المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: في الرد على بعض الشبه المثارة حول السنة من جهة كتابتها - كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي والإذن

[ناصر بن إبراهيم العبودي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: في سياق الأحاديث الواردة في الإذن بكتابة الحديث النبوي، مع تخريجها، ودراسة أسانيدها، والحكم عليها

- ‌الحديث الأول:

- ‌ الحديث الثاني:

- ‌ الحديث الثالث:

- ‌ الحديث الرابع:

- ‌ الحديث الخامس:

- ‌ الحديث السادس:

- ‌ الحديث السابع:

- ‌ الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌المبحث الثاني: في ذكر بعض الصحف والكتب والمكاتبات التي وُجِدت في عهده صلى الله عليه وسلم

- ‌أولا: في ذكر بعض الصحف والكتب

- ‌ ثانياً: في ذكر بعض مكاتباته صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء وأمراء العرب يدعوهم إلى الإسلام في أول السنة السابعة بعد صلح الحديبية

- ‌المبحث الثالث: في إثبات تواتر الأحاديث في وقوع الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: في سياق الأحاديث الواردة في النهي عن كتابة الحديث النبوي مع تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها

- ‌ الحديث الأول:

- ‌ الحديث الثاني:

- ‌ الحديث الثالث:

- ‌ الحديث الرابع:

- ‌المبحث الخامس: في ذكر آراء العلماء واجتهاداتهم في التوفيق بين أحاديث الإذن والنهي، وتحقيق المسألة في ذلك

- ‌مدخل

- ‌ القول الأول: مذهب الجمع بين الأحاديث:

- ‌ القول الثاني: مذهب النسخ:

- ‌المبحث السادس: في الرد على بعض الشبه المثارة حول السنة من جهة كتابتها

- ‌الخاتمة:

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: في الرد على بعض الشبه المثارة حول السنة من جهة كتابتها

‌المبحث السادس: في الرد على بعض الشبه المثارة حول السنة من جهة كتابتها

من خلال ما تقدم من المباحث السابقة يتبين لنا تواتر وقوع الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم، وأنه قد كتب من حديثه صلى الله عليه وسلم في حياته شيءٌ كثير (1) ، حيث أذن لبعض الصحابة أن يكتبوا أحاديثه -بعد أن كان ينهي عن كتابتها في أول الإسلام؛ خشية اختلاطها بالقرآن– فأمر أن تكتب خطبته صلى الله عليه وسلم عام الفتح لأبي شاه، وكتب وبعث كثيراً من الكتب، وأراد أن يكتب قبيل وفاته كتاباً يكون مرجعاً للناس، لا يضلون بعده أبدا، وما إن توفي صلى الله عليه وسلم وجاور الرفيق الأعلى حتى كثر عدد من يكتب الحديث من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك التابعين من بعدهم كتبوا فأكثروا.

إلا إنه شاع في أوساط بعض المتفقهين والمثقفين مقولةٌ خطيرةٌ، سببها عدم فهم كلام أهل العلم على حقيقته، وقد تولى كبر هذه المقالة ونشرها والدعاية لها بعض المستشرقين (2) ، للكيد للإسلام والطعن في أعظم مصدرٍ من مصادره بعد القرآن، ألا وهي السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة

(1) انظر: ص 35.

(2)

يقول شاخت، وهو أحد المستشرقين غير المنصفين: إن الأحاديث الفقهية من الصعوبة بمكان أن يُعَدَّ واحد منها صحيحاً، وهي قد وضعت للتداول بين الناس من النصف الأول من القرن الثاني وما بعده. انظر للمزيد من معرفة موقف المستشرقين من تدوين الحديث: كتاب "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه" 1: 72،وكتاب "علوم الحديث ومصطلحه": 33، وكتاب "السنة قبل التدوين":375.

ص: 62

والتسليم، وملخص هذه المقالة يقول:"إن الأحاديث لم تكتب في عهده صلى الله عليه وسلم كما هو الشأن بالنسبة للقرآن، حيث لم يأمر صلى الله عليه وسلم بذلك، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى النهي والأمر بمحو ما كُتب منها، وأن الأمر استمر على ذلك في عصر الصحابة والتابعين، فظلَّت الأحاديث تنقل شفاهاً لمدة مائة عام أو أكثر، حتى جاء الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، فأمر بتدوينها، فكان أول من دوَّن الحديث ابن شهاب الزهري (ت 124هـ) ، وقد أدَّى عدم تقييد السنة هذه الفترة الطويلة إلى احتمال ضياع كثيرٍ منها، واحتمال حصول الخطأ والنسيان، أو التبديل والتغيير فيها، مما يورث عدم الاعتماد عليها والاحتجاج بها"،

والجواب عن هذه الشبهة في عدة نقاط:

* أولا: أن إنكار تقييد الحديث وكتابته في عهده صلى الله عليه وسلم لا يمكن، حيث إنه قد تعددت الأحاديث والروايات وكثرت، مما يبلغ بها درجة التواتر المفيد للعلم القطعي اليقيني في إثبات وقوع الكتابة للأحاديث في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان ينهى عن كتابتها في أول الإسلام خشية اختلاطها بالقرآن.

* ثانياً: أن الحكمة في أمره صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن دون الحديث؛ لأن المقصود بالحديث هو المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكمٌ بالمبنى، بخلاف القرآن، فإن لألفاظه مدخلاً في الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظٍ منه بلفظٍ آخر، ولو كان مرادفاً، بل لا يجوز إبدال حرف منه بحرف آخر؛ لأن الله عز وجل قد تعبدنا بتلاوة لفظه في الصلاة وغيرها، علاوةً على أن ترتيب الآيات ووضع بعضها بجانب بعض أمرٌ توقيفي منه صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل منجماً بحسب

ص: 63

الوقائع؛ ولما لم تكن السنة بهذه المثابة: لا ترتيب بين الأحاديث بعضها مع بعض، وليست بمعجزة، ولم يتعبدنا الله تعالى بتلاوة لفظها، وأجاز لنا تغييره ما دامت المحافظة على المعنى متحققة، سواءٌ أكان ذلك بنفس اللفظ الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بغيره، لأجل ذلك كله لم يأمر صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث (1) .

* ثالثاً: أنه ما إن توفي النبي صلى الله عليه وسلم حتى كثر من يكتب الحديث من الصحابة والتابعين، حيث فهموا إذنه العام لكل من يرغب في ذلك ويقدر عليه، يدل عليه أنه قبيل وفاته أراد أن يكتب للمسلمين كتاباً لا يضلون بعده أبدا، فلم ير بذلك بأساً بعد أن أمن اختلاط السنة بالقرآن (2) .

* رابعاً: أن تدوين الحديث الذي دعا إليه عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى– على رأس المائة الأولى، إنما كان المقصود به التدوين العام للأحاديث؛ ليكون هناك كتبٌ معتمدةٌ تُجمع وترتب فيها الأحاديث، ويتداولها عامة الناس، وليس هذا يعني أنّ الأحاديث لم تدوَّن من قبل، وهذا ما يرمي إليه الحافظ ابن حجر حين يقول: "إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار من تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة

" (3) ، وبدعوته هذه ينتهي الخلاف الذي وُجد عند الصدر الأول في كتابة الحديث،

(1) انظر: كتاب "توجيه النظر إلى أصول الأثر" لطاهر الجزائري 1: 45، وكتاب "بيان الشبه التي أوردها بعض من ينكر حجية السنة والرد عليها" لعبد الغني عبد الخالق:436.

(2)

انظر: كتاب: "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه" للدكتور الأعظمي 1: 92، وكتاب "بحوث في تاريخ السنة المشرفة" للدكتور أكرم العمري 294، 296، فقد ذكر الأول أمثلةً كثيرةً للصحابة وكبار التابعين ممن توفي قبل المائة أو قريباً منها، ولصغار التابعين ممن توفي بعد ذلك، ممن كتب الحديث أو كتب عنه، أو كان له صحيفةٌ أو كتاب.

(3)

انظر: "هدي الساري مقدمة فتح الباري": 6.

ص: 64

ويستقر الأمر على الإجماع على جواز كتابة الحديث، بل واستحبابه.

* خامساً: أن الكتابة ليست من لوازم الحجة، فالتدوين والحجة غير متلازمين، فإن تواتر القرآن لم يجئ بسبب كتابته، وإنما جاء بسبب حفظ وتلقي الجمع الكثير له، بعضهم من بعض، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم في جميع الأعصار إلى يومنا هذا، حتى وصل إلينا القرآن غضا طرياًكما أنزل، لا تبديل فيه ولا تغيير، ولا تزيد ولا نقص، وهكذا الأحاديث فإن فيها المتواتر –وإن كان قليلاً– الذي يقطع بثبوته وحجيته كالقرآن –مع كونها لم تكتب– وعليه فإن المعول في حجية الأخبار والاعتماد عليها هو عدالة حامليها، وضبطهم وصيانتهم لما تحمَّلوه من التبديل والتغيير، سواءٌ أكان الضبط: ضبط صدرٍ أم ضبط كتاب، فإذا تحققت العدالة وانضم إليها الضبط بنوعيه كان ذلك الغاية والنهاية في المطلوب، أما إذا انتفت العدالة فإننا حينئذٍ لا نأمن من التبديل والتحريف في الأخبار ولو كانت مكتوبةً، فهؤلاء اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل، ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة. قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، يضاف إلى ذلك أن الكتابة دون الحفظ؛ يدل عليه: أن علماء الأصول إذا تعارض عندهم روايةٌ مسموعةٌ وروايةٌ مكتوبةٌ رجحوا

ص: 65

رواية السماع؛ لبعد احتمال تطرق التصحيف والغلط عليها (1) ، وقد اختلف علماء الحديث في صحة الرواية بالمكاتبة -بعد اتفاقهم على صحة الرواية بالسماع- والصحيح جوازها، مما يدل على أنها أقل مرتبة من السماع (2) ، فتقرر تقديم الحفظ على الكتابة، ولاسيما عند العرب، تلك الأمة الأمية، التي يقلُّ فيها من يعرف الكتابة، ولذا كان جلُّ اعتمادهم في تواريخهم وأخبارهم على الحفظ، حتى قويت عندهم هذه الملكة، فكانوا مطبوعين عليها مخصوصين بها، يعِزُّ أن يقع منهم خطأٌ أو نسيانٌ لشيءٍ مما حفظوه، وإذا كان هذا حالهم في الجاهلية، ففي الإسلام أعظم (3) ، حيث اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقيَّضهم لحمل هذا الدين عنه، وتبليغه لمن بعدهم، فملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والخوف منه: أن يبلغوا شيئاً من أحكام هذا الدين على خلاف ما رأوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعوه منه، وقريبٌ منهم من اجتمع بهم وشاهد أحوالهم واقتفى آثارهم من التابعين لهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم أجمعين (4) .

(1) انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي 4: 215.

(2)

انظر: "فتح الباري"1: 154.

(3)

مما يذكر عن الصحابة والتابعين في قوة الحفظ: أنّ ابن عباس رضي الله عنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي مطلعها: أمن آل نُعمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّر في سمعةٍ واحدة، وعدتها خمسة وسبعون بيتاً، ويقول الزهري: إني لأمر بالنقيع، فأسدُّ أذني مخافة أن يدخل فيها شيءٌ من الخنا، فوالله ما دخل أذني شيءٌ قط فنسيته، ويقول الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء قط، وما حدثني أحدٌ بحديثٍ، فأحببت أن يعيده علي. انظر:"جامع بيان العلم" 1: 83، "سنن الدارمي" 1: 102، "فتح المغيث" 3:35.

(4)

انظر: كتاب "دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين" للدكتو محمد أبو شهبة: 199، 200، وكتاب "بيان الشبه التي أوردها بعض من ينكر حجية السنة والرد عليها " للدكتور عبد الغني عبد الخالق: 413 –رحمهما الله تعالى– فقد أجادا وأفادا وأطال الثاني في الرد على هذه الشبهة من جهة أن عدم الكتابة للسنة يلزم منه عدم الحجية، وما كتبته في هذه الفقرة ملخصٌ في الغالب من كلامه رحمه الله تعالى.

ص: 66