الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في ذكر
ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأخبر أصحابه بتأويله
فمن ذلك تعبيره لبعض ما رآه على ما تقتضيه الأسماء التي في الرؤيا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب فأوّلت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة وأن ديننا قد طاب» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن أبي شيبة.
ومن ذلك رؤياه لمَا وقع في يوم أحد، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث. منها حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفًا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. ثم هززته أخرى فعاد أحسنٍ ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضًا بقرًا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بَعْدُ وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر» رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي، ورواه ابن حبان في "صحيحه" مختصرًا.
الحديث الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد فقال: «رأيت في سيفي ذا الفقار فلاًّ فأولته فلاًّ يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشًا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير فبقر والله خير» فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد والبزار والحاكم والبيهقي في "دلائل النبوة" وصححه الحاكم والذهبي وروى الترمذي وابن ماجه طرفًا من أوله وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه الطبراني في "الكبير والأوسط" ولفظه قال: لما نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبو سفيان وأصحابه قال لأصحابه: «إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر وهي مصيبة ورأيت بقرًا تذبح وهي مصيبة ورأيت علي
درعي وهي مدينتكم لا يصلون إليها إن شاء الله». قال الهيثمي: فيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان وهو متروك، قلت: لحديثه شاهد مما تقدم في الرواية قبله وما سيأتي بعده.
الحديث الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقرًا منحرة فأوّلت أن الدرع الحصينة المدينة وأن البقر هو والله خير» رواه الإمام أحمد والدارمي والبزار وهذا لفظ أحمد ورجاله رجال الصحيح وكذا رجال الدارمي والبزار. وفي رواية الدارمي: «وإن البقر نفر والله خير» ، وفي رواية البزار:«والبقر بقر والله خير» ، والبقر الشق وهو ما حصل في المسلمين من القتل يوم أحد.
الحديث الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشًا وكأن ظُبَةَ سيفي انكسرت فأولت أني أقتل صاحب الكتيبة وأن رجلاً من أهل بيتي يقتل» رواه الإمام أحمد والبزار والحاكم وهذا لفظ أحمد. وزاد البزار فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن أبي طلحة وكان صاحب لواء المشركين، وقُتِلَ حمزة بن عبد المطلب ونحوه عند الحاكم. قال الهيثمي: فيه علي بن زيد وهو ثقة سيئ الحفظ وبقية رجالهما ثقات، وقد رواه البيهقي في "دلائل النبوة" بنحو رواية البزار، قال الجوهري: وغيره من أهل اللغة: ظُبَةَ السيف طرفه.
ومن المنامات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوَّلها بنقل الوباء من المدينة إلى الجحفة. وقد جاء ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الشعر تَفِلةً أخرجت من المدينة فأسكنت مَهْيَعَة فأولتها في المنام وباء المدينة ينقله الله تعالى إلى مَهْيَعَة» رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه. وهذا لفظ إحدى روايات أحمد. وفي غير هذه الرواية عنده وعند البخاري والترمذي وابن ماجه تسمية مَهْيَعَة بالجحفة، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه الدارمي بنحو رواية أحمد.
ومن ذلك أيضًا رؤياه ما ضرب له ولأمته من المثل، وقد جاء ذلك في
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: عن مثله ومثل أمته كمثل قوم سَفْر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حِبَرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضًا معشبة وحياضًا رواء أتتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضًا معشبة وحياضًا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضًا معشبة وحياضًا رواء أن تتبعوني فقالوا: بلى، قال: فإن بين أيديكم رياضًا أعشب من هذه وحياضًا هي أروى من هذه فاتبعوني، قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه، وقالت طائفة: رضينا بهذا نقيم عليه. رواه الإمام أحمد والطبراني والبزار. قال الهيثمي: وإسناده حسن، وروى الحاكم في "المستدرك" نحوه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومن ذلك أيضًا رؤياه أنه ضرب له مثل آخر، وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري والبيهقي في "دلائل النبوة" من طريق سعيد بن مِيْنَاء حدثنا – أو سمعت – جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:«جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، قال: فاضربوا له مثلاً، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس» . قال البخاري: تابعه قتيبة عن ليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن جابر، خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد روى هذه المتابعة الترمذي عن قتيبة حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع، سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها بيتًا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل ما فيها» ، قال الترمذي: هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله. قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا. قال: وفي الباب عن ابن مسعود، انتهى كلامه. وقد روى هذا الحديث ابن سعد في "الطبقات" عن الحجاج بن محمد الأعور عن ليث بن سعد، ورواه ابن جرير من طريق الحجاج عن ليث بن سعد فذكراه بمثل رواية الترمذي، ورواه الحاكم في "المستدرك" موصولاً من طريق عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الحسين وتلا هذه الآية: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فقال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال، فذكر الحديث بنحو رواية الترمذي ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقد رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق الحاكم فذكره بنحو ما تقدم ورواه أيضًا من طريق سعيد بن أبي هلال عن عطاء عن جابر وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وعن ربيعة الجرشي قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: لتنم عينك ولتسمع أذنك وليعقل قلبك، قال: «فنامت عيناي وسمعت أذناي وعقل قلبي،
قال: فقيل لي: سيد بنى دارًا فصنع مأدبة وأرسل داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يطعم من المأدبة وسخط عليه السيد. قال: فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة» رواه الدارمي والطبراني، قال الهيثمي: وإسناده حسن. وقال الحافظ ابن حجر في "كتاب الاعتصام" من "فتح الباري": سنده جيد.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطًا ثم قال: «لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك» ، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط (1) أشعارهم وأجسامهم لا أرى عورة ولا أرى قِشْرًا (2) وينتهون إليّ لا يجاوزون الخط ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءني وأنا جالس فقال:«لقد أراني منذ الليلة» ثم دخلي عليّ في خطي فتوسد فخذي فرقد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رقد نفخ فبينا أنا قاعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوسد فخذي إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال فانتهوا إليّ فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبدًا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلاً مثل سيد بنى قصرًا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه، ثم ارتفعوا واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال:«سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء؟» ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «هم
(1) الزط: جنس من السودان والهنود.
(2)
القشر اللباس. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" ومنه حديث ابن مسعود ليلة الجن، لا أرى عورة ولا قشرًا، أي لا أرى منهم عورة منكشفة ولا أرى عليهم ثيابًا.
الملائكة فتدري ما المثل الذي ضربوا؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال:«المثل الذي ضربوا الرحمن تبارك وتعالى بنى الجنة ودعا إليها عباده فمن أجابه دخل الجنة ومن لم يجبه عاقبه أو عذبه» رواه الدارمي باختصار والترمذي وهذا لفظه وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكر الحافظ ابن حجر في "كتاب الاعتصام" من "فتح الباري": أن ابن خزيمة صححه. وقد رواه الإمام أحمد مطولاً بمعناه، قال الهيثمي: ورجاله رجاله الصحيح غير عمرو البكالي وذكره العجلي في "ثقات التابعين" وابن حبان وغيره في "الصحابة".
وقد تقدم في رواية البخاري عن جابر رضي الله عنه: أن الملائكة لما ضربوا المثل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم «قالوا: أوّلوها له يفقهها» ، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": قيل يؤخذ منه حجة لأهل التعبير، أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه. قال ابن بطال قوله:"أوّلوها" يدل على أن الرؤيا على ما عبرت في النوم. انتهى.
ومن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولها ما جاء في حديث حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» ، قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: "العلم" رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن أبي شيبة والدارمي وابن حبان، وقال الترمذي: حديث حسن.
وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد صحيح عن أبي بكر بن سالم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت في النوم أني أعطيت عُسًّا (1) مملوءًا لبنًا فشربت منه حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة وأعطيتها عمر بن الخطاب فأوّلوها» ، قالوا: يا نبي الله هذا علم أعطاك الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر
(1) العس بالضم القدح الكبير.
ابن الخطاب، فقال:«أصبتم» ، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقد رواه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قلت: ليس بين هذه الرواية والرواية التي قبلها مغايرة إلا في تأويل الرؤيا. ففي رواية حمزة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أَوَّلَ رؤياه في شرب اللبن، وفي رواية سالم عن أبيه: أن الصحابة هم الذين أَوَّلُوها حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتأويلها، فيحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث برؤياه في مجلسين فأَوَّلها في أحدهما وأمر أصحابه بتأويلها في المجلس الآخر والله أعلم.
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة لعمر رضي الله عنه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه فضل شرابه في النوم وشهد له في اليقظة بالعلم، وقد ظهر أثر هذه الشهادة على عمر رضي الله عنه فكان أعلم الأمة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولم يكن في زمانه وما بعد زمانه أحد يساويه في العلم فضلاً عن أن يكون فيهم من يفوقه فيه، وقد ذكرت الأدلة الكثيرة على غزارة علمه وتفوقه على غيره في أول كتابي المسمى "تنزيه الأصحاب، عن تنقص أبي تراب" وذكرت أيضًا ما جاء في ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، فليراجع ما ذكرته في الكتاب المشار إليه فإنه مهم جدًا، ومن أهم ما جاء فيه من الآثار قول ابن مسعود رضي الله عنه:«لو أن عِلْم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم» ، وقوله أيضًا:«إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر» روى ذلك الطبراني والحاكم بأسانيد صحيحة، وروى ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر – قال: وإن كنا لنحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم» . وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لو وضع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة لرجح علم عمر ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق من عمل سنة» .
ومن أهم الآثار الواردة في ذلك أيضًا قول حذيفة رضي الله عنه: «كأن علم الناس كلهم قد دسّ في جحر مع علم عمر» ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب". ورواه ابن سعد في "الطبقات" بإسناد رجاله كلهم ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بين شمر بن عطية وبين حذيفة رضي الله عنه فإنه لم يدركه. وقال عمرو بن ميمون: «ذهب عمر بثلثي العلم» فذكر ذلك لإبراهيم النخعي فقال: «ذهب عمر بتسعة أعشار العلم» رواه الدارمي، وبهذا يعلم مطابقة حال عمر في العلم لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وما قاله في تأويل رؤياه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَوَّلّها ما جاء في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدِيَّ، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله، قال:«الدين» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي وابن حبان.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" قالوا: وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] الآية. والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالقميص.
واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وفي الحديث: أن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة وبالقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام ويذم في اليقظة أعني جر القميص لما ثبت من الوعيد في تطويله. قال: وفيه فضيلة لعمر. انتهى. وقال الحافظ في موضع آخر من "فتح الباري": وقد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصديق والجواب عنه تخصيص أبي بكر من عموم
قوله: «عُرِض عليّ الناس» فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر وأن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ فلعله كان كذلك إلا أن المراد كان حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها والله أعلم. انتهى كلامه.
ومن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَوَّلَها ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: «رأيت قُبَيْل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي تزنون بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فُوِزِنت بهم فرجحتُ، ثم جيء بأبي بكر فَوُزِن بهم فَوَزَن، ثم جيء بعمر فَوُزِن فَوزَن، ثم جيء بعثمان فُوزِن بهم، ثم رفعت» رواه الإمام أحمد والطبراني إلا أنه قال: «فرجح بهم» في الجميع، وقال:«ثم جيء بعثمان فوضع في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجح بهم ثم رفعت» . قال الهيثمي: رجاله ثقات، وقد رواه ابن أبي شيبة بنحو رواية الطبراني وزاد فقال له رجل: يا رسول الله فأين نحن؟ قال: «حيث جعلتم أنفسكم» وسيأتي تأويل ما جاء فيه من الوزن في حديث أبي بكرة وحديث سفينة وأن المراد بذلك خلافة النبوة.
ومن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَوَّلّها رؤياه في الغنم السود والبيض. وقد جاء فيها ثلاثة أحاديث. أحدها: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت غنمًا كثيرة سوداء دخلت فيها غنم كثيرة بيض» ، قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: «العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم» رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الثاني: عن أبي الطفيل -واسمه عامر بن واثلة الكناني- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت فيما يرى النائم غنمًا سودًا تتبعها غنم عفر فأوّلت أن الغنم السود العرب والعفر العجم» رواه البزار. قال الهيثمي: فيه علي بن زيد وهو ثقة سيئ الحفظ وبقية رجاله رجال الصحيح.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأني أسقي غنمًا سودًا إذ خالطها غنم عفر إذ جاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين وفيه ضعف ويغفر الله له إذ جاء عمر فأخذ الدلو فاستحالت غربًا فأروى الناس وصدر الشاء فلم أر عبقريًا يفري فريَ عمر» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأوّلت أن الغنم السود العرب وأن العفر إخوانكم من هذه الأعاجم» رواه البيهقي في "دلائل النبوة".
ومن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوَّلّها رؤياه في الكذابين مسيلمة والعنسي، وقد جاء في هذه الرؤيا عدة أحاديث. أحدها: عن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس – وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد – حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال:«لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني» ثم انصرف عنه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك أرى الذي أريت فيه ما أريت» فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إليّ في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة» . رواه البخاري ومسلم. وروى الترمذي منه رواية ابن عباس عن أبي هريرة وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب.
الحديث الثاني: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث. وكانت تحته بنت الحارث بن كُرَيْز – وهي أم عبد الله بن عامر – فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس – وهو الذي يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فوقف عليه فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر ثم جعلته لنا بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه وإني لأراك الذي أُرِيْتُ فيه ما أُرِيْتُ وهذا ثابت بن قيس سيجيبك
عني»، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبيد الله بن عبد الله: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكر فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم أُرِيْتُ أنه وضع في يديّ سواران من ذهب ففظعتهما وكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا فأوّلتهما كذابين يخرجان» . فقال عبيد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب، رواه البخاري. وروى الإمام أحمد منه المرفوع وقول عبيد الله في العنسي ومسيلمة، ورواه البخاري أيضًا مختصرًا بنحو رواية أحمد.
الحديث الثالث: عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث. منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في يديّ أسوارين من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إليّ أن أنفخهما فنفختهما فذهبا فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. ورواه الإمام أحمد أيضًا وابن أبي شيبة وابن ماجه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت فيما يرى النائم كأن في يديّ سوارين من ذهب فنفختهما فرفعا فأوّلت أن أحدهما مسيلمة والآخر العنسي» .
قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ السوارين فطارا، وكان الصديق هو ذلك الروح الذي نفخ مسيلمة وأطاره. انتهى.
الحديث الرابع: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول: «أيها الناس إني قد أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيت أن في ذراعيّ سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن وصاحب اليمامة» رواه الإمام أحمد والبزار، قال الهيثمي: ورجالهما ثقات.
ومن المنامات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوَّلَها ما رواه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت في المنام كأنَّ أبا جهل أتاني فبايعني» ؛ فلما أسلم خالد بن الوليد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد صدق الله رؤياك يا رسول الله، هذا كان إسلام خالد، فقال:«ليكونن غيره» حتى