتذاء والتوليد والتأثر.

وأساس الاختلاف في مفاهيم أنواع التأثر، يرجع عند المتقدمين على الإمام إلى قضية اللفظ والمعنى، فمن نصر اللفظ منهم جعل السرقة في التصوير والتعبير، ما لم يولد الشاعر في المعنى أو يستوحي أو يتأثر بالاتجاه العام فقط، فإن فعل واحدة منها، لا يتهم بالسرقة، ويحكم على تصويره بقدر درجة جودته، ومدى التباعد بين السابق واللاحق، والمعنى عندهم يستوي فيه كل الناس فالمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ فالشعر صياغة وضرب من التصوير كما قال الجاحظ في ردِّه على أبي عمرو الشيباني نصر المعنى1.

ومن نصر المعنى جعله بحال السرقة والتأثر فيه وإن فرق أنصاره بين المعنى المشترك العام والمعنى الخاص إلا أن المعنى عنده هو أساس الشاعرين أو اختلافهما فيه وانفراد أحدهما به عن الآخر وإن اختلف التصوير، وتباينت التراكيب وتغاير النظم، ومن أنصار المعنى أبو عمرو الشيباني وابن قتيبة 2.

وبانتصار عبد القاهر لفكرة النظم، وصل إلى الغاية في تحديد أنواع التأثر والسرقات وقرب فيها إلى الكمال، وردّ على أنصار المعنى وكشف عن أخطائهم في انتصارهم للمعنى وحده، الذي اختنق بسببه النقد لفترة طويلة وانحطّ شأن التصوير والنظم والجمال والتأليف ولهذا فهو يؤيّد الجاحظ الذي انتصر للفظ والصياغة، لأن المعاني في الطريقة تعرفها الناس جميعًا، لا فرق بين حضري وبدوي، وعربي وعجمي.

1 الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون جـ 1 ص 40.

2 الشعر والشعراء أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ص7 وما بعدها.

ص: 235

ولكنه ردَّ على أنصار اللفظ من حيث هو لفظ مفرد لا يشترك مع غيره في النظم المتلاحم والتركيب المتسق، وبيَّن الإمام أن كلًّا من الفريقين: نصير المعنى وحده، ونصير اللفظ وحده كان سببًا في اختناق النقد لفترة طويلة، وإنهما أخطأ من شأن التصوير والنظم وجمال التأليف.

وأنصار اللفظ مستقلًّا يرون أن الشاعر إذا تأثر بآخر في ألفاظه -الألفاظ المفردة- يعدّ آخذًا ومحتذيًا لا مبتدئًا، ولو أتت ألفاظه المأخوذة من غيره على نظم يختلف عما تأثر به، لأن خيال الشيء عندهم هو الشيء نفسه وهم في ذلك لا يفرقون بين السرقة والاحتذاء، وإن كان كلاهما أخذ، فهم كما يراهم الإمام: "مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء، وذلك أنهم قد اعتدوا في كل أمرهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعلوا ألا يحتفلون بغيره، ولا يعولون في القصاحة على شيء سواء حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصبح فقرأه ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليهم، كان قد أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته، إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به، محتذيًا لا مبتدئًا1.

ويوضح لهم الإمام خطأهم في اهتمامهم باللفظ كلفظ، فيذكر الاعتبار الصحيح في استعمال الألفاظ وهو النظم، فمن تأثر بنظم آخر وعلى مثاله يعد أخذًا، ومن لم يتاثر بالنظم وإن تأثر بالألفاظ لا يعد آخذًا بل محتذيًا، فالمتأثر بالألفاظ من غير ارتباطها بالنسق النفسي والمعنوى غلط وإفحاش. يقول الإمام عبد القاهر:

"ونحن إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء فيها على شيء إنما يقع في النفس، أنه نسق إذا اعتبرنا ما توخى من معاني النحو في معانيها فأما مع ترك ذلك فلا يقع ولا يتصور مجال 2".

وعلى ذلك لا تصح المفاضلة بين العبارتين التي وقع فيها التأثر والتأثير في الألفاظ مفردة، ولكنها تقع المفاضلة بين نظم وآخر يختلف عنه وإن اتفق في الألفاظ، فلكل منها صورة تخالف صورة الآخر ألبتة، ويسمى ذلك عند الإمام عبد القاهر تأثرًا.

1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر 417 تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي طأولي 1969

2 المرجع السابق 417.

ص: 236

واحتذاه، لا سرقة وإنما السرقة تقع في التماثل التام بين النظم الأول والثاني يقول:

ولقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورته في الآخر، ألبتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت، فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الحطيئة:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها

واجلس فإنك أنت الآكل اللابس

ذلك لأن بيت الخطيئة لم يكن كلّا ما وشعرًا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجردة معراة عن معاني النظم والتأليف، بل منها متوخي فيها إلخ 1.

ثم يرجع الإمام باللائمة على أنصار المعنى، الذين لا يحفلون إلا بالمعنى، وأن الأخذ بالسرقة إنما تقع فيه، فمن أخذ معنى من آخر من غير أن يولد منه معنًى جديدًا، أو يستوحي منه لطيفة طريقة، يعدّ سارقًا وآخذًا، فإن من ولد فيه أو استوحى منه معنًى آخر، لم يكن سارقًا، ويقولون بأن من أخذ معنًى عاريًا كان أحق به، ولذلك كتب المرزباني "فصل في هذا المعنى حسن" وبيَّن لهم الإمام أن ليس الاعتبار في التأثر بالمعنى وحده، لأنه لا يتصور أن يكون هناك معنًى عاريًا من غير لفظ يدل عليه، ولا يتصور أن يأتي واحد منا بمعنى يلفظ من عنده ابتداء به، ولو صح له ذلك فهو أولى به من غيره وينسب إليه.

يقول الإمام: ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس، ومن شدّة غفلتهم حيث ذكروا الأخذ والسرقة أن من أخذ معنًى عاريًا فكساه لفظًا من عنده، كان أحق به.... وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب عبد الرحمن2 ثم لا ترى أحدًا من هؤلاء الذين لهجوا، بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول: من أين يتصور أن يكون هنا معنى عار، من لفظ يدل عليه، ثم من أن يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعانى بلفط من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك فمن أين يجب إذا وضع لفظًا على معنى، أن يصير أحق به، من صاحبه الذي أخذ منه إن كان هو لا يمنع بالمعنى شيئًا، ولا يحدث فيه صفة ولا يكسبه فضيلة....

وفي كتاب "الشعر والشعراء" 3، للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن قال: وعن الأمثال.

1 المرجع السابق 492، 430.

2 هو عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني صاحب كتاب "الألفاظ الكتابية".

3 لعله كتاب "معجم الشعراء" المطبوع للمرزباني أو كتاب آخر له مفقود.

ص: 237

القديمة قولهم

"حرًّا أخاف على جانبي كمأة لأقرأ 1 ويضرب مثلًا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره ما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال 2:

وحُذِّرتُ من أمر فمرَّ بجانبي

لم ينكني3 ولقيت ما لم أحذر4

وسرّ الخلط عند الفريقين كما يراه الإمام أنهم بنوا قاعدتهم على أساس اللفظ أو المعنى ولا ثالث عندهما، وليس الأمر مجرد لفظ أو مجرد معنى، إنما هو أمر ثالث جهلوه وهو الصباغة والتصوير والنظم والتأليف، فمن شأن المعاني أن تختلف عليها الصورة، ومن شأن الألفاظ أن تنتظم بمعاني النحو وأحكامه.

مثل ذلك الحاذق في الصناعة حينما يصنع خاتما أو سوارا من ذهب، فالذهب في ذاته وحجمه لا ميزة فيه ولا تفاضل بين قطعة، وإنما الميزة والتفاضل يكون في صناعتها وصقلها، وتنسيق أجزائها، ووضع كل جزء في مكانه المناسب، فتروق النظر وتستهوي اللهب، وتأخذ من النفس مأخذا كبيرا. يقول الإمام:

وقد علنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم من أن شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد ألا تكون، فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذقن إذا هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي، فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيها تورطوا فيها من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة، فقالوا ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث5 ".

وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتما، أو الذهب أسوارا أوغيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن يحدث فيهما من الصورة، وكذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذي هو حقيقة توخي معاني النحو وأحكامه " 6.

1 كمأة: نبات يمطر في فصل الربيع وهو ما يسميه العامة بعش الغراب.

2 يقول الدكتور خفاجي في تحقيقه الدلائل هو عبد الله بن يزيد الهلالي.

3 نكي: بكسر الكاف ينكي: أضر يضر.

4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر 426: 428.

5 المرجع السابق 425

6 المرجع السابق 430.

ص: 238

ثم يقرّر الإمام عبد القاهر المصطلح الدقيق في التأثر، للاحتذاء ويفرق بينه وبين السرقة والأخذ فالاحتذاء عنده أن ينظم شاعر معنى في أسلوب، ثم يتناول شاعر آخر هذا النظم في نظم من عنده لذلك أنكر ابن الرومي ادّعاء البحتري بالسرقة والأخذ في بيت أبي نواس:

ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم

بشرقي ساباط الديار البسابس

فقد أخذه الشاعر من قول أبي خراش الهذلي:

لم أدر من ألقي عليه رداءه

سوى أنه قد سل من ماجد محصي

وقال ابن الرومي لأبي نواس، فقد اختلف المعنى فيهما، قال أبو هلال العسكري الذي حكى الخبر، فهذا من حلى الأخذ والحذو مع أن حذوا الكلام حذوًا واحدًا، وأما الأخذ والسرقة عنده، فهو ألا يكون في المعنى جديدًا، حينما ينظم شاعرًا على مثال آخر، ويتفق معه في النظم والمعنى ويكون الفضل للسابق.

يقول الإمام: واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه، أن يبدأ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبًا -والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره فيشبه بمن يقطع من أديمة فعلًا على مثال فعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله

وحكى العسكري في صنعه الشعر أن ابن الرومي قال: قال لي البحتري: قول أبي نواس، ثم ذكر البيتين السابقين. قال فقلت: قد اختلف المعنى فقال أما ترى حذوًا واحدًا، وهذا الذي كتبت من حلي الأخذ في الحذو 1".

ثم يفصل الإمام المعنى بين الأخذ والمأخوذ فيجعله قسمين:

أ- قسم أنت ترى فيه أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.

وهو القسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلًا، وفي الآخر مصورًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي:

إذا اعتلّ سيف الدولة اعتلّت الأرض

ومن فوقها والبأس والكرم المحض

1 المرجع السابق 418، 419.

ص: 239

مع قول البحتري:

ظللنا نعود الجود من وعكك الذي

وجدت وقلنا اعتلّ عضو من المجد1

ب- وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى، وصور من الأمثلة لهذا القسم قول لبيد:

وأكذب النفس إذا حدثتها

إن صدق النفس يزري بالأمل

مع قول نافع بن لقيط:

وإذا صدقت النفس لم تترك لها

أملًا، ويأمل ما اشتهى المكذوب2

وبهذا كله يحسم الإمام القضية، ويبين في غير خفاء الأخذ القبيح والأخذ الحسن ويميز بين السرقة والأخذ وبين الاحتذاء.

والاحتذاء هو المحمود عنده، وهو الذي ينبغي أن يرعاه الشعراء لا الأخذ والسرقة، وهما مذمومان عنده، والاحتذاء وإن كان فيه أخذ إلا أن الشاعر قد جدد في المأخوذ، وابتكر في بعض أجزائه، بينما الأخذ في السرقة تجديد فيه ولا ابتكار.

وفي الاحتذاء نوعان: -

أحدهما: التأثر وقد ذكره الآمدي حينما مدح البحتري في معانيه التي أخذها من أستاذه أبي تمام وصاغها من طبعه، ولم ينكر عليه ذلك فقال: غير منكر لشاعرين متناسبين من أهل بالدين متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني3".

والنوع الثاني: وهو التوليد: وضحه ابن رشيق بقوله "والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه، أو يزيد فيه زيادة، فلذلك يسمى التوليد، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة، إذ كان ليس آخذًا على وجه4".

إذن فالسرقة والأخذ هما أحسن أنواع التأثر لما فيهما من التقليد وانعدام شخصية الشاعر، والتكرار الذي يبعث الملل في النفس، ويأخذها بالضيق والسأم.

وإما الاحتذاء فهو أشرف أنواع التأثر لأن فيه خلقًا وابتكارًا في جانب، وتقليدًا واتباعًا في جانب آخر، وتبعًا لذلك ربما يسمو متأخر في تصويره عن متقدم حذا حذوه.

1 المرجع السابق 431، 432.

2 المرجع السابق 432، 440.

3 الموازنة للامدي 45 نشره محمود توفيق الكتبي ص حجازي بالقاهرة 1944 م.

4 العمدة: ابن رشيق التحقيق السابق جـ 1 ص 263.

ص: 240