الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
تمهيد:
لمحات عن علم غريب الحديث
متى نشأ علم غريب الحديث؟ وكيف كانت عناية أهل العلم به؟ وما أهم المصنفات فيه، وما وجوه التماثل والتفاضل فيما بينها؟ قد أبدع القول في هذا الموضوع من علمائنا المتقدمين: أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (388هـ) ثم مجد الدين بن الأثير الجزري (606هـ) ، فكلاهما كتب في مقدمة غريبه فصولاً بليغة أرَّخ فيها علم غريب الحديث ذاكراً أهم الكتب التي ألفت فيه إلى زمنه، مبيناً عن مراتبها، وكاشفاً عن خصائصها التي ينفرد بها بعضها عن بعض.
أما الباحثون المعاصرون، فلعل أول من أرَّخ هذا العلم منهم هو الدكتور حسين نصار الذي عقد له فصلاً في كتابه "المعجم العربي – نشأته وتطوره" استغرق نحو ثلاث عشرة صفحة (1) .
ثم لما عني الدكتور شاكر الفحام بتحقيق كتاب الدلائل في غريب الحديث للعوفي (302هـ) قَّدم بين يديه سلسلة مقالات نفيسة ضافية نشرها في سنتي 1975 و 1976م في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ودرس فيها تاريخ هذا العلم إلى عهد العوفي ومخطوطات كتابه دراسة بارعة متقنة.
وكتب الغريب التي نشرت، تصدَّرتها جميعاً مقدمات عرض فيها محققوها هذا الموضوع حسب طرائقهم في الاختصار أو الإطناب. ثم كتبت فيه بعض الرسائل الجامعية (2) .
(1) المعجم العربي 1: 42-54. ومن المعلوم أن الكتاب المذكور أصله رسالة علمية نوقشت في 23/6/1953م، وطبعت لأول مرة سنة 1956م.
(2)
ومنها رسالة ماجستير بعنوان "دراسات في غريب الحديث" أعدها الأستاذ بدر الزمان النيبالي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1407هـ. ومنها رسالة أعدها إبراهيم يوسف في دار العلوم بالقاهرة بعنوان "غريب الحديث حتى نهاية القرن السادس، ذكرها محقق غريب الحربي في مراجعه 3:1409.
ومع كل ذلك، فإن علم غريب الحديث لخليق بأن تقدَّم دراسة تاريخية له في هذه الندوة الكريمة مع عرض شامل لمصنفاته: ما وصل منها وما لم يصل، وما طبع منها ومالم يطبع. ولعل أحد الباحثين المشاركين في هذه الندوة سينهض بتلك الدراسة. أما هذا البحث الذي عُقد للتعريف بكتاب واحد من كتب غريب الحديث المخطوطة، فلا موضع فيه للتفصيل، فأكتفي هنا بالكلام على ثلاث نقاط تكون مدخلاً إلى موضوع البحث.
(1)
نشأة علم غريب الحديث
ظهرت الكتب الأولى في غريب الحديث في القرن الثاني الهجري، ولكن من السابق إلى التأليف فيه؟ لم يجزم في ذلك أبو محمد عبد الله بن جعفر المعروف بابن درستويه (347هـ) حينما تحدث عن كتب غريب الحديث فقال:
"وكتاب غريب الحديث أول من عمله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وقطرب، والأخفش، والنضر بن شميل، ولم يأتوا بالأسانيد، وعمل أبو عدنان النحوي البصري كتاباً في غريب الحديث ذكر فيه الأسانيد
…
فجمع أبو عبيد عامة ما في كتبهم
…
" (1) .
فجعل ابن درستويه العلماء الأربعة بل الخمسة في قرن واحد، ولم يصرح بسبق بعضهم بعضاً، وإن استهل كلامه بذكر أبي عبيدة معمر بن المثنى؛
(1) تاريخ بغداد 12: 403، وانظر الإنباه 3:14.
خلافاً لحديثه فيما بعد عن غريب القرآن إذ صَرَّح فيه بأن "أول من صنف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى، ثم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش
…
". ولكن الحافظ أبا عبد الله الحاكم النيسابوري (405هـ) قال جازماً: "فأول مَنْ صنَّف الغريب في الإسلام النضر بن شميل (203هـ) له فيه كتاب، هو عندنا بلا سماع. ثم صنف فيه أبو عبيد القاسم بن سلام" (1) . نقل أبو عمرو بن الصلاح (643هـ) قول الحاكم في مقدمته، ثم عقب عليه: "ومنهم من خالفه، فقال: أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى" (2) .
وقد أيد شمس الدين السخاوي (902هـ) في ((فتح المغيث)) قول الحاكم، فقال:"وهو الظاهر"، واستدل بأن النضر بن شميل "مات في سنة ثلاث وثمانين ومائة" ثم أكد ذلك حينما نعى على ابن الأثير (606هـ) والمحب الطبري (694هـ) ذهابهما إلى القول الثاني "مع أن وفاته -يعني أبا عبيدة- كانت في سنة عشر ومائتين بعد الأول -يعني النضر- بسبع وعشرين عاماً"(3) .
ولا ريب أن ما قاله السخاوي وهم محض، فلا خلاف بين المؤرخين أن
(1) معرفة علوم الحديث: 88. وعليه اقتصر السيوطي في كتاب الوسائل في مسامرة الأوائل: 101.
(2)
علوم الحديث: 273. لخص السيوطي في آخر المزهر 2: 295-414 كتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي (351هـ) وجاء في ضمن ترجمة أبي عبيدة (2: 402) : "وهو أول من ألف في غريب الحديث" والسياق يدل على أن ذلك من كلام أبي الطيب مثل سابقه ولاحقه، ولكن هذه الجملة ليست في الكتاب المطبوع بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(3)
فتح المغيث 4: 24. كذا في المطبوع "بسبع" والصواب: بسبعة.
النضر بن شميل توفي سنة 203هـ وقيل سنة 204هـ (1) . ولا حقيقة لهذا القيل إلا أنه "مات في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، ودفن في أول المحرم"(2) ، فقال بعضهم إنه توفي سنة 204هـ. أما أنه توفي سنة 183هـ قبل وفاة أبي عبيدة (210هـ) بسبعة وعشرين عاماً، فلم يقل بذلك أحد قبل السخاوي ولا بعده. ثم ولد أبو عبيدة سنة 110هـ، وولد النضر في حدود سنة 122هـ فأولهما أقدم من الثاني باثني عشر عاماً. ولكن ليس في شيء من ذلك حجة على كون أحدهما سابقاً والآخر مسبوقاً في تأليف غريب الحديث، فإنهما على كل حال عاشا ثمانين سنة في زمن واحد.
والقول الثاني الذي ذكره ابن الصلاح هو الذي عَوَّل عليه ابن الأثير الجزري (606هـ)، في مقدمة النهاية فقال: ".. فقيل إن أول من جمع في هذا الفن شيئاً وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتاباً صغيراً ذا أوراق معدودات
…
ثم جمع أبو الحسن النضر ابن شميل المازني بعده كتاباً في غريب الحديث أكبر من كتاب أبي عبيدة، وشرح فيه وبسط على صغر حجمه ولطفه، ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي
…
" (3) .
لم يشر ابن الأثير -كما نرى- إلى قول الحاكم، وإنما ذكر قولاً واحداً وهو أن أبا عبيدة سبق معاصره النضر بن شميل إلى التأليف في غريب الحديث وأكد ذلك باستعمال كلمتين:"ثم" و "بعده". ولم يكن افتتاح ابن الأثير
(1) نزهة الألباء: 75
(2)
سير أعلام النبلاء 9: 331.
(3)
النهاية 1: 5.
كلامه هنا بلفظة "قيل" للتضعيف، فإنه لم يشر البتة إلى قول آخر يرجحه في هذه المسألة، وإنما كان سبيله سبيل من يجد بين يديه قولين أو أكثر، فيختار منهما ما يستحسنه ويميل إليه، وإن كان لا يملك حجة قاطعة عليه.
وبالجملة فهما قولان مأثوران في هذه المسألة أشهرهما ما اختاره ابن الأثير "ويكاد الإجماع ينعقد عليه" كما يقول الدكتور محمود الطناحي (1) .
ولكن الدكتور حسين نصار ذهب إلى رأي ثالث وهو أن أول كتاب في هذا الفن ألَّفه أبو عدنان السلمي، ونسب ذلك إلى صاحب ((الفهرست)) ، فقال:"عزا أكثر الباحثين الكتاب الأول في غريب الحديث إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى (210هـ) تبعاً لابن الأثير. ولكن هذا القول يجب ألا يؤخذ قضية مسلمة، فقد نسب ابن النديم الكتاب الأول من هذا النوع إلى أبي عدنان عبد الرحمن بن عبد الأعلى". ثم نقل ما جاء في الفهرست: "وله
…
كتاب غريب الحديث، وترجمته (ما جاء من الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسراً) ، وعلى إثره ما فسر العلماء من السلف" (2) .
وأيد ما فهمه من كلام ابن النديم بأن أبا عدنان "راوية لأبي البيداء الرياحي، وهو معاصر ليونس بن حبيب، أستاذ أبي عبيدة، فأبو عدنان إذن وأبو عبيدة متعاصران، ومن المحتمل أن يسبق أحدهما الآخر في التأليف في غريب الحديث، ولكن إذا كان لنا أن نعتمد على مؤرخ، فالأجدر بالترجيح ابن النديم؛ لأنه أقدمهم وأقربهم إلى عصر هؤلاء المؤرَّخ لهم، فنقدم بذلك أبا عدنان على أبي عبيدة".
(1) في اللغة والأدب 1: 397.
(2)
الفهرست: 51.
لم يصرح ابن النديم بأن أبا عدنان أول من ألف في غريب الحديث، ولكن الدكتور حسين نصار تأول كلامه على هذا، وذلك أنه زعم أن عنوان كتاب أبي عدنان:"ما جاء من الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسراً"(1) ، أما الجملة التي بعدها فهي كلام مستأنف، و"ما" في قوله "ما فسر" زائدة، وقصد به ابن النديم أن العلماء من السلف إنما فسروا غريب الحديث بعد أبي عدنان. وهذا التأويل لكلام ابن النديم يبدو صحيحاً لأول وهلة. ولكن يضعفه أمور منها:
1-
لو قصد ابن النديم ما ذهب إليه حسين نصار لما كان لقوله "من السلف" وجه من الكلام، ولكان لغواً من القول.
2-
نقل جمال الدين القفطي (624هـ) ترجمة أبي عدنان عن الفهرست، وأورد عنوان كتابه على هذا الوجه:".. وترجمته: ما جاء من الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسراً على ما فسر العلماء"(2) . وهذا يدل على أن الجملة التي فصلها الدكتور حسين نصار يراها القفطي جزءاً من عنوان الكتاب.
صحيح أن أبا عدنان معاصر لأبي عبيدة، ولكن عداده في أصحابه، فقد نص الصفدي في ترجمته على أنه "أخذ عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة، والأصمعي وطبقتهم"(3) . وكذلك ذكر القفطي في ترجمة شمر بن حمدويه الهروي (255هـ) أنه لقي جماعة من أصحاب أبي
(1) المعجم العربي 1: 42-43.
(2)
إنباه الرواة 4: 148، وفيه:"في الحديث"، و"نشر" تحريف.
(3)
الوافي 18: 156.
عمرو الشيباني وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والفراء، ثم عدَّ منهم: الرياشي (257هـ) وأبا نصر (231هـ) وسلمة بن عاصم (270هـ) وأبا عدنان (1) . وذكره أبو الطيب اللغوي مع أبي عكرمة الضبي صاحب كتاب الخيل (250هـ) وقال: "وقد روى أبو عدنان عن أبي زيد كتبه كلها"(2) .
فالظاهر أن ما ورد في الفهرست إلى قوله "العلماء من السلف" هو العنوان الكامل لكتاب أبي عدنان، ومعناه أنه أورد في كتابه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأتبعها بما فسرها به العلماء من السلف. ولعل في نص الفهرست شيئاً من الخلل يدل عليه ما نقله القفطي في كتاب الإنباه.
وقد أفضت الكلام في هذه المسألة لأمرين: أولهما أني لم أقف على مناقشة لهذا الرأي، والآخر أني ألفيت أحد الباحثين قد تأثر به، فافتتح الفصل الذي عقده في كتابه لإحصاء معاجم غريب الحديث بكتاب أبي عدنان السلمي (3) .
(2)
الغرائب المشهورات ومناهجها
منذ أن ظهرت الكتب الأولى في غريب الحديث على أيدي علماء اللغة، لم تنقطع سلسلة التأليف في هذا الفن، فلم يخل عصر من العصور من الجامعين فيه. وقد بلغ عدد مصنفات غريب الحديث فيما أحصاه أحد الباحثين نحو
(1) إنباه الرواة 2: 77.
(2)
مراتب النحويين: 144.
(3)
معجم المعاجم: 23.
90 كتاباً، مع أنه قد فاته ذكر بعض الكتب التي وصلت إلينا فضلاً عن غيرها (1) .
وقد تنوعت مناهج المؤلفين في ترتيب كتبهم وتفسير الغريب، أشير إليها في السطور الآتية بإيجاز، مع الإلماع في غضون ذلك إلى مكانتها:
1-
منهج اللغويين الأوائل
وهو المنهج الذي اتبعه أبو عبيدة وغيره من علماء اللغة في القرنين الثاني والثالث، فكانوا يوردون الأحاديث دون ذكر أسانيدها، ثم يفسرون غريب ما فيها باختصار أو شيء من البسط (2) .
2-
منهج أبي عدنان
كان أبو عدنان من أصحاب أبي عبيدة وأبي زيد وطبقتهما كما سبق، لكنه اختار لكتابه في غريب الحديث منهجاً جديداً، فرتَّب كتابه على أبواب السنن والفقه وذكر فيه الأسانيد أيضاً، كما وصفه ابن درستويه.
3-
منهج أبي عبيد
لما ألف أبو عبيد القاسم بن سلام (224هـ) كتابه الحافل وجمع فيه ما تفَّرق في كتب أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما، وأضاف إليه أحاديث وآثاراً كثيرة أوردها مع أسانيدها. قدم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبعها آثار الصحابة ثم التابعين، جامعاً آثار كل منهم في مكان واحد. وامتاز تفسيره "بصحة المعنى وجودة الاستنباط وكثرة الفقه"(3) . فصار كتابه قدوة "لما حواه
(1) المرجع السابق: 23-41.
(2)
انظر ما سبق من كلام ابن درستويه في الفقرة السابقة، ومقدمة غريب الخطابي 1: 49-50.
(3)
غريب الحديث للخطابي 1: 50.
من الأحاديث والآثار الكثيرة، والمعاني اللطيفة والفوائد الجمة" (1) .
وحذا حذوه في هذا المنهج ابن قتيبة (276هـ) الذي تتبع ما فات أبا عبيد، فاستدرك عليه في كتابه المشهور، وكذلك أبو محمد قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي (302هـ) في الأندلس، وأبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (388هـ) في المشرق، وكلاهما استدرك على ابن قتيبة، ولم يطلع الثاني على كتاب الأول.
وهذه الكتب الأربعة هي أمهات هذا الفن، وإن لم يشتهر كتاب العوفي –مع علو منزلته- في بلاد المشرق، لتأخر وصوله إليها.
وقد دارت حول هذه الأصول الجليلة مؤلفات كثيرة لشرحها أو اختصارها، أو ترتيبها، أو إصلاح غلطها، أو الانتصار لها، أو تفسير شواهدها، أو جمعها وتلخيصها في كتاب واحد.
1-
منهج إبراهيم الحربي
انتهج أبو إسحاق إبراهيم الحربي (285هـ) في كتابه منهجاً بديعاً إذ أراد أن يجمع فيه بين نظام المسانيد عند علماء الحديث ونظام التقاليب الذي اخترعه الخليل بن أحمد (175هـ) ، فلم يسلم له هذا ولا ذاك. فإذا ذكر حديثاً من أحاديث صاحب المسند، ليفسر الكلمة الغريبة التي ورد فيها، أتبعه أحاديث من المسانيد الأخرى، وردت فيها ألفاظ من مادة الكلمة الأولى، وقد يقلب المادة ولا يكون في بعض تقاليبها حديث أو أثر، ولكنه يفسر ألفاظاً لغوية من تلك التقاليب (2) .
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 6.
(2)
انظر تفصيل هذه الخلاصة في مقدمة المحقق لغريبه 1: 92-96.
ثم أفاض في تفسير غريب الحديث وشرحه وأكثر من الاستشهاد، وأسند رواياته عن علماء اللغة وغيرهم، "فطال بذلك كتابه، وبسبب طوله ترك وهجر، وإن كان كثير الفوائد جم المنافع، فإن الرجل كان إماماً حافظاً متفنناً عارفاً بالفقه والحديث واللغة والأدب"(1) .
وما وصل إلينا من كتاب الحربي شاهد بصحة ما وصفه به ابن الأثير.
1-
منهج الهروي
كان أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي (401هـ) صاحب الأزهري (370هـ) معاصراً للخطابي (388هـ) . وهو أول من جمع في كتابه بين غريب القرآن وغريب الحديث، ولعل فكرة الجمع هي التي هدته إلى منهج جديد ميسر لترتيب كتابه، فاستخرج الألفاظ الغريبة من الأحاديث ورتبها على أصول حروفها بادئاً بالحرف الأول ملتزماً بالثاني ثم الثالث إلا إذا خاف في كلمة ألا يفرق طلبة الحديث بين الحرف الأصلي والحرف الزائد فيها، فأثبتها في باب الحرف الأول منها وإن كان زائداً. ثم كان شرطه الاختصار فحذف الأسانيد وقلل الشواهد، وأوجز التفسير، "فانتشر كتابه بهذا التسهيل والتيسير في البلاد والأمصار وصار هو العمدة في غريب الحديث والآثار" كما قال ابن الأثير (2) .
واستدرك على كتاب الغريبين للهروي الحافظ أبو موسى محمد بن عمر المديني الأصفهاني (581هـ) فجمع ما فاته في كتاب مرتب على ترتيب الأول، ومقارب له في حجمه وفائدته.
(1) النهاية 1: 6.
(2)
المرجع السابق 1: 9.
وعلى هذين الكتابين بنى مجد الدين بن الأثير (606هـ) كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" فاستخلص منهما مادة غريب الحديث، مشيراً إلى كل منهما برمز خاص، ثم زاد عليهما زيادات كثيرة من الكتب الأخرى، فجمع كتابه بين مزيتين: مزية الإحاطة بغريب الحديث ومزية حسن الترتيب وقرب المأخذ، فطار صيته في الآفاق، واستغنى طلاب العلم به عن غيره من المصنفات.
6-
منهج الزمخشري
اتبع أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (583هـ) منهج الهروي، غير أنه رأى أن الحديث الواحد عنده يتفرق في حروف مختلفة حسب الكلمات الغريبة التي وردت فيه، فحرص في كتابه الفائق على أن يورد الحديث، ويفسر ألفاظه الغريبة كلها في مكان واحد، فأدى ذلك إلى أن جاء كثير من الألفاظ في غير حروفها. فتدارك ذلك بالإشارة في آخر كل فصل إلى الكلمات الباقية منه والإحالة على مواضعها. ولعل النسخة التي اطلع عليها ابن الأثير من كتاب الفائق خلت من تلك الإحالات فقال:"ولكن في العثور على طلب الحديث منه كلفة ومشقة" وقال أيضاً: "فترد الكلمة في غير حروفها، وإذا تطلبها الإنسان تعب حتى يجدها"(1) .
هذه هي المناهج التي اتبعها أصحاب غريب الحديث في ترتيب مؤلفاتهم، ثم كان لكل كتاب منها سمات خاصة في تفسير الغريب لا موضع لتفصيلها هنا.
(1) النهاية 1: 9.
الكتب المذكورة آنفاً تناولت غرائب الأحاديث والآثار بصورة عامة. وهناك قسم من كتب الغريب قصرها مؤلفوها على كتاب من كتب الحديث، نحو تفسير غريب الموطأ لأبي عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد (225هـ) ، وكتاب أبي عمر الزاهد (345هـ) في تفسير غريب مسند الإمام أحمد بن حنبل، وشرح غريب كتاب الإمام البخاري لابن الصابوني (423هـ) .
وقد أفرد أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (328هـ) رسائل لتفسير بعض الأحاديث نحو شرحه لغريب كلام هند بن أبي هالة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرحه غريب حديث أم زرع، وشرحه غريب خطبة عائشة أم المؤمنين في أبيها، رضي الله عنهما. ولابن الأنباري كتاب مستقل في غريب الحديث أيضاً.
(3)
من الغرائب المخطوطة
لم يبق من تراث غريب الحديث إلا الثلث أو أزيد منه قليلاً. ونحمد الله سبحانه على أن معظم أصول هذا الفن ومصنفاته المشهورة قد وصلت إلينا وتم تحقيقها وطبعها. ومنها الكتب الأربعة الأمهات:
كتب أبي عبيد (1) وابن قتيبة (2) والعوفي (السفران الثاني
(1) صدرت طبعته الأولى في الهند عن دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن في أربعة مجلدات سنة 1964-1967م، ثم حققه الدكتور حسين شرف تحقيقاً علمياً نشره مجمع اللغة العربية بالقاهرة في خمسة مجلدات سنة 1404- 1415هـ = 1984-1994م. ثم صدرت فهارسه في مجلد سنة 1419هـ = 1999م.
(2)
طبع بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري ببغداد في ثلاثة أجزاء سنة 1977م، ولم تكن في المخطوطات مخطوطة كاملة، فبقي فيها نقص. ولابن قتيبة أيضاً كتاب إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد حققه الدكتور الجبوري ونشرته دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة 1983م.
والثالث) (1) والخطابي (2) . ثم مجلدة -وهي المجلدة الخامسة- من كتاب الحربي (3) ثم كتب الهروي (4) ، وأبي موسى المديني (5) ، والزمخشري (6) ، وابن الأثير (7) . ثم كتاب عبد الملك بن حبيب القرطبي (238هـ) ، وكتاب أبي عبد الله محمد بن عبد الحق المالكي (625هـ) في تفسير غريب الموطأ (8) ، وكتاب مشارق الأنوار في صحاح الآثار للقاضي
(1) صدر الكتاب في ثلاثة مجلدات بتحقيق الدكتور محمد بن عبد الله القناص عن مكتبة العبيكان بالرياض سنة 1422هـ. ولا تشتمل هذه الطبعة إلا على تحقيق 376 صفحة من نسخة الرباط البالغة 614 صفحة. ولكن الناشر لم ينبه على هذا في أول الكتاب، فيحسب القارئ أنه يحتوي على ما وجد منه كاملاً.
(2)
طبع في جامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة 1402هـ بتحقيق عبد الكريم إبراهيم عزباوي.
(3)
نشرت هذه المجلدة جامعة أم القرى بمكة المكرمة، بتحقيق الدكتور سليمان بن إبراهيم العائد سنة 1405هـ. وقد حظيت هذه النشرة بتحقيق علمي متقن، وطباعة رائقة فائقة. وليت غرائب أبي عبيد وابن قتيبة والخطابي أيضاً طبعت على غرارها!
(4)
صدر الجزء الأول بتحقيق الدكتور محمود الطناحي في القاهرة ثم صدرت طبعة كاملة في دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن سنة 1407هـ. ونشرة أخرى كاملة صدرت عن المكتبة العصرية في بيروت سنة 1419هـ بتحقيق أحمد مزيد المزيدي.
(5)
نشر كتابه المجموع المغيث بتحقيق عبد الكريم إبراهيم عزباوي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة 1406هـ.
(6)
طبع لأول مرة سنة 1906م في دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن، ثم صدر بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي عن دار إحياء الكتب العربية في القاهرة في السنوات 1945-1948م (ذخائر التراث: 551) .
(7)
طبع لأول مرة طبعة حجرية سنة 1269هـ= 1852م في طهران، ثم طبع غير مرة في القاهرة، قبل صدوره بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي في السنوات 1963-1966م (ذخائر التراث: 39) ، وقد نشر كتاب آخر لابن الأثير "منال الطالب في شرح طوال الغرائب" بتحقيق الدكتور محمود الطناحي في جامعة أم القرى سنة 1403هـ.
(8)
صدر كتابه "تفسير غريب الموطأ" وكتاب ابن عبد الحق "الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب" كلاهما بتحقيق الدكتور عبد الرحمن العثيمين سنة 1421هـ عن مكتبة العبيكان بالرياض.
عياض (544هـ)(1) ، ومجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار لمحمد طاهر الفَتَّني (986هـ)(2) .
ومن رسائل أبي بكر بن الأنباري شرح خطبة عائشة رضي الله عنها (3) .
ومن كتب غريب الحديث التي لا تزال مخطوطة:
1-
مجموع غريب الحديث لأبي منصور محمد بن عبد الجبار السمعاني (450هـ) وهو من مصادر الصغاني في كتابي العباب والتكملة (4) . وقد أشرت على أحد زملائي -وهو الدكتور عثمان نجران- بتحقيقه، ودللته على نسخته الثانية المحفوظة في المتحف البريطاني –وكانت مجهولة المؤلف- فنال بتحقيق قسم منه شهادة الدكتوراة من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1423هـ.
2-
مجمع الغرائب للحافظ أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي النيسابوري (529هـ)(5) .
3-
تقذية ما يقذي العين من هفوات كتاب الغريبين للحافظ أبي موسى المديني الإصبهاني (581هـ) صاحب كتاب المجموع المغيث (6) .
(1) كتاب مشهور طبع غير مرة.
(2)
طبع أولاً سنة 1248هـ=1832م في مطبعة نِوَلْكِشُور بمدينة لكناو (الهند) . ثم طبع عدة مرات في الهند، انظرها في كتاب معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية الباكستانية: 259-260. والطبعة التي بين يدي هي طبعة مكتبة دار الإيمان بالمدينة المنورة سنة 1415هـ.
(3)
نشره الدكتور صلاح الدين المنجد سنة 1962م في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. المجلد 3: 414-427.
(4)
التكملة والذيل والصلة 1: (المقدمة) . وبحوث وتحقيقات للميمني.
(5)
معجم المعاجم: 31.
(6)
تاريخ التراث العربي 8:. ونسبه صاحب معجم المعاجم: 41 إلى "أبي الكرم عبد السلام بن محمد بن الحسن الحجي (من القرن السادس) " مع أنه ذكر نسخة بودليانا نفسها.
4-
إيجاز الغرائب وإنجاز الرغائب لجمال الدين عبد الرزاق بن أبي جعفر البيهقي النيسابوري (القرن السادس) .
وقد كنت قرأت في مذكرات الميمني رحمه الله قوله في الكتاب المذكور: "كتاب في غرائب الألفاظ جليل جدا. مرتب كالمجمل"(1) فأغراني كلامه بالاطلاع عليه، ولكن لما وصلتني صورة من نسخته المحفوظة في مكتبة ولي الدين بتركيا وجدته كتاباً في غريب الحديث مبنياً على اختصار شديد.
5-
مقاصد أبي عبيد في معرفة غرائب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لأبي منصور المظفر بن الحسين الفارسي (القرن الخامس) .
ذكرته هنا لأنه مما فات فؤاد سزكين ذكره في الكتب الدائرة حول كتاب أبي عبيد. ومنه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأصلها كتب سنة 513هـ.
6-
مجمع الغربائب ومنبع الفوائد لأبي عبد الله محمد بن محمد بن علي الكاشغري (705هـ) . وقد حقق سنة 1409هـ في رسالة ماجستير في جامعة أم القرى (2) .
7-
جمل الغرائب لبيان الحق النيسابوري (القرن السادس) .
ولما كان هذا الكتاب الأخير قد انفرد ببعض المزايا رأيت أن أعرف به في هذه الندوة الكريمة، ولكن قبل أن أتحدث عنه يحسن أن نقف على سيرة مؤلفه.
(1) مجلة معهد المخطوطات العربية 29: 79.
(2)
دليل الرسائل العلمية: 364.