المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الصلح الصلح، والإصلاح، والمصالحة: قطع المنازعة. مأخوذ من قولهم: صلح الشيء - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٠

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الصلح الصلح، والإصلاح، والمصالحة: قطع المنازعة. مأخوذ من قولهم: صلح الشيء

‌باب الصلح

الصلح، والإصلاح، والمصالحة: قطع المنازعة.

مأخوذ من قولهم: صلح الشيء - بفتح اللام وضمها - إذا كمل، وهو خلاف الفساد.

وهو في عرف الشرع: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المتخاصمين.

وهو يتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين، والمشركين.

وصلح بين الإمام والفئة الباغية.

وصلح بين الزوجين إذا وجد الشقاق، أو [إذا] وجدت من الزوج إعراضاً وخافت النشوز.

وصلح في المعاملات: وهو الذي ذكر هذا الكتاب لأجله.

ولا يقع في الغالب إلا على انحطاط رتبة إلى ما دونها لبلوغ بعض الغرض.

ويقال: صالحته مصالحة [وصلاحاً - بكسر الصاد - ذكره الجوهري [وغيره].

قال: وهو يذكر ويؤنث، وقد اصطلحا وتصالحا] واصَّالحا.

والأصل في جوازه آيات من الكتاب، منها قوله تعالى:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلى آخرها [النساء:114].

ومن السنة: ما روى أبو هريرة وعمرو بن عوف المزني [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلا صُلْحاً حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً" كذا

ص: 51

خرَّج أبو داود رواية أبي هريرة.

وأراد بالأول: أن يصالح على دراهم بأكثر منها، وبدنانير غير مؤجلة، أو بخمر أو خنزير ونحو ذلك. [وبالثاني: أن يصالح زوجته على ألا يطلقها أو لا يتزوج عليها، أو لا يتصرف في المال المصالح به ونحو ذلك].

وقد جاء لفظ الخبر أثراً عن عمر، قيل: وهو المشهور، وإن أكثر أحكام عمر كانت صلحاً.

وقد أجمع المسلمون على جواز الصلح ومشروعيته.

واختلف أصحابنا في أنه رخصة؛ لاستثنائه من [جملة] محظور، أو وهو مندوب إليه؛ لكونه أصلاً بذاته؟ على وجهين:

اختار الأول منهما [ابن] أبي هريرة، وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي؛ لأنه فرع لأصول يعتبر بها في صحته وفساده، وليس أصلاً بذاته، فصار لاعتباره بغير رخصة [مستثناة] من جملة محظور.

والثاني [قاله] أبو الطيب بن سلمة؛ لأنه أصل بذاته قد جاء الشرع به، وجرى العمل عليه. قال في "الحاوي": وقد أشار إلى القول به أبو حامد.

ولهذا الاختلاف أثران:

أحدهما: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الصُّلْحُ جَائِزٌ

" إلى آخره، هل هو مجمل أو عام؟ فمن قال بالأول قال: إنه مجمل، ومن قال بالثاني قال: إنه عام.

والأثر الثاني يأتي في الكتاب.

والذي جزم به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ: أنه ليس أصلاً بنفسه، وإنما هو فرع لغيره، وسنذكر ما هو فرع له.

قال الشيخ – رحمه الله: الصلح بيع؛ لوجود معنى البيع فيه. هكذا وجهه الشيخ، رحمه الله.

ص: 52

فإن قيل: الشيخ – رحمه الله – حصر الصلح في كونه بيعاً، وقد حكى عن الشيخ أبي حامد: أن الصلح ثلاثة أنواع – كما جزم به راوياه المحاملي والبندنيجي -: صلح هو بيع، وصلح هو إبراء، وصلح هو هبة، فكيف يحسن من الشيخ مخالفته، و"التنبيه" مختصر "تعليقه"؟!

قلت: الجواب [أن المحاملي حكى] عن الشيخ أبي حامد تصوير صلح الإبراء: بما إذا كان له عند زيد ألف وهو مقر بها، فقال: أعطني [خمسمائة وأبرأتك من خمسمائة.

وصلح الهبة: بما إذا كان له عنده عينان أو عين واحدة، فقال]: أعطني أحداهما أو بعض العين ووهبتك الباقي، وأنه جزم بالبطلان فيما إذا قال: صالحتك من الألف على خمسمائة، ومن العينين على إحداهما أو بعض العين الواحدة؛ كما حكاه ابن الصباغ هنا، وإن كان في باب خيار المجلس قد فسرهما بمثل ما قاله أبو حامد.

فلما نظر الشيخ في ذلك وجد ما قاله من تصوير صلح الإبراء والهبة حائداً عن حقيقته؛ فإنه لم يأت فيهما بلفظ الصلح؛ فإن حقيقته فيهما: أن يصالح من الألف [على] خمسمائة، ومن العينين على أحداهما، أو من العين على بعضها و [قد] جزم في هاتين الصورتين بالمنع، وأعرض عن ذكرهما؛ لتناقض الكلام فيهما، واقتصر على ذكر كونه بيعاً؛ لكون هذا الكتاب مختصراً من "تعليقه".

ثم البيع الذي فسر به الصلح يشمل بيع الدين والعين والمنفعة، وقد حكى في "المهذب" وجهين في أن الصلح بيع بالتفسير الذي ذكرناه [ليس] إلا؛ حتى لا يصح فيما عداه، أو يتنوع إلى ذلك وإلى كونه إبراء أو هبة أو عارية، حتى تصح جميع هذه العقود.

والذي جزم به القاضي أبو الطيب واختاره في "المرشد"، ورجحه ابن الصباغ [وغيره: الثاني. وحكى ابن الصباغ] أن أبا الطيب ذكر في صورة الإبراء ما يقتضي موافقة الشيخ أبي حامد في عدم الصحة، وأنه قال في موضع آخر بالصحة فيها، وأن غيره حكاه.

ص: 53

والأول – وهو ما اختاره الشيخ في هذا الكتاب – مؤيد بما حكاه الماوردي: أن الشافعي – رضي الله عنه – نص على أن الصلح من الدار على سكناها لا يصح.

ثم صورة الصلح الذي هو بيع: أن يكون له في يده عين أو في ذمته دين، فيقر له به، [ثم] يصالحه على ما يتفقان عليه من غيره، سواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة، لكنه إذا وقع على منفعة كان إجارة.

وصورة الصلح الذي هو [إبراء: أن يصالحه على أن يسقط بعض الدين ويدفع إليه الباقي.

وصورة الصلح الذي هو هبة: أن يدعي عليه عيناً، فيصالحه على بعضها، ويكون الباقي] هبة.

وصورة الصلح الذي هو عارية: أن يصالحه من الدار على سكناها شهراً – مثلاً – وله أن يرجع فيه، وسيأتي بعض هذه المسائل في الكتاب.

واعلم أن كثيراً من الطلبة يسالون عن المعنى الذي لأجله قال الشيخ في السلم: إنه صنف من البيع، وقال هنا: إن الصلح بيع، وكذلك قال في الإجارة: وقد قيل في معناه: إن السلم لما كان لا ينعقد به إلا بيع خاص وهو بيع الدَّيْن – حسن تسميته صنفاً منه، والصلح لما انعقد به بيع ما في الذمة وبيع العين، [وكذلك الإجارة لماصح ورودها على ما في الذمة وعلى العين] حسن تسميتها بيعاً.

وقد يقال: إن لفظ "الصنف" و"البيع"[إذا نطق به منكراً مترادفان؛ لأن الصنف واحد الجنس، وكذلك البيع] إذا نطق به منكراً كان واحد الجنس أيضاً؛ فلا فرق بينهما، والتغاير في اللفظ من أساليب البلاغة. ويعضده أن الإمام حكى [في هذا الكتاب] عن الشافعي أنه قال: الإجارة صنف من البيوع، والله أعلم.

ص: 54

قال: يصح ممن يصح منه البيع، ويثبت فيه ما يثبت [في البيع] من خيار المجلس، وخيار الشرط، أي: إذا لم يكن ثم ما يمنعه كما تقدم في البيع.

قال: والرد بالعيب، أي: وباقي الأحكام من التحالف، والاستتباع، وثبوت الشفعة، وغير ذلك؛ تحقيقاً لمعنى البيع.

قال: ولا يجوز الصلح على ما لا يجوز عليه البيع من المجهول وغيره، أي: مما هو مذكور في الأبواب السالفة؛ للمعنى الذي ذكرناه.

واعلم [أن الشيخ نبه بقوله: يصح ممن يصح منه البيع، على أمرين:

أحدهما: أنه [لا] يصح ممن لا يصح منه البيع.

والثاني:] أنه يصح وإن لم يتقدم بينه وبين المشتري مخاصمة؛ لأنه يصح منه البيع في هذه الحالة.

وقد حكى [عن] الشيخ أبي محمد رواية وجه في هذه الصورة: أنه لا يصح بيعاً؛ فإن الصلح من غير تقدم منازعة غير مستعمل، وجعله الرافعي أظهر، ثم قال: وهو مفروض فيما إذا لم ينوياً أو أحدهما به شيئاً، أما إذا نويا به البيع، فإنه يكون كناية بال شك، ويكون على الخلاف المشهور في انعقاد البيع بالكنايات.

ونبه بقوله: ولا يجوز الصلح على ما لا يجوز البيع عليه .. إلى آخره [على] أنه يصح على ما يصح عليه [البيع]؛ إذ لو لم يكن هذا المراد لما كان لتخصيص المذكور بالذكر فائدة، وهذا هو الصحيح، وما روي عن صاحب "التلخيص" من أنه جوَّز الصلح عن أرش الموضحة إذا علما قدره، وأنه منع صحة بيعه –فقد خالفه فيه المعظم، وإن كان الغزالي جعل المخالف له الشيخ أبا علي، وقالوا: إن كان الأرش مجهولاً كالحكومة التي لم تقدر بعد، لم يصح الصلح عنه ولا بيعه.

وإن كان معلوم القدر والصفة: كالدراهم إذا ضبطت في الحكومة، جاز الصلح عنها، وجاز بيعها ممن عليه.

وإن كان معلوم القدر دون الصفة على الحد المعتبر في السلم؛ كالإبل الواجبة في

ص: 55

الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعاً وجهان – وقال: قولان-أظهرهما فيما ذكره السرخسي: المنع.

قال: فإن صالح من دين، أي: يجوز بيعه، على عين أو دين، لم يجز أن يتفرقا من غير قبض.

هذه المسألة قدمت الكلام عليها في باب القرض؛ فليطلب منه.

وقد حكى المحاملي هنا- وهو الذي اختاره في "المرشد" – أن الأصح فيما إذا صالح على عين: انه لا يشترط القبض كما حكيناه [ثم] عن الغزالي وغيره.

قال: وإن صالح من ألف على خمسمائة، أي: بأن قال: صالحتك عن الألف الذي في ذمتك [على خمسمائة في ذمتك]، وقبضها في المجلس – لم يصح؛ لأنا [قدرنا أن الصلح بيع، هو] لو قال: بعتك الألف بخمسمائة لم يصح اتفاقاً؛ فكذلك إذا كان بلفظ الصلح، وهذا [ما حكينا] من قبل أن الشيخ أبا حامد جزم به.

قال: وقيل: يصح؛ لأن معنى ذلك: أعطني خمسمائة، وأبرأتك من خمسمائة. وهو لو صرح بذلك لصح – كما سنذكره –فكذلك إذا أتى بلفظ الصلح، وهذا ما جزم به القاضي الحسين في "التعليق"، ورجحه الإمام والرافعي وابن الصباغ، كما ذكرناه.

ص: 56

وقدح في علة الأول بأن الصلح إنما يكون بيعاً إذا ذكر فيما يقتضي معاوضة، أما أن يكون لفظه يقتضيه فليس بصحيح؛ لأن الصلح إنما معناه: الاتفاق [والتراضي، والاتفاق] قد يوجد في المعاوضة وغيرها، وهذا كما أن لفظ التمليك إذا كان فيام طريقه المعاوضة، مثل أن يقول: ملكتك هذا [بهذا، يكون بيعاً، وإذا قال: ملكتك هذا]، كان هبة؛ لما تجرد عن العوض، كذلك هذا.

وفي "الحاوي" حكاية ما جزم به أبو حامد عن أبي إسحاق المروزي، وما رجحه ابن الصباغ عن أبي الطيب بن سلمة، وأنهما بنيا ذلك على اعتقادهما أن الصلح رخصة وفرعٌ لغيرهِ، أو هو أصل بنفسه؟ فأبو إسحاق قال: هو فرع للبيع؛ [فلا يصح، و] أبو الطيب بناه على أنه أصل بنفسه؛ فيصح.

ثم على هذا: هل يفتقر إلى الإتيان بلفظ الإبراء؟ فيه وجهان في "التتمة".

فإن قلنا: إنه لا يفتقر – وهو المشهور – فهل يفتقر [إلى القبول]؟ بناه الإمام وغيره على أن الإبراء هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ والأصح: أنه لا يفتقر.

وإن قلنا بافتقاره فهاهنا كذلك، وألا فوجهان كالوجهين فيما إذا قال: وهبتك ما لي عليك من دين؛ لأن اللفظ معناه التمليك؛ فيستدعي في وضعه القبول؛ ولهذه العلة جعل الرافعي وجه الاشتراط أظهر.

أما لو قال: صالحتك من الألف الذي في ذمتك على هذه الخمسمائة، فقد ادعى بعضهم جريان الخلاف السابق في هذه الصورة – أيضاً – وهو ما صححه المتولي، وقال الإمام والقاضي الحسين في "تعليقه": الأصح فيها البطلان، ويبقى الألف بحاله؛ فإن اللفظ الذي جاء به مع التعيين صحيح في عوض المعاوضة، وبيع الألف بخمسمائة باطل، ويجري الخلاف الذي حكاه الشيخ وأصله فيما إذا أقر بعين، ثم قال: صالحتك على بعضها كما حكيناه من قبل؛

ص: 57

لأن بيع الشيء ببعضه باطل، ولكن على قول الصحة – وهو الأصح عند الإمام وابن الصباغ والرافعي – لابد من وجود [شرائط] الهبة وجهاً واحداً.

فرع: لو كان له في ذمته ألف درهم وخمسون ديناراً، فصالحه [منها] على ألف درهم – [صح، بخلاف ما لو كان له تحت يده ألف درهم وخمسون ديناراً، فصالحه منها على ألف درهم]؛ حيث لا يصح؛ لأنه من قاعدة مُدِّ عَجُوة، بخلاف الأولى؛ لأنه يجعل قابضاً للألف، معتاضاً [عن الخمسين] ديناراً ألف درهم.

وقال القاضي الحسين: لا يصح في هذه الصورة أيضاً، تنزيلاً له على معنى المعاوضة، وهو الذي تقتضيه طريقة الشيخ أبي حامد.

ويجري الخلاف فيما لو كان له عنده صاع حنطة وصاع شعير، فصالحه على صاعي حنطة أو شعير، كما صرح به القاضي الحسين في "التعليق".

قال: وإن قال: أعطني خمسمائة وأبرأتك من خمسمائة، جاز؛ لأنه أبرأه عن بعض حقه وأخذ بعضه، ولا منافاة في ذلك، وقد استدل له بما روى مسلم وأبو داود بسندهما: أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي [حَدْرَدٍ دَيْناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما] حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته؛ فخرج إليهما حتى كشف عن سجْفِ حجرته، ونادى:"يَا كَعْبُ" قال: لبيك، يا رسول الله، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ فَاقْضِهِ".

ثم هل يشترط قبض الخمسمائة الأخرى في المجلس؟

الذي يقتضيه كلام الماوردي: لا؛ فإنه قال: لو ادعى عليه ألفاً، فأقر بها، ثم

ص: 58

صالحه [منها] على خمسمائة، وأبرأه من الباقي – [كان ما صالحه] عليه من الخمسمائة مستحقًّا؛ فالصلح صحيح، والإبراء لازم، [ويرجع] على المقر ببدل ما استحق من يده.

قلت: فلو كان القبض شرطاً لما برئ في هذه الصورة؛ لأن قبض المستحق كلا قبضٍ، دليله: لو وقع مثل ذلك في الصرف ورأس مال السلم، ويعضد ذلك ما قاله المتولي في المسألة قبل هذه: أنا إذا صححنا العقد فيها لا يشترط قبض الخمسمائة في المجلس؛ لأنا لم نجعل لهذا العقد حكم المعاضة، بل جعلناه إبراء، وذلك في مسألتنا من طريق الأَوْلى، وفي "الجيلي": أن من شرط صحة الإبراء قبض الباقي في المجلس، وأنه هل يفتقر إلى القبول فيها [على قولنا: إن الإبراء لا يفتقر إلى القبول؟ فيه] وجهان.

وفي "الزيادات" لأبي عاصم العبادي: أنه إذا امتنع من أداء الخمسمائة كان في المسألة وجهان

أحدهما: يعود الدين.

والثاني: لا يعود؛ بناء على أن الإبراء هل يقتضي القبول؟ فإن قلنا: يقتضيه، فامتناعه رد للقبول حكماً؛ فلم يسقط الدين، وإن قلنا: لا يقتضي القبول، فالدين ساقط.

والحكم فيما لو كان المدعي عيناً، وأقر بها، ثم قال: أعطني نصفها ووهبتك [الباقي]، كما ذكرنا، لكن يشترط في النصف الموهوب استكمال شرائط الهبةز

فرع: لو قال: أبرأتك من الخمسمائة على أن تدفع إليَّ الخمسمائة الباقية، لم يصح؛ لأنه ترك [بعض حقه ليأخذ البعض، وليس يجوز أن يبيع] بعض حقه ببعض، كذا قال المحاملي، ثم قال: ومن أصحابنا من غلط فقال بجواز ذلك.

قال: وإن ادعى عليه مالاً، فأنكره، ثم صالح منه – [أي: من المدعي عليه] – على شيء، أي: من المدَّعَى أو غيره – لم يصح الصلح؛ لقوله – عليه السلام: "إِلَاّ

ص: 59

صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً". وهذا يحل الحرام ويحرم الحلال: لأنه [إن كان المدعي كاذباً فقد استحل من المدعي عليه ماله وهو حرام، وإن كان] صادقاً فقد حرم عليه ماله الحلال.

ولأنه أحد عوضي الصلح؛ فلم يصح عليه مع عدم ثبوت ملك مالكه عليه؛ قياساً على العوض المصالح عليه، وهذا ما ذهب إليه العراقيون، وقالوا: لو صرح بعد وقوع هذا الصلح بالإبراء عن الباقي، لمي صح.

وفي "ابن يونس" و"حلية" الشاشي حكاية وجه في صحته، وقد وافق المراوزةُ العراقيين في مسألتين، وخالفوهم في مسألتين:

فإحدى الأُولَيَيْنِ: إذا صالح على غير المدعى.

والثانية: أن يدعي عليه ألفاً في ذمته، ثم يصالحه على خمسمائة في الذمة.

فإن قيل: قد حكمتم فيما لو جرى مثل هذا الصلح مع الاعتراف بالألف: أن الصلح صحيح، ويكون بمعنى الإبراء، وأنه لا يفتقر إلى القبول على رأي؛ فينبغي على هذا الرأي أن تبرأ ذمة المدعي عليه من القدر الذي حصل عنه الإبراء، حتى لو قامت عليه بينة بعد ذلك بالألف لا يطالب إلا بخمسمائة؛ كما [لو] صرح بإبرائه من الألف الذي أنكره، وقلنا: لا يفتقر إلى القبول.

فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما – ما قاله الماوردي وغيره -: أن الإبراء في هذه الصورة مقرون بملك ما صالح به، فلما لزمه رده لعدم ملكه بطل إبراؤه؛ لعدم صفته؛ كمن باع عبداً بيعاً فاسداً، فأذن لمشتريه في عتقه، فأعتقه المشتري بإذنه – لم ينفذ.

والثاني – يؤخذ مما حكاه الجيلي من قبل -: أنَّ مِنْ شَرِطِ صحة الإبراء عن الخمسمائة في حال الاعتراف – قبضَ الخمسمائة الأخرى، وقد انتفى الشرط هنا؛ فلا جرم انتفت صحة [الإبراء عن الخمسمائة].

وإحدى الثانيتين: أن يصالح من العين على بعضها، ففي صحة الصلح على قولنا بالصحة في حال الإقرار وجهان:

أحدهما – وبه قال القفال -: نعم؛ لأن المتعاقدين متوافقان بعد العقد على أن

ص: 60

النصف مستحق المدعى، والنصف الآخر للمدعى عليه؛ لأن المدعي يزعم أنه يملك الجميع، وأنه مَلَّك النصف للمدعي عليه هبةً، والمدعى عليه يزعم مثل ذلك، والاختلاف في جهة ملك العين لا يقدح [في] الاستحقاق.

والثاني: لا؛ كما لو كان على غير المدعى، ولأن الدافع والقابض مهما اختلفا في الجهة، كان القول قول الدافع، وإذا كان كذلك فالدافع يقول: إنما بذلت النصف؛ لدفع الأذى حتى لا يرفعني إلى القاضي، ولا يقيم على بينةً.

والثانية: إذا ادعى عليه ألفاً، فصالحه على خمسمائة معينة، [فهي تبنى] على المسألة قبلها، فإن منعنا ثَمَّ، فهاهنا أولى، وألا فوجهان:

أحدهما: أن الحكم كذلك، ويقدر كأن المدعي عليه وهبه الخمسمائة بزعمه، وأن المدعي يقبضها؛ لأنها من حقه، وأنه أبرأه من الباقي.

والثاني: لا، والفرق: أن ما في الذمة ليس [ذلك] المعين، وفي الصلح عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الإنكار، وقد اتفق الناقلون على أن هذا أصح.

واعلم أن صورة الصلح على الإنكار بالاتفاق: أن يدعي عليه ديناً مبلغه ألف – مثلاً – أو عيناً، فينكر، ثم يقول: صالحتك، أو: صالحني عن دعواك الكاذبة. ولو قال: صالحني عن الألف أو العين، فالحكم كذلك عند العراقيين، وكذا عند المراوزة؛ على الأصح.

وعلى وجه: يجعل بذلك مقرًّا؛ فيكون الصلح الواقع بعده صلحاً على الإقرار.

ولو قال: بعني أو هبني أو زوجني، فهو إقرار عند المراوزة والقاضي أبي الطيب؛ كما لو قال: ملكني، وهو الذي صححه ابن الصباغ وغيره، وقال الشيخ أبو حامد: هو كما لو قال: صالحني.

ولو قال: آجرني أو أعرني، ففيه خلاف مرتب، وأولى بألا يكون إقراراً، وهو الذي جعله في "الإشراف" في مسألة الإجارة أقيس.

ولو قال: أبرئني من الدين، كان إقراراً.

ص: 61

ولو قال: أبرئني من المال، فكذلك؛ على الأصح.

وفي "الإشراف": أن ابن القاص حكى عن بعض أصحابنا: أنه ليس بإقرار؛ لأن الله – تعالى – قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69]، وموسى لم يكن آدر، وتبرئته عن عيب الأُدْرة، لم تقتض إثبات الأدرة.

قال: وإن صالح عنه – أي: عن الدعي عليه – أجنبي: فإن كان المدعي ديناً جاز الصلح، أي: بعد قول الأجنبي للمدعي: حقك ثابت؛ لأنه إن كان وكيلاً فالتوكيل في وفاء الدين جائز، وإن كان غير وكيل فقد قضى دين غيره [بغير إذنه] وذلك جائز؛ لما روي أن عليًّا وأبا قتادة – رضي الله عنهما – قَضَيَا ديناً عن الميت.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لابد مع اعتراف الأجنبي بالحق أن يقول: وقد أقر به عندي.

ثم هل للأجنبي أن يرجع على المدعي عليه بشيء؟ نظر: إن كان المدفوع من مال المدعي عليه بإذنه فلا، وإن كان من مال الأجنبي: فإن كان قد صالح بإذنه وأدى بإذنه مع شرط الرجوع فنعم، وإن صالح وأدى بغير الإذن فلا رجوع، وإن صالح بالإذن وأدى بغير الإذن فلا رجوع له.

جزم به المحاملي والقاضي أبو الطيب، وقاساه على ما إذا وكَّل وكيلاً في شراء شيء، فاشتراه ووزن الثمر، وسنذكر فيه كلاماً في باب الضمان وغيره،

ص: 62

ويتجه جريان مثله هنا، وحكى البندنيجي في الرجوع في هذه الصورة وجهين [كالوجهين] فيما إذا ضمن بالإذن وأدى [بغير الإذن، ولو صالح بالإذن وأدى] بالإذن، ولم يشترط الرجوع فالجمهور على أنه يرجع، وبه جزم ابن الصباغ وغيره، وحكى الماوردي فيه وجهين:

ثم لا فرق فيما ذكرناه [بين] أن يصالح الأجنبي بغير إذن من مال نفسه على جنس المال المدعى أو على غيره، كما صرح به المحاملي وأبو الطيب.

وحكى الإمام والقاضي الحسين فيما إذا صالح على جنس المدعي به وجهاً: أن الصلح لا يصح، كما في العين.

وقال الإمام: إنه بعيد.

وعلى الأصح: لو صالح على غير الجنس المدعى [به] هل يصح؟ فيه وجهان حكاهما هاهنا، وقال: إن الأظهر منهما الصحة، وهو ما قال في أواخر كتاب الرهن: إنه المذهب.

فعلى هذا: إذا كان في صورة ثبت له الرجوع فيها، فإن كان المصالح به أكثر من المدعي [به] لم يرجع بالقدر الزائد، وإن كان مثله رجع به، وإن كان دونه فوجهان:

أحدهما: يرجع بقيمة ما بذله.

والثاني: بقدر الدين.

فرع: لو صالح الأجنبي عن الدين لنفسه، قال الإمام وغيره: هو على الخلاف في [بيعه من] غير من هو عليه.

وحكى غيرهم فيه طريقين:

أحدهما - وبه صدر ابن الصباغ كلامه، وقال المحاملي: إنه المذهب -: أنه لا يصح؛ لأنه اشترى ما لا يقدر على قبضه.

والثاني: حكاية وجهين فيه، وهذا ما حكاه الشيخ في "المهذب" وأبو الطيب في "تعليقه"، ومقتضاه: أن يكون الأظهر منها عند الشيخ الصحة؛ كما قال: إن الأظهر صحة بيع الدين من غير من هو عليه.

ص: 63

وقد قال المحاملي: إنه ليس بشيء.

فعلى هذا: ينبغي أن يشترط في صحة العقد اعتراف المشتري بقدرته على الانتزاع، كما سنذكره في العين.

آخر: إذا صالح مع الأجنبي على عين، ثم جحد الأجنبي وحلف- هل يعود إلى من كان الدين عليه؟ قال القاضي الحسين: نعم، ويفسخ الصلح، [وعن حكاية الشيخ أبي عاصم أنه لا يعود،] كذا حكاه الرافعي في باب الحوالة.

قال: وإن كان عيناً، لم يجز حتى يقول: هو لك، وقد وكلني في مصالحتك.

هذه المسألة تنبني على أصل، وهو أن الأجنبي لو صالح بغير إذن، هل يصح؟ فيه خلاف بين الأصحاب.

فالذي ذهب إليه الإصطخري وأبو الطيب بن سلمة: أنه لا يصح.

فعلى هذا: لو أذن له في الصلح، هل يكفي أم لابد من إقرار المدعي عليه عند الوكيل بأن العين ملك المدَّعِي؟ فيه وجهان.

أصحهما في "الحاوي": الأول.

[والذي ذهب] إليه ابن سريج، وأبو علي الطبري، وأبو حامد فيما إذا صالح بغير الإذن: الصحة.

عدنا إلى مسألة الكتاب، فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وبأنه لا يحتاج مع الإذن إلى الإقرار – فيكفي الوكيل أن يقول: هو لك وقد وكلني في مصالحتك، كما قاله الشيخ.

وبه جزم القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، ووجهه بأن العبرة بإتفاق المتعاقدين على ما يجوز العقد عليه، وقد وجد ذلك.

فعلي هذا: لو لم يكن قد وكله في الباطن [لم يملك العين في الباطن]، وكانت ملكاً للأجنبي المصالح على أحد الوجهين. وإن كان قد وكله نظر: إن عين له العوض من ماله فذاك، وإن لم يعين فهو في ذمته.

ص: 64

فلو أداه الوكيل من مال نفسه فالحكم في الرجوع كما ذكرنا من قبل، لكن البندنيجي جزم في هذه الصورة فيما [إذا] أدى بغير الإذن: بأنه لا يرجع.

وإن قال له: صالح [على ذلك] بثوبك هذا، ففعل: فهل يصح؟ فيه وجهان، [وإذا صح [فهو] قرض للثوب أو هبة؟ فيه وجهان] حكينا نظيرهما من قبل.

وفي "الشامل" وغيره حكاية عن أبي إسحاق: أن الوكالة لا تجوز في الباطن مع الإنكار في الظاهر. وقد يفهم من هذا عدم صحة الوكالة والصلح، كما فهمه ابن يونس، وصرح بحكايته، وأشار إليه الشاشي، وصاحب "المرشد".

ويقال: ينبغي على هذا الرأي أن يكون الحكم ما لو لم يكن قد وكله.

وقد يفهم: أن المراد بعدم الجواز عدم الحِلِّ [لا عدم الصحة]، كما صرح به المتولي، ويعضده: أن الناقلين لهذا القول عنه جزموا بصحة ملك المنكر للعين المدعاة في الباطن إذا كان قد وكله، ولو كان المراد عدم الصحة لكان الحكم كما لو لم يكن قد وكله.

وأيضاً: فإنه كان يجيء وجه أنه لا يصح مصالحة [الأجنبي أصلاً]؛ لأنه لا بد أن يقول: وكلني، ونحن لا نصحح الوكالة، فيصير كأنه لم يقل ذلك، والطرق متفقة على صحة صلح الأجنبي، والله أعلم.

وإن قلنا: إنه لابد مع الوكالة من إقرار الموكل عند الوكيل فلابد أن يقول الوكيل: العين لك، وقد أقر بها المدعي عليه، ووكلني في مصالحتك. وهذا ما ادعى ابن يونس أن كلام الشيخ محمول عليه، وهو الذي أورده ابن الصباغ والمحاملي.

ص: 65

وإن قلنا بقول ابن سريج لم يحتج الأجنبي إلى أن يقول سوى: هو لك، ويملك المنكر العين في الباطن، وهذا ليس بصحيح عند مجموع النقلة.

وقد تنخَّل من مجموع ما ذكرناه في الذي ينطق به الأجنبي حتى يصح صلحه للمدعي عليه ثلاثة أوجه، ولا خلاف أنه لو قال الأجنبي: لم يقر عندي ولا وكلني، وأنا الآن أصالحك له أنه لا يصح [كما حكاه الإمام].

قلت: وكأن القائل بالوجه الأخير اكتفى بعدم التصريح بالثاني، وحمل الأمر عند السكوت على أن الوكالة جرت في الباطن، ثم على القول الأول والثاني يشترط ألا يصدر من المدعي عليه بعد اعتراف الأجنبي وقبل الصلح إنكار، فلو ادعى الإنكار كان عزلاً؛ فتنقطع الوكالة، صرح به الإمام، وهو منه بناء على أن إنكار الموكل الوكالة عزل، كما ستعرفه، إن شاء الله تعالى.

قال: وإن قال – أي: الأجنبي -: هو لك فصالحني عنه على أن يكون لي، أي: فإن قادر على أخذه –جاز، كبيع المغصوب ممن يقدر على انتزاعه، وحكى الإمام عن شيخه أنه كان يطلق القول بأنه لا يجوز، فإن ظاهر الشرع قاضٍ بثبوت الملك للمدعي عليه، وانتزاع ملكه المحكوم به من غير إذنه لا يصح، ثم قال: والوجه

ص: 66

أن يقال: إن كان الأجنبي كاذباً فالعقد باطل باطناً، وفي مؤاخذته في الظاهر لالتزامه الخلافُ المذكور. وإن كان صادقاً حكم بصحة العقد باطناً، ويجب القطع بالمطالبة، لكنه لا سبيل إلى الانتزاع ظاهراً.

قلت: قطعه بالمطالبة ظاهر على القول بإجبار المشتري على تسليم الثمن قبل قبض المبيع، أما إذا قلنا: لا يجبر، ففيه نظر.

واعلم أن صحة هذا الصلح مبنية على القول بعدم اشتراط تقدم المخاصمة، أما إذا قلنا: من شرط صحة العقد بلفظ الصلح تقدم المخاصمة، فهاهنا وجهان؛ من حيث إن المخاصمة صدرت في الجملة لكن من غير المصالح.

قال: فإن سَلِمَ له انبرم، أي: لزم وتم؛ كسائر البيوع إذا اتصل بها القبض، [وإن لم يسلم]، أي: لعجزه عن أخذه، رجع فيما دفع، أي:[إن اختار] فسخ العقد؛ لأن المبيع لم يَسْلَم له فسلط على الفسخ، وأخذ ما بذله؛ كما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض.

تنبيه: سين "سلم" مفتوحة ولامه مكسورة، وياء "يسلم" مفتوحة وسينها ساكنة.

قال: ويجوز أن يُشْرع الرجل جناحاً إلى طريق نافذ إذا كان عالياً لا يستضر به المارة؛ لأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك من غير إضرار؛ فأشبه المشي في الطريق والقعود في السوق، وبالقياس على جواز إشراع الميزاب؛ فإنه صح أنه – عليه السلام – نصب ميزاباً لعمه العباس بيده، وأن عمر قلعه حين نقط عليه، فلما قال له العباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه جعل عمر ظهره [سُلَّمًا] للعباس حتى أعاده موضعه. ولاتفاق أهل الأمصار على ذلك من غير إنكار، ولا خلاف أن ذلك لا يصير ملكاً [له] حتى لو انهدم كان لمن يقابله أنا يخرج جناحاً يمنعه من إعادته، ويجوز للمقابل له مع بقاء الجناح الأول أن يخرج جناحاً فوقه بحيث لا يُضِر بمن يمشي على الجناح

ص: 67

الأول، وأن يشرع جناحاً تحت الأول بحيث لا يضر بالمارة.

ثم المرجع فيما يضر وما لا يضر إلى حال الطريق:

فإن كانت القوافل والفوارس لا تمر فيه، فالمعتبر: أن يرفع الجناح بحيث يمر الماشي تحته منتصباً وعلى رأسه الحُمُولة العالية، كما قيده الماوردي.

وإن كانت القوافل والفوارس تمر فيه، فالمعتبر فيه: أن يرفعه بحيث يمر تحته العَمَّاريَّة والراكب منتصباً.

وحكى عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا وعن ابن سريج – كما حكاه الماوردي – أن المعتبر: أن يمر الراكب ورمحه منصوب؛ لأنه ربما ازدحم الفرسان فيحتاجون إلى نصب الرماح، [ومتى لم ينصبوها تأذى الناس بالرماح]، وقد اتفق الناقلون على عدم صحته، وفي إيراد بعضهم ما يوهم حكاية هذا في كل طريق من [غير] فصل.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يظلم الجناح [الطريق] أولا، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.

وقال المتولي: إن منع الضوء بالكلية منع منه، وإن لم يمنعه بالكلية فلا.

قال: ولا يجوز أن يشرع إلى درب غير نافذ إلا بإذن أهل الدرب؛ لأنه مملوك لهم، وقد قال – عليه السلام:"لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، وهذا ما جزم به الماوردي و [اختاره] القاضيان [أبو الطيب] وأبو حامد.

قال: وقيل: يجوز، أي: إذا كان له فيه باب؛ [لأن له فيه] حق السلوك [والدخول]؛ فجاز أن يشرع إليه كالشارع. وهذا ما جزم به الشيخ أبو حامد ومن تابعه، ورجحه في "الاستقصاء"، وهو الذي حكاه الغزالي عن العراقيين وضعفه.

أما إذا لم يكن له فيه باب: بأن كان ظهر داره إليه، فلا يجوز إلا بإذن أهل الدرب وجهاً واحداً، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وإليه يرشد قول الشيخ:

ص: 68

ولا يجوز أن يشرع إلى ملك غيره، ويجوز أنا يشرع بإذنهم وإن كان يضر بالمارة وجهاً واحداً، اللهم إلا أن يكون فيه مسجد؛ فإن لكافة المسلمين الاستطراق إليه؛ فيكون كالشارع. أشار إلى ذلك الرافعي.

وقد حكى المراوزة طريقاً آخر، فقالوا: للذين دورهم أسفل من الدار التي يشرع فيها الجناح المنع بلا خلاف وإن لم يضر، وهل للذين دورهم أعلى من الدار المنع؟ فيه وجهان. وهذا ينبني على أن استحقاق الاستطراق في السِّكَّة [لجميع من فيها، أم شركة كل واحد مختصة [بما بين رأس السكة] وباب داره ولا تتخطَّى عنه؟ وفيه وجهان، أظهرهما –وهو] الذي أورده ابن كج -: الثاني؛ لأن ذلك [القدر] هو محل تردده ومورده، وما عداه فحكمه فيه حكم غير أهل السكة.

واعلم أنه كما يجوز له أن يشرع الجناح إلى الشارع يجوز لمن له فيه داران متقابلتان أن يركب عليهما ساباطاً، ويجوز له أن يحفر فيه سرداباً ويبني عليه أَزَجاً يمر عليه المارة ويُحْكِمه، صرح به العراقيون وغيرهم.

قال في "بحر المذهب": وبمثل هذا أجاب الأصحاب. يعني في السرداب فيما إذا لم يكن الطريق نافذاً، وغلط من قال بخلافه.

ص: 69

قال الرافعي: وهذا اختيار منه؛ لكونه في معنى الشوارع، والظاهر بخلافه.

يعني: أنه لا يجوز إلا بإذن أهل الدرب، وهذا ما ذكره العبادي في "الزيادات"، ثم قال: وهل يشترط مع إذن أهل الدرب إذن المستأجر؟ ينظر: إن تضرر به فلا بد من إذنه، [وإلا فلا] يشترط، قاله أبو الفضل التميمي.

فرع: لو أذن صاحب الدار لإنسان في حفر سرداب "تحت داره، ثم باعها – قال العبادي: كان للمشتري أن يرجع كما [كان] للبائع".

فائدة: حكى الإمام فيما يصير به الموضع شارعاً [طريقين:

أحدهما: أن يجعل إنسان ملكه شارعاً] وسبيلاً مسبَّلاً.

والثاني: أن يحيى جماعة خِطَّة [قرية] ويتركوا مسلكاً نافذاً بين الدور والمساكن، ويفتحوا الأبواب إليه.

ثم حكى عن شيخه طريقاً ثالثاً، وهو أن يصير موضع من الموات جادَّة يطرقها الرفاق؛ فلا يجوز تغييره، وأنه كان يتردد في بُنَيَّاتِ الطرق التي يعرفها الخواص ويسلكونها، وكل موات يجوز استطراقه، ولكن لا يمنع من إحيائه وصرف الممر إليه، فليس له حكم الشوارع.

تنبيه: [قوله]: يشرع جناحاً، هو بضم الياء، أي: يخرجه، والجناح: الخارج من الخشب، مأخوذ من: جنح، [بجنح] – بفتح النون وضمها –جنوحاً:[إذا مال]، واجتنح يجتنح، واجْنَحَهُ.

الدربُ: معروف، وهو [غير] عربي.

ص: 70

وقال الجواليقي: معرب، وأصله: المضيق في الجبال.

قال: ولا يجوز أن يشرع إلى ملك غيره، أي: بغير إذنه؛ للحديث السابق، ولقوله – عليه السلام:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"، ولأنه لا يملك الانتفاع بالسُّفْل؛ فلا يملك الانتفاع بما هو تابع له وهو الهواء.

قال: فإن صالحه مالكه عن ذلك بعوض لم يجز؛ لأنه إفراد لما هو تابع لغيره بالعقد، وهو الهواء وذلك لا يجوز.

قال: وإن أراد أن يضع الجذوع على حائط جاره، أو حائط مشترك بينهما لم يجز، أي: من غير إذنه في أصح القولين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ منهُ"، وبالقياس على التصرف في سائر أمواله.

والقول الثاني – وهو القديم -: أنه يجوز [من غير إذنه، وليس له منعه]؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ"، ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضينّ والله أرمين بها بين أكتافكم. وأراد: لأرمين بهذه السنة، وألزمكم العمل بها، [وقيل: لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجار على أكتفاكم، وقصد به المبالغة]، كذا قاله القاضي الحسين في "تعليقه" والإمام. وإن ذلك كان منه حين ولي مكة أو المدينة.

ثم على هذا يشترط في الجواز شروط:

أحدها: ألا يكون مالك الجدار محتاجاً لوضع جذوعه عليه.

والثاني: أن تكون الجذوع خفيفة لا تضر بالجدار.

والثالث: ألا يتمكن الجار [من أن] يسقف مكانه إلا بالوضع عليه؛ كما إذا كان له جدار واحد وأرض، ولجاره باقي الجدر كما حكاه البندنيجي وغيره.

ص: 71

وفي "النهاية" عكس هذا، وقال: يشترط أن تكون الجوانب الثلاث من البيت لصاحب البيت، وهو محتاج إلى جانب رابع، فأما إذا كان [الكل] للغير، فلا يضع الجذوع قولاً واحداً. ثم قال: ومن أصحابنا من لم يشترط هذا الشرط الأخير.

واعتبر المحاملي والمتولي في "التتمة" مثل ما اعتبر الإمام، وحكى المتولي الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانباً واحداً أو جانبين، والجديد هو القول الأول، والقائلون به حملوا حديث أبي هريرة على الاستحباب، ومنهم من حمله على أن الجار ليس له منع صاحب الحائط من وضع أجذاعه في حائطه، وإن كان الجار يتضرر بذلك في منع ضوئه أو الإشراف عليه. قال في "الاستقصاء": وهو الحقيقة في اللغة: لأن الكناية ترجع إلى أقرب مذكور، ولا نزاع في أنه لو أراد أن يبني على رأس الحائط خصَّا خفيفاً، لم يجز، كما صرح به القاضي أبو الطيب، وكلام ابن الصباغ مشير إليه.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ هنا، مع قوله من بعد: ولا يجوز أن بفتح كوة

إلى آخره، يفهم أن محل القول القديم في وضع الجذوع فيما إذا لم يحتج إلى فتح شيء في الحائط ليدخل فيه الجذوع، وليس كذلك، بل هو جار في هذه الصورة أيضاً كما صرح به الماوردي وابن الصباغ وغيرهما، وفرقوا بينه وبين فتح الكوة – كما سذنركه – بأن رأس الجذع يسد ما يفتح لأجله ويقوى به الحائط، بخلاف الكوة.

قال: فإن صالحه عن ذلك بشيء جاز إذا كان ذلك معلوماً؛ لأنه بذل مال في مقابلة ما يقصد بالأعواض؛ فصح، كما في بيع الأعيان والمنافع، وهذا من الشيخ تفريع على الجديد، والإشارة بذلك إلى الجذوع وهي الأخشاب؛ لأنها التي يستوفي بها المعقود عليه؛ فاشترط معرفتها؛ كالصبي في الرضاع.

ثم المعرفة تارة تحصل بالمشاهدة، وتارة تحصل بالوصل، مثل: أن يذكر عددها، وطولها، وسمكها، ووزنها – على ما حكاه القاضي أبو الطيب – وموضعها من الحائط، وقدر دخولها فيه، كما قاله الماوردي.

ص: 72

ثم هذا الصلح، هل هو بيع لموضع رأس الجذوع من الحائط أو لا؟ ينظر فيه. فإن قدر الانتفاع بمدة، فلا نزاع في أنه إجارة.

وإن لم يقدر، فوجهان:

أحدهما: أنه بيع لموضع الجذوع، حتى لو انهدم الجدار ثم أعيد، عاد حقه وجهاً واحداً، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، والماوردي عن أبي حامد المرْوَرُّوذِي.

والثاني: لا، وإن صرح بلفظ البيع، وهو ما صححه الرافعي، لكن ما حكمه؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه إجارة لا غاية لها، وإنما لم يشترط تقدير المدة؛ لأن العقد الوارد على المنفعة تتبع فيه الحاجة، فإذا اقتضت الحاجة التأبيد أبد على خلاف سائر الإجارات، وألحق بالنكاح، وهذا ما اختاره ابن الصباغ، ورد على من قال بأنه بيع بأن عقد البيع تملك به الأعيان، وهاهنا لم يملك بهذا العقد شيئاً من الأعيان؛ بدليل أن الحائط لو انهدم كانت الآلات كلها لمالك الحائط دون صاحب الجذوع، ولو كان قد ملك لكانت الآلة له، ولم يقل بهذا أحد.

وأيضاً: فإن موضع الجذوع لو ملك خاصة لوقع هذا القائل فيما فر منه؛ فإن موضع الوضع يحمله بقية الحائط الذي لغيره، وتلك منفعة استحقاقها لا إلى غاية.

والثاني: أنه إجارة يعتبر فيها تقدير المدة، ولا يصح بدونها، وهذا ما حكاه الماوردي، وصححه مع حكاية الوجه الصائر إلى أنه بيع.

والثالث- وهو ما ادعى الرافعي أنه أظهر -: أن ذلك ليس بإجارة محضة، ولكن فيه شائبة إجارة:[وهو أن] المستحق به منفعته، وشائبة البيع، وهو أن الاستحقاق [فيه على التأبيد؛ فكأن الشرع نظر إلى أن الحاجة تمس إلى ثبوت الاستحقاق] المؤبد في مرافق الأملاك وحقوقها – مساسها إلى ثبوت الاستحقاق المؤبد في الأعيان.

ص: 73

وعلى قولنا: إنه إجارة، لا يفتقر إلى بيان المدة؛ فلو عقد [هذا العقد] بلفظ الإجارة، هل يصح من غير بيان المدة؟ فيه وجهان.

أما إذا قلنا بالقول القديم، فلا تجوز له المصالحة على عوض.

قال الشيخ في "المهذب" وغيره من العراقيين [والمراوزة]: لأن من وجب عليه حق لم يجز أن يعتاض عنه.

قلت: قد حكى الغزالي في باب الإجارة فيما إذا أسلمت امرأة، وليس ثم من يحسن الفاتحة إلا واحد، فجعل صداقها تعليمها الفاتحة – جاز على الأصح من الوجهين، مع أن ذلك واجب عليه؛ يتجه أن يجيء مثل ذلك هاهنا.

ويجوز للجار على هذا إذا انهدم الحائط، وأعيد بغير النقض [أن يعيد جذوعه وغيرها بالشرط المذكور، وله أيضاً إذا امتنع صاحب الحائط من إعادته] أن يعيده، ويجوز لمالك الحائط أن يصالحه عن حقه في الموضع على عوض؛ ليسقط حقه من الوضع؛ قال في "المهذب" وغيره: لأن ما جاز بيعه جاز شراؤه؛ كسائر الأموال.

قال في "البحر": وعندي لا يجوز أخذ العوض [بحال؛ لأنه أبيح له ذلك للحاجة؛ فلا يجوز له أخذ العوض]، كما لا يجوز له أخذه عن فضل الماء الذي أبيح له للحاجة.

فرع: إذا اشترى عُلْوَ بيتٍ دون سُفْله [صح] وله أن ينتفع به للسكن ونحوه، وهل له أن يبني؟ ينظر: فإن شرط ذلك في البيع، وبين طول البناء

ص: 74

وعرضه وارتفاعه، وموضعه من السطح، وآلته وكيفية البناء من التجويف وغيره، وكيفية السقف هل هو أَزَجٌ أو غيره – صح، واشترط بعض أصحابنا بيان قدر ذلك، قال مُجَلِّي: وهو بعيد.

ويقوم مقام وصف الآلة تعيينها، فلو شرط أن يبني عليه ما شاء فهو باطل، وإن شرط البناء وأطلق ففي صحة الشرط وجهان:

أحدهما: أنه يصح، ويبني [على] ما احتمله؛ لأنه قد يتقدر عند أهل الخبرة بالمعتاد المألوف.

والأصح: البطلان.

فإن تبايعا بشرط ألا يبني صح، ولا يسوغ له البناء.

وإن تبايعا ولم يتعرضا لشرط البناء صح، وهل له أن يبني؟ فيه وجهان مذكوران في "الحاوي".

ولو اشترى منه حق البناء على السطح صح بإجماع الأصحاب، خلافاً للمزني، وماذا يملكه بلك الحكم؟ فيه كما في مسألة الجذوع.

تنبيه: واحد "الجذوع": جذع، ويجمع في القلة على: أجذاع. والجار: المجاور؛ يقال: جاورته، مجاورة وجواراً – بكسر الجيم وضمها – وتجاورا واجتورا.

قال: وإن صالح رجلاً على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء، أي: بعوض، وكان ذلك معلوماً – جاز؛ لما ذكرناه. [و] لكن هذا الصلح: هل هو بيع للموضع المعين من الأرض ولمنافع السطح على الأبد أو إجارة؟ قال الأصحاب: ينظر فيه:

فإن قيد بمدة فإجارة بلا شك. وكذا إذا وقع على إجراء ماء في ساقية في أرض المصالح؛ فيشترط في صحة ذلك أن تكون المدة معلومة، والمجراة في مسألة الأرض محفورة، وقد عرفا طولها وعرضها وعمقها، وفي مسألة السطح تعين المدة أيضاً، وأن يعرفا طول السطح الذي يجري عليه الماء وعرضه وقوته وضعفه؛ لأنه قد يحمل قليل الماء دون كثيره، وأن يعرفا قدر السطح المجاور له

ص: 75

الذي يجري منه الماء إليه؛ فإن المسألة مفروضة – كما بينه الأئمة – فيما إذا صالحه؛ ليجري ماء المطر الذي يجتمع على سطحه من على السطح المصالح عليه، وقدر الماء لا يمكن ضبطه؛ فإنه يزيد بكبر الموضع الذي يقع فيه، ويقل بصغره، ويعتبر مع ذلك بيان الموضع الذي ينزل منه الماء من أحد السطحين إلى الآخر.

وإن أطلق العقد ولم يقيد بمدة، وكان اللفظ: صالحتك على مسيل ماء في أرضك، أو على إجراء ماء سطحي على سطحك – فظاهر كلام المحاملي وغيره يقتضي أنه بيع في السطح؛ كما صرحوا بأنه بيع في الأرض، حتى قالوا فيها: لا يشترط فيها مع بيان الطول والعرض بيان العمق؛ لأن من ملك أرضاً ملك الانتفاع بها إلى القرار.

وحكى الرافعي وجهاً في اشتراطه؛ بناء على أنه لا يملك به إلا حق الإجراء، وحكاه في "التهذيب" أيضاً.

وما قلنا: إنه ظاهر كلام المحالين هو مقتضى قول أبَويْ حامد في مسألة الجذوع، [وقد جزم ابن الصباغ في [مسألة السطح] بأنه إجارة غير محتاجة [إلى بيان مدة، بخلاف سائر الإجارات؛ كما صار إليه في مسألة الجذوع]، ووافقه المتولي، وفرق بين هذا وبين سائر الإجارات: بان هذا العقد لا يتضمن تفويت منافع السطح عليه؛ لأنه يرتفق به بعد هذه المصالحة مثل ما كان يرتفق به قبلها، بخلاف سائر الإجارات؛ فإنها تمنع المالك من الانتفاع بملكه؛ فكان عقدها مؤبداً تفويتاً للملك في التحقيق، وقد تحتمل الجهالة في العقد إذا كان لا يتضمن ضرراً، ولا تحتمل إذا تضمنه، ودليله صحة ضمان الدرك، وعدم جواز [أخذ] الرهن به.

وفي "الحاوي" حكاية وجه في مسألة الأرض: أنه إجارة، كالوجه الذي حكيناه أنه صححه في مسألة الجذوع؛ فيكون على هذا العقد باطلاً؛ لعدم ذكر المدة، وقد صرح بذلك.

ص: 76

وقد يقال: إنه يجري في مسألة [السطح من طريق الأوْلى، وقد يفرق بينهما بما أبداه المتولي، وهو] الظاهر.

ولو أتى بدل لفظ الصلح بلفظ البيع، وقال: بعتك حق مسيل الماء – كما صوره القفال – فهو كبيع حق البناء، ويجيء في حقيقة العقد ما مر؛ كذا قاله الرافعي.

أما إذا كان الصلح عن ذلك بغير عوض، فهو إعارة.

قال في "التهذيب": ولا يحتاج في مسألة الأرض إلى بيان؛ لأنه إذا شاء رجع، والأرض تحمل ما يحمل، بخلاف السطح.

ويقرب منه في الحكاية – وإن كان الفقه مبايناً ما قاله الماوردي [فيه إذا قلنا بأن الجار لا يجبر على وضع الجذوع على حائطه، فأذن له في وضعها من غير عوض] – أنه يعتبر في ذلك معرفة عدد الأجذاع دون العلم بطولها وموضع تركيبها، [قال]: لأن الجهل بمنافع العارية لا يمنع من صحتها.

واعلم أنا حيث صححنا عقد الصلح على إجراء الماء، فليس للمصالح دخول الأرض التي فيها المجراة بغير إذن مالكها، إلا أن يريد تنقية الساقية وهي المجارة، وعليه أن يخرج من أرضه ما يخرجه منها، وليس له في مسألة السطح [إلقاء الثلوج] على السطح، [ولا أن يترك الثلج على سطحه حتى يذوب فيسيل إليه، ولا أن يجري فيه ما غسل به ثيابه وآنيته، بل لا يجوز أن يصالح على ترك الثلوج] على السطح أو إجراء الغُسَالات عليه على مال؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى مثلهن وألحق المتولي بذلك المصالحة على جري ماء الثلج، ووجه المتولي ذلك في مسألة الثلج بأن الثلج يذوب قليلاً قليلاً وماؤه يبقى على السطح، بخلاف ماء المطر.

وتجوز المصالحة على إلقاء الثلج في داره، وكذا على قضاء الحاجة في حُشِّ الغير على مال، وكذلك عن جمع الزِّبْل والقمامة في ملكه، وهي إجارة

ص: 77

يراعى فيها شرائطها، وكذلك المصالحة على البيتوتة على سطح الجار. ثم لو باع مستحق البيتوتة منزله، فليس للمشتري أن يبيت عليه، بخلاف ما لو باع مستحق إجراء الماء على سطح الغير مدة بقاء داره؛ فإن المشتري يستحق الإجراء بقية المدة؛ لأن إجراء الماء من مرافق الدار دون البيتوتة.

فروع:

[الأول]: لو قال: صالحتك عن إجراء ماء المطر على سطح دارك كل سنة بكذا، قال المتولي: يجوز؛ لأنه لما جاز العقد مطلقاً بعوض واحد جاز بعوض مقسط على السنين، وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة، ويحتمل هذا القدر من الغرر في الأجرة؛ كما احتملناه في المعقود عليه، ويصير كالخراج المضروب على الأرض.

[الثاني:] إذا صالحه عن إجراء الماء على سطحه على مال، فليس للمصالح أن يمنع صاحب السطح من تعلية داره.

نعم، إذا وقع المطر فله أن ينقب الحائط المبني قدر ما يجري فيه الماء إلى ملكه؛ لأن ذلك حاجز يمنعه من استيفاء حقه؛ فصار كما لو استأجر منه داراً، ثم سد الباب، فله فتحه.

[الثالث:] إذا استهدم السطح من إجراء الماء، لم يجب على المستحق عمارته؛ فإن العمارة تتعلق بالأعيان، وليست مستحقة [له].

وفي "الجيلي" إشارة إلى حكاية وجه في وجوب العمارة عليه إذا استهدم بسبب الماء.

واعلم أن الشيخ نبه بجواز الصلح على إجراء الماء على الأرض والسطح، [على عدم إجبار صاحب الأرض والسطح على] التمكين من ذلك؛ فإنه لو وجب لما جازت المصالحة عليه، كما ذكرناه من قبل.

وقد حكى الرافعي عن البندنيجي وغيره رواية قول عن القديم: أنه يجبر.

ص: 78

قال: ولا يجوز أن يفتح كوة في حائط جاره، ولا في حائط مشترك [بينهما] إلا بإذنه؛ للخبر، والمعنى الذي قدمناه في الجذوع، ولو أذن له في ذلك، ثم أراد الشريك أن يسدها لم يكن له إلا بإذن شريكه، ولو صالح الجار جاره على فتح كوة في حائطه لم يجز؛ لأنه صلح على الهواء والضوء.

ويجوز للجار أن يبني حائطاً في ملكه [وإن سدت كوة جاره ومنعت الضوء؛ لأنه متصرف في ملكه]، قاله الماوردي.

وحكم دقِّ وَيْد في الحائط، وتتريب الكتاب بترابه حكم فتح الكوة.

ولا خلاف في جواز الاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بجداره، وكذلك في جواز الاستناد إليه بحيث لا يضر به؛ فلو منعه من الاستناد فهل يمنع منه؟ فيه تردد؛ لأنه عناد محض، كذا صور الإمام المسألة، وعليه يحمل ما في "الوسيط".

تنبيه: الكوة - بفتح الكاف [وتشديد الواو -: فتح في الحائط، وغالبُ ما يشق لأجل الضوء، وجمعها: كواء، بكسر الكاف] والمد؛ كقَصْعَةٍ وقِصَاع، ويجوز: كِوَى - بالقصر - كبَدْرة وبِدَر.

وحكى الجوهري وغيره لغة غريبة في المفرد: كوة - بضم الكاف - وجمعها: كوّى؛ كرُكْبة ورُكَب.

قال: وإن حصلت أغصان شجرة في هواء [دار] غيره، فطولب بإزالتها - لزمه ذلك؛ لأن الهواء تابع للقرار؛ فكما يلزم تفريغ القرار إذا شغله ملكه؛ فكذلك الهواء التابع له.

قال: إن امتنع كان لصاحب الدار قطعها، أي: قطع الأغصان من حد داره، ولا شيء عليه إذا كانت إزالتها لا تمكن إلا بالقطع؛ لأنه تعين طريقا ًفي دفع الضرر، أما إذا أمكنت الإزالة بالثني لرطوبتها فلا يجوز قطعها، وتثني. ولا يفتقر في القطع إلى إذن الحاكم على الأصح؛ كما لا يفتقر في إخراج بهيمة دخلت داره إلى إذنه، وفي وجه ضعيف.

ص: 79

فعلى الأول: لو قطعها من غير مطالبة مالكها بالقطع، قال الماوردي: إن كانت يابسة لا تثني جاز، [ولم يضمن]، وإن كانت رطبة ضمن ما نقص من قيمة الشجرة بقطع الغصن منها.

وحيث يجوز القطع، فتولاه صاحب الدار – لم يرجع على مالك الأغصان بأجرة القطع، إلا أن يحكم الحاكم بالتفريغ، قاله في "الإيضاح".

قال: فإن صالحه عنها بعوض لم يجز؛ لأنه إفراد للهواء بالعقد. نعم، لو كانت الأغصان مستندة إلى الجدار، وأراد المصالحة على ذلك نظر: إن كانت يابسة جاز، وكان كمسألة الجذوع، صرح به المتولي. وإن كانت رطبة فوجهان:

أحدهما –وهو قول [أكثر] البصريين -: أنه يجوز، وما ينمو يكون تبعاً.

والثاني – وهو قول ابن أبي هريرة وجمهور البغداديين -: لا؛ لأنه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وضرره، وانتشار عروق الأشجار في الأرض كانتشار الأغصان، وكذلك ميل الجدار إلى الهواء، قاله الإصطخري.

ولو كان ميل الجدار إلى دار صاحبه، وكان الجار خائفاً من انهدامه على نفسه أو ماله لم يلزمه هدمه؛ لأنه لم يفوت عليه في الحال حقًّا، ولا أتلف عليه ملكاً، وانهدامه في الثاني مضمون، قاله الماوردي.

تننبيه: قوله: في هواء دار غيره، بالمد، وهو ما بين السماء والأرض، وجمعه: أهوية؛ كغطاء وأغطية.

قال أهل اللغة: وكل خال هواء.

وأما هوى النفس؛ فمقصور يكتب بالياء. وجمعه: أهواء.

فرع: إذا غرس الرجل غراساً في أرضه، وكان يعلم أن الغراس إذا كبر وطال انتشرت أغصانه إلى دار الجار – لم يكن للجار أن يأخذ بقطعه في الحال. وهكذا لو أراد حفر بئر في أرضه، وكانت نداوة البئر [تصل إلى حائط الجار] لم يكن للجار أن يمنعه من حفرها؛ لأنه متصرف في ملكه؛ كما لا يمنعه من وقود النار في أَتُون حمَّامِ أنشأها بين الدور وإن تأذوا بالدخان.

قال: وإن كان له دار في درب غير نافذ، وبابها في آخر الدرب، فأراد أن

ص: 80

يقدمه إلى وسط الدرب أو أوله – جاز؛ لان في ذلك تركاً لبعض حقه، ولا فرق في ذلك بين أن يسد الأول أو يتركه مفتوحاً، صرح به الماوردي، ولم يحك سواه.

وقال الرافعي: محل الاتفاق إذا سد الأول، أما إذا لم يسده فعلى ما سنذكره في المسألة بعدها؛ لأن الباب الثاني إذا انضم إلى الأول أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدواب في السكة؛ فيتضررون به.

قال: وإن كان بابها في أول الدرب، فأراد أن يؤخره إلى وسطه أو آخره، أي: بغير إذن – لم يجز؛ لأنه يريد أن يجعل لنفسه استطراقاً لم يكن.

وقيل: يجوز.

ومأخذ هذا الخلاف ما أشرنا إليه من قبل، والصحيح ما ذكره الشيخ.

ثم المعتبر إذنه ومنعه [هو] من كانت داره فوق الباب الأول بلا خلاف، وهل لمن داره بني الباب الأول ورأس السكة ذلك؟ فيه وجهان؛ بناء على كيفية الشركة كما مر.

وفي "النهاية" طرق أخرى جازمة بأنه لا منع لهم؛ لأن الفاتح لا يتميز عليهم، وتحويل الميازب من موضع إلى موضع كفتح باب وسد باب.

فرع: لو كان له داران تنفذ أحداهما إلى [الشارع، وباب الأخرى إلى درب غير نافذ، فأراد فتح باب من أحداهما] إلى الأخرى –هل لأهل الدرب المنع؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا. ولو كان باب كل دار منهما إلى درب غير نافذ، جرى الخلاف في جواز المنع لكل [واحد] من أهل الدربين، ومحل هذا إذا كان الفتح لغرض الاستطراق، أما إذا كان لغرض الاتساع فلا منع.

ص: 81

قال: وإن كان ظهر داره إلى درب غير نافذ، فأراد أن يفتح باباً إلى الدرب للاستطراق – لم يجز؛ لما فيه من إحداث حق لم يكن له في ملك غيره بغير إذنه، وجلب ضرر لم ينك: إما بمرورهم عليه، أو بمروره عليهم؛ فلو أذنوا له في ذلك جاز، وكانت إعارة حتى يجوز لهم الرجوع فيها متى شاءوا، ولا يجب له عليهم أرش بسبب فتح الباب وسده.

قال: وإن فتح لغير الاستطراق، [أي]: بأن قال أركب عليه باباً وأسمِّره، فقد قيل: يجوز؛ لأنه لو رفع جميع الحائط لم يمنع؛ فكذلك إذا [أراد] رفع بعضه، وهذا ما صححه أبو القاسم الكرخي، قال: وقيل: لا يجوز؛ لأن الباب يشعر بثبوت حق الاستطراق؛ فعساه يستدل به على الاستحقاق، وهذا ما صححه الشاشي في "حلبته".

ولا خلاف في جواز فتح الكوة والشباك للضوء.

قال: فإن صالحه أهل الدرب بعوض – جاز؛ لأن الحق فيه لهم؛ فجازت لهم المصالحة عليه، وهل ذلك بيع أو إجارة؟ حكمه حكم إجراء الماء في أرضه.

وهذا إذا لم يكن فيه مسجد، أما إذا كان فيه مسجد فإن للمسلمين فيه حقًّا؛ فلا تجوز المصالحة عليه، ويبقى النظر في أنه هل يجوز من غير إذن؟

فرع: لو اجتمع أهل الدرب على سد بابه، فجواب المعظم: أنهم لا يمنعون.

[وقال أبو الحسن العبادي: يحتمل أن يقال: يمنعون]؛ لأن أهل الشوارع يفزعون إليه إذا عرضت زحمة، ولا شك أنه لو امتنع بعضهم لم يكن للباقين السد، ولو سدوه متفقين لم ينك لبعضهم فتحه، ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة [بينهم جاز، ولو أراد أهل رأس السكة قسمة الرأس بينهم – منعوا، ولو أراد أهل الأسفل قسمته وجهان؛ بناء على أن أهل رأس السكة] هل يشاركونهم في الأسفل؟

ص: 82

وكذا لو لم يكن في الأسفل إلا دار واحدة، [فأراد صاحبها] أن يقدم بابها إلى وسط الدرب، ويجعل ذلك دهليزاً، حكاه في "الحلية"، والذي اختاره في "المرشد" في هذه: المنع.

فرع: هل يجوز غرس شجرة وتصب دَكَّة في الشارع؟ فيه وجهان، المذكور منهما في طريقة العراقيين: المنع. ولا فرق بين أن يفعل ذلك بفناء داره أو لا، صرح به في "الوسيط".

ومحل الجواز إذا لم يضر بالمارة.

ويجوز أن يعجن الطين في الطريق؛ إذا لم يمنع المرور فيه، قاله العبادي.

قال: وإن كان بينهما حائط واقع، أو لأحدهما العُلْو وللآخر السُّفْلن فوقع السقف، أي: وهو مشترك بينهما، فدعا أحدهما صاحبه إلى البناء، أي: في الأولى، وإعادة السف في الثانية، وامتنع الآخر – ففيه قولان:

أصحهما: أنه لا يجبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"، فلم يجبر على إنفاق ماله بغير طيب نفس منه، ولأنه لا يجبر على عمارة ملكه وإن تضرر به الغير؛ كما إذا كان خربه بعذر فيها، ولا على عمارة ملكه في حال الانفراد؛ فوجب ألا يجبر على ذلك في حال الاشتراك؛ كالزرع والغراس إذا أشرف على الجفاف طرداً، ونفقة البهائم عكساً.

والقول الثاني- وهو القديم عند الجمهور [لا غير]، والقديم وأحد قولي الجديد عند المزني وابن أبي هريرة على ما رواه الماوردي -: أنه يجبر، وهو الذي صححه ابن الصباغ، واختاره في "المرشد"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار"، فلما نفى لحوق الإضرار دل على وجوب الإجبار، ولأنه لما استحق الشفعة؛ لزوال الضرر بها، ووجبت القسمة إذا دعا إليها أحد الشريكين؛ لينتفي الإضرار – كان وجوب المنافاة مع ما فيها من تضاعيف الضرر أولى.

ص: 83

والقائلون بالأول أجابوا عن الحديث: بأن استعماله في نفي الضرر عن الطالب ليس بأولى [من استعماله في نفي الضرر] عن المطلوب.

وعن الشفعة: بأنه لا ضرر على المأخوذ منه؛ لأنه يأخذ ما بذله.

وعن القسمة: بأنها [ليست] غرماً والعمارة غرم.

ويجري القولان فيما إذا كان العُلْو لأحدهما والسُّفْل للآخر، ووقع الجدار، فدعا صاحب العلو صاحب السفل إلى عمارة السفل، ولا خلاف أن صاحب السفل لا يطالب صاحب العلو بالعمارة.

ويجري أيضاً فيما لو كان بينهما نهر أو بئر فارتدم، أو ساقية فتشعثت، وفيما إذا لم يكن بين سطحيهما سترة، فطلب أحدهما إيجادها، كما حكاه الرافعي [وكذا المتولي في باب إحياء الموات؛ لأنه ثم ذكر هذه المسألة [فروعها] وكثيراً من مسائل الصلح].

التفريع:

إذا قلنا بالقديم نظر في الممتنع:

فإن كان موسراً، أجبر في الحال، فإن امتنع وله مال أنفق الحاكم منه ما يخصه، فإن كان التداعي في حائط مشترك بينهما نصفين، أو في سقف فهي عليهما كذلك.

وإن كان السفل لواحد والعلو لآخر، كان على صاحب السفل عمارة سفله لا غير.

وإن كان في بئر أو نهر، قال الماوردي: فكيفية التقسيط عند الشافعي والجمهور على قدر أملاكهم، إلا أن منهم من قسطها على [قدر] مساحات الأرضين وقدر جريانها؛ لأن الماء الجاري فيها يسيح عليها على قدر مساحتها وجريانها.

ص: 84

ومنهم من قسطها على قدر مساحة وجه الأرض التي على النهر، وهو أشبه بمذهب الشافعي وقول أصحابه؛ لأن مؤنة الحفر تزيد بطول مسافة الوجه الذي على النهر، وتقل بقصره؛ فوجب أن يكون معتبراً به.

وإن كان الممتنع معسراً، كان للحاكم أن يستقرض [عليه، وله أن يقول للطالب: أنت مخير بين أن تعمر الجميع بمالك]، وترجع عليه عند اليسار بحصته، أو تكف؛ على ما حكاه الماوردي. فإن عمر بالإذن، وأشهد فلا شك في رجوعه عليه، وإن عمر بغير إذن الحاكم، ففي الرجوع ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على إذن الحاكم فلم يستأذنه، فلا رجوع، وإن لم يقدر على إذنه رجع، وادعى الإمام: أن هذا أعدل الوجوه.

وفي "الحاوي": أن الذي عليه الجمهور القول بعدم الرجوع مطلقاً؛ كما لو كان الممتنع موسراً، ومقابله منسوب إلى أبي حامد المَرْوَرُّوذِي، وقال تفريعاً عليه: إن له منع الشريك من التصرف فيما بناه إلى توفية ما بذله عنه، ويصير كالمرهون تحت يده.

وفي "الرافعي": أن المزني أشار إلى قولين في المسألة؛ وللأصحاب فيها طرق:

أظهرها- وبه قال ابن خيران وابن الوكيل -: القطع بعدم الرجوع [، والقائلون به حملوا قول الرجوع] على ما إذا كان بالإذن.

والثاني: أن القول بعدم الرجوع محمول على الجديد، والقول بالرجوع تفرعي على القديم الذي عليه نفرع، وبه قال ابن القطان.

والثالث: أنا إن قلنا بالقديم رجع لا محالة، وإن قلنا بالجديد فقولان.

قال: فإن أراد أحدهما أن يبني، لم يمنع على القولين معاً؛ لأنه يزول بذلك الضرر عن الطالب من غر ضرر يلحق الممتنع.

قال: فإن بناه بآلة له، فهو ملك له ينفرد به، أي: بالارتفاق به؛ لأنه عين

ص: 85

ماله، وليس [للممتنع الانتفاع به بدق وتد ولا فتح كوة، وليس] للثاني منع صاحب السفل من الاستظلال به والجلوس والقرار فيه، وكذا من الاستناد على رأي.

وفي "الحاوي": الجزم بمنع الاستناد.

وعن صاحب "التقريب" رواية وجه: أن له المنع أيضاً من السكون والاستظلال به.

قال الإمام: وهو غريب غير معتد به.

والثاني: نقض ما بناه، فإن بذل له الشريك في الجدار قدر ما يخصه منه لم يمتنع عليه النقض على الجديد، ويمتنع على القديم؛ لأنا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة، كذا قاله الأصحاب، وفيه نظر؛ من حيث إن في ذلك إجباراً على تمليك نصف آلته الخاصة به، وهو لا يجبر على ذلك ابتداء، وكذا الخلاف يجري فيما لو بذل صاحب السفل لصاحب العلو قيمة ما بناه في السفل، كما حكاه القاضي الحسين [والماوردي تفريعاً على الجديد والقديم، وادعى الإمام إجماع الأئمة عليه، موجهاً وجه الوجوب بأنا على القديم نراعي المصلحة].

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب تسلم الحكم في مسألة الجدار، والجزم في مسألة السفل بأنه لا يمتنع عليه النقض على القولين معاً؛ لأن صاحب العلو لا يجب عليه أن يبني حيطان السفل قولاً واحداً، و [لو] لم يقصد الثاني الهدم، بل أراد التبقية، فبذل له الشريك القيمة؛ ليتملك ما كان مطالباً بعمارته – أجبر على القديم، وعلى الجديد قال الأصحاب: يقال للثاني: أنت بالخيار بين أن تأخذ منه القيمة وبين أن تنقض حتى تعيداه معاً.

قال: وإن بناه بما وقع من الآلة، فهو مشترك بينهما؛ لأنه عين مالهما، وهو متبرع بما غرمه على التالف ويعود الحكم في الانتفاع بذلك كما كان قبل

ص: 86

الوقوع، فلو أراد الثاني هدمه لم يكن له إلا بإذن الشريك، فلو بادر وهدمه، قال الإمام: فالمذهب أنه يغرم ما نَقَضَهُ النقض.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ وغيره من العراقيين والمراوزة يقتضي: أن للطالب على القول الجديد أن يبني المستهدم بما سقط من الآلة، كما صرحوا بأن له أن يبني بآلته التي تفرد بملكها على الأساس المشترك؛ لدفع الضرر.

وقد صرح الإمام بما اقتضاه ظاهر كلام الشيخ وغره، ونقل إجماع الأصحاب عليه، والمذكور في "التهذيب" وهو الذي ادعى الرافعي أنه الظاهر من المنقول، وأنه المتوجه من جهة المعنى -: أنه لو أراد على القول الجديد البناء بالآلة المشتركة، وأراد صاحب العلو أن يبني السفل [بآلة السفل] –كان للآخر منعه.

فرع: لو قال صاحب السفل لصاحب العلو بعد بنائه السفل بآلة نفسه: انقض ما بنيته لأبنية بآلة نفسين نظر: إن كان قد طالبه بالبناء، فلم يجبه لم يجب الآن؛ لما يفوته، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه عليه فكذلك لا يجاب، ولكن له أن يتملك السفل بالقيمة، وإن لم يبن عليه العلو بعد – أجيب صاحب السفل، قاله المتولي.

تنبيه: "العلو" و"السفل": بضم أولهما وكسره، قال صاحب "المحكم": السُّفْل والسِّفْل والسِّفْلة – بكسر السين وإسكان الفاء -: نقيض الأعلى، ويكون اسماً وظراً، قال:"السقف" جمعه: سُقُوف وسُقُف، وقد سَقَْتُ البيت، أَسْقُفُهُ سَقْفاً.

قال: وإن استهدم، أي: بفتح التاء، فنقضه أحدهما، أي: إما تعدياً أو بإذن شريكه؛ بشرط أن يعيده من ماله كما قاله المحاملي، أو من مالهما كما قاله الماوردي – قال: أجبر على إعادته – لتعديه – أو التزامه، وهذا ما حكاه البغوي في صورة التعدي، والماوردي عن الإمام في الصورة الثانية وصححه، وجعله

ص: 87

المحاملي في الصورتين ظاهر المذهب، وعليه حمل الجمهور ما حكيناه عن الجديد من قبل.

قال: وقيل: هو أيضاً على قولين، أي: السابقين؛ لما ذكرناه.

قال الماوردي: وهذا ليس بصحيح.

وفي "الرافعي" و"التهذيب" و"مجموع" المحاملي: أن هذا الطريق هو الذي يقتضيه القياس؛ فإن الحائط لا يضمن بالمثل؛ فيغرم أرش النقصان. وهذا الكلام فيه دلالة ظاهرة على أنا على الطريق الأول نوجب على الهادم الإعادة جبراً؛ لما تعدى به، والذي يظهر: أن المراد به إذا غرم أرش النقصان ليس له الامتناع من المباناة، بل يجبر عليها على الجديد؛ كما يجبر على القديم، ويعضده: أن الطريق الثاني مصرح بذلك. وأمر آخر: وهو أنا لو أجبرنا الهادم على الإعادة من ماله جبراً لما أزاله: فإما أن نجبره على أن يعيده مستهدماً [كما كان، أو غير مستهدم] ولا قدرة له على الأول؛ لأنه غير منضبط، ولا سبيل إلى الثاني؛ لكونه زائداً على ما أزاله، وذلك حيف؛ فلا يجوز.

[ثم الصورة التي يكون متعدياً فيها قد ذكرها الماوردي في باب وضع الحجر، وهي: أن يفعل ذلك بدون إذن شريكه، وتكون قيمته قائماً أو أكثر، وقال أهل الخبرة: إن سقوطه لا يتعجل، ويثبت على انتصابه، أما إذا قالوا: إن سقوطه يتعجل فلا يبت على انتصابه فإن له أن ينفرد بهدمه؛ لتحتم ضرره]، والله أعلم.

وقد نجز شرح مسائل الكتاب فلنختمه بذكر شيء يتعلق به.

قال ابن سريج: إذا كان في يد رجل نصف دار، فادعى عليه إنسان سدسها، فأنكره، وانصرف المدعي، ثم قال له المدعي عليه: خذ مني السدس الذي ادعيته منها بسدس دارٍ، فأجابه – لم يكن صلحاً على إنكاره. كذا حكاه البندنيجي في كتاب الشفعة.

قال ابن الصباغ: إذا استهدم الجدار أجبر على نقضه، ولو تراضى الشريكان على أن يعيدا الجدار بأنفسهما، ويكون الجدار لأحدهما زيادةٌ فيه – لم يجز؛ لأنه شرط عِوَض من غير معوَّض؛ فإنهما مستويان [في العمل وفي الجدار

ص: 88

وعَرْصَتِهِ، وعن صاحب "التقريب" رواية وجه أنه: يجوز ذلك،] كذا صرح به الإمام والغزالي في "البسيط"، ونسبه في "الوسيط" إلى رواية القفال؛ فلعلهما روياه.

ولو انفرد أحد الشريكين بإعادة البناء بالنقض المشترك بإذن شريكه، بشرط أن يكون له الثلثان [في النقض والأساس] –جاز، والسدس الزائد يكون في مقابلة عمله في نصيب الشريك، هكذا أطلقوه. واستدرك الإمام فقال: هذا صور بما إذا شرط له [سدس النقض في الحال، فأما إذا شرط له] السدس بعد البناء لم يصح؛ فإن الأعيان لا تؤجل.

قال الرافعي: ولك أن تقول: التصوير وإن وقع فيه ذكره، وجب أن يكون الحكم فيه كالحكم فيما إذا شرط للمرضع جزءاً من الرقيق [المرتضع] في الحال، ولقاطف الثمار جزءاً من الثمار المقطوفة في الحال، ونظائرهما؛ لأن عمله يقع على ما هو مشترك بينه وبين غيره. وسنعيد الكلام في ذلك مرة أخرى – إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

ص: 89