الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ثمَّ قَالَ فِي قصيدته حُسَيْن بن حسن
(وَأما عُمُوم الْكفْر للدَّار كلهَا
…
فَهَذَا من الْجَهْل الْعَظِيم المعائب)
(أَلَيْسَ كتاب الله فِي أهل مَكَّة
…
يبين هَذَا الحكم خير المطالب)
(أما قسم الرَّحْمَن أحكم حَاكم
…
أُولَئِكَ أقساما فقسم محَارب)
(وَقسم عصاة ظَالِمُونَ نُفُوسهم
…
أُولَئِكَ مأواهم سعير اللهائب)
(وَقسم ضِعَاف عاجزون فَهَؤُلَاءِ
…
عفى الله عَنْهُم مَا أَتَوا من معائب)
(أَلا فافهموا نَص الْكتاب وحققوا
…
زواجره فَهِيَ النجى فِي العواقب)
وَالْجَوَاب أَن يُقَال
قد خلط فِي هَذِه القصيدة وخبط فِيهَا خبط عشواء وَقد خَال أَنه استولى على الأمد واحتوى وَصَارَ على نصيب وافر من كَلَام أَئِمَّة الدّين وَالْفَتْوَى وَمَا علم الْمِسْكِين أَنه قد ركب الأحموقة وَنزل إِلَى الحضيض الْأَدْنَى وَعدل عَن الْمنْهَج الْمُسْتَقيم الْأَسْنَى وهام فِي مهمهة يهما
وَالْجَوَاب أَن يُقَال لهَذَا الْجَاهِل هَذَا من نمط مَا قبله من الْجَهْل والغباوة وَعدم الْمعرفَة بِالْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام لِأَن لفظ الدَّار قد يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْحَال وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْمحل فَإِن كَانَ أَرَادَ الأول فَصَحِيح وَلَا كَلَام وَإِن كَانَ أَرَادَ الثَّانِي فَغير صَحِيح فَإِن هَذَا التَّقْسِيم للساكن لَا للدَّار وَقد أجمع الْعلمَاء على أَن مَكَّة المشرفة قبل الْفَتْح دَار كفر وَحرب لَا دَار إِسْلَام وَلَو كَانَ فِيهَا القسمان الْمَذْكُورَان وَلم يقسم أحد من الْعلمَاء هَذَا التَّقْسِيم للدَّار فِي قديم الزَّمَان وَحَدِيثه بل هَذَا التَّقْسِيم للساكن فِيهَا وَلَا حكم يتَعَلَّق بِهَذَيْنِ الْقسمَيْنِ بل الحكم للأغلب من أَهلهَا إِذْ هم الغالبون القاهرون من عداهم وَمن سواهُم مستخف مستضعف مضهود مقهور لَا حكم لَهُ
وَظَاهر كَلَام هَذَا الْجَاهِل الْمركب أَن مَكَّة شرفها الله وصانها وَجعل أهل الْإِسْلَام ولاتها وسكانها قبل الْفَتْح لَيست دَار كفر لِأَن الله تَعَالَى قسم أَهلهَا ثَلَاثَة أَقسَام محَارب وعاص ظَالِم لنَفسِهِ ومستضعف عَاجز فَلَا تكون دَار كفر وَلَا تعمم الدَّار بالْكفْر بل تكون على حكم السَّاكِن على ثَلَاثَة أَقسَام وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد من الْعلمَاء فِي مَكَّة المشرفة قبل الْفَتْح بل الَّذِي اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء أَنَّهَا
بِلَاد كفر وَحرب وَلَو كَانَ فِيهَا أنَاس مُسلمُونَ مستخفون أَو ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ بِالْإِقَامَةِ فِي دَار الْكفْر غير مظهرين لدينهم كَمَا هُوَ مَعْرُوف مَشْهُور وَقد تقدم عَن شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية قدس الله روحه أَن أحد الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الَّتِي قد اشْتَمَلت عَلَيْهَا الْوُجُود هُوَ الْقسم الرَّابِع وهم الَّذين عَنى الله بقوله {وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات لم تعلموهم أَن تطؤوهم} هم من كَانَ كَافِرًا ظَاهرا مُؤمنا بَاطِنا فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يكتمون إِيمَانهم فِي قَومهمْ وَلَا يتمكنون من إِظْهَاره فهم فِي الظَّاهِر لَهُم حكم الْكفَّار وعَلى زعم هَذَا الْجَاهِل أَنه إِذا كَانَت مَكَّة المشرفة قد قسمهَا الله ثَلَاثَة أَقسَام فَلَا تكون مَعَ هَذَا التَّقْسِيم بِلَاد كفر وَحرب إِذْ ذَاك وَإِلَّا فَمَا وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا التَّقْسِيم حِينَئِذٍ وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فَحكم بلد دبي وَأبي ظَبْي حكم مَكَّة وَلَا شكّ أَن فِيهَا مُسلمين ظالمين لأَنْفُسِهِمْ ومستضعفين عاجزين وكل بلد من بِلَاد الْكفْر فِيهَا نوع من هَؤُلَاءِ يكون حكمهَا كَذَلِك عِنْد هَذَا المتنطع المتمعلم سُبْحَانَ الله مَا أعظم شَأْنه وأعز سُلْطَانه كَيفَ لعب الشَّيْطَان بعقول هَؤُلَاءِ حَتَّى قلبوا الْحَقَائِق عَلَيْهِم نَعُوذ بِاللَّه من الْفِتَن مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن
وَأما تَعْرِيف بِلَاد الْكفْر فقد ذكر الْحَنَابِلَة وَغَيرهم أَن الْبَلدة الَّتِي تجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَام الْكفْر وَلَا تظهر فِيهَا أَحْكَام الْإِسْلَام بَلْدَة كفر
وَمَا ظهر فِيهَا هَذَا وَهَذَا فقد أفتى شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية بِأَنَّهُ يُرَاعى فِيهَا الجانبان فَلَا تُعْطى حكم الْإِسْلَام من كل وَجه وَلَا حكم الْكفْر من كل وَجه كَمَا نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره وَذكر بعض الْعلمَاء أَن الحكم للأغلب عَلَيْهَا
وَأما حكم العَاصِي الظَّالِم الْقَادِر على الْهِجْرَة الَّذِي لَا يقدر على إِظْهَار دينه فَهُوَ على مَا ظهر من حَاله فَإِن كَانَ ظَاهره مَعَ أهل بَلَده فَحكمه حكمهم فِي الظَّاهِر وَإِن كَانَ مُسلما يخفي إِسْلَامه لما روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة قَالَ ابْن شهَاب حَدثنَا أنس بن مَالك أَن رجَالًا من الْأَنْصَار قَالُوا يَا رَسُول الله ائْذَنْ لنا فنترك لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه فَقَالَ لَا وَالله لَا تَذَرُون مِنْهُ درهما
وَقَالَ يُونُس بن بكير عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن رُومَان عَن عُرْوَة عَن الزُّهْرِيّ عَن جمَاعَة سماهم قَالُوا بعث قُرَيْش فِي فدى أَسْرَاهُم ففدى فِي كل قوم أسيرهم بِمَا رَضوا وَقَالَ الْعَبَّاس يَا رَسُول الله قد كنت مُسلما فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أعلم بِإِسْلَامِك فَإِن يكون كَمَا يَقُول فَإِن الله يجْزِيك بِهِ وَأما ظاهرك فقد كَانَ علينا
فافتد نَفسك وابنى أَخِيك وأخويك نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَعقيل بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب وخليفك عتبَة بن عمر وَأخي بني الْحَارِث بن فهر) قَالَ مَا ذَاك عِنْدِي يَا رَسُول الله فَقَالَ (فَأَيْنَ المَال الَّذين دَفَنته أَنْت وَأم الْفضل فَقلت لَهَا إِن أصبت فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا المَال الَّذِي دَفَنته لبني الْفضل وَعبد الله وَقثم) قَالَ وَالله يَا رَسُول الله إِنِّي لأعْلم أَنَّك رَسُول الله هَذَا لشَيْء مَا علمه غَيْرِي وَغير أم الْفضل فأحسب لي يَا رَسُول الله مَا أصبْتُم مني عشْرين أُوقِيَّة من مَال كَانَ معي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا ذَاك شَيْء أَعْطَانَا الله تَعَالَى مِنْك) ففدى نَفسه وَابْني أَخَوَيْهِ وَحَلِيفه
الحَدِيث
فاستحل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فداءه وَالْمَال الَّذِي كَانَ مَعَه لِأَن ظَاهره كَانَ مَعَ الْكفَّار بقعوده عِنْدهم وَخُرُوجه مَعَهم وَمن كَانَ مَعَ الْكفَّار فَلهُ حكمهم فِي الظَّاهِر وَمِمَّا يُوضح لَك أَن مَكَّة المشرفة قبل الْفَتْح بلد كفر وَحرب مَا قَالَه شيخ الْإِسْلَام رحمه الله فِي الْكَلَام على قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا)
وَقَالَ (لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا قوتل الْعَدو)
وَكِلَاهُمَا حق فَالْأول أَرَادَ بِهِ الْهِجْرَة الْمَعْهُودَة فِي زَمَانه وَهِي الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة من مَكَّة وَغَيرهَا من أَرض الْعَرَب فَإِن هَذِه الْهِجْرَة كَانَت مَشْرُوعَة لما كَانَت مَكَّة وَغَيرهَا دَار كفر وَحرب وَكَانَ الْإِيمَان بِالْمَدِينَةِ فَكَانَت الْهِجْرَة من دَار الْكفْر إِلَى دَار الْإِسْلَام وَاجِبَة لمن قدر عَلَيْهَا فَلَمَّا فتحت مَكَّة وَصَارَت دَار إِسْلَام وَدخلت الْعَرَب فِي الْإِسْلَام صَارَت هَذِه الأَرْض كلهَا دَار إِسْلَام فَقَالَ (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح) وَكَون الأَرْض دَار كفر وَدَار إِيمَان وَدَار فاسقين لَيست صفة لَازِمَة لَهَا بل هِيَ صفة عارضة بِحَسب سكانها وكل أَرض سكانها الْمُؤْمِنُونَ المتقون هِيَ دَار أَوْلِيَاء الله فِي ذَلِك الْوَقْت وكل أَرض سكانها الْكفَّار فَهِيَ دَار كفر فِي ذَلِك الْوَقْت وكل أَرض سكانها الْفُسَّاق فَهِيَ دَار فسق فِي ذَلِك الْوَقْت فَإِن سكنها غير من ذكرنَا وتبدلت بغيرهم فَهِيَ دَارهم وَكَذَلِكَ الْمَسْجِد إِذا تبدل بخمارة أَو صَار دَار فسق أَو دَار ظلم أَو كَنِيسَة يُشْرك فِيهَا بِاللَّه كَانَ بِحَسب سكانه وَكَذَلِكَ دَار الْخمر والفسوق وَنَحْوهَا إِذا جعلت مَسْجِدا يعبد الله فِيهَا عز وجل كَانَ
بِحَسب ذَلِك وَكَذَلِكَ الرجل الصَّالح يصير فَاسِقًا أَو الْفَاسِق يصير صَالحا أَو الْكَافِر يصير مُؤمنا أَو الْمُؤمن يصير كَافِرًا وَنَحْو ذَلِك كل بِحَسب انْتِقَال الْأَحْوَال من حَال إِلَى حَال
إِلَى أَن قَالَ
فأحوال الْبِلَاد كأحوال الْعباد فَيكون الرجل تَارَة مُسلما وَتارَة كَافِرًا وَتارَة مُؤمنا وَتارَة منافقا وَتارَة برا تقيا وَتارَة فَاسِقًا وَتارَة فَاجِرًا شقيا وَهَكَذَا المساكن بِحَسب سكانها إِلَى آخر كَلَامه
وَهَذَا مِمَّا لَا إِشْكَال فِيهِ بِحَمْد الله فَهَذَا كَلَام أهل الْعلم وَمُوجب سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حكم الدَّار وساكنها
وَالْمَقْصُود بَيَان جهل هَذَا الرجل وَشدَّة غباوته وَعدم مَعْرفَته لكَلَام الْمُحَقِّقين من أهل الْعلم وَمَعَ هَذَا الْجَهْل يَقُول أَلا فافهموا نَص الْكتاب وحققوا زواجره وَهُوَ لم يفهم نَص الْكتاب وَلم يعظم زواجره باجتناب مَا حرم الله من مُوالَاة من حاد الله وَرَسُوله وامتثال أمره فِي معاداتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم وبغضهم والبراءة مِنْهُم وَمِمَّنْ والاهم وركن إِلَيْهِم واتخذهم أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَينصب نَفسه هدفا دون من يُجَادِل عَنْهُم ويناضل وَيَقُول
(وَلَا تتبعوا أهل الْجَهَالَة إِنَّهُم
…
يصدون عَن نهج الْهدى كل رَاغِب)
(ويسعون بالإفساد فِي الأَرْض جهدهمْ
…
وَلَيْسوا على نهج من الدّين وَاجِب)
وَهُوَ قد اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله وأضل بمفهومه الْفَاسِد اتِّبَاع كل ناعق فِي تسهيله عَن مقاطعة أَعدَاء الله وَرَسُوله بِأَنَّهُم مُسلمُونَ وَأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تكفيرهم فَمن كفرهم فَإِنَّهُ يلْزم مِنْهُ تَكْفِير طوائف كثيرين من السّلف وَمن تَبِعَهُمْ وهب أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تكفيرهم وَأَجْمعُوا على تبديعهم وتفسيقهم وضلالهم فَمَا المسوغ لموالاتهم ونصرتهم والذب عَنْهُم ومعادات من عاداهم من أهل الْإِسْلَام وأبغضهم وحذر عَن مجالستهم ومجامعتهم فِي أَي كتاب وجدت ذَلِك عَن أهل الْعلم بِاللَّه وبدينه وَكتابه وشرعه وَمَعَ ذَلِك يحض على فهم نَص الْكتاب وَقد جعل حكم السَّاكِن وأقسامه للدَّار عكس مَا نَص الله فِي كِتَابه فَكَانَ هُوَ أَحَق بالجهالة وبإضلال النَّاس عَن نهج الْهدى وَالسَّعْي بالإفساد فِي الأَرْض جهده فَالله الْمُسْتَعَان
وَإِذا كَانَ يعلم أَن جهمية دبي وَأبي ظَبْي وَنَحْوهم شَرّ فرقة وَأَن الجهمي رَدِيء الْمذَاهب وَيعلم أَن من فِي هَذِه البلدتين من الْمُسلمين عصاة ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ وَيعلم أَن الْخَوَارِج من أهل الْبدع المارقين بِنَصّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُمْ كلاب النَّار وَأَنَّهُمْ دانوا بشر الْمذَاهب وَأَنَّهُمْ قد جَاءُوا بأعظم فِرْيَة فَمَا هَذَا التحامل والتجازف فِي مسَبَّة من عاداهم وأبغضهم وحذر عَن مجالستهم وَأَغْلظ فِي ذَلِك ولأي شَيْء نصب نَفسه غَرضا دونهم ويناضل أهل
الْإِسْلَام المكفرين للجهمية النافين لعلو الله على خلقه واستواءه على عَرْشه الجاحدين لصفات كَمَاله ونعوت جَلَاله الزاعمين أَنه تَعَالَى وتقدس عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِلا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلا عَنهُ وَلَا محايثا لَهُ وَأَنه لَيْسَ فَوق السَّمَاء إِلَه يعبد وَيصلى لَهُ وَيسْجد وَلَيْسَ فَوْقه إِلَّا الْعَدَم الْمَحْض وَأَنه لَيْسَ لله فِي الأَرْض كَلَام وَلَا يشار إِلَيْهِ بالأصابع إِلَى فَوق وَلَا ينزل مِنْهُ شَيْء وَلَا يصعد إِلَيْهِ شَيْء وَلَا تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ وَلَا رفع الْمَسِيح إِلَيْهِ وَلَا عرج برَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ وَلَا يتَكَلَّم بقدرته ومشيئته وَلَا ينزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر فَيَقُول (هَل من سَائل فَيعْطى سؤله هَل من دَاع فَأُجِيبَهُ هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ) إِلَى أَن ينفجر الْفجْر وَأَنه لَا يرى فِي الْآخِرَة وَلَا يقوم بِهِ فعل الْبَتَّةَ وَهل هَذَا إِلَّا الْكفْر والإلحاد الصَّرِيح ثكلتك أمك وَمن يشك فِي كفر هَؤُلَاءِ أَو كفر من يشك فِي كفرهم وَهُوَ مِمَّن يفهم وَلَا يجهل وَهل شم رَائِحَة الْإِيمَان وبالخصوص جهمية هَذَا السَّاحِل فَإِنَّهُم بَين أظهر الْمُسلمين يجادلونهم ويوضحون لَهُم الْأَدِلَّة ويبينون لَهُم مَا هم عَلَيْهِ من الضلال فقد بلغتهم الدعْوَة وَقَامَت عَلَيْهِم الْحجَّة وتوضحت لَهُم الْأَدِلَّة وانتشرت الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وَظَهَرت ظهورا لَيْسَ بعده إِلَّا المكابرة والعناد وَلَا يُنكر هَذَا إِلَّا مباهت فِي الضروريات مكابر فِي الحسيات
يَا وَيلك أتدع مناضلة هَؤُلَاءِ وَإِظْهَار معاداتهم وتزعم أَنهم مُسلمُونَ لِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تَكْفِير الْجَهْمِية وَهُوَ زعم كَاذِب وتشن الْغَارة على أهل الْإِسْلَام المكفرين لَهُم وَتظهر معاداتهم وتضع القصائد فِي هجوهم وَالْكذب عَلَيْهِم نَعُوذ بِاللَّه من رين الذُّنُوب وانتكاس الْقُلُوب فَإِذا كَانَ يعلم أَن هَذَا من مَذَاهِب الْجَهْمِية فلأي شَيْء لَا يكفرهم أَو يغار لمن شكّ فِي كفرهم بالمحامات والمجادلة دونه وتضيق الْبِلَاد بِهِ ذرعا عِنْد سَماع مسبتهم وتكفيرهم وَإِظْهَار معاداتهم والتحذير عَنْهُم وَعَن مجالسة من لَا يكفرهم ويضلل طلبة الْعلم وَيَزْعُم أَنهم افتتنوا وفتنوا ويجادل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير وَيَزْعُم أَن من كفرهم أَو كفر من شكّ فِي كفر هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية الضلال الزَّنَادِقَة الَّذين قد قَامَت عَلَيْهِم الْحجَّة أَنهم جهال متبعون لأهل الْجَهْل وَأَنَّهُمْ يضلون النَّاس عَن نهج الْهدى ويسعون فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ جهدهمْ وَلَيْسَ مَعَهم دَلِيل على هَذِه الفضائح كلهَا لِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تَكْفِير الْجَهْمِية بمفهومه الْفَاسِد وَلَيْسَ مَعَه فِي ذَلِك أثارة من علم إِلَّا قَول بعض الْعلمَاء وَقد كفرهم جُمْهُور الْعلمَاء أَو أَكْثَرهم وَهَذَا لَا يلْزم مِنْهُ أَن البَاقِينَ لَا يكفرونهم كَمَا فهمه هَذَا الرجل الْجَاهِل وَقد قَالَ شيخ الْإِسْلَام رحمه الله وَلما اسْتحلَّ طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كقدامة بن مَظْعُون وَأَصْحَابه شرب الْخمر وظنوا أَنَّهَا تُبَاح لمن عمل
صَالحا على مَا فهموه من آيَة الْمَائِدَة اتّفق عُلَمَاء الصَّحَابَة كعمر وَعلي وَغَيرهمَا إِلَى آخر كَلَامه وَقد تقدم
فَلم يذكر رحمه الله من عُلَمَاء الصَّحَابَة إِلَّا عمر وَعلي بن أبي طَالب وَقد كَانَ من الْمَعْلُوم أَن جَمِيع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من الْعلمَاء من أَئِمَّة السّلف لَا يخالفونهما فِي ذَلِك وَلم يقل أحد من الْعلمَاء أَن البَاقِينَ لَا يكفرونهم أَو استمروا على الاستحلال لأَنهم سكتوا
وَقد بَينا فِيمَا مضى فَسَاد مَفْهُومه وَأَن الْعلمَاء أَجمعُوا على كفرهم بل على كفر الأتباع الْجُهَّال المقلدين لَهُم وَبينا بطلَان إِلْزَامه وَأَنه لَو لزم فلازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب كَمَا ذكره أهل الْعلم وَبينا أَن هَذَا الْإِلْزَام من وراثة أهل الْكَلَام الْمُحدث فِي الْإِسْلَام وَبينا أَن الْخلاف فِي نوع من أَنْوَاع الْجُهَّال المقلدين لَهُم لَا فِي جَمِيعهم
وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان جهل هَذَا المتنطع وَأَنه زبزب قبل أَن يحصرم وَتكلم قبل أَن يتَعَلَّم وَمن الْعجب أَنه ذكر الْخَوَارِج وَأَنَّهُمْ من أهل الْبدع وَأَنَّهُمْ دانوا بشر الْمذَاهب وَأَنَّهُمْ جَاءُوا بأعظم فِرْيَة فَإِذا قَالَ بعض الإخوان بِكفْر أباضية أهل هَذَا الزَّمَان لأَنهم زادوا فِي الشَّرّ على مَذْهَب أوائلهم وأسلافهم وعَلى مَذْهَب الْخَوَارِج بانتحال مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَأَنَّهُمْ على اعْتِقَاد عباد الْقُبُور فِي الذّبْح لغير الله
وَدُعَاء الْأَوْلِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَنفي الشَّفَاعَة وَعَذَاب الْقَبْر وَغير ذَلِك جعل يضللهم ويجهلهم وَيَزْعُم أَنهم ساعين بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض جهدهمْ وَأَنه يلْزمهُم تَكْفِير جَمِيع الصَّحَابَة لَا سِيمَا عَليّ بن أبي طَالب لأَنهم مَا كفرُوا الْخَوَارِج كَمَا سَيَأْتِي فِي نظمه
ويل أمه مَا أجهله فَإِنَّهُ لَو لم يكن فِي الْجَهْمِية والأباضية إِلَّا أَنهم من أهل الْبدع لما سَاغَ لهَذَا الغبي مسَبَّة طلبة الْعلم وإيذائهم وَإِظْهَار عداوتهم وبغضهم كَيفَ وَقد حذر أهل الْعلم عَن مجالسة أهل الْبدع كَمَا فِي كتاب أَسد بن مُوسَى إِلَى أَسد بن الْفُرَات حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَإِيَّاك أَن يكون لَك من أهل الْبدع أَخ أَو جليس أَو صَاحب فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْأَثر من جَالس صَاحب بِدعَة نزعت مِنْهُ الْعِصْمَة ووكل إِلَى نَفسه وَمن مَشى إِلَى صَاحب بِدعَة مَشى فِي هدم الْإِسْلَام وَجَاء مَا من إِلَه يعبد من دون الله أبْغض إِلَى الله من صَاحب هوى وَقد وَقعت اللَّعْنَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الْبدع وَأَن الله لَا يقبل مِنْهُم صرفا وَلَا عدلا وَلَا فَرِيضَة وَلَا تَطَوّعا وَكلما ازدادوا اجْتِهَادًا أَو صوما وَصَلَاة ازدادوا من الله بعدا فَارْفض مجَالِسهمْ وأذلهم وأبعدهم كَمَا أبعدهم الله وأذلهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الْهدى
وَقد ذكرته بِتَمَامِهِ فِي كشف الشبهتين