الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس" أن الرشيد رأى رؤيا فهمته فوجه إلى الكرماني بريدًا فلما أتاه ومَثَلَ بين يديه خلا به وقال: بعثت إليك لرؤيا رأيتها، فقال: وما هي قال: رأيت كلبين ينهشان قُبُلَ جارية من جواريّ، فقال له الكرماني: ما رأيت إلا خيرًا يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: قُلْ ما تراه وهات ما عندك؟ فقال له: هذه جارية دعوتها لتجامعها وكان لا عهد لك معها بذلك وكانت ذات شعر فكرهت أن تحلق فتجد أثر الموسى وكرهت أن تبقى على هيئتها فأخذت جَلَمًا (1) فحلقت بعض الشعر وتركت بعضه، فأشار الرشيد إليه بالقعود وقام فدخل إلى نسائه ودعا بتلك الجارية فسارّها مستفهمًا منها عن ذلك فأقرت به وصدقت الكرماني فخرج إليه الرشيد فقال له: أصبت وسررتني وأمر له بصلة سنية، ثم قال له: إياك أن تحدث بها ما كنت حيًا، قال: فوالله ما حدثت بها ما دام الرشيد حيًا.
ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض مؤلفاته. قال: حدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولان: كيف الطريق؟ أين الطريق؟. انتهى وهو في (صفحة 246) من المجلد الثاني من مجموع الفتاوى.
فصل
في
ذكر ما أوّله سعيد بن المسيب من الرؤيا
قال ابن سعد في "الطبقات" قال محمد بن عمر – يعني الواقدي -: كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر وأخذته أسماء عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه.
فمن تأويله ما تقدم قريبًا أن الحسن بن علي رضي الله عنهما رأى رؤيا وأولها سعيد بن المسيب بحضور أجله.
(1) الجَلَم بفتحتين هو المقراض، قال ابن الأثير: الجَلَم الذي يجز به الشعر والصوف.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد في "الطبقات" عن عمر بن حبيب بن قليع قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب يومًا وقد ضاقت عليّ الأشياء ورهقني دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدري أين أذهب فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا، قال: ما هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد، قال: ما أنت رأيتها؟ قال: بلى أنا رأيتها، قال: لا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك، قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة، قال: فرحلت إلى عبد الملك بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسرّه وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيرًا.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن إسماعيل بن أبي حكيم قال: قال رجل: رأيت كأن عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرار فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: إن صدقت رؤياك قام فيه من صلبه أربعة خلفاء.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن شريك بن أبي نمر قال: قلت لابن المسيب: رأيت في النوم كأن أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها، فقال ابن المسيب: إن صدقت رؤياك دفنت أسنانك من أهل بيتك.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب: إني أراني أبول في يدي، فقال: اتق الله فإن تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع.
وجاءه آخر فقال: يا أبا محمد إني أرى كأني أبول في أصل زيتونة، قال: انظر من تحتك، تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة لا يحل له نكاحها.
ومن تأويله ما رواه ابن سعد عن مسلم الخياط قال: قال له رجل: إني رأيت حمامة وقعت على المنارة منارة المسجد فقال: يتزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
قلت: قد تزوج الحجاج بنت عبد الله بن جعفر فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعزم عليه بطلاقها فطلقها، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في ترجمة الحجاج عن "البداية والنهاية".
ومن تأويل سعيد بن المسيب أيضًا ما رواه ابن سعد عن مسلم الخياط قال: جاء رجل إلى ابن المسيب فقال: إني أرى أن تيسًا أقبل يشتد من الثنية، فقال: اذبح اذبح، قال: ذبحت، قال: مات ابن أم صلاء، فما برح حتى جاء الخبر أنه قد مات، قال محمد بن عمر – يعني الواقدي -: وكان ابن أم صلاء رجلاً من موالي أهل المدينة يسعى بالناس.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن السائب – رجل من القارة – قال: قال رجل من فهم لابن المسيب إنه يرى في النوم كأنه يخوض في النار، فقال: إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلاً، قال: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد (1) بالسيف.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن الحصين بن عبيد الله بن نوفل قال: طلبت الولد فلم يولد لي، فقلت لابن المسيب: إني أرى أنه طرح في حجري بيض، فقال ابن المسيب: الدجاج عجمي فاطلب سببا إلى العجم، قال: فتسريت فولد لي، وكان لا يولد لي.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن سعد عن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب: يا أبا محمد إني رأيت كأني جالس في الظل فقمت إلى الشمس، فقال ابن المسيب: والله لئن صدقت رؤياك لتخرجن من الإسلام، قال: يا أبا محمد إني أراني أُخرجتُ حتى أُدخلتُ في الشمس فجلست، قال: تكره على الكفر، قال: فخرج في زمان عبد الملك بن مروان فأسر فأكره على الكفر فرجع ثم قدم المدينة وكان يخبر بهذا.
وروى أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي في كتاب "المحن"
(1) يوم قديد هو يوم كانت فيه وقعة بين أبي حمزة الخارجي وبين أهل المدينة، قتل فيها من أهل المدينة سبعمائة، ذكر ذلك ابن جرير في حوادث سنة ثلاثين ومائة من تاريخه.
عن غالب العقيلي قال: أتى سعيد بن المسيب آتٍ فقال: يا أبا محمد إني رأيت عند وجه السحر كأنّ موسى قاتل فرعون، فقال له: أيهما الغالب؟ قال: موسى غلب فرعون، قال فصاح بأعلى صوته: هلك ابن مروان وربّ الكعبة – ثلاث مرات – فأعلم صاحب المدينة فخرج حتى وقف على رأسه ثم قال: تتمنى موت أمير المؤمنين إني لأرجو أن يقتلك الله قبله، قال سعيد: ويحك سيجيئك خبره إلى تسعة أيام، قال: فما مكثوا إلا تسعة أيام حتى أتى راكب بموته واستخلاف الوليد ابنه.
قلت: الظاهر أن سعيد بن المسيب أخذ تحديد مدة إتيان الخبر بموت عبد الملك بن مروان من قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]، وقوله تعالى:{فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12].
وروى ابن سعد عن مسلم الخياط عن ابن المسيب قال: الكّبْل في النوم ثبات في الدين.
وروى ابن سعد أيضًا عن شريك بن أبي نمر عن ابن المسيب قال: التمر في النوم رزق على كل حال والرطب في زمانه رزق.
وروى ابن سعد أيضًا عن عثيم بن نسطاس قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول للرجل، إذا رأى الرؤيا وقصّها عليه، خيرًا رأيت.
وروى ابن سعد أيضًا عن صالح بن خوات عن ابن المسيب قال: آخر الرؤيا أربعون سنة، يعني في تأويلها.
قلت: قد تقدم في أول الكتاب أنه قيل لجعفر بن محمد: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن كلبًا أبقع يلغ في دمه» فكان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين رضي الله عنه وكان أبرص، فكان تأويل الرؤيا بعد خمسين سنة.
فصل
في ذكر ما أوّله محمد بن سيرين من الرؤيا
قال الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول الكتاب بذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي. انتهى. وقال الذهبي أيضًا في "تذكرة الحفاظ": كان علاّمة في التعبير. انتهى.
فمن تأويله ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا عفان قال: حدثنا جرير بن حازم قال: قيل لمحمد بن سيرين: إن فلانًا يضحك، قال: ولم لا يضحك فقد ضحك من هو خير منه. حدثت أن عائشة رضي الله عنها قالت: ضحك النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيا قصّها عليه رجل ضحكًا ما رأيته ضحك من شيء قط أشد منه، قال محمد: وقد علمت ما الرؤيا وما تأويلها، رأى كأن رأسه قطع فذهب يتبعه، فالرأس النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل يريد أن يلحق بعمله عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدركه، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقد روى القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في شرح الترمذي بإسناده إلى أبي مجلز – واسمه لاحق بن حميد السدوسي – قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام أن رأسي قطع وجعلت أنظر إليه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:«بأي عين كنت تنظر إلى رأسك إذ قطع؟» فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأوّلوا رأسه موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظره اتباعه سنته. قال ابن العربي: فلعل النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره بتلعب الشيطان كان على رؤيا ذهب بعضها، فأما ما أرى فإنه يحتمل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه لهديه، أو لموته فيموت على قرب منه أو معه. انتهى.
وقد تقدم في أول الكتاب (1) ما رواه جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيت في المنام كأن رأسي قطع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس» هذا لفظ
(1) صـ 26.
إحدى روايات مسلم عن جابر رضي الله عنه. وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يطرق أحدكم الشيطان فيتهول له ثم يغدو يخبر الناس» رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
ومن المنامات التي أَوَّلَها ابن سيرين ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا ابن علية عن أيوب قال: سأل رجل محمدًا قال: إني رأيت كأني آكل خبيصًا في الصلاة، فقال: الخبيص حلال ولا يحل لك الأكل في الصلاة، فقال له: أتقبل امرأتك وأنت صائم؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، إسناده على شرط الشيخين.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا بكير بن أبي السميط قال: سمعت محمد بن سيرين سئل عن رجل رأى في المنام كأن معه سيفًا مخترطه، فقال ولد ذكر، قال: اندق السيف قال: يموت، قال: وسئل ابن سيرين عن الحجارة في النوم، فقال: قسوة، وسئل عن الخشب في النوم، فقال: نفاق، إسناده حسن.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن خالد بن دينار قال: كنت عند ابن سيرين فأتاه رجل فقال: يا أبا بكر رأيت في المنام كأني أشرب من بلبلة لها مثقبان فوجدت أحدهما عذبًا والآخر ملحًا، قال ابن سيرين: اتق الله لك امرأة وأنت تخالف إلى أختها.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن أبي جعفر أن رجلاً رأى في المنام كان في حجره صبيًا يصيح فقصّ رؤياه على ابن سيرين، فقال: اتق الله ولا تضرب العود.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن سليمان بن حبيب أن امرأة رأت في المنام أنها تحلب حية، فقُصَّتْ على ابن سيرين، فقال ابن سيرين: اللبن فطرة والحية عدو وليست من الفطرة في شيء، هذه امرأة يدخل عليها أهل الأهواء.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن مغيرة بن حفص قال: رأى الحجاج بن يوسف في منامه رؤيا كأنَّ حَوْرَاوَيْن أتتاه فأخذ إحداهما
وفاتته الأخرى فكتب بذلك إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: هنيئًا يا أبا محمد فبلغ ذلك ابن سيرين، فقال: أخطأت استه الحفرة، هذه فتنتان يدرك إحداهما وتفوته الأخرى، قال: فأدرك الجماجم وفاتته الأخرى.
قلت: أما الجماجم فهي الفتنة التي كانت بين الحجاج وابن الأشعث وكان ابتداؤها في سنة إحدى وثمانين وانتهت في سنة ثلاث وثمانين. وأما الفتنة الثانية التي فاتت الحجاج ولم يدركها فهي فتنة يزيد بن المهلب، وكان ابتداؤها في سنة إحدى ومائة وانتهت في سنة اثنتين ومائة، وكان بين موت الحجاج وبين ابتدائها خمس سنين.
ومن المنامات التي أوّلها ابن سيرين ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن مغيرة قال: رأى ابن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا فأخذ في وصيته وقال: يموت الحسن وأموت بعده هو أشرف مني. وقد رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في كتابه "المعرفة والتاريخ" عن ابن نمير حدثنا أبو بكر – يعني ابن عياش – عن مغيرة بن حفص قال: سئل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا، فقال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه وهو أرفع مني.
وروى ابن عساكر في "تاريخه" عن هشام – وهو ابن حسان – عن ابن سيرين قال: لما مات الحسن بن أبي الحسن رأت امرأته في المنام كأنما لحقت الجوزاء بالثريا فاجتمع الناس ينظرون ويتعجبون، فقال رجل: ما تعجبون من هذا، ابعثوا إلى ابن سيرين يعبره لكم، قال: فأصبحت المرأة فأتت ابن سيرين فأخبرته فبكى ابن سيرين وقال: جزاكم الله خيرًا، أما الثريا فالحسن وأما الجوزاء فأنا فألحق به فعاش أحدًا وثمانين يومًا بعد الحسن.
ومن الأحلام التي أوّلها ابن سيرين ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن الحارث بن مشقف قال: قال رجل لابن سيرين: إني رأيت كأني ألعق عسلاً من جام من جوهر، فقال: اتق الله وعاود القرآن فإنك رجل قرأت القرآن ثم نسيته، قال: وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أحرث أرضًا لا تنبت، قال: أنت رجل تعزل عن امرأتك.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن مبارك بن يزيد
البصري قال: قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأني أغسل ثوبي وهو لا ينقى، قال: أنت رجل مصارم لأخيك، قال: وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجل تكثر المُنَى.
ومن تأويله أيضًا ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن هشام بن حسان قال: جاء رجلٌ إلى ابن سيرين وأنا عنده فقال: إني رأيت كأن على رأسي تاجًا من ذهب، فقال له ابن سيرين: اتق الله فإن أباك في أرض غربة وقد ذهب بصره وهو يريد أن تأتيه، قال: فما رادّه الرجل الكلام حتى أدخل يده في حجزته فأخرج كتابًا من أبيه يذكر فيه ذهاب بصره وأنه في أرض غربة ويأمره بالإتيان إليه.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن عساكر في "تاريخه" عن معمر قال: جاء رجلٌ إلى ابن سيرين فقال: رأيت في النوم كأنه حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها أصغر خلت ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت سواء؛ فقال له ابن سيرين: أما التي خرجت أعظم مما دخلت فذلك الحسن يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ثم يصل فيه من مواعظه، وأما التي خرجت أصغر مما دخلت فذاك محمد بن سرين يسمع الحديث فينقص منه، وأما التي خرجت كما دخلت فهو قتادة فهو أحفظ الناس.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن عساكر في "تاريخه" عن عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن مسلم – وهو رجل من أهل مرو – قال: كنت أجالس ابن سيرين فتركت مجالسته وجالست قومًا من الإباضية فرأيت فيما يرى النائم كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت ابن سيرين فذكرت له ذلك فقال: ما لك جالست أقوامًا يريدون أن يدفنوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن تأويله أيضًا ما رواه ابن عساكر في "تاريخه" عن هشام – يعني ابن حسان – قال: قصّ رجل على ابن سيرين قال: رأيت كأن بيدي قدحًا من زجاج فيه ماء فانكسر القدح وبقي الماء، فقال له: اتق الله فإنك لم تر شيئًا، فقال الرجل: سبحان الله أقصّ عليك الرؤيا وتقول إنك لم تر شيئًا، فقال له
ابن سيرين: إنه من كذب فليس عليّ من كذبه شيء، إن كنت رأيت هذا فستلد امرأتك وتموت ويبقى ولدها، فلما خرج الرجل قال: والله ما رأيت شيئًا. قال هشام: فما لبث الرجل غير كثير حتى ولدت امرأته غلامًا وماتت وبقي الغلام.
قال: وجاء رجل إلى ابن سيرين فقال: إني رأيت كأني وجارية لي سوداء، نأكل في قصعة من صدر سمكة، قال: فقال ابن سيرين: هل يخفّ عليك أن تهيء لي طعامًا وتدعوني إلى منزلك؟ قال: نعم، قال: فهيأ له طعامًا ودعاه فلما وضعت المائدة إذا جارية له سوداء ممتشطة، قال: فقال له ابن سيرين: هل أصبت من جاريتك هذه شيئًا؟ قال: لا، قال: فإذا وضعت القصعة فخذ بيدها فأدخلها المخدع، فأخذ بيدها فأدخلها المخدع فصاح: يا أبا بكر رجل والله، فقال له ابن سيرين: هذا الذي كان يشاركك في أهلك.
وقال ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس": قال رجل لابن سيرين: رأيتُ في المنام كأن قردًا يأكل معي على مائدة، فقال: هذا غلامٌ أمرد اتخذه بعض نسائك.
قال: وكان ابن سيرين يُعبر الأذان في النوم عملاً صالحًا فيه شهرة.
قال: وقال ابن سيرين في جنازة يتبعها الناس: هذا قائد له أتباع.
قال: وأتى رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت البارحةَ امرأة من جيراني كأنها ذبحت في بيت من دارها، فقال: هذه امرأة نكحت الليلة في ذلك البيت. فعزَّ على السائل ما ذكره لأن زوج المرأة كان غائبًا عنها فلما انصرف قال له أهله: رأيت فلانًا – يعنون الغائب جاره؟ فقال: وهل أتى، قالوا: نعم وفي بيته بات البارحة، فقصده وسأله فكان كما قال ابن سيرين.
قال: وقال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن لحيتي بلغت سرتي وأنا أنظر إليها، فقال له: أنت رجل مؤذن تنظر في دور الجيران.
قال: وكان ابن سيرين يستحب الطيب في النوم، يقول: هو ثناء
حسن، وكان يعجبه الطيب الأسود كالمسك والغالية وشبه ذلك ويقول: هو عيش وثناء حسن.
قال: وسئل ابن سيرين عن الفيل في النوم، فقال: أمر جسيم قليل المنفعة.
قال: وقال رجل لابن سيرين: ما تقول يا أبا بكر في امرأة كانت ترى في المنام كأنها تأكل رأس جزور، فقال: تتقي الله ولا تبغض العرب.
قال: وكان ابن سيرين يستحب الزيت في النوم ويقول هو بركة كله، إن أكلته أو أدخلته بيتك أو شربته أو ادهنت به أو تلطخت لأنه من شجرة مباركة.
قال: وكان ابن سيرين يقول: الماء في النوم فتنة وبلاء في الدين وأمر شديد لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249]، وقال:{مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16 - 17].
قال: وقال ابن سيرين: ومن عبر نهرًا قطع بلاء وفتنة ومشقة ونجا من ذلك.
قال: وأتى رجل إلى ابن سيرين فقال له: خطبت امرأة فرأيتها في المنام، فقال له ابن سيرين: كيف رأيتها؟ قال: رأيتها سوداء قصيرة مكسورة الفم، فقال ابن سيرين: أما الذي رأيت من سوادها فإنها امرأة لها مال، وأما ما رأيت من كسر فمها فإنها امرأة فظيعة اللسان، وأما ما رأيت من قصرها فإنها امرأة قصيرة العمر وتوشك أن تموت عاجلاً فذهب فتزوجها.
قال: وكان ابن سيرين يعبر الرجل إذا رأى أنه حل إزاره أو انحل، قال: هذا رجل يرزق امرأة.
قال: وكان ابن سيرين لا يعبر الخاتم في المنام إلا امرأة يستفيدها، وكذلك كان هشام بن حسان لا يعبر الفصّ في الخاتم إلا أنه يقول امرأة فيها قسوة.
قال: وقال هشام بن حسان: كان ابن سيرين يُسئل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم وكان يجيب في خلال ذلك ويقول إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب، قال: وقيل لابن سيرين: إنك تستقبل الرجل بما يكره، قال: إنه علم أكره كتمانه، انتهى المقصود مما ذكره ابن عبد البر.
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سلام بن مسكين قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: إذا اتقى الله العبد في اليقظة لا يضره ما رئي له في النوم. وروى أيضًا عن وهب بن جرير قال: حدثني أبي قال: كان الرجل إذا سأل ابن سيرين عن الرؤيا قال: اتق الله في اليقظة لا يضرك ما رأيت في المنام.
وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" عن ابن سيرين أنه قال: ما حدثك الميت بشيء في النوم فهو حق لأنه في دار حق.
وروى الخطيب في "تاريخه" عن هشام بن حسان قال: قال محمد بن سيرين: ما أتيت امرأة في نوم ولا يقظة إلا أم عبد الله – يعني زوجته – قال: وقال ابن سيرين: إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها. وذكر القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في شرح الترمذي عن ابن سيرين أنه قال: ما احتلمت في حرام قط، قال ابن العربي: فقال بعضهم: ليت عقل ابن سيرين في المنام يكون لي في اليقظة.
فصل
وقد رأيت لابن القيم رحمه الله تعالى كلامًا حسنًا في ذكر الأصول التي تدل على تعبير الرؤيا، ذكره في أثناء الجزء الأول من كتابه "إعلام الموقعين" وكثير منه مأخوذ مما ذكره البغوي في كتابه "شرح السنة" من كلام شيخه القاضي حسين بن محمد المرورذي شيخ الشافعية في تعبير الرؤيا، وسأذكر كلام ابن القيم رحمه الله تعالى لما فيه من الفوائد الكثيرة في بيان أصول التعبير. قال رحمه الله تعالى: قالوا: وقد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها
قدرًا وشرعًا ويقظة ومنامًا ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي فإنها مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس. ألا ترى أن الثياب في التأويل تدل على الدين فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أوّل النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين والعلم. والقدر المشترك بينهما أن كلاً منهما يستر صاحبه ويجمّله بين الناس، فالقميص يستر بدنه، والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمّله بين الناس، ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة وأن الطفل إذا خُلّي وفطرته لم يعدل عن اللبن فهو مفطور على إيثاره على ما سواه، وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس. ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بقرًا تنحر كان ذلك نحرًا في أصحابه، ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل لأن العامل زارع للخير والشر، ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره، فالدنيا مزرعة والأعمال البذر، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده. ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك، ولهذا شبه الله تعالى المنافقين بالخشب المسندة لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير. وفي كونها مسندة نكتة أخرى، وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع. وما دام متروكًا فارغًا غير منتفع به جعل مسندًا بعضه إلى بعض، فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها. ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كل منهما ما يمر عليه ويتصل به، فهذه تحرق الأثاث والمتاع والأبدان، وهذه تحرق القلوب والأديان والإيمان. ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما، ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النجوم. ومن ذلك تأويل الغيث بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس. ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل
على خروج المال، والقدر المشترك أن قوام البدن بكل واحد منهما. ومن ذلك الحدث في التأويل يدل على الحدث في الدين، فالحدث الأصغر ذنب صغير، والأكبر ذنب كبير. ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية في التأويل بدعة في الدين، فاليهودية تدل على فساد القصد
واتباع غير الحق، والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال. ومن ذلك الحديد في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصر بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبتة. ومن ذلك الرائحة الطيبة تدل على الثناء الحسن وطيب القول والعمل، والرائحة الخبيثة بالعكس، والميزان يدل على العدل، والجراد يدل على الجنود، والعساكر والغوغاء الذين يموج بعضهم في بعض، والنحل يدل على من يأكل طيبًا ويعمل صالحًا، والديك رجل عالي الهمة بعيد الصيت، والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمّه، والحشرات أوغاد الناس، والخلد رجل أعمى يتكفف الناس بالسؤال، والذئب رجل غشوم ظلوم غادر فاجر، والثعلب رجل غادر مكَّار محتال مراوغ عن الحق، والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه، أو رجل مبتدع متبع هواه مؤثر له على دينه، والسَّنَّوْر العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار، والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة، والأسد رجل قاهر مسلط، والكبش الرجل المنيع المتبوع.
ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاء للماء فهو دال على الأثاث. وكل ما كان وعاء للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب، وكل مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدال على الاشتراك والتعاون أو النكاح، وكل سقوط وخرور من علو إلى أسفل فمذموم. وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممن يليق به، وكل ما أحرقته النار فجائحة وليس يرجى صلاحه ولا حياته. وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلها. وكل ما خطف وسرق من حيث لا يرى خاطفه ولا سارقه فإنه ضائع لا يرجى، وما عرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يرجى عوده. وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير. وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك مذمومة وشر وفضيحة. وكل ما رأى من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروه
كالعمامة في الرجل والخف في الرأس والعقد في الساق. وكل من استقضى أو استخلف أو أمَّر أو استوزر أو خطب ممن لا يليق به ذلك نال بلاء من الدنيا وشرًا وفضيحة وشهرة قبيحة. وكل ما كن مكروهًا من الملابس فخلقه أهون على لابسه من جديده. والجوز مال مكنوز، فإن تفقع كان قبيحًا وشرًا. ومن صار له ريش أو جناح صار له مال، فإن طار سافر، وخروج المريض من داره ساكتًا يدل على موته، ومتكلمًا يدل على حياته، والخروج من الأبواب الضيقة يدل على النجاة والسلامة من شر وضيق هو فيه، وعلى توبة، ولا سيما إن كان الخروج إلى فضاء وسعة فهو خير محض، والسفر والنقلة من مكان إلى مكان انتقال من حال إلى حال بحسب حال المكانين، ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر، وموت الرجل ربما دل على توبته ورجوعه إلى الله لأن الموت رجوع إلى الله، قال تعالى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] والمرهون مأسور بدين أو بحق عليه لله أو لعبيده، ووداع المريض أهله أو توديعهم له دال على موته.
وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها، وكذلك من فهم القرآن فإنه يعبّر به الرؤيا أحسن تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن، فالسفينة تعبّر بالنجاة لقوله تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15] وتعبّر بالتجارة، والخشب بالمنافقين، والحجارة بقساوة القلب، والبيض بالنساء، واللباس أيضًا بهن، وشرب الماء بالفتنة، وأكل لحم الرجل بغيبته، والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال، والفتح يعبّر مرة بالدعاء، ومرة بالنصر. وكالملك يرى في محلة لا عادة له بدخولها يعبّر بإذلال أهلها وفسادها، والحبل يعبّر بالعهد والحق والعضد، والنعاس قد يعبّر بالأمن، والبقل والبصل والثوم والعدس يعبّر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئًا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار، والمرض يعبّر بالنفاق والشك وشهوة الزنا، والطفل الرضيع يعبّر
بالعدو لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، والنكاح بالبناء، والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم: 18]، والنور يعبّر بالهدى، والظلمة بالضلال.
وقيل: لعابر رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي فقال: تموت واحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 7 - 10]. وقال رجل لابن سيرين: رأيت معي أربعة أرغفة فطلعت الشمس، فقال: تموت إلى أربعة أيام، ثم قرأ:{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 45 - 46]، وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزق أربعة أيام. وقال له آخر: رأيت كيسي مملوءًا أرضة، فقال أنت ميت ثم قرأ:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14]. والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة، والحنظلة تدل على ضد ذلك، والصنم يدل على العبد السوء الذي لا ينفع، والبستان يدل على العمل، واحتراقه يدل على حبوطه، ومن رأى أنه ينقض غزلاً أو ثوبًا ليعيده مرة ثانية فإنه ينقض عهدًا وينكثه، والمشي سويًا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم. والأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه، وإذا عرضت له طريقان ذات يمين وذات شمال فسلك أحدهما فإنه من أهلها، وظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويفتضح به، وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر، وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه، وتعلقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب الله وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارق العصمة إلا أن يكون ولي أمرًا فإنه قد يقتل أو
يموت. فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملَك الذي قد وَكَّلَه الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره. ويعبر منه إلى شبهه، ولهذا سمي تأويلها تعبيرًا، وهو تفعيل من العبور كما أن الاتعاظ يسمى اعتبارًا وعبرة لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره. انتهى.
وذكر البغوي في "شرح السنة" عن شيخه القاضي حسين بن محمد المرورّوذي أنه قال: إعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقسامًا فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب أو من جهة السنة، أو من الأمثال السائرة بين الناس. وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني، وقد يقع على الضد والقلب. قال: والتأويل بدلالة الحديث كالغراب يعبّر بالرجل الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقًا والفأرة تعبّر بالمرأة الفاسقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والضلع يعبر بالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج» ، والقوارير تعبّر بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم:«يا أنجشة رويدك سوقًا بالقوارير» . والتأويل بالأمثال كالصائغ يعبّر بالكذاب لقولهم: أكذب الناس الصواغون وحفر الحفرة يعبّر بالمكر لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها. والحاطب يعبّر بالنمام لقولهم: لمن وشى إنه يحطب عليه وفسروا قوله سبحانه وتعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] بالنميمة، ويعبّر طول اليد بصنائع المعروف لقولهم: أطول يدًا من فلان، ويعبّر الرمي بالحجارة وبالسهم بالقذف لقوهم: رمى فلانَا بفاحشة قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] ويعبّر غسل اليد باليأس عما يأمل لقولهم: غسلت يدي عنك.
والتأويل بالأسامي كمن رأى رجلاً يسمى راشدًا بالرشد وإن كان يسمى سالمًا يعبّر بالسلامة.
وأما التأويل بالضد والقلب فكالخوف في النوم يعبّر بالأمن لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] والأمن فيه يعبّر بالخوف،
ويعبّر البكاء بالفرح إذا لم يكن رنّة، ويعبّر الضحك بالحزن إلا أن يكون تبسمًا، ويعبّر الطاعون بالحرب والحرب بالطاعون، وتعبّر العجلة في الأمر بالندم والندم بالعجلة، ويعبّر العشق بالجنون والجنون بالعشق، والنكاح بالتجارة والتجارة بالنكاح، ويعبّر التحول عن المنزل بالسفر والسفر بالتحول عن المنزل، والمريض يخرج من منزله ولا يتلكم فهو موته، وإن تكلم برأ. وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر، وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر: يصيب سلطانًا فإن لم يكن من أهله يصلب، وسأل رجل ابن سيرين قال: رأيت في المنام كأني أؤذن، قال: تحج، وسأله آخر فأول بقطع يده في السرقة فقيل له في التأويلين فقال: رأيت الأول على سيما حسنة فأولت قوله سبحانه وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، ولم أرض هيئة الثاني فأوّلت قوله عز وجل:{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية أو حج أو قدوم غائب أو خير أو نكبة فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الفتح فكان كذلك، قال الله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] وقد يرى الشيء في المنام للرجل ويكون التأويل لولده أو قريبه أو سميّه فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل معه فكان ذلك لابنه عكرمة فلما أسلم قال عليه الصلاة والسلام: «هو هذا» ، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة فكان لابنه عتّاب بن أَسِيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، انتهى باختصار.
وليعلم المتسرعون إلى تأويل الرؤيا أن ما ذكر في هذا الفصل من التأويل ليس هو من التوقيف الذي يقطع به في تأويل الأشياء التي ذكرت فيه، وإنما هو من باب التقريب الذي قد يكون التأويل فيه صوابًا وقد يكون غير صواب، وقد تقدم ما ذكره ابن عبد البر عن هشام بن حسان أنه قال: كان ابن سيرين يسئل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في
اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك ويقول: إنما أجيب بالظن والظن يخطئ ويصيب.
وإذا كان هذا قول إمام المعبرين في زمانه وما بعده من الأزمان فما الظن بغيره، فاتقوا الله أيها المتسرعون إلى تعبير الأحلام بغير علم، واعلموا أنكم ستسئلون عن تخرصاتكم يوم القيامة، ولا يأنف أحدكم أن يقول: لا أدري، فقد قال غير واحد من العلماء إن قول: لا أدري نصف العلم.
فصل
وقد أُلَّف في تعبير الأحلام عدة مؤلفات. منها ما ينسب إلى ابن سيرين. ومنها ما ينسب إلى غيره، ولا خير في الاشتغال بها وكثرة النظر فيها لأن ذلك قد يشوّش الفكر، وربما حصل منه القلق والتنغيص من رؤية المنامات المكروهة، وقد يدعو بعض من لا علم لهم إلى تعبير الأحلام على وفق ما يجدونه في تلك الكتب ويكون تعبيرهم لها بخلاف تأويلها المطابق لها في الحقيقة فيكونون بذلك من المتخرصين القائلين بغير علم، ولو كان كل ما قيل في تلك الكتب من التعبير صحيحًا ومطابقًا لكل ما ذكروه من أنواع الرؤيا لكان المعبرون للرؤيا كثيرين جدًا في كل عصر ومصر. وقد علم بالاستقراء والتتبع لأخبار الماضين من هذه الأمة أن العاملين بتأويل الرؤيا قليلون جدًا، بل إنهم في غاية الندرة في العلماء فضلاً عن غير العلماء.
وذلك لأن تعبير الرؤيا علم من العلوم التي يختص الله بها من يشاء من عباده كما قال تعالى مخبرًا عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه قال ليوسف عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] وقال تعالى مخبرًا عن يوسف أنه قال للفتيين اللذين دخلا معه السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] وقال تعالى مخبرًا عن يوسف أيضًا أنه قال: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]. والمراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا قاله غير واحد من المفسرين. وقال القرطبي: أجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا، قال البغوي: وسمي تأويلاً لأنه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، وبنحو هذا قال ابن الجوزي. وقال القرطبي: عَنَى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام وهي معجزة له فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. انتهى.
فصل
وممن اشتهر بتعبير الرؤيا وكان من الراسخين في هذا العلم أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي شهاب الدين أو العباس – المعروف بالشهاب العابر – وكان في المائة السابعة من الهجرة، وقد سمع منه خلق من الحفاظ ومنهم المزي والبرزالي والذهبي وابن القيم وحدث عنه غير واحد. وقد ترجم له الحافظ ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة" وقال: إنه برع في معرفة تعبير الرؤيا وانفرد بذلك بحيث لم يشارك فيه ولم يدرك شأوه، وكان الناس يتحيرون منه إذا عبر الرؤيا لما يخبر الرائي بأمور جرت له وربما أخبره باسمه وبلده ومنزله ويكون من بلد ناءٍ، وله في ذلك حكايات كثيرة غريبة مشهورة، وهي من أعجب العجب. وله مصنف في هذا العلم سماه "النور المنير". انتهى. وقال ابن كثير في ترجمته في "البداية والنهاية": كان عجبًا في تفسير المنامات وله فيه اليد الطولى، وله تصنيف فيه ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب. انتهى.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" في الفصل الذي ذكر فيه وفد بني حنيفة: أنبأني أبو العباس أحمد بن عبد الرحيم بن عبد المنعم بن نعمة بن
سرور المقدسي – المعروف بالشهاب العابر – قال: قال لي رجل: رأيت في رجلي خلخالاً، فقلت له: تتخلخل رجلك بألم، فكان كذلك. وقال لي آخر: رأيت كأنّ في أنفي حلقة ذهب وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد فجرى كذلك. وقال آخر: رأيت كلابندًا معلقًا في شفتي، فقلت: يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد في شفتك، فجرى كذلك. وقال لي آخر: رأيت في يدي سوارًا والناس يبصرونه، فقلت له: سوء يبصره الناس في يدك. فعن قليل طلع في يده طلوع. ورأى ذلك آخر لم يكن يبصره الناس، فقلت: تتزوج أمراة حسنة وتكون رقيقة.
قال ابن القيم: قلت: عَبَّرَ له السوار بالمرأة لمّا أخفاه وستره عن الناس، ووصفها بالحسن لحسن منظر الذهب وبهجته، وبالرقة لشكل السوار، والحلية للرجل تنصرف على وجوه فربما دلت على تزويج العزب لكونها من آلات التزويج، وربما دلت على الإماء والسراري، وعلى الغنى، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائي وما يليق به.
قال أبو العباس العابر: وقال لي رجل: رأيت كأن في يدي سوارًا منفوخًا لا يراه الناس، فقلت له: عندك امرأة بها مرض الاستسقاء.
قال ابن القيم: فتأمل كيف عَبَّر له السوار بالمرأة ثم حكم عليها بالمرض لصفرة السوار، وأنه مرض الاستسقاء الذي ينتفخ معه البطن.
قال: وقال آخر: رأيت في يدي خلخالاً وقد أمسكه آخر وأنا ممسك له وأصيح عليه وأقول: اترك خلخالي فتركه، فقلت له: فكان الخلخال في يدك أملس، فقال: بل كان خشنًا تألمت منه مرة بعد مرة، وفيه شراريف، فقلت له: أمك وخالك شريفان، ولست بشريف، واسمك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس رديء يتكلم في عرضك ويأخذ مما في يدك، قال: نعم، قلت: ثم إنه يقع في يد ظالم متعد ويحتمي بك فتشد منه وتقول: خلَّ خالي، فجرى ذلك عن قليل.
قال ابن القيم: قلت: تأمل أخذه الخال من لفظ الخلخال ثم عاد إلى
اللفظ بتمامه حتى أخذ منه: "خلَّ خالي" وأخذ شرفه من شرائف الخلخال، ودل على شرف أمه إذ هي شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف إذ شرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقًا هي في أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسان خاله لسان رديء يتكلم في عرضه بالألم الذي حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة فهي خشونة لسان خاله في حقه، واستدل على أخذ خاله ما في يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه في النوم بخشونته، واستدل بإمساك الأجنبي للخلخال ومجاذبة الرائي عليه على وقوع الخال في يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدل بصياحه على المجاذب له وقوله:"خلَّ خالي" على أنه يعين خاله على ظالمه ويشد منه، واستدل على قهره لذلك المجاذب له وأنه القاهر يده عليه على أن اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حال شيخنا هذا ورسوخه في علم التعبير وسمعت عليه عدة أجزاء ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى. انتهى.
فصل
ومن القصص العجيبة في التعبير ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أثناء شرحه لأبواب الأدب من جامع الترمذي. فقد ذكر في الكلام على الأحاديث التي رواها الترمذي في امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة، أنه كان بمصر معبر للالكيُّ (1) وكانت أم الملك إذا ركبت من مدينتها إلى بركة الحبش للفرجة تمرّ به في خدمها وحشمها فلما حاذوه قالت الجارية لمولاتها: هذا هو المعبّر فنسأله، قالت لها: نعم، فقالت له وقد وقفن عليه: إن الملكة كانت ترى في المنام أنها تطأ بلالكتها على الكرسي، فقال لها: هات اللالكة من رجلك فرمت بها وظنت أنه يريد صفعها بها لعظيم قولها فأخذها وجعل يفصل باطنها من ظاهرها بالمقذة ويخرج حشوها فإذا في الحشو
(1) قال ابن الأثر في "اللباب، في تهذيب الأنساب" ومرتضى الحسيني في "تاج العروس" اللالكائي منسوب إلى بيع اللوالك التي تلبس في الأرجل.
رقعة فيها مكتوب: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] الآية؛ فناولها إياها وقال لها: هذا الذي كنت تطئين فأما الذي توهمته أو حلمته من عليين فلا سبيل إليه، فأمرت جارية أن تعطيه ما كان على منديلها من نفقة صلة له على ثقابة ذهنه وإصابة فطنته وكان مالاً كثيرًا.
فصل
ومن الأحلام العجيبة أيضًا ما أخبرني به أحد الإخوان من أهل البلدة الجنوبية في الزلفى. وهذا الرجل ظاهره الخير والصلاح والثقة والعدالة، قال: جلست عند رجل يبيع الساعات في مدينة الرياض فجاءت امرأةٌ تساومه وكانت سافرة بوجهها فجعلت أنظر إليها، ثم ذَهَبَتْ فلما نمت في أول ليلة بعد نظري إلى المرأة رأيت في منامي أن رجلاً جاء إليّ فوقف إلى جانبي الأيسر ومعه رجال كثيرون جلسوا أمامي وعن يميني وعن شمالي، ومعه أيضًا عدة نساء جلسن خلفي وهن متسترات غاية التستر فقرأ الرجل الذي قام إلى جانبي قول الله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ولما فرغ من قراءة الآية جعل يضربني على ظهري ضربًا شديدًا بعصا كانت معه حتى تألمت من ظهري من شدة ضربه، فلما فرغ من الضرب ذهب وذهب الذين كانوا معه، ثم استيقظت من نومي وأنا أجد ألم الضرب في ظهري، هكذا حدثني بهذه الرؤيا ونحن في المسجد الحرام في 27/ 9/1394هـ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«زنا العينين النظر» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العينان تزنيان» . وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله
عنه في قول الله عز وجل: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] قال: «زنا العينين النظر» الحديث. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفي هذين الحديثين دليل على تحريم النظر إلى الأجنبيات من النساء لأن النظر إليهن نوع من أنواع الزنا، والزنا كله حرام، وليس في النظر إلى الأجنبيات من النساء حد مقدّر وإنما هو من المعاصي التي يجب اجتنابها خشية العقوبة عليها. وأما ما وقع لصاحب الرؤيا من الضرب في النوم من أجل نظره إلى المرأة الأجنبية فذلك من باب التعزير له لئلا يعود إلى النظر إلى الأجنبيات من النساء، والله أعلم.
فصل
ومن الأحلام العجيبة أيضًا ما حدثنا به غير واحد من الثقات أن رجلاً من أهل الرياض يسمى "عبد العزيز بن يحيّان" كان إمامًا لبعض المساجد في الرياض في أثناء النصف الأول من المائة الرابعة عشرة من الهجرة. وكان حافظًا للقرآن وحَسَنَ الصوت بالقراءة، وكانت آثار الصلاح ظاهرة عليه فمات فرآه رجل يسمى "حمد السيف" في النوم فسلم عليه وعانقه، وكان حمد يأتي إلى المسجد في آخر الليل ولا يخرج منه إلا بعد طلوع الشمس، فإذا خرج من المسجد ذهب إلى بيته فتأتيه زوجته بالتمر والقهوة، فملا كانت صبيحة الليلة التي رأى فيها الرؤيا ذهب إلى بيته وكانت عندهم امرأة تخدمهم فشمّت منه رائحة الطيب فذهبت إلى زوجته فقالت لها: إن زوجك قد تزوج في هذه الليلة وآية ذلك أن رائحة الطيب تفوح منه، فصدقتها الزوجة وصدت عن زوجها ولم تأته بالتمر والقهوة كما كانت تأتيه بهما في كل يوم، فلما أبطأت عليه ذهب إليها ليطلب منها أن تأتيه بهما فانتهرته وقالت له: اذهب إلى زوجتك الجديدة فلتأتك بالذي أنت تطلب فأنكر أن يكون قد تزوج وحلف لها على ذلك فلم تصدقه، وقالت: إن هذا الطيب الذي قد تطيب به لا يكون
إلا من زوجة جديدة فحلف لها عدة أيمان أنه لم يتزوج وأخبرها بما رآه في منامه وأن هذه الرائحة الطيبة قد علقت بيده حين صافح بها عبد العزيز بن يحيّان في النوم.
قال الذين حدثوا بهذه القصة: إن الذين حدثوهم بها أخبروهم أن رائحة الطيب بقيت في يد حمد السيف مدة أيام مع أنه كان يغسلها للوضوء ولغير ذلك مما يسن له غسل الأيدي وما يستحب له. وقد ذكر بعض الراوين للقصة أن رائحة الطيب بقيت في يد حمد السيف نصف شهر وقال بعضهم: بل إنها بقيت أكثر من ذلك.
قلت: ويشهد لهذه القصة ما تقدم نقله من كتاب "الروح" لابن القيم أن نافع القاري كان إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسلك فقيل له: كلما قعدت تطيّبت، فقال: ما أمس طيبًا ولا أقربه ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقرأ في فمي فمن ذلك الوقت يشم من فيَّ هذه الرائحة.
ويشهد لها أيضًا ما جاء في قصة للخطيب ابن نُباتة – واسمه عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نُباتة الحُذاقي الفارقي – وقد ذكر هذه القصة ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" في ترجمة ابن نباتة وذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية" وقد جاء فيها أن ابن نُباتة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تفل في فيه وأنه بقي بعد هذا المنام أيامًا لا يأكل الطعام ولا يشتهيه ويوجد من فيه رائحة المسك ولم يعش بعد ذلك إلا مدة يسيرة.
ويشهد لها أيضًا ما ذكره الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي قال: قرأت بخط شيخنا أبي الحسن بن الزاغوني قال: كشف عن قبر أبي محمد البربهاري وهو صحيح لم يَرِمْ وظهرت من قبره روائح الطيب حتى ملأت مدينة السلام – يعني بغداد – وقوله: لم يَرِمْ: معناه لم يبرح على الحال التي دفن عليها.
فصل
وممن اشتهر بتعبير الرؤيا من المتأخرين، وكانت له اليد الطولى في هذا العلم الشيخ محمد بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى – ويعرف هذا الشيخ عند عشيرته وأهل بلده بالمصري (1) – ولم يبلغني من تعبيره للرؤيا إلا النزر اليسير. وسأذكر ما بلغني من ذلك إن شاء الله تعالى.
(1) إنما سمي الشيخ محمد بن عبد الرحمن بالمصري لأنه قد ولد بمصر ونشأ بها وقضى فيها زمانًا من عمره وبعد وفاة والده الشيخ عبد الرحمن انتقل إلى الرياض، وكانت لهجته في الكلام حين قدم إلى الرياض مثل لهجة المصريين فسمي بالمصري لهذا السبب، وكان جده الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى قد نقله المصريون إلى مصر حين استولوا على الدرعية في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة، ونقلوا معه ابنه الشيخ عبد الرحمن والد الشيخ محمد المسمى بالمصري، وهو إذ ذاك مراهق، وقد توفي الشيخ عبد الله بمصر في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، وتوفي ابنه الشيخ عبد الرحمن بمصر أيضًا في سنة أربع وسبعين ومائتين وألف، وكان من العلماء الأجلاء، وقد ذكره الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر في كتابه المسمى "عنوان المجد، في تاريخ نجد" فقال: وأما عبد الرحمن فإنه جلا مع أبيه إلى مصر في أول طلبه العلم وهو قريب البلوغ قبل أن يتم له الطلب، وذكر لنا أنه اليوم في رواق الحنابلة يُدَرَّس في الجامع الأزهر وأن له معرفة ودراية عظيمة. انتهى. وقال عثمان بن سند الوائلي في تاريخه "مطالع السعود" صفحة 106 ما نصه: واعلم أنه بقي للوهابية بقية بمصر ظلوا فيها برغبتهم لأنهم صار لهم فيها أولاد وأملاك بمصر مثل الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي وله أولاد منهم أحمد أزجي وعبد الله كاتب في القلعة، ثم قال: وأما الشيخ عبد الرحمن المذكور فقد أدركته في الجامع الأزهر يُدَرَّس مذهب الحنابلة سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف برواق الحنابلة، وتوفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف وكان عالمًا فقيهًا ذا سمعة حسنة يظهر عليه التقى والصلاح. انتهى. وأما الشيخ محمد بن عبد الرحمن المسمى بالمصري فقد ذكر بعض أحفاده أنه ولد بمصر سنة 1254هـ وبعد وفاة والده الشيخ عبد الرحمن انتقل إلى الرياض وذلك في آخر زمان الإمام فيصل بن تركي رحمه الله، وقد توفي في مدينة الرياض سنة 1344 هـ وقد بلغ من العمر تسعين سنة رحمه الله تعالى.
فمن ذلك أن رجلاً يقال له الحوطي كان يخدم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله تعالى رأى رؤيا فقصّها على الشيخ عبد الله فقال له: اذهب إلى الشيخ محمد – يعني المصري – فاقصصها عليه وأخبرني بتعبيره فذهب إلى المسجد الذي كان الشيخ محمد يصلي فيه وجلس ينتظره حتى خرج من المسجد فقصّ عليه رؤياه، قال: إني رأيت كأني خرجت مع الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف من الباب الشرقي للمسجد – أي مسجد الشيخ عبد الله المعروف في حي دخنه، بمدينة الرياض – فلما كنا تحت الساباط الذي في طريقنا إذا ذهبنا إلى بيت الشيخ عبد الله إذا نحن برجل نائم تحت الساباط في وسط الطريق فنظرنا إليه فإذا هو الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود فجلس الشيخ عبد الله عنده وجعل يتحدث معه، وأما أنا فأصابتني رعدة فجلست إلى جدار البيت الذي بجانب الساباط من جهة الجنوب وأسندت ظهري إلى الجدار، ثم إن الإمام تركي قام فاستقبل جهة المشرق وجعل ينظر إليها، ثم استدار إلى جهة الشمال وجعل ينظر إليها، ثم استدار إلى جهة الجنوب وجعل ينظر إليها، ثم استدار إلى جهة القبلة وجعل ينظر إليها، ثم ذهب يمشي مع السوق ومعه الشيخ عبد الله. وأما أنا فلم أزل مسندًا ظهري إلى جدار البيت الذي بجانب الساباط إلى أن انتبهت من نومي – وكانت هذه الرؤيا في زمان استيلاء آل رشيد على البلاد النجدية ولجوء الإمام عبد الرحمن بن فيصل وأولاده إلى الكويت – فقال الشيخ محمد: هذه رؤيا عظيمة، وتأويلها أن أحد أبناء الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي سيخرج من الكويت ويستولي على نجد كما كان جده تركي مستوليًا عليها ثم يستولي على الأحساء والجهة الشرقية، ثم يستولي على حائل وجهة الشمال، ثم يستولي على عسير وتلك الجهة، ثم يستولي على مكة والجهة الحجازية، وسيكون للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف صلة قوية بالذي سيستولي على نجد من ذرية الإمام تركي، وأما أنت – يعني الحوطي الذي رأى الرؤيا – فستملك البيت الذي أسندت ظهرك إلى جداره أو يملكه أحد أبنائك، قال الحوطي: فقلت للشيخ محمد: إن تأويلك لهذه الرؤيا بعيد جدًا لأن آل رشيد قد استولوا على نجد كلها وليس لهم منازع. وأما الإمام عبد الرحمن وأبناؤه فإنهم قد لجأوا إلى
الكويت وليس عندهم مال ولا رجال فكيف يستولون على نجد فضلاً عن الجهات البعيدة عن وسط نجد. فقال الشيخ محمد: إنه لا بد أن يقع تأويل هذه الرؤيا. قال الحوطي: فلما أن دخل الملك عبد العزيز بلدة الرياض واستولى عليها جاء الشيخ محمد إليّ بعد صلاة الفجر في تلك الليلة وقال لي: هذا أول تأويل رؤياك قد وقع وستقع بقيته في المستقبل إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد وقع تأويل هذه الرؤيا على وفق ما عبّرها بها الشيخ محمد فقد استولى الملك عبد العزيز على جميع الجهات التي جاء ذكرها في الرؤيا. وكان للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف صلة قوية بالملك عبد العزيز، فكان الشيخ موضع ثقة الملك ومشاورته، وقد زوّجه الشيخ بإحدى بناته فولدت له الملك فيصل بن عبد العزيز، وأما البيت الذي أسند الحوطي ظهره إلى جداره فإنه قد اشتراه أحد أبناء الحوطي، وكان الأمر فيه على وفق ما عبّره الشيخ محمد. وهذه الرؤيا وتأويلها من أعجب العجب، وفي تأويل الشيخ محمد لها دليل على رسوخه في علم التعبير.
ومن تعبير الشيخ محمد أيضًا أن رجلاً قال له: إنه رأى في منامه أن فرسًا خرجت من جهة القصر المسمى بـ"المصمك" في بلدة الرياض فجاء حصان يعدو من جهة باب البلد الذي يسمى "دروازة الثميري" فنزى على الفرس، فقال الشيخ: هل رأيته أولج فيها فقال: نعم، فقال: إن صدقت رؤياك فإن عبد العزيز بن عبد الرحمن يدخل الرياض ويستولي عليه.
قلت: وقد وقع تصديق هذه الرؤيا فقد دخل الملك عبد العزيز بلدة الرياض واستولى عليها في سنة تسع عشرة وثلثمائة وألف من الهجرة.
ومن تعبير الشيخ محمد أيضًا أن الملك عبد العزيز لما أراد أن يغزو الأحساء رأى في منامه كأنه تحت سور رفيع وكان يحفر تحته فكان ينهار بسهولة فقصّ رؤياه على الشيخ محمد، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنك تستولي على الأحساء بسهولة.
قلت: وقد وقع الأمر على وفق ما عبّر به الشيخ رؤيا الملك.
ومن تعبير الشيخ محمد أيضًا أن الملك عبد العزيز قال له: إني رأيت في المنام أني أمسكت امرأة وجردتها من ثيابها وتركتها عريانة، فقال الشيخ: هل فعلت بها شيئًا؟ قال: لا، فقال الشيخ: إن صدقت رؤياك فإنك تستولي على بلاد حايل.
قلت: وقد وقع الأمر على وفق ما عبّر به الشيخ رؤيا الملك.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن الملك عبد العزيز رأى في المنام أن الشريف حسينًا كان جالسًا على كرسي فتقدم إليه الملك عبد العزيز وأنزله على الكرسي وجلس عليه، فقال له الشيخ محمد: إنك سوف تستولي على مكة.
قلت: وقد وقع الأمر على وفق ما عبّر به الشيخ رؤيا الملك.
ومن الأحلام التي أَولَّهَا الشيخ محمد أن رجلاً يقال له ابن داود من أهل بلدة حايل وكان مع عجلان في الرياض حين كان عجلان أميرًا على البلاد من قِبَل ابن رشيد فرأى ابن داود في المنام أنه خرج من قصر المصمك فإذا حول القصر أبواب موضوعة على الأرض وعليها آثار المطر والوحل فمرّ في طريقه على بئر السدرة التي عند مسجد خالد فغسل رجليه من الطين ثم ذهب إلى بيت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ فقصّ رؤياه على الشيخ محمد، فقال الشيخ: أما الأبواب الموضوعة على الأرض عند باب المصمك فإنهم رجال يقتلون هناك، وأما أنت فإنك تستجير بالشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وتنجو من القتل.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر رأى في المنام أنه يمشي في الموضع الذي يسمى "الصفاة" في وسط بلدة الرياض وأن الإمام عبد الرحمن بن فيصل والملك عبد العزيز قد تبعاه من ورائه، فأَوَّلَها الشيخ محمد بأن أجله قريب وسوف يمشيان خلف جنازته.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن تركي بن الملك عبد العزيز رأى في المنام كأنه قريب من ربه وأن أخاه فهد قريب منه فقصّها تركي على الشيخ محمد، فقال له: خَيْرٌ إن شاء الله ولم يخبره بتأويلها، فلما خرج تركي من
عند الشيخ محمد قال عبد الحميد بن الشيخ لأبيه: قد جاء في هذا الليل يطلب منك أن تخبره بتأويل رؤياه فمل تفعل، فقال الشيح: إن رؤياه تدل على قرب أجله وأجل أخيه من بعده ولا أحب أن أخبره بذلك، وقد وقع الأمر على وفق تأويل الشيخ للرؤيا فمات تركي بعد مدة يسيرة في الطاعون الذي وقع في شهر صفر سنة سبع وثلاثين وثلثمائة وألف من الهجرة – وتسمي العامة هذه السنة سنة الصخونة وبعضهم يسميها سنة الرحمة – وهو طاعون عامُّ مات فيه خلائق لا يحصون، ثم مات فهد بعد أخيه تركي بيسير.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن تركي بن الملك عبد العزيز رأى أنه راكب على ناقة وهي تمشي به والناس يحفّون به وهم مشاة عن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه، فسأل الشيخ عن تأويل هذه الرؤيا وقيل: إنه أرسل إليه من يسأله عن تأويلها فقال الشيخ: رأى خيرًا ولم يخبرهم بتأويلها، ولما خرج السائل – أي تركي أو رسوله – قال الشيخ محمد للذين عنده: إن هذه الرؤيا تدل على حضور أجل تركي وأنه سيركب على النعش ويحفّ الناس به وهم مشاة، فوقع الأمر على وفق ما قاله الشيخ محمد.
ومن الأحلام التي عبرها الشيخ محمد أن رجلاً يسمى محمد بن عقيل رأى عبد العزيز بن متعب بن رشيد في المنام فقال محمد بن عقيل لابنته: هذا عبد العزيز بن متعب تعالي لنتعاون عليه فجاءت أم عبد العزيز بن متعب فأخذت بيده وذهبت به فقصّ ابن عقيل رؤياه على الشيخ محمد، فقال: هل أمّ عبد العزيز بن متعب موجودة أم قد ماتت، فقيل له: إنها قد ماتت، فقال: إن صدقت رؤياك فإن عبد العزيز بن متعب سيقتل، وقد وقع الأمر على وفق ما عَبّر به الشيخ الرؤيا.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين رأى في المنام أنه أخذ عصا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف فقصّ رؤياه على الشيخ محمد، فقال: إن صدقت رؤياك فإنه سيحصل لك من الرياسة والجاه مثل ما حصل للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وقد وقع الأمر على وفق ما عَبّر به الشيخ الرؤيا.
ومن الأحلام التي عبرها الشيخ محمد أن الشيخ عبد الله بن حسن رأى في المنام أنه يصل يعلى مكان مرتفع ويقرأ سورة الفتح فقصّ رؤياه على الشيخ فلم يجبه بشيء فلما خرج من عنده قال الشيخ للذين عنده: إن ابن حسين – يعني الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ – يتمنى أن تفتح مكة وأن يؤم في المسجد الحرام، وإنما قال الشيخ محمد هذه الكلمة لأنه قد استبعد أن تفتح مكة للملك عبد العزيز لأنها كانت تحت ولاية الشريف حسين، وكانت لديه قوة عظيمة من العدد والعدة، ولكن الله تعالى يسّر فتحها للملك عبد العزيز في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وكان الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ من المرافقين للملك عبد العزيز في سفره إلى مكة، ثم حضر معه حصار جدة، وبعد تسليمها عيّنه الملك إمامًا وخطيبًا في المسجد الحرام، وبذلك وقع تصديق رؤياه وعلم من ذلك صحة تأويل الشيخ محمد لرؤيا الشيخ عبد الله بن حسن وإن كان قد ذكر تأويلها على وجه الاستبعاد لوقوع ذلك، ثم بعد زمن يسير صدر الأمر من الملك عبد العزيز بتعيين الشيخ عبد الله بن حسن رئيسًا للمحاكم في الحجاز والمناطق الجنوبية والشمالية والشرقية ولم يزل رئيسًا لها إلى أن توفي في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة؛ وبهذا وقع تصديق رؤيا الشيخ عبد الله بن حسن أنه قد أخذ عصا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وعلم من ذلك صحة تأويل الشيخ محمد لرؤيا الشيخ عبد الله بن حسن بأنه سيحصل له من الرياسة والجاه مثل ما حصل للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن رجلاً من أهل الرياض رأى في المنام أن رجلاً من أهل الرياض أيضًا أخذ بيده فضرط فيها ثم جعل يمشي أمامه ويضرط نحوه ويتابع الضراط عليه فقصّ رؤياه على الشيخ محمد فقال: إنه سيكون بينك وبين الرجل الذي ضرط في يدك مصاهرة وسيحصل لك منه أذى، فلما كان بعد أيام قليلة أرسل الذي ذكر عنه الضراط إلى صاحب الرؤيا يخطب أخته فامتنع من إجابته إلى طلبه خوفًا من الأذى الذي ذكره الشيخ محمد في تأويله لرؤياه فلم يزل الخاطب يرسل إليه ويلحّ عليه وهو مصرّ على الامتناع من إجابته فلما رأى الخاطب إصراره على الامتناع من إجابته أرسل
إلى أم البنت يخبرها بامتناعه فقالت الأم: ما لك تمتنع من تزويج فلان بأختك وهو من الأكفاء الأغنياء الذين يرغب الناس في تزويجهم فإن أنت لم تزوجه فإني سوف أذهب إلى القاضي وأطلب منه أن يزوجها بغير رضاك، فملا رأى إلحاح الأم زوّج الرجل بأخته وهو كاره فكانت حال أخته مع ذلك الرجل على أحسن الأحوال ثم إنها توفيت فحينئذ ابتدأ زوجها بمخاصمة أخيها فيما كان يظن أن لزوجته شركة معه فيه من المال وتكررت مخاصمته له وشكايته وإحضاره عند القاضي لمخاصمته وآذاه أذى كثيرًا، وبهذا وقع تصديق الرؤيا وعلم من ذلك صحة تأويل الشيخ محمد لهذه الرؤيا.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن رجلاً من أهل الرياض يسمى عبد العزيز الشّدّي رأى في المنام أن أصابع يديه قد قطعت فقصّها على الشيخ محمد فقال: سيؤخذ منك عشرة أريل ثم لا ترد إليك، فعند ذلك أخذ صاحب الرؤيا في الاحتياط والحذر طمعًا منه أن لا يقع شيء مما أخبره به الشيخ محمد من تأويل الرؤيا ولكن الحذر لا ينفع من القدر، فبعد مدة يسيرة جاء رجل إلى الشدّي فقال له إن القِرَب – يعني أوعية الماء غالية جدًا في الأحساء فأعطاه الشدّي عشرة أريل ليشتري بها قربًا ويبيعها في الأحساء طمعًا منه في الربح الكثير فاشترى الرجل القِرَب وسافر بها معه إلى الأحساء فقطع الطريق على القافلة وأخذت القِرَب مع ما كان مع القافلة. ثم إن بعض الرؤساء أمسك قطاع الطريق وألزمهم برد ما أخذوه من القافلة فردوا كل شيء أخذوه منهم إلا القرب فإنها فُقِدَتْ، وبهذا وقع تصديق رؤيا الشدّي وعلم من ذلك صحة تأويل الشيخ محمد للرؤيا.
ومن الأحلام التي أَوَّلَها الشيخ محمد أن امرأة رأت في منامها أن على سور بلدة الرياض ستائر قالت: فنظرت من خلال الستائر إلى خارج البلد فإذا هناك كلاب كثيرة مختلفة الألوان، فيها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأزرق، وقيل: إن الذي رأى هذه الرؤيا رجل وأنه رأى خارج البلد جرادًا كثيرًا مختلفًا ألوانه فسئل الشيخ محمد عن تأويل هذه الرؤيا فقال: إن صدقت هذه الرؤيا فإن بلدة الرياض ستكون موضعًا يفد إليه الناس من أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم وألوانهم ودياناتهم، وأما وضع الستائر على السور
فتأويله أن أهل البلدة سيكونون في ستر ما دامت الستائر على سور البلد.
قلت: وقد وقع تصديق هذه الرؤيا في آخر عهد الملك عبد العزيز وما بعده إلى زماننا حيث كثرت وفادة الناس من جميع أرجاء الأرض إلى الرياض وغير الرياض من مدن المملكة العربية السعودية على اختلاف أجناسهم وألوانهم ودياناتهم، وما أكثر أشباه الكلاب من الوافدين إلى المملكة السعودية، بل إن كثيرًا منهم شر من الكلاب والله المستعان.
فصل
وأختم الكتاب بذكر نموذج من تأويل الأحلام التي ذكرت عن بعض المتقدمين من الملوك والأكابر، وقد ذكرت فيما تقدم رؤيا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أنه أمر بذبح ولده، ورؤيا يوسف الصدّيق عليه الصلاة والسلام أن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر قد سجدوا له، ورؤيا الفتيين اللذين دخلا السجن مع يوسف، ورؤيا ملك مصر، ورؤيا عبد المطلب بن هاشم أنه أمر بحفر زمزم، ورؤيا رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم حين أصاب قريشًا القحط بأنهم يؤمرون بالاستسقاء؛ فكل هذا قد تقدم ذكره. فأما رؤيا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ورؤيا عبد المطلب بن هاشم ورؤيا رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم فهي مذكورة مع الأحلام الظاهرة التي لا تحتاج إلى تأويل، وأما رؤيا يوسف الصدّيق عليه الصلاة والسلام ورؤيا الفتيين ورؤيا ملك مصر فهي مذكورة في أول الأحلام التي تحتاج إلى التأويل، وهي الأحلام التي تكون من باب ضرب الأمثال للنائم، فلتراجع هذه الأحلام في مواضعها.
ومن أحلام الملوك رؤيا فرعون في منامه ما هَالَه وأفزعه. وقد روى ذلك ابن جرير في تاريخه من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم: أن فرعون رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة
والحازة (1) فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه – يعنون بيت المقدس – رجل يكون على وجهه هلاك مصر فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ولا يولد لهم جارية إلا تركت.
ومن أحلام الملوك أيضًا رؤيا بختنصر. وقد ذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية" عن محمد بن إسحاق بن يسار أنه ذكر في كتاب "المبتدأ" عن سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب الأحبار. قال ابن كثير: وروى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خَرَّب بيت المقدس واستذل بني إسرائيل بسبع سنين رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته فجمع الكهنة والحزار وسألهم عن رؤياه تلك، فقالوا: ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها، فقال: إني نسيتها وإن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم فذهبوا خائفين وجلين من وعيده فسمع بذلك دانيال عليه السلام وهو في سجنه فقال للسجان: اذهب إليه، فقل له: إن ههنا رجلاً عنده علم رؤياك وتأويلها فذهب إليه فأعلمه فطلبه فلما دخل عليه لم يسجد له فقال له: ما منعك من السجود لي؟ فقال: إن الله آتاني علمًا وعلمني وأمرني أن لا أسجد لغيره، فقال له بختنصر: إني أحب الذين يوفون لأربابهم بالعهود فأخبرني عن رؤياي، قال له دانيال: رأيت صنمًا عظيمًا رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب ووسطه من فضة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخّار فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قمة رأسه حتى طحنه واختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده حتى تخيل إليك أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ونظرتَ إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرض كلها فصرت لا ترى إلا الحجر والسماء، فقال له بختنصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها؟ فقال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي
(1) القافة جمع قائف وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، والحازة جمع حازٍ وهو الكاهن، قال ابن منظور في "لسان العرب" التحزي التكهن قال الليث الحازي الكاهن وقال ابن سيده تحزى تكهن. وفي الحديث كان لفرعون حازٍ أي كاهن. انتهى.
آخره، وأما الحجر الذي قذف به الصنم فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان فيظهره عليها فيبعث الله نبيًا أميًا من العرب فيدوّخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوّخ أصناف الصنم ويظهر على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض كلها فيمحص الله به الحق ويزهق به الباطل ويهدي به أهل الضلالة ويعلم به الأميين ويقوي به الضعفة ويعز به الأذلة وينصر به المستضعفين، وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في "دلائل النبوة" من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب الأحبار فذكره بنحوه وفيه زيادات ليست في رواية ابن إسحاق.
وقد روى ابن جرير هذه القصة في "تاريخه" في أثناء خبر طويل ذكره عن وهب بن منبه، وفيه أن بختنصر رأى رؤيا فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئًا أصابه فأنساه الذي كان رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشايل من ذراري الأنبياء فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها ثم أصابني شيء فأنسانيها وقد كانت أعجبتني، ما هي؟ قالوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قال: ما أذكرها وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعنّ أكتافكم، فخرجوا من عنده فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إياها فأعلمهم الذي سألهم عنه فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالاً؟ قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد؟ قال: صدقتم، قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته فهي التي أنستكها؟ قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: تأويلها أنك أريت ملك الملوك فكان بعضهم ألين ملكًا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكًا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكًا من بعض، فكان أول الملك الفخّار وهو أضعفه وألينه، ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته نبيًا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه.
ورواه ابن جرير أيضًا في تفسيره من طريق أسباط عن السدي بنحوه، وفيه أن دانيال وأصحابه قالوا لبختنصر: رأيت كذا وكذا فقصوها عليه، فقال: صدقتم، قالوا: نحن نعبرها لك، أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب فإنه ملكك حسن مثل الذهب، وكان قد ملك الأرض كلها، وأما العنق من الشبه فهو ملك ابنك بعدك يملك فيكون ملكه حسنًا ولا يكون مثل الذهب، وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس يملكون بعد ابنك فيكون ملكهم شديدًا مثل الحديد، وأما بطنه الأخلاط فإنه يذهب ملك أهل فارس ويتنازع الناس الملك في كل قرية حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين والشهر والشهرين ثم يقتل فلا يكون للناس قوام على ذلك كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخّار، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى نبيًا من أرض العرب فأظهره على بقية ملك أهل فارس وبقية ملك ابنك وملكك فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم.
ورواه أيضًا بإسناده عن سعيد بن جبير. وفيه أن بختنصر رأى رؤيا فجلس فنسيها فعاد فرقد فرآها فقام فنسيها ثم عاد فرقد فرآها فخرج إلى الحجرة فنسيها فلما أصبح دعا العلماء والكهان فقال: أخبروني بما رأيت البارحة وأوّلوا لي رؤياي وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته موعدكم ثالثة، فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه، قال: وجعل دانيال كلما مر به أحد من قرابته يقول: لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مرّ به كَهْلٌ فقال له ذلك فرجع إليه فأخبره فدعاه فقال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالاً، قال: إيه! قال: ورأسه من ذهب؟ قال: إيه! قال: وعنقه من فضة؟ قال: إيه! قال: وصدره من حديد؟ قال: إيه! قال: وبطنه من صفر؟ قال: إيه! قال: ورجلاه من آنك؟ قال: إيه! قال: وقدماه من فخار؟ قال: هذا الذي رأيت، قال: إيه! قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ثم في عنقه ثم في صدره ثم في بطنه ثم في رجليه ثم في قدميه قال فأهلكته، قال: فما هذا قال: أما الذهب فإنه ملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ثم ملك ابن ابنك، قال: وأما الفخار فملك النساء فكساه جبة ترثون وسوّره وطاف به في
القرية وأجاز خاتمه.
ومن أحلام الملوك أيضًا رؤيا ابن بختنصر. وقد ذكرها ابن جرير في تفسيره في خبر طويل رواه عن سعيد بن جبير وفيه أن ابن بختنصر رأى كفًا خرجت بين لوحين ثم كتبت سطرين فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علمًا فقالت له أمه: إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك، وكان قد جفاه فدعاه فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي فأخبرني ما هذان السطران؟ فقال: أمَّا تعيد إليّ منزلتي من أبيك فلا حاجة لي بها، وأمَّا هذا السطران فإنك تقتل الليلة، فأخرج من في القصر أجمعين وأمر بقفله فأقفلت الأبواب عليه وأدخل معه آمَنَ أهل القرية في نفسه معه سيف فقال: من جاءك من خلق الله فاقتله وإن قال أنا فلان، وبعث الله عليه البطن فجعل يمشي حتى كان شطر الليل فرقد ورقد صاحبه ثم نبهه البطن فذهب يمشي والآخر نائم فرجع فاستيقظ به فقال له: أنا فلان فضربه بالسيف فقتله.
ومن أحلام الملوك أيضًا رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي أحمد ملوك حِمْيَر التبابعة، قال ابن إسحاق: كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هالته وفظع بها فلم يدع كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها، فقالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها فإنه لا يعرف تأويلها إ لا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سَطِيْح وشِقًّ (1) فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه، فبعث إليهما فقدم عليه سَطِيْح قبل شِقًّ فقال له: إني قد رأيت رؤيا
(1) أما سَطيح فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان. قال ابن جرير: وكان يقال له الذئبي لنسبته إلى ذئب بن عدي، قلت: وهو الذي قال فيه الأعشى في شعره: «كما صدق الذئبي إذ سجعا» وذكر ابن عساكر في "تاريخه" أنه ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس، قلت: سيأتي في ذكر رؤيا الموبذان أنه عاش إلى أن وُلد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحًا إنما كان لحمًا على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعنقه وكفيه وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، وقيل: إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس. وذكر ابن طرار الجريري أنه عاش سبعمائة سنة، وقال غيره: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة. ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية".
وأما شِق فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار. قال السهيلي: كان شقٌّ شقَ إنسانٍ - فيما يذكرون- إنما له يد واحدة ورجل واحدة، وعين واحدة. قال: وذكر أبو الفرج أن خالد بن عبد لله القسري كان من ولد شق هذا. قلت: أبو الفرج هو المعافى بن زكريا بن طرار الجريري.
هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل، رأيت حُمَمَة (1)، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تَهَمَة (2)، فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش (3) لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن، أفي زماني هذا أم بعده؟ قال: لا بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرَمُ بن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: لا بل ينقطع، قال: ومن يقطعه: قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قِبَل العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع
(1) قال ابن الأثير: الحُمَمة الفحمة. وقال الجوهري: الحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، الواحدة حُمَمة.
(2)
قال الجوهري: التَّهم بالتحريك مصدر من تهامة، وفي لسان العرب أن التّهمة الأرض المتصوبة إلى البحر.
(3)
قال الجوهري: الحنش بالتحريك كل ما يصاد من الطير والهوام والجمع أحناش، وقال ابن منظور في "لسان العرب" الحنش الحية وقيل: الأفعى، وقال كُرَاع: هو كل شيء من الدواب والطير.
فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحقّ.
ثم قدم عليه شِقّ فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان، فقال: نعم، رأيت حُمَمَة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة (1)، فأكلت منها كل ذات نسمة، قال: فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، فإن قولهما واحد إلا أن سطيحًا قال:«وقعت بأرض تَهَمَة، فأكلت منها كل ذات جمجمة» ، وقال شِقّ:«وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت كل ذات نسمة» . فقال الملك: ما أخطأت يا شقّ منها شيئًا فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طَفْلَة البنان (2)، وليملكن ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك يا شِقّ إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شأن، ويذيقهم أشد الهوان، قال: ومَنْ هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام ليس بدنيّ ولا مُدَنّ (3)، يخرج عليهم من بيت ذي يزن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزي فيه الولاة، ويدعى فيه من
(1) قال السهيلي: قوله بين روضة وأكمة، لأنها وقعت بين صنعاء وأحوازها – أي نواحيها.
(2)
قوله: طَفْلة البنان، قال الجوهري: الطّفْل بالفتح الناعم يقال جارية طَفْلة أي ناعمة وبنان طَفْل. وقال ابن منظور في "لسان العرب": الطفْل البنان الرَّخْص، وفي المحكم الطفل بالفتح الرّخْص الناعم، ويقال: جارية طَفْلة إذا كانت رَخْصة.
(3)
قوله: بغلام لا دَنِيّ ولا مُدَنْ. قال السهيلي: الدَّنِيُّ معروف والمدَنُّ الذي جمع الضعف مع الدناءة قاله صاحب العين. انتهى. وقال الجوهري: يقال إنه ليّدَنَّي في الأمور تَدْنيةً أي يتتبع صغيرها وخسيسها، والمدني من الرجال الضعيف. وقال ابن منظور في "لسان العرب": المُدَنِيّ من الناس الضعيف الذي إذا آواه الليل لم يبرح ضعفًا. ونقل عن اللحياني أنه قال: دَنَّ فلان طلب أمر خسيسًا.
السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، قال: أحقّ ما تقول؟ قال: إي وربّ السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إنَّ ما أنبأتك به لحق ما فيه أَمْض (1).
قال ابن إسحاق: فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهّز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خُرَّزاد فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعلمهم النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، ذلك الملك. قال ابن هشام: النعمان بن المنذر بن المنذر فيما أخبرني خلف الأحمر.
وقد ذكر هذه القصة ابن هشام في "السيرة" وابن جرير في "تاريخه" وأبو نعيم الأصبهاني في "دلائل النبوة" وابن كثير "في البداية والنهاية"؛ كلهم عن ابن إسحاق. وزاد ابن جرير في رواية له عن ابن إسحاق قال: ولما قال سَطِيح وشِقّ لربيعة بن نصر ذلك وصنع ربيعة بولده وأهل بيته ما صنع ذهب ذكر ذلك في العرب وتحدثوا به حتى فشا ذكره وعلمه فيهم، فلما نزلت الحبشة اليمن ووقع الأمر الذي كانوا يتحدثون به من أمر الكاهنين، قال الأعشى: أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري في بعض ما يقول وهو يذكر ما وقع من أمر ذينك الكاهنين سَطيح وشِقّ:
ما نَظَرتْ ذَاتُ أشفار كنظرتها
…
حقًا كما نطق الذئبي إذا سجعا (2)
(1) قوله: ما فيه أَمْض، قال ابن هشام: أمض يعني شكّاً بلغة حمير، وقال أبو عمرو: أمض أي باطل. وقال السهيلي: وقوله: لحق ما فيه أَمْض، أي ما فيه شك ولا مستراب.
(2)
ذات الأشفار هي زرقاء اليمامة، وقد نظرت إلى جيش حسان بن تبان أسعد أبي كرب ملك اليمن من مسافة بعيدة فأنذرت قومها فكذبوها فصبحهم حسان بجيشه واستباحهم، وقوله: كما نطق، كذا جاء في تاريخ ابن جرير، وفي ديوان الأعشى "كما صدق الذئبي إذ سجعا".
وكان سطيح إنما يدعوه العرب الذئبي لأنه من ولد ذئب بن عدي. انتهى ما ذكره ابن جرير.
ومن أحلام الأكابر رؤيا عبد المطلب بن هاشم أنه أمر بحفر زمزم. وقد تقدم ذكر ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1)، وقد رواه البيهقي في "دلائل النبوة" بإسناده عن الزهري بسياق غير السياق الذي تقدم ذكره من رواية ابن إسحاق وقال فيه: فحفر حتى أنبط الماء فخرقها في القرار ثم بَحَّرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضًا فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج فيكسره أناس حَسَدة من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربّه فأري في المنام فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل ولكن هي لشارب حلُّ وبِلُّ، ثم كفيتهم؛ فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد فنادى بالذي أرى ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه وسقايته.
ومن أحلام الأكابر أيضًا ما رواه أبو نعيم الأصبهاني في "دلائل النبوة" عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال: بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعًا شديدًا فأتيت كاهنة قريش عليَّ مطرف خزّ وجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إليّ عرفت في وجهي التغير وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون هل رأيت من حدثان الدهر شيئًا؟ فقلت: بلى، وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته ولم أفعل لأني كنت كبير قومي، فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورًا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفًا ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظمًا ونورًا وارتفاعًا، ساعة تخفى وساعة تزهر ورأيت رهطًا من قريش
(1) تقدم ذكر ذلك.