المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مآخذ على الكتاب - كتاب جمل الغرائب للنيسابوري وأهميته في علم غريب الحديث

[محمد أجمل الإصلاحي]

الفصل: ‌ مآخذ على الكتاب

رحمه الله على عاقلة القبيلة التي وجد معهم إذا لم يدع أولياء القتيل على غيرهم، وعند أبي يوسف رحمه الله على عاقلة الفريقين الذين اقتتلوا معاً" (1) .

(1) جمل الغرائب: 322.

ص: 44

(5)

‌ مآخذ على الكتاب

ظهرت لي من خلال تصفح الكتاب ثلاثة مآخذ، أحدها يرجع إلى مذهبه في العقيدة، والآخران إلى منهجه في التلخيص والتفسير.

1-

أما الأول فهو أنه حينما يفسر أحاديث الصفات يؤولها على طريقة الأشاعرة والماتريدية. ومن ذلك ما نقله عن كتاب أعلام الحديث للخطابي في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته"، قال الخطابي: قوله "لا تضامون" يروى على وجهين: أحدهما تضامون - مفتوحة التاء مشدودة الميم - وأصلها تتضامون فحذفت إحدى التاءين، أي لا يضام بعضكم بعضاً، كما يفعله الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عند ذلك ينظرون إلى جهته. فيضامّ بعضهم بعضاً، يريد أنكم ترون ربكم وكل واحد منكم وادع في مكانه لا ينازعه رؤيته أحد. والوجه الآخر: لا تضامون من الضيم، أي لا يضيم بعضكم بعضاً في رؤيته" (1) .

لخص بيان الحق كلام الخطابي هكذا: "لا تضامون في رؤيته أي لا يضام بعضكم بعضاً كما يفعله الناس في تبصر الشيء الخفي الذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عنده، فبين صلى الله عليه وسلم أنكم ترون ربكم لا رؤية الأشخاص للأشخاص، ولا في جهة، ولا من جهة واحدة بل كل واحد منكم وادع في مكانه لا

(1) أعلام الحديث 1: 430-431.

ص: 44

ينازعه في رؤيته أحد".

فنرى أن بيان الحق زاد في كلام الخطابي قوله: "لا رؤية الأشخاص للأشخاص، ولا في جهة، ولا من جهة واحدة بل

". ثم قال في آخر شرحه: "وقد تكون الرؤية بمعنى العلم، كقوله تعالى:{وأرنا مناسكنا} وكقول حطائط:

أريني جواداً مات هزلاً لعلني

أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا

وما أحق ما قال علي رضي الله عنه: "إذا حدثتم عن رسول الله فظنوا به الذي هو أتقى، والذي هو أهيا، والذي هو أهدى" وحدث الدوري عن أبي عبيد: نحن نروي هذه الأحاديث ولا نُرَيِّغ لها المعاني" (1) .

هذا، وما ذكره من احتمال أن يكون الرؤية في الحديث المذكور بمعنى العلم، فلا وجه له، وهو باطل قطعاً، ويرده سياق الحديث نفسه. ولا يصح أيضاً قوله "ولا في جهة"، فإن ذلك يفضي إلى إنكار الرؤية، لأنه لا يتصور رؤية شيء لا يكون في جهة. ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعدما يدخلون الجنة. يرونه بالأبصار عياناً كما يرى القمر ليلة البدر صحواً (2) .

وكذلك لما نقل عن أبي عبيد حديث أبي رزين العقيلي "قال يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ فقال: كان في عماء تحته هواء

(1) جمل الغرائب: 21.

(2)

انظر مجموع الفتاوى 6: 485، وحادي الأرواح: 476، صحيح البخاري (مع الفتح) 13/419 ح:7435، وقد ورد فيه:((إنكم سترون ربكم عياناً)) .

ص: 45

وفوقه هواء" فسره بقوله: "العماء: السحاب الرقيق. فأراد: أين كان عرش ربنا فحذف المضاف. قال الله تعالى: {وكان عرشه على الماء} [هود: 7]، والسحاب يقلّ الماء فكنى عنه بالماء". ثم نقل رواية "في عمى" مقصوراً وفسرها ثم قال:"وأبو عبيد رحمه الله لم يزد في الحديث على أنه لا يدري كيف ذلك العماء وما مبلغه، والله أعلم بذلك"(1) .

الذي في كتاب أبي عبيد أن العماء في كلام العرب: السحاب الأبيض، قاله الأصمعي وغيره وهو ممدود ثم أنشد بيتين وفسرهما، ثم قال: "وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عندهم ولا ندري كيف كان ذلك العماء

" (2) .

وما كان أحرى المؤلف بأن يقتفي أثر أبي عبيد فيقول بقوله (3) .

المأخذ الثاني وهو مما يتعلق بمنهجه أنه لا يميز بين ما يلخصه من مصدره وما يضيفه إليه. ولا شك أن مراجعة المصادر التي وصلت إلينا تعين على الفصل والتمييز، ولكن لا سبيل إلى ذلك في المصادر التي ضاعت، فإذا أراد أحد أن يجمع نصوص كتاب ضائع من موارد جمل الغرائب - ولو كانت مختصرة من الأصل - لم يتأت له ذلك. فلو فصل بيان الحق بين الأصل

(1) جمل الغرائب: 19.

(2)

غريب أبي عبيد 2: 227-229.

(3)

والسؤال بـ ((أين الله)) قد جاء صريحاً من قول رسول الله (كما في صحيح مسلم (1/382، ح:537) حيث قال للجارية: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال:((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله قال:، ((أعتقها فإنها مؤمنة)) ولفظ السماء المقصود به العلو، وقد شهد لها رسول الله (بالإيمان (اللجنة العلمية) .

ص: 46

والزيادة بلفظ "قلت" مثلاً لازدادت قيمة الكتاب.

2-

لاحظت في بعض المواضع أن بيان الحق لم يحسن تلخيص ما في مصدره، فأصابه شيء من الخلل. ومن ذلك ما جاء في غريب أبي عبيد في تفسير قول أبي بكر رضي الله عنه:"طوبى لمن مات في النأنأة" قال أبو عبيد بعد ذكر سند الحديث: "أما المحدثون فلا يهمزونه. قال الأصمعي: هي النأنأة - مهموزةً - ومعناها: أول الإسلام، وإنما سمي بذلك، لأنه كان قبل أن يقوى الإسلام ويكثر أهله وناصره، فهو عند الناس ضعيف. وأصل النأنأة: الضعف، ومنه قيل: رجل نأنأ، إذا كان ضعيفاً. قال امرؤ القيس يمدح رجلاً:

لعمرك ما سعد بخلة آثم

ولا نأنأٍ عند الحفاظ ولا حصر

قال أبو عبيد: "ومن ذلك قول علي رضي الله عنه لسليمان بن صرد. وكان تخلف يوم الجمل ثم أتاه بعده، فقال له علي: تنأنأت وتربعت وتراخيت فكيف رأيت الله صنع".

وبعدما ذكر سنده قال: "قوله (تنأنأت) يريد: ضعفت واسترخيت. قال الأموي عبد الله بن سعيد: يقال: نأنأت الرجل إذا نهيته عما يريد وتعففه عنه، فكأنه يعني: أني حملته على أن ضعف عما أراد وتراخى. وقال غير هؤلاء من أهل العلم: إنما سمي أول الإسلام النأنأة، لأنه كان والناس ساكنون هادئون، لم تهج بينهم فتنة، ولم تشتت كلمتهم. وهذا قد يرجع إلى المعنى الأول، يقول: لم يقو التشتت والاختلاف والفتن فهو ضعيف لذاك"(1) .

ويمكن تلخيص كلام أبي عبيد بأن نقول: "أي في أول الإسلام قبل أن يقوى ويكثر أهله وناصره. وأصل النأنأة: الضعف. وقيل إنما سمي بذلك لأن

(1) غريب أبي عبيد 4: 109-111.

ص: 47

الناس كانوا حينئذ ساكنين هادئين. وهذا قد يرجع إلى المعنى الأول، أي لم يقو التشتت والاختلاف بينهم".

فلننظر كيف لخص بيان الحق: نقل الحديث بلفظ "طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام" ثم قال: "أي أول الإسلام قبل أن يقوى الإسلام. وأصل النأنأة: الضعف، ورجل نأنأ ضعيف. وإنما قال لأول الإسلام: النأنأة لأنه كان والناس ساكنون هادئون، لم تهج بينهم الفتن، ولم تشتت كلمتهم، فكأنه لم يقو التشتت والاختلاف"(1) .

المأخذ الأول هنا: أن بيان الحق نقل الحديث بلفظ "نأنأة الإسلام" والذي ورد في كتاب أبي عبيد: "النأنأة" بدون إضافة، وكذا في كتب الغريب الأخرى (2) . ثم خلط بين قولين، وجعل تأويل القول الثاني وهو "لم يقو التشتت.." علة للقول الأول وهو "قبل أن يقوى الإسلام" مع أنهما في كلام أبي عبيد قولان مختلفان، والقول الأول موافق لمعنى الكلمة في اللغة واضح لا يحتاج إلى تأويل، أما القول الثاني فتلطف أبو عبيد لتأويله إلى معنى القول الأول، ولذلك قال:"وهذا قد يرجع إلى المعنى الأول"، فاستعمل "قد" ومن هنا قال بيان الحق:"فكأنه"، ولكن غفل بعد ذلك عن عدم ملاءمة تعليله هذا لما قال في أول الكلام "قبل أن يقوى الإسلام".

والجدير بالذكر أن الأزهري حينما نقل الحديث المذكور وكلام أبي عبيد في تفسيره لم يلتفت إلى القول الثاني. وكذلك صاحب الغريبين. وإنما أشار

(1) جمل الغرائب: 40-41.

(2)

الغريبين 6: 1797. الفائق 3: 399. التهذيب في اللغة 15: 543.

ص: 48

إليه الزمخشري بقوله: "ويجوز أن

" (1) .

مع هذه المآخذ التي ذكرناها آنفاً، لا يخفى ما لهذا الكتاب من قيمة علمية وتاريخية، من وجوه عديدة قد أبانت عنها المباحث السابقة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1) المراجع السابقة.

ص: 49