الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
مذهبه:
وأما مذهبه فهو على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى لأن البيئة التي عاش فيها والعلماء الذين تلقى العلم عنهم من علماء الحنابلة.
وقد كانت له يد مشكورة في المذهب الحنبلي حيث ألف فيه كتابنا هذا "القواعد الفقهية" سلك فيه مسلك أهل الترجيح والاختيار في المذهب وقد كان هذا الكتاب مرجعًا لمن جاء بعده من العلماء، إضافة إلى أنَّه ألف كتابًا ترجم فيه لعلماء الحنابلة وهو "ذيل على طبقات الحنابلة" الذي ألفه العلامة ابن أبي يعلى رحمه اللَّه تعالى، ومع ذلك فكون ابن رجب رحمه اللَّه تعالى درس المذهب الحنبلي وتعلم المسائل منه إلا أن ذلك لم يحمله على التعصب المذموم الذي حدا ببعض من ينتسب إلى العلم إلى تقديم المذهب على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رحمه اللَّه تعالى يندد بغيره على حين أنَّه حين استوت له المعرفة، وبلغ مرحلة النضج كان يدعو إلى الاعتصام بالكتاب والسنة اللذين هما أصل الدين وملاكه، وإليهما المرجع في المسائل الشرعية.
بل إنه رحمه اللَّه تعالى ذكر في بعض مؤلفاته أن الأصل الجامع والمرجع والحكم هو كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما مقدمان على قول كل أحد كائن من كان إذا تبين مخالفة القول لهما، وأقواله الدالة على هذه المعاني كلها كثيرة منها قوله رحمه اللَّه تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم:". . . وإن أفتاك المفتون. . . "(1) يعني أن
(1) هذا جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد (4/ 194) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال ابن رجب رحمه اللَّه تعالى عن هذا الحديث. وهذا إسناد جيد.
"جامع العلوم والحكم"(2/ 250) وقد تكلم رحمه الله عن روايات وطرق هذا الحديث في الوضع المذكور.
ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكرًا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضًا إثمًا وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان المفتى يفتي له بمجرد الظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا يشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قبوله، فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه فهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مفاوضته قريشًا على أن يرجع من عامه، وعلى أن من أتاه منهم برده إليهم.
وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة اللَّه ورسوله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لمُؤمنٍ وَلَا مُؤْمنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ} (1).
وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه اللَّه ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2).
(1) الأحزاب: (36).
(2)
النساء: (65).
وأما ما ليس فيه نص من اللَّه ورسوله، ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور العرفة واليقين منه شيء، وحاك في صدره بشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره بيان أفتاه هؤلاء الفتون (1).
ويقول رحمه اللَّه تعالى أيضًا مبينًا أن المقصود هو إظهار الحق مهما خالف أقوال الرجال، وهذا من النصيحة للَّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، يقول: فرد المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية، ليس هو مما يكرهه العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه فلا يكون داخلًا في باب الغيبة بالكلية، فلو فرض أن أحدًا يكره إظهار خطئه الخالف للحق، فلا عبرة بكراهته لذلك، فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة، بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته، وهذا من النصيحة للَّه ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن الرد والجواب فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه. . . وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردوها أبلغ الرد كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم، هذا كله حكم الظاهر، وأما في باطن الأمر، فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر
(1)"جامع العلوم والحكم"(2/ 259).
الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته، فلا ريب أنَّه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النِّيَّة في النُّصح للَّه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم. . . وأما مراد الراد بذلك إظهار عيب من رد عليه وتنقصه وتبيين جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرمًا سواء كان رده لذلك في وجه من رد عليه أو في كتابه، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمه اللَّه تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز ودخل أيضًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته يفضحه ولو في جوف بيته"(1).
وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء، وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم، ومن عرف منه أنَّه أراد برده على العلماء النصيحة للَّه ورسوله فإنه يجب أن يعامل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين. . . ومن تبعهم بإحسان، ومن عرف أنَّه أراد برده عليهم التنغيص والذم، وإظهار العيب، فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظرإؤه عن هذه الرذائل المحرمة (2).
وهذا كله يدل على حرصه رحمه اللَّه تعالى على التمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بهما.
(1) أخرجه أحمد في "المسند"(4/ 430، 424) وأبو داود في "السنن"(رقم 4885) والروياني في "المسند"(رقم 1312) وأبو يعلى في "المسند"(13/ 419) والطبراني في "التكبير"(11/ 186) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 247)، وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 94):"رواه الطبراني ورجاله ثقات" وانظر "علل الدارقطني"(6/ 309).
(2)
"الفرق بين النصيحة والتعيير"(ص 32 - 36).