الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدوده بأوفر الصلاح. له الحكم المبين، والكيد المتين. يهلك المعتدين، وينشئ بعدهم قرناً آخرين. يخشى سطوه على المسيئين، ويرجى عفوه للمنيبين. لايني لطفه في اصطفاء الأخيار، ولا ينثني بأسه عن إرداء الفجار. يحاسب في اليسير والكثير، ويجازي بالكثير على اليسير. تعنو لعزة وجهه الوجوه، ولا يحمد غيره على المكروه. لا يعذب قبل التحذير وتقدمة النذير، ولا يعزب عن علمه عظيم ولا حقير، ولا يخلو عن فضله صغير ولا كبير. لا يفارق حمده بالنا وفكرنا، ولا يزايل شكره مقالنا وذكرنا. شاهدين بأنه بادئ الأديان وخاتمها، وفارض الأحكام وحاتمها. ورادع أهل الزيغ بعقوباته عن جهالتهم، ووازع أولي الضلال بحدوده عن ضلالتهم، وجاعل محمد سراج هذا العلم، وسيد ولد آدم، وباعثه بالقول الصادق، والوعظ الصادع، والهدي الساطع، والسيف القاطع. فجاهد في ذاته حتى لان الأبي، ودان العصي، وهان القوي، واستكان الغوي، فصلى الله عليه وعلى آله الذين ما غيروا ولا بدلوا، الذين قضوا بالحق وبه عدلوا".
(4)
منهجه في تفسير الحديث
لما ذكر بيان الحق في مقدمته موارده من غرائب الأصمعي وغيره قال: "وانتخبت من فوائدهم، واستعذبت من مواردهم، ما حقه أن يكتب بالتبر على الأحداق، لا بالحبر على الأوراق. وتصرفت في التأويلات بين الإيجاز والإعجاز".
فدل من منهجه في كتابه على أمرين: اختيار الفوائد من الموارد المذكورة. ثم اختصارها بغاية الإيجاز. ولعل قوله "بين الإيجاز والإعجاز" هو
الذي قرأه ياقوت فقال في ترجمته: "وقد ادعى الإعجاز في بعض تصانيفه"(1) . وهو يقصد كتاب جمل الغرائب هذا، فإنه لم يذكر من مؤلفاته إلا كتاب إيجاز البيان وخلق الإنسان وهذا الكتاب.
وأرى أن في قول النيسابوري "بين الإيجاز والإعجاز" تلميحاً إلى كتاب لبلديه الشهير أبي منصور الثعالبي النيسابوري (429هـ) سماه " الإعجاز والإيجاز"ويسمى أيضاً "إعجاز الإيجاز"، ولم يخرج كلامه مخرج الادعاء بأن كتابه معجز، وإنما غرضه أنه اختصر الكلام بأقصى ما يستطاع، وهذا أيضاً غير مسلم له، ولكن بعض المصنفين –غفر الله لهم- جروا على إطراء كتبهم.
على كل حال، فإن طريقته التي سار عليها في هذا الكتاب: أنه ينص أولاً على المصدر الذي ينقل منه مشيراً إليه برمزه، ثم يثبت الحديث من غير سنده، ويتبعه تفسير ما جاء فيه من الألفاظ الغريبة ملخصاً إياه من المصدر نفسه. وإليكم أنموذجاً لهذا التلخيص والاختصار:
نقل أبو عبيد حديث حكيم بن حزام أنه قال: "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخرّ إلا قائماً"، ثم ذكر سنده، ثم قال: "وقد أكثر الناس في معنى هذا الحديث، وماله عندي وجه إلا أنه أراد بقوله (لا أخرّ) أي لا أموت؛ لأنه إذا مات فقد خرّ وسقط. وقوله (إلا قائماً) يعني: إلا ثابتاً على الإسلام. وكل من ثبت على شيء وتمسك به، فهو قائم عليه. قال الله تبارك وتعالى: {ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
(1) معجم الأدباء 6: 2686.
يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] . وإنما هذا من المواظبة على الدين والقيام به. وقال الله عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران: 75] ."
ثم نقل أبو عبيد بسنده عن مجاهد تفسير "قائماً" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} قال: مواكظاً أي مداوماً. ثم قال: ومنه قيل في الكلام للخليفة: هو القائم بالأمر، وكذلك: فلان قائم بكذا وكذا، إذا كان حافظاً له متمسكاً به. وفي بعض الحديث أنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك ألا أخر إلا قائماً، فقال:" أما من قبلنا فلن تخرّ إلا قائما". أي لسنا ندعوك ولا نبايعك إلا قائماً، أي على الحق" (1) .
هذا الحديث وشرحه المستفيض اختصره بيان الحق على هذا الوجه:
"ع: حكيم بن حزام: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخرّ إلا قائماً" أي لا أموت إلا ثابتاً على الإسلام، وهو قوله تبارك وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] "(2) .
فنرى أن النيسابوري أثبت أولاً "ع" وهو رمزه لكتاب أبي عبيد، ثم ذكر اسم الصحابي صاحب الحديث، ثم أورد الحديث بعدما حذف سنده. ثم
(1) غريب الحديث لأبي عبيد 4: 92-94.
(2)
جمل الغرائب: 40.
اختصر تفسير الحديث، واكتفى بآية واحدة من الآيتين اللتين استشهد بهما أبو عبيد وحذف سائر الكلام.
وإذا كان تفسير أبي عبيد مما أنكره أبو سعيد الضرير أورد بيان الحق التفسير والتعقيب كليهما. ومن أمثلة ذلك أن أبا عبيد فسر ما جاء في نعت النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان شبح الذراعين، فقال:"يعني عبلهما، عريضهما"(1) .
نقل بيان الحق تفسير أبي عبيد وأضاف: "وأنكره أبو سعيد وقال: العبولة في أذرع النساء، وصفة الرجال أن يكون شبح الذراعين معرقاً لحمهما، وإنما هو عصب وعظام في طول كأيدي السباع"(2) .
وكذلك ينقل نقد ابن قتيبة لتفسير أبي عبيد، وردّ ابن الأنباري –إن كان له رد- على ابن قتيبة أيضاً. كما فعل في تفسير حديث:((ما سقي بعلاً أو كان عثرياً ففيه العشر)) (3) .
ولكن لا يقتصر المؤلف دائماً على تلخيص ما جاء في موارده بل كثيراً ما يزيد في الشرح. ومن ذلك ما نقله من كتاب أعلام الحديث للخطابي في تفسير حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي
(1) غريب أبي عبيد 2: 321.
(2)
جمل الغرائب: 92.
(3)
جمل الغرائب: 228.
كافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
قال الخطابي في تفسير الحديث: "قوله: "على أثر سماء" يريد على أثر مطر، وسمي المطر سماء لنزوله من السماء على مذهبهم في استعارة اسم الشيء لغيره إذا كان مجاوراً له أو بسبب منه، و"النوء": الكوكب، ولذلك سموا منازل القمر "الأنواء"، وإنما سمي النجم نوءاً، لأنه ينوء طالعاً عند مغيب رقيبه من ناحية المغرب، وكان من عادتهم في الجاهلية أن يقولوا: مطرنا بنوء كذا، فيضيفون النعمة في ذلك إلى غير الله عز وجل وينسون الشكر له على ذلك، وهو المنعم عليهم بالغيث والسقيا، فزجرهم عن هذا القول، فسماه كفراً، إذ كان ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر إذا اعتقد أن الفعل للكوكب، وهو فعل الله عز وجل لا شريك له"(1) .
أثبت النيسابوري الحديث من قوله "صلى الصبح" إلى آخره، إلا أن لفظه:"فقال: ألم تسمعوا ما قال ربكم قالوا: لا، قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح بها كافر ومؤمن، فأما من قال..".
ثم اختصر شرح الخطابي هكذا: "سمى المطر سماء لنزوله من السماء، والنجم نوءاً، لأنه ينوء طالعاً عند مغيب رقيبه من ناحية الغرب". وحذف ما قاله الخطابي: "وكان من عادتهم" إلى آخره. ثم أضاف:
"وقيل على عكس هذا، فإن النوء غيبوبة الكوكب في المغرب وطلوع رقيبه المسمى البارح في المشرق غدوة. وقال الخليل (2) : النوء اسم المطر الذي
(1) أعلام الحديث 1: 553.
(2)
لم يرد قول الخليل هذا في العين 8: 391 وفيه: "الشيء إذا مال إلى السقوط تقول ناء ينوء نوءاً بوزن ناع، وإذا نهض في تثاقل يقال ناء
…
".
يكون مع سقوط النجم؛ لأن المطر ينهض مع سقوطه. وأصل النوء: النهوض، كما جاء في حديث آخر:"مالها، خطأ الله نوءها"، أي نهوضها إلى كل شيء تنهض له وتطلبه. وتأويل الحديث ما قاله الزجاج (1) : أن العرب كانت تزعم أن ذلك المطر الذي جاء عند سقوط النجم هو فعل النجم ولا يجعلونه سقياً من الله عز وجل عند سقوط النجم، فجاء هذا النوع من التغليظ، فأما من نسب ذلك إلى الله عز وجل وجعل سقوط الكوكب وقتاً كمواقيت الليل والنهار كان ذلك حسناً. واستدل على جواز هذا أن عمر رضي الله عنه حين استسقى بعباس في المصلى نادى العباس: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد وقوعها، فوالله ما تمت السبع حتى غيث الناس" (2) .
ويصلح هذا المثال أيضاً لما جاء في هذا الكتاب من تفسير بعض الأحاديث المشكلة لما يتوهم فيها من التعارض والاختلاف. وقد جمع بيان الحق في كتاب النبوة أحاديث من هذا النوع مما يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعنوان "ومن الأحاديث التي فيها الجواب عن مطاعن ممن يلحد في النبوة لجهله ويدعي التناقض لخبث اعتقاده".
وكان النيسابوري من حفاظ دواوين الشعر، وله عناية خاصة بديوان هذيل كما يظهر من كثرة استشهاده بشعرهم. وكثيراً ما يستشهد على المعاني، وتنهال الشواهد على لسانه، ولكن شرط الاختصار يكفه. فأنشد في موضع الأبيات الآتية على أن الثياب بمعنى الأخلاق:
(1) لعله نقل من كتاب الأنواء للزجاج، وقد نقل منه نصاً في كتاب باهر البرهان 3:1391.
(2)
جمل الغرائب: 27-28.وانظر التهذيب في اللغة 15: 539.
قال أبو الأسود:
ألم تر أني والتكرمُ عادتي
…
وما المرء إلا لازمٌ ما تعودا
أُطَهِّر أثوابي عن الغدر والخنا
…
وأنحو الذي قد كان أولى وأعودا
وقال شريك بن بشر الباهلي:
لقد رُزِئت بنو سهم بن عمرو
…
بلا نكس ولا دنس الثياب
بأبيض يملأ الشِّيزى إذا ما
…
رأيت الضر في وجه الكعاب
وقال آخر:
فلا بعدي يغيّر حال ودي
…
عن العهد القديم ولا اقترابي
ولا عند الرخاء بطرت يوماً
…
ولا في فاقة دنست ثيابي
ثم قال: "وأمثال هذا كثيرة، ولولا سبق الضمان بالاختصار لسالت على كل حديث شعاب من الشعر والمعاني"(1) .
سبق في ترجمة بيان الحق أنه كان حنفي المذهب، ولكنه تجنب ذكر مذاهب الفقهاء في هذا الكتاب. فلما فسر حديث المصراة قال في آخر كلامه:"وهذا تفسير غريب هذا الحديث، وأما تأويله على مذهبنا فقد استقصيناه في كتبنا الفقهية"(2) . وقد رأيته في بعض المواضع -من القسم الذي بين يدي من نص الكتاب- ذكر مذهب الأحناف. ومنها أنه نقل من غريب القتبي تفسير الحديث: "من قتل فعميا فهو خطأ" أن يترامى القوم فيوجد بينهم قتيل لا يدرى من قتله، ويعمى أمره. ثم قال: "وديته عند أبي حنيفة
(1) جمل الغرائب: 158.وقد أنشد بيان الحق بيتي أبي الأسود ضمن شواهد أخرى في كتاب باهر البرهان 3: 1575.
(2)
جمل الغرائب: 271.