المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الوديعة الوديعة: اسم لعين يضعها مالكها، أو من يقوم مقامه - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٠

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الوديعة الوديعة: اسم لعين يضعها مالكها، أو من يقوم مقامه

‌باب الوديعة

الوديعة: اسم لعين يضعها مالكها، أو من يقوم مقامه من ولي ونائب، عند آخر؛ ليحفظها له.

وهي مأخوذة من: ودع الشيء يدع، إذا سكن واستقر؛ فكأنها مستقرة ساكنة عند المودع.

وقيل: من قولهم: فلان في دَعَةٍ: أي: [في] خفض من العيش؛ لأن الوديعة في دعة من المودع غير مُبْتَذَلة بالانتفاع.

وبما ذكرناه من القيود تخرج العين في يد الملتقط، والثوب إذا طيَّره الريح إلى دار آخر ونحوه؛ فإن حكمه مغاير لحكم الوديعة، كما سنذكره.

ويقال: أودعته: دفعت إليه وديعة، وأودعته: قبلت منه وديعته، كذا حكى عن الكسائي.

قال الأزهري: والأول معروف دون الثاني.

والمودع - بكسر الدال - صاحب المال، وبفتحها: من عنده المال.

والأصل في مشروعية الودعية قبل الإجماع:

من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]،وقوله تعالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

} [الآية][آل عمران: 75].

ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم ["عَلامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَ قَالَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ

ص: 320

أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، وقوله صلى الله عليه وسلم:] "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَك"، خرجه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: إنه حسن صحيح. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع، فلما أراد الهجرة إلى المدينة تركها عند أم أيمن، وخلَّف عليًّا ليردها إلى أهلها.

و [من] المعنى: أن بالناس حاجة إلى التعاون بها ماسة، وضرورةً حاقَّةً لعوارض الزمان؛ فلأجل ذلك جوزت.

ولا شك في استحباب قبولها إذا كان الذي عرضت عليه أميناً قادراً على القيام بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".

وقد تجب إذا لم يكن ثَمَّ من يصلح لها غيره، وخاف إن لم يقبل أن تهلك، كما صرح به في "المهذب" وغيره. وهو محمول على أصل القبول دون أن يتلف منفعة نفسه وحرزه من غير عوض، كما نبه عليه الشيخ أبو الفرج.

وقال في "المرشد": لا يجوز له في هذه الحالة أخذ الأجرة على الحفظ؛ لأنه صار واجباً عليه، وإنه يجوز له أخذ أجرة مكانِها.

ولو كان ممن يعجز عن القيام بها ولا يثق بأمانة نفسه، لم يجز له قبولها، صرح به في "المهذب" وغيره.

ولو كان يقدر على حفظها إلا أنه غير واثق بأمانة نفسه:

فمنهم من يقول: لا يجوز له القبول.

ص: 321

ومنهم من يقول: يكره، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – [ذكر قريب] من ذلك في "باب اللقطة".

قال الإمام: وقد تردد أئمتنا في تسمية الوديعة عقداً [أم لا]، وإن سبب الاختلاف الاتفاق على أن القبول من المودع ليس بشرط.

وقال القاضي الحسين: إن الخلاف مبني على أن الصبي إذا أتلف مال الوديعة هل يجب عليه الضمان؟ وفيه قولان، فإن قلنا: لا يجب، فهي عقد، وإلا فلا.

والذي يدل عليه إطلاق الجمهور: أنها عقد، وكذلك قال الشيخ: وللمودِع والمودَع فسخها.

قال الإمام: وليس للاختلاف في أنها عَقْدٌ فائدةٌ فقهية.

قلت: بل له فوائد، ذكر هو منها فائدتين في باب الزيادة في الرهن؛ حيث قال: لو أودع بهيمة أو جارية فولدت في يد المودَع، ففي ولدها وجهان:

أحدهما: أنه وديعة.

والثاني: لا، وهذا القائل يقولك إنه ليس مضموناً؛ بل هو كالثوب تهب به الريح فتلقيه في دار إنسان، ثم قال: وهذا الخلاف له التفات على خلاف الأصحاب في أن الوديعة له عقد أم لا.

وهذا ما صرح به القاضي الحسين هاهنا وغيره.

ثم قال الإمام: ومن أدنى آثار الخلاف: أنه لو أودع وشرط شرطاً فاسداً، فمن جعل الوديعة عقداً أفسدها، ولابد من ائتمان جديد، وألا كان كما لو طيَّر الريح الثوب.

وإن لم يجعل الوديعة عقداً فالشرط لا يؤثر فيها أصلاً، بل يلغو الشرط الفاسد، ويبقى موجب الإيداع، وحكى القاضي الحسين في باب الوكالة [طريقة] ثالثة – حكاها عنه الغزالي هاهنا – وهي أن المودَع إذا عزل نفسه

ص: 322

في غيبة المودِع هل ينعزل؟ وفيه وجهان ينبنيان على أن الوديعة عقد أم لا؟

فإن قلنا: ليست بعقد، فلا ينعزل؛ لأن ابتداءه بالفعل [فكذا رفعه وجب أن يكون بالفعل].

وإن قلنا: إنها عقد، فإذا عزل نفسه انعزل، وتنقلب أمانةً، فإن هلكت قبل التمكن من الرد على المالك لم يضمن، وبعد التمكين [على وجهين]، ومراده: أنها تنقلب أمانة -أي: من جهة الشرع - كما إذا طير الريح الثوب. وقد صرح في "الوسيط" وغيره بجريان الخلاف في طيران الثوب، كما صرح به القاضي عند التلف بعد العزل.

والمجزوم به في طرق العراق - كما حكاه ابن الصباغ في كتاب الرهن وغيره -: أنه متى تمكن من الرد في مسألة طيران الثوب ونحوها، فلم يعلم المالك بها ولم يرد: أنه يضمن، مع الجزم بأن الوكيل إذا عزل لا يضمن ما لم يطالب بالرد فيمتنع منه، وفرق أبو الطيب بأنه وضع اليد على العين في الوكالة بإذن صاحبها، بخلاف الثوب، وهذا بعينه موجود في الوديعة؛ فإن وضع اليد عليها كان بإذن مالكها.

وقد حكى الإمام في مسألة طيران الثوب إلى داره أن ذلك بمنزلة الالتقاط، وفيه خلاف، وقال هاهنا: إنه حكاه في فصل الركاز من كتاب الزكاة.

فإن جعلناه لقطة لم يَخْف حكمه، وإن لم نجعله لقطة فهو أمانة، وفي وجوب الإشعار بها تردد، والظاهر: أنه لا يجب طلب المالك؛ فإن وجوبَ التعريف في معاضرة تسليط الملتقط على التملك، وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإشعار به.

قال رحمه الله: لا يصح الإيدا إلا من جائز التصرف؛ لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي، والمجنون، والسفيه والعبد- إن جعلنا له ملكاً - كالبيع.

ص: 323

قال: إلا عند جائز التصرف؛ لأن مقصوده حفظ المال فافتقر إلى من هو أهل له والعبد وإن كان أهلاً للحفظ لكن منافعه مستحقة للسيد.

قال: فإن أودع صبيٌّ مالاً ضمنه المودع؛ لوضع يده عليه بغير إذن معتبر كالغاصب.

قال: ولا يبرأ إلا بالتسليم إلى الناظر في أمره؛ كما لو غصبه، وفي هذا الحصر نظر؛ فإن الصبي لو أتلف المال المودع من غير تسليط من المودع عنده عليه، فالذي يظهر: براءته؛ فإن فعل الصبي لا [سبيل إلى إحباطه] وتضمينه مال نفسه محال؛ فتتعين البراءة، وحينئذ يحمل كلام الشيخ على البراءة بالتسليم لا بغيره.

واعلم أن إطلاق الشيخ تضمينَ الأخذ محمولٌ علىما إذا لم يخشَ المودَع من تلف المال باستهلاكه له إن لم يقبله.

أما إذا خشي عليه فقد حكى في "المهذب" و"التهذيب" في وجوب ضمانه إذا تلف في يده في هذه الحالة وجهين؛ بناء على ما إذا أخذ المحرم صيداً من جارحةٍ هل يضمن؟ وفيه وجهان، وجه المنع: أنه وضع يده عليه من غير ائتمان.

وفيما قالاه نظر من حيث إن أخذ الوديعة في هذه الحالة من جائز التصرف واجب، كما حكينا عنهما التصريح به من قبل فمن الصبي أولى، وإذا كان الأخذ واجباً لم يتجه جعله مضموناً؛ لأن الضمان سببه التعدي، والتعدي مع الوجوب لا يجتمعان، والمسألة المبني عليها الخلاف لا يجب فيها تخليص الصيد من الجارحة، ولو فرض وجوبه كان إيجاب الضمان مشكلاً لما ذكرناه وقد اختار في "المرشد" عدم الضمان [كما هوا لصحيح في المسألة المبني عليها].

ص: 324

قال: وإن أودع صبيًّا مالاً، فتلف عنده بتفريط أو غير تفريط – لم يضمنه؛ لأنه لا يلزمه الحفظ فلم يلزمه الضمان؛ كما لو تركها عند بالغ من غير إيداع، وإن فرط فيه.

قال: وإن أتلفه ضمنه؛ لأنه لم يسلطه على الإتلاف فضمنه؛ كما لو أذن له في دخول داره لأكل شيء فأتلف غيره، وهذا ظاهر المذهب في "البحر"، والأظهر في "الشامل".

قال: وقيل: لا يضمن؛ كما لو باع منه شيئاً وسلمه إليه.

والفرق على الأول: أن البيع يتضمن التسليط على التصرف، بخلاف الإيداع، وقد حكى بعض الأصحاب هذا الخلاف قولين، وبعضهم وجهين، وهو يجري بعينه في السفيه، كما صرح به أبو الطيب في كتاب الحجر وغيره. وأجراه الماوردي أيضاً فيما لو أعار من السيه شيئاً فأتلفه.

وإذا أودع من العبد: فإن تلف في يده فلا ضمان، وإن أتلفه: فإن قلنا: يضمن الصبي بالإتلاف، تعلق الضمان [برقبة العبد]، وإن لم نضمِّن الصبي تعلق الضمان بذمة العبد لا برقبته.

قال: ومَنْ قَبِلَ الوديعة لزمه حفظها؛ لأنه مقصود الوديعة وقد التزمه، ومن هاهنا يؤخذ أن الوديعة لا تتم إلا بالقبول، ومن ضرورته الإيجاب؛ إذ لا يعقل قبول بدونه، أما ما يقوم مقام القبول فقد يعقل انفراده كما إذا قال الأب: اشتريت من نفسي هذا لولدي؛ فإنه يكتفي به على رأي.

وقد اتفق الأئمة على أن الإيجاب هاهنا لابد منه، وأنه يتعين فيه اللفظ الدال على الاستحفاظ؛ كقوله: استودعتك هذا، أو: أودعتك، أو: اسحتفظتك، أو: أَنَبْتُك في حفظه، أو: احفظه، أو: هو وديعة عندك، وما في معناه. فلو وضعه بين يدي غيره ولم يتلفظ بشيء لم يحصل الإيداع – وإن كان قد قال قبل ذلك: أريد أن أودعك – حتى لو قبضه صار ضامناً له.

ص: 325

وأما القبول فقد قال في "الوسيط": إن في اشتراطه لفظاً ما ذكرناه في الوكالة، وهاهنا أولى بألا يشترط؛ لأنها أبعد عن مشابهة العقود؛ وسوى بينهما في "الوجيز" حيث قال: وصيغتها كصيغتها.

ومقتضى هذا: أنه لابد من القبول باللفظ على رأي مطلقاً كما صرح به في "التهذيب"، وبعضهم بناه على قولنا: إن الوديعة عقد، وبعضهم يفصل بين أن يكون بصيغة العقود، أو بصيغة الأمر.

وعلى رأي – وهو مذهب العراقيين -: أنه يحصل بالقول والفعل، فعلى هذا: إذا قال: أودعتك هذه، ووضعها بين يديه، وقبل ذلك، أو وضع يده عليه، أو قال: ضعه – كما حكاه في "التهذيب"، تمت الوديعة، وإن لم يوجد شيء من ذلك فلا ضمان على المودَع إذا تركها.

وفي "التتمة": أن الإيداع لا يتم بقوله: ضعه، ما لم يقبضه.

وفي "فتاوى" الغزالي: أن الوضع إن كان في يده، فقال: ضعه-دخل المال في يده، وأنه لو قال له: انظر إلى متاعي في دكاني، فقال: نعم – فهذا التماس؛ لكونه على سبيل التبرع؛ فلا يضمن بتركها.

فرع: لو قال: أودعتك هذا بعد شهرٍ – صح، جزم به في "البحر"، وفي "حليته"، وقال الرافعي: القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة.

ولو قال: أودعته لك اليوم وفي الغد لا يكون وديعة [، كان وديعة في الكل. ولو قال: أودعته لك على أن ترده غداً،] وبعد غد يكون وديعة، فلم يردها، وتلفت في اليوم الثالث – ضمن، صرح به في "البحر".

قال: في حرز مثلها؛ لأن الإطلاق يقتضيه، وله أن يحرزها بمن [يثق به] استانة، مثل أن يقول لغلامه: احفظها في الصندوق ونحوه، صرح به في "البحر"، وغيره نسبه إلى ابن سريج.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا فعل ذلك من غير ضرورة ضمن. ولعله

ص: 326

محمول على ما إذا فعل ذلك وترك الملاحظة؛ فإن الإمام حكى في هذه الحالة تردداً، وأن في بعض التصانيف التصريح بالمنع، و [أن] الذي يشعر به فحوى كلام الأئمة الجواز.

أما إذا كان مع ذلك ملاحظاً لها فلا وجه له.

قال الإمام: ولو كان الموضع الذي هي فيه خارجاً عنه، وكان لا يلاحظها أصلا، وفوض الحفظ إلى من يتصل به من ولد وزوجة وجارية – فالظاهر تضمينه.

ولا نزاع في أن له أن ينقل الوديعة من الموضع الذي أحرزها فيه إلى غيره، سواء كان مثله أو فوقه [أو دونه إذا كان حرز مثلها؛ كما لو وضعها فيه ابتداء، ولا فرق بين أن ينقلها مع ماله أو دونه].

قال الماوردي: وقياس قول الإصطخري أنه إن أحرزها مع غير ماله أو نقلها مع غير ماله ضمن، كما سنذكره عنه في الدابة.

قال: فإن قال: لا تقفل عليها قفلين، أو: لا ترقد عليها، فخالفه في ذلك – لم يضمن؛ لأنه زاده خيراً بمبالغته في الحفظ.

قال: وقيل: يضمن – أي: إذا سرقت؛ لأنه أغرى بها السارق. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح الأول، وهو ما قاله الشافعي، ولا اعتبار بما ذكر هذا القائل؛ لأنه لو قال: عندي وديعة وحالها كذا وصفتها كذا، فسمعه لص، سرقها – لم يضمن؛ فأولى إذا نبه عليها بالنوم ألا يضمن.

قلت: وما قاله القاضي من الاستشهاد قد يمنعه القائل بهذا الوجه، وقد حكى العبادي: أن رجلاً لو قال للمودَع: عندك لفلان وديعة؟ فأخبر بها ضمنها؛ فإن كتمانها من حفظها، فإذا أخبره فقد ترك الحفظ، وقال بعض

ص: 327

الخراسانيين: إن هذا الوجه إنما إذا قال المالك ذلك خشية من إغراء السارق، أما لو قاله تحقيقاً عن المودع فلا يضمن وجهاً واحداً.

ولو تلف الصندوق بالرقاد عليه أو ما فيه ضنه وجهاً واحداً.

وجزم القاضي الحسين بعدم الضمان في الصندوق إذا كان محرزاً، وقال فيما إذا كان في خزانة [غير محرزة: ينظر] إن سرق من جوانبه ضمن؛ لأن المالك إنما أمره بألا يرقد عليه حتى يحفظه من الجوانب، وقد اء التلف من جهة المخالفة. وإن سرق من رأس الصندوق لم يضمن؛ لأن التلف لم يأت من ناحية المخالفة. وهذا أصل، وهو إذا شرط المالك شرطاً لا يقتضيه مطلق الإيداع، فخالفه المودع؛ لكونه رأى الاحتياط في تركه، فإن جاء التلف من ناحية المخالفة ضمن، وإلا فلا.

وحكى التمولي فيما إذا سرق من الجانب وجهين، قال الرافعي: أظهرهما – وهو المذكور في "الوجيز" -: أنه يضمن؛ لأنه إذا رقد عليه فقد أخلى جنب الصندوق، وربما لا يتمكن السارق من الأخذ إذا كان بجنبه، وهذا مصور بما إذا كان الجنب الذي سرق منه لو لم يرقد على ظهره لكان قد رقد فيه، وقد أجرى الخلاف في الأصل فيما لو قال: لا تقفل عليها فقفل، أو: لا تغلق باب الدار، فأغلقه، أو: لا ترقد عند الصندوق، فرقد عنده.

تنبيه: تاء "تقفل" مضمومة، وفاؤه مكسورة، يقال: أقفل يقفل.

وقاف "يرقد" مضمومة، يقال: رَقَدَ يرقد رقداً ورقوداً ورقاداً، إذا نام، فهو راقد، وهم رقود، وهي راقدة، والرقْدَة: النومة.

والمرَرْقَد: المضجع، والمُرْقُدِ: دواء معروف يُرْقِدُ من يشربه.

قال: وإن قال له: احفظ في هذا الحرز، فنقله إلى ما دونه –ضمن، أي: وإن كان حرز مثله؛ لأنه لم يرضَ به، وحكى أبو الفرج الزاز وجهاً غريباً أنه لا يضمن إذا كان حرز مثله.

ص: 328

ولو نقله إلى مثله أو فوقه لم يضمن، وحمل التعيين على تقدير الحرز به دون التخصيص الذي لا غرض فيه، كما إذا استأجر أرضاً لزراعة الحنطة؛ فإن له زراعة مثلها.

وقيل: إن تلفت بسبب انهدام الثاني ضمن؛ لأنه جاء من جهة المخالفة؛ كما لو اكترى دابة فوضعها في الإصطبل ووقع عليها.

وإن تلفت لا بسبب النقل، بأن كانت حيواناً فمات لم يضمن، حكاه المتولي، وألحق السرقة من الثاني مع سلامة الأول بالانهدام، ووافقه عليه صاحب "التهذيب".

قال الرافعي: ولفظ "الوجيز" في الإجارة يقتضي إلحاق السرقة والغصب بالموت، وكذلك أورده بعضهم.

وحكى الإمام: أن في كلام صاحب "التقريب" وجهاً ثالثاً، وهو أنه إن نقل إلى مثله ضمن، وإن نقل إلى خير منه لم يضمن.

ومحل ما ذكرناه: إذا كان الحرز للمودَع، أما إذا كان للمالك فوجهان في "الحاوي":

أحدهما: أن الحكم كذلك؛ تغليباً لحكم الحفظ المعين.

والثاني: لا يجوز، ويضمن؛ اعتباراً بالتعيين القاطع للاختيار.

قال: وإن نهاه عن النقل عنه، فنقله إلى مثله، أي: من غير خوف، وتلف بسبب الثناي – ضمن؛ لمخالفته، وهذا ظاهر كلام الشافعي، واختاره في "المرشد".

وقد أشار الغزالي إلى ما ذكرته بقوله: لا بأس بالعدول عن جهة حفظه إلى مثلها، لكن لو أفضى المعدول إله إلى التلف وجب الضمان، وهو مستمد من القاعدة التي قررها القاضي الحسين.

قال: وقيل: لا يضمن؛ لتساوي الحرزين، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري

ص: 329

وابن أبي هريرة، ومحله - كما صرح به المتولي والماوردي وغيرهما -: إذا كان البيت مختصًّا بالمودَع، أما إذا كان مختصًّا بمالك الوديعة بسبب ملك أو إجارة أو إعارة ضمن وجهاً واحداً إذا لم يخف الهلاك، وعلى هذه الحالة حمل الإصطخري كلام الشافعي، وقد أجرى هذا الخلاف فيما لو نقله عند النهي إلى حرز فوق المعين.

قال: وإن خاف عليه الهلاك في الحرز فنقله لم يضمن، أي: وإن كنا نضمِّنه به لو لم يخف؛ لوقوف الاحتياط في هذه الحالة على النقل، ولا فرق في هذه الحالة بي أن ينقل إلىمثل الأول أو دونه إذا كان حرز مثله، ولابين أن يكون ملكاً للمودَع أو للمودِع.

وفي "التتمة" تخصيص جاوز النقل إلى ما دون الأول بما إذا لم يجد سواه، أما إذا وجد فعليه الضمان؛ لأنه خالف غرضه.

قال: فإن لم ينقله حتى تلف ضمن، أي: مع عصيانه؛ لتغريره به، وهذا ما جزم به الماوردي.

قال: وقيل: إذا نهاه عن النقل [، أي: وإن كان عاصياً]- لم يضمن؛ لأنه مطيع له؛ فأشبه ما لو قال له: أتلف مالي، فأتلفه.

والقائل الأول حمل النهي على حالة السلامة؛ إذ هو الذي يقتضيه العرف.

قال: وإن قال: لا تنقل وإن خفت عليه الهلاك، فخاف الهلاك فنقل - لم يضمن؛ لأنه موضع غرر وقد زاده خيراً، وقيل: ضمن؛ للمخالفة.

ولو لم ينقل أثم على القولين معاً، صرح به المتولي؛ وكلام الغزالي في "الوسيط" يقتضي خلافه.

وقد بنى الغزالي والمتولي هذا الخلاف على ما إذا غصب من الغاصب ليرد على المالك فهلك في يده: هل يضمن؟ وفيه وجهان.

وبناه الماوردي على خلاف حكاه عن أبي إسحاق المروزي فيما إذا وكل في شراء عبد بعشرة، ونهى الوكيل عن الشراء بدونها: فهل الشرط صحيح حتى لا

ص: 330

يصح الشراء بدونها، أو يُلْغَى حتى يصح؟ وفيه وجهان، وأنهما جاريان هاهنا، فإن قلنا: الشرط صحيح، ضمن بالإخراج [ولا يضمن بالترك، إن قلنا: إنه مُلْغَى، فلا يضمن بالإخراج، وهل] يضمن بالترك؟ فيه وجهان؛ كما إذا قال: لا تعلف الدابة، فلم يعلفها حتى ماتت، والصحيح في غيره: أنه إذا أخرج أو ترك لا يضمن، والقائل بالضمان عند الترك هو الإصطخري.

وقد أجرى القاضي الحسين الخلاف المذكور في النقل عند خوف الهلاك فيما إذا دفع إليه ثوباً، وأمره بتحريقه، فتركه في يده حتى تلف.

فرع: إذا نقل الوديعة من ظرف إلى ظرف [، فقد أطلق الغزالي أن الظرف] إن كان للمالك لا يضمن.

وأطلق مطلقون – والحالة هذه – أنه يضمن؛ كما لو نقلها من بيته.

قال الرافعي: والذي يتلخص من كلام الأصحاب: أنه إن لم يَجْرِ فتح قفل ولا فض ختم ولا خلط، ولم يعين المالكُ ظرفاً – فلا يضمن بمجرد النقل، سواء كانت الصناديق للمودع أو للمالك، وإن جرى شيء من ذلك، فإن كان فضًّا أو فتحاً ضمن.

قلت: وفيه شيء سأذكره: فإن كان قد عين الظر وهو للمالك ففي الضمان وجهان وجه عدم الضمان – وهو الأصح-: أن الظرف [والمظروف وديعتان ليس فيه إلا أنه حفظ أحدهما في حرز والآخر في غيره، وإن كانت] الظروف للمودع فهي كالبيوت بلا خلاف.

قال: وإن قال: اربطها في كمك، فأمسكها في يده – ففيه قولان:

أحدهما: يضمن؛ لأن الكم أحرز من اليد؛ فإنه قد يسهو فيرسل يده يسقط ما فيها، بخلاف الكم، وإذا كان كذلك شابه ما لو قال: احفظ في هذا الحرز، فنقل إلى ما دونه وهذا ما رواه الربيع في "الأم".

ص: 331

قال: والثاني: لا يضمن؛ لأن الكم يقدر الطرَّار على بَطِّهِ دون اليد فكانت أحرز، وهذا ما نص عليه في "المختصر" و"الجامع الكبير"، وهو موافق للنص فيما إذا نقل الوديعة من الحرز المعين إلى أحرز منه.

قال: وقيل: يضمن قولاً واحداً؛ لما تقدم، وهذا هو الصحيح، والقائلون به منهم من حمل ما نقله المزني [على ما إذا ربطها في كمه وترك اليد عليها؛ لأنه زاد خيراً، ومنهم من حمله] على ما إذا تلفت بأخذ غاصب؛ لأن اليد احرز بالإضافة إليه، وهو ما اختاره الشيخ ابو حامد، وحكى الرافعيُّ أن لفظ النص في "عيون المسائل" مصرح بهذا التنزيل.

وقيل: إن تركها في يده للخوف عليها في الكم لم يضمن، وإلا ضمن.

ولو امتثل امره فربطها في كمه فلا يحتاج مع ذلك إلى الإمساك باليد، لكن ينظر: إن جعل الخيط خارج الكم فأخذها الطرَّار ضمن؛ لأنه فيه إظهار الوديعة وحلُّه وقطعه أسهل، وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقد لم يضمن إذا كان قد احتاط في الربط؛ لأن الذي سقط يبقى في الكم، ولوجعل الخيط الرابط داخل الكم انعكس الحكم.

قال الرافعي: وذلك مشكل؛ لأن المأمور به مطلق الربط، فإذا أتى به وجب ألا ينظر إلى جهة التلف، بخلاف ام إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلفن وإن قضية هذا أن يقال: إذا قال احفظ في هذا البيت، فوضعها في زاوية منه، فانهدمت عليها – يضمن؛ لأنها لو كانت في زاوية أخرى لسلمت، ومعلوم أنه بعيد.

تنبيه: قوله: اربطها، هو بكسر الباء على المشهور، وحكى الجوهري عن الأخفش ضمها. وربط، ربِط ويربُط، ربطاً: أي شد.

والكم: جمعه: أكمام، وكِمَمة، بكسر الكاف وفتح الميم.

قال: وإن قال: احفظها في جيبك، فجعلها في كمه – ضمن؛ لأن الجيب أحرز من الكم؛ فإن الكم قد يرسله فيسقط ما فيه، بخلاف الجيب.

قال: وإن قال: احفظها في كمك، فجعلها في جيبه –لم يضمن؛ لأنه زاده

ص: 332

خيراً، وفيه وجه ضعيف: أنه يضمن. ولو كان الجيب واسعاص غير مَزْرُورٍ ضمن.

تنبيه: الجيب من جاب يجوب، إذا قطع، يقال: جبت القميص، أجوبه وأجيبه: أي قَوَّرْتُ جَيْبَهُ.

قال: وإن أراد سفراً ولم يجد صاحبها [ولا وكيله]، أي: في تسليم تلك العين خاصة، أو في قبض أعيان أمواله كلها – قال: سلمها إلى الحاكم؛ لأن المالك لوكان حاضراً وجب عليه القبول، فإذا كان غائباً ولا وكيل له ناب الحاكم عنه في ذلك عند الحاجة إليه؛ كما لو خطبت المرأة وليها غائب فإن الحاكم ينوب عنه في التزويج، ويجب على الحاكم في هذه الحالة القبول، بخلاف ما لو أراد الرد على الحاكم من غير سفر، كما سنذكره.

وحكى الإمام فيما إذا كان سفره عن اختيار من غير حاجة ولا ضرورة مرهقة اختلافاً عن العلماء المتكلمين في أحكام الأمانات، والشريعة محتاجة إليها، وليس للفقهاء اعتناء بها.

قال: فإن لم يكن [سلمها إلى] أمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن، واستخلف عليًّا – كرم الله وجهه – في ردها.

وهل يجب على المودِع الإشهاد على الأمين؟ فيه وجهان، فإن لم يشهد على وجه الوجوب ضمن. والمراد بالأمين: من يأمنه المودِع غيره، كما صرح به في "البحر".

وحكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي حاتم القزويني وجهاً: أنه يشترط أن يكون الأمين بحيث يودع المودِع عنده ماله، وأن الظاهر خلافه.

وقد أشار الماوردي إلى هذا الوجه – أيضاً – وقال: إنه قياس قول الإصطخري، كما سنذكره في إيداع البهيمة.

ص: 333

ولو كان الحاكم غير مأمون كان وجوده كعدمه، صرح به الماوردي.

قال: فإن سلم إلى أمين مع وجود الحاكم ضمن، قال القاضي أبو الطيب: لأن أمانة الحاكم مقطوع بها؛ فإنه لا يُوَلَّى إلا بعد أن تعرف عدالته ظاهراً وباطناً، وليس كذلك الواحد من الرعية؛ لأن عدالته إنما تثبت من طريق الظاهر؛ فكان عُدُوله عن الحاكم إلى الأمين غيرجائز، كعدول الحاكم عن النص إلى الاجتهاد؛ لأنه إذا دفع الوديعة إلى الحاكم، حفظها بولاية على صاحبها؛ لأن ولايته في حفظ مال الغائب، وليس كذلك غيره، وهذا ظاهر قوله في الرهن، وبه قال أبو سعيد الإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، واختاره الشيخ أبو حامد وصححه القفال، وصاحب "التهذيب" وغيرهم، وبه جزم بعضهم.

قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن القصد الحفظ، وهما في الحفظ سواء، ولأنه يجوز له الدفع إليه عند عدم الحاكم فجاز مع حضوره كالدفع إلى الوكيل، وهذا ظاهر النص هاهنا، وبه قال أبو إسحاق، واختاره في "المرشد"، وقال صاحب "البحر" والبندنيجي: إنه المذهب: وبه قطع بعضهم؛ فيحصل به في المسألة ثلاثة طرق: القطع بالضمان.

القطع بعدمه.

إجراء قولين.

وسلك الإمام طريقاً آخر فقال: إن سلمه إلى أمين مع وجود المالك أو وكيله أو الحاكم ضمن، وإن سلمه إليه عند خلو البلد عنهم فظاهر النص هاهنا: أن له ذلك.

وقال الشافعي في كتاب الرهن: العدل الذي أودع الرهن عنده، لو أراد سفراً فأودع ما عنده إلى أمين ضمن، وإنما قال ذلك في شُغُور المكان عن الحاكم، فلم يَرَ علماؤنا بين المسألتين فرقاً، وجعلوا المسألتين على قولين، ولا شك في أنه إذا وجد المالك فرد عليه وجب عليه القبول، وله الرد على الوكيل مع وجود المالك، وله مطالبة الوكيل بالإشهاد جزماً، وإن كان قد قبض الوديعة

ص: 334

منه كما قاله الماوردي، وهل يجب؟ فيه وجهان، وهل له مطالبة المالك بالإشهاد؟ فيه ثلاثة أوجه تقدم ذكرها في الوكالة.

ولو سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن.

وعن الشيخ أبي حامد رواية وجه: أنه لا يضمن؛ لأن أمانة القاضي أظهر من أمانة المودع فكأنه جعل الوديعة في موضع آخر. فعلى هذا: لو دعاه المودع للإشهاد كان مخيراً بينه وبين إعلام مالكها بالاسترجاع؛ فإن أخذها واجب عليه، وهل يجب على الحاكم القبول في هذه الحالة؟

قال في "التهذيب": نعم.

وفي الرافعي: أنه لا وجه لوجوبه عليه إذا كان التسليم إلى المالك متيسراً.

فرع: إذا أودع أميناً عند إرادة السفر بشرطه، [ثُم قدم] المودع وأراد أن يسترد الوديعة من الأمين هل له ذلك؟

أبدى الإمام فيه احتمالاً، وقرَّبه من الخلاف في أن وكيل الوكيل [هل هو بمنزلته حتى يعزل بعزله وجنونه، أم هو وكيل الموكل؟]

والذي أجاب به العبادي: أن له استرجاعها، وعلى ذلك يدل قول الغزالي في "الوسيط"، والمتولي حيث قالا: لو ادعى الأمين الرد على المودع قبل قوله دون دعواه الرد على المالك.

قال: وإن دفن في دار، أي: المال المودع عند جواز إيداعه الأمين.

قال: وأعلم به أميناً يسكن الدار، لم يضمن على ظاهر المذهب؛ لأن ما في الدار في يد ساكنها فكأنه أودعه إياها، وهذا ما حكاه في "المهذب" و"التهذيب".

قال: وقيل: يضمن، ويفارق إذا أودعها عنده؛ لأنه إذا أودعها إياه فقد أزال يده عنها وجعلها في حكم الوديعةن وليس كذلك هاهنا؛ لأنها على حكم يده ولم يجعلها في يد غيره فلزمه الضمان، كذا وجهه القاضي أبو الطيب.

فعلى الأول – وهو الذي اختاره في "المرشد" –يشترط أن تكون الدار حِرْزاً

ص: 335

مثله، وهل يكتفي بإعلام أمين واحد، أم لابد من إعلام رجلين ممن تقبل شهادتهما، أو رجل وامرأتين؟ فيه وجهان في "الحاوي".

وعلى الثاني: لابد من أن يحضر الدفن، ولا يلزمه أن يأذن لهما في النقل عندالخوف؛ لأن المغلَّب على ذلك الشهادة.

وعلى الأول – وهو قول ابن أبي هريرة، والظاهر في "الرافعي" – يجوز ألا يحضره، ويكتفي بإعلام ثقة، رجلاً كان أو امرأة؛ مراعاة لحكم الائتمان: وعلى هذا: هل يلزمه أن يأذن له في النقل إن حَدَث بمكانها خوف؟ فيه وجهان. فإن لم نوجبه، فنقلها الأمين عند الخوف فهل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي".

ولو لم يُعْلِمْ بما دفنه أحداً، أو أعلم به غير ساكن الدار، أو ساكنها لكنه غير أمين ضمن. وألحق الإمام – كما حكاه الرافعي – في إعلام المراقب للدار من الجوانب أو من فوقها، مراقبةَ الحارس بإعلام الساكن، والذي وقفت عليه في "النهاية": أن بعض الأئمة أطلق الاكتفاء باطلاع الأمين مع كون الموضع حرزاً، وحكى عن أئمة العراق ما ذكره الشيخ واستحسنه، ثم قال: ولست أدري في ذلك خلافاً بين الطرق.

والاطلاع الذي ذكره غير العراقيين محمول على ما ذكره العراقيون، ولكنهم بينوه وفصَّلوه: فإن كانت الدار خالية والمطلع لا يدخلها، ولكنه يرعاها من فوق رعاية الحارس أو من الجوانب فلا يكاد يصل إلى الغرض، وإن أحاطت بالدار حياطته، وعمَّها في الجوانب برعايته – فهذه اليد التي تليق بالوديعة، وهي التي عناها العراقيون، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز أن يعلم من هو بعيد عنها؛ بناء على أن المغلَّب على هذا الإعلام الخبر، وطرده في الاكتفاء بإعلام العبد.

وقد صور الجيلي المسألة بما إذا دفن في الدار مع قدرته على الحاكم أو

ص: 336

أمينه؛ فتكون حقيقة الخلاف راجعة إلى جواز إيداع الأمين مع وجود الحاكم أو أمينه أو نائبه، وما قاله هو ما حكاه البندنيجي، والأكثرون على خلافه.

واعلم أنه كما يجوز الإيداع بعذر السفر - كما تبين - يجوز بسائر الأعذار، كما إذا وقع في البقعة حريق أو غارة أو خاف الغرق ولم يجد حرزاً ينقلها إليه.

قال الرافعي: وليكن في معناه ما إذا أشرف الحرز على الخراب، ومن طريق الأولى يجوز الإيداع عند خوف الموت بحدوث مرض مخوف وما في معناه.

فإن لم يودع مع الإمكان، أو لم يوصِ بها عند عدمه حتى مات - ضمن.

قال الرافعي: لكن كأنا نتبين بالموت أنه كان مقصراً من أول ما مرض، أو يلحق التلف إذا حصل بعد الموت بالتردي في بئر حفرها متعدياً.

وفي "التهذيب": أن الوصية تكفي وإن أمكن الرد إلى المالك؛ لأنه لا يدري متى يموت، وإذا أوصى فليُشْهِدْ؛ صوناً لها عن الإنكار.

ويشترط أن يكون الموصى إليه أميناً، وهل يشترط أن يكون ممن يوصي ماله إليه حتى لو أوصى بماله لشخص وبالوديعة لآخر هل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي".

ولو أوصى إلى فاسق وسلم إليه ضمن، وإن لم يسلم وتلف قبل الموت فهل يضمن؟ فيه وجهان في "الحاوي".

ولو قال: عندي وديعة لفلان، ووصفها، ولم توجد في تركته.

قال أبو إسحاق: لا يضارِب المقَر له بها مع الغرماء؛ لأنها أمانة فلا يضمن بالشك، وبهذا أجاب في "التهذيب"، وخالفه غيره.

قال في "المهذب": وهو ظاهر النص.

ص: 337

ولو وجد في تركته أثواب بذلك الوصف ضمن.

ولو وجد ثوب واحد ففي "التهذيب" و"التتمة": أنه ينزل عليه، ومنهم من أطلق أنه يكون ضامناً.

ولو مات المودَع ولم يوص، فادعى المالك أنه قصر في الإيصاء، وقال الورثة: لعل الوديعةتلفت قبل أن يوصف بالتقصير.

قال الإمام: فالظاهر براءة الذمة، ولا خلاف أنه إذا مات فجأة أنه لا يضمن بترك الإيصاء.

فرع: لو سافر المودَع بالوديعة فهل يضمنها؟ ينظر: إن لم يجد من يودعه إياها وكان السفر مأموناً والحضر مخوفاً، جازت المسافرة، ولا ضمان.

وإن كان الحضر مأموناً أيضاً، فلا يجوز على النص، وبه قال أبو إسحاق، وصححه صاحب "التقريب"، فإن سافر بها ضمن.

وقال ابن أبي هريرة: يجوز، ولا ضمان؛ لاستواء الأمين في الحالين وفضل حفظها له بنسه، وحمل قول الشافعي على حالة الخوف، وهذا ما اختاره القفال.

وقال الرافعي: إنه أظهر عند المعظم، وبه جزم في "المهذب" وقال: إنه يلزمه أن يسافر بها وإن سافر بها مع إمكان إيداعها ضمن.

ص: 338

وحكى القاضي أبو الطيب والرافعي وجهاً: أنه لا يضمن إذا كان الطريق آمناً.

قال الرافعي: وكذا لو سافر بها في "البحر" وكان الغالب منه السلامة، وحكى في موضع آخر: أنه يجوز له السفر مع أمن الطريق، وكون البلد المنقول إليها أحرز.

ولو أراد النقل من بلد إلى بلد وليس بينهما مسافة تسمى سفراً: هل يجوز؟ فيه وجهان:

أظهرهما: الجواز؛ كما لو اتصلت عمارتهما، وعلى هذا يراعي أيهما أحرز.

وقيل: لايجوز؛ كما لو كان ما بينهما مخوفاً.

ولو أودعه وهو مسافر، له أن يسافر بها، قال الروياني: ولا يقال له متى وصلت إلى عمارة فلا تفارقها ولا تخرج الوديعة. ونسب ذلك إلى القفال.

[تنبيه: قول الشيخ: ولم يوجد صاحبها، يشمل ما إذا كان مسافراً أو مَحولاً بينه وبينه بحبس لا يصل إليه بسببه، وقد صرح بذلك في الحالة الثانية صاحب "البحر"، والقاضي الحسين حكاية عن أبي إسحاق، وأنه جعل تعذر الوصول كالغيبة، وأطلقه البغوي ولم ينسبه إلى أحد].

قال: وإن أودعه بهيمة، فلم يعلفها حتى ماتت – أي: بسبب ترك العلف مدة [يموت مثلها] بترك العلف فيها – ضمنها؛ لتعديه فإنه يجب عليه أن يعلفها لحق الله تعالى، ولأن به يحصل الحفظ الذي التزمه بقبوله الوديعة.

ولو لم تَمُتْ بعد انتهائها إلى تلك المدة، قال في "التهذيب": ضمنها وإن لم تتلف جوعاً، وكذا لو دخلها نَقْصٌ ضمنه.

ولو ماتت قبل مضي تلك المدة بسبب جوع سابق انضاف إليه جوعٌ في يده: فإن علم بالأول ضمنها، وإلا فوجهان في "التهذيب"، [وأظهرهما في "التتمة": عدم الضمان.

ص: 339

وإذا أوجبنا الضمان فالكل أو بالقسط؟ فيه وجهان].

ولا فرق في ذلك بين أن يأذن له المالك في العلف أو يطلق الإيداع. نعم، إذا أذن له في العلف ينظر: إن شرط له [الرجوع] وقدَّر العلف رجع عليه، وإن لم يشترط الرجوع، أو لم يقدِّر العلف ففي الرجوع عليه وجهان في "الحاوي"، وألحق الرافعي الوجهين عند عدم اشتراط الرجوع بالوجهين فيما إذا قال له: أدِّ دَيْني، من غير شرط الرجوع، وقد قدمت في باب الضمان حكاية المختار منهما.

وإذا لم يأذن له في الإنفاق كان له عند حضور المالك أو وكيله مطالبته بالإنفاق عليها، أو استرجاعها.

فإن كانا غائبين رفع الأمر إلى الحاكم وأثبته عنده ليفعل ما فيه المصلحة من إيجارها أو بيعها، أو بيع بعضها، أو الاستقراض عليها إذا كانت المؤنة خفيفة، وله أن يستقرض من المودع ويسلمه إلى عدل لينفق عليها، فلو أذن له بالإنفاق بنفسه فهل يجوز؟ فيه خلاف يأتي مثله في الكتاب في "باب الإجارة".

فإن جوزناه فهل يجب تقدير المنفق؟ فيه وجهان في الحاوي، ولو أنفق عليها المودع من غير إذن الحاكم نظر:

إن قدر على إذنه لم يرجع.

وإن لم يقدر في رجوعه عند شرط الرجوع ثلاثة أوجه حكاها الماوردي:

أحدها: أنه يرجع، أشهد أو لم يشهد.

والثاني: لا يرجع وإن أشهد.

والثالث: إن أشهد رجع، وإلا فلا.

فإن اعتبرنا الإشهاد وجب في كل شيء ينفقه كما قيده في "الذخائر" في نظير المسألة من الإنفاق على اللقيط.

وقيد أيضاً محل المرجوع عند عدم الإشهاد في مسألة الجمال بما إذا عجز عنه.

أما إذا تركه مع القدرة عليه فلا يرجع وجهاً واحداً، وظيهر مجيء مثله هنا.

ص: 340

قال البندنيجي حكايةً عن أبي إسحاق: إنا إذا جوزنا له الإنفاق والرجوع، فالوجه: أن يفعل ما فيه الحظ لربها من إجارتها وبيعها أو بيع بعضها.

واستقراضه كالحاكم، وكم ترك السقي حكم ترك العلف، وله أن يستعين في ذلك بغلامه، وله إخراجها بنفسه ومن يستعين به من الموضع التي هي فيه للعلف والسقي إذا كان ضيقاً حتى لو هلكت في حال الخروج لا ضمان عليه. وقيل: إنه يضمن إذا تلفت في يد الأمين، وكان المودع ممن لا يتولى مثل ذلك بنفسه. ولو أخرجها مع اتساع الموضع فتلفت ضمن على النص، وبه قال الإصطخري.

وقال أبو إسحاق: لا يضمن. وحمل النص على ما إذا أخرجها من حرز إلى خوف، وغيره حمله على ما إذا أخرجها من غير أمين.

قال: وإن قال: لا تعلفها، فلم يعلفها حتى ماتت – لم يضمن؛ لأن الضمان يجب للمالك، وقد أذن في سببه؛ فأشبه ما إذا قال: اقتل عبدي، ففعل، وهذا قول الجمهور.

قال: وقيل: يضمن؛ لأنه لا حكم لنهيه عما أوجبه الشرع؛ بدليل أنه آثم؛ فكان وجوده كعدمه، وهذا قول الإصطخري، وصححه الماوردي، وروي أن ابن أبي هريرة رواه فيما إذا أذن له في قتل عبده، وأنه زعم أن الخلاف مخرَّج من اختلاف قوليه في أن الراهن إذا أن للمرتهن في وطء الجارية المرهونة: هل يسقط عنه المهر أم لا؟

ولو كان النهي عن العلف لعلة بالبهيمة من قُولَنْج أو تخمة، فأعلفها المودع قبل الزوال – ضمن.

وحكم العبد حكم البهيمة فيما ذكرناه.

ص: 341

وألحق بعضهم بها ترك سقي النخلة، وبعضهم قال: لا يضمن بتركه إذا لم يأمره به.

ولا فرق عندنا – في عدم تضمين المودع إذا وجد منه العلف والسقي على الوجه المأثور وتلفت البهيمة – بين أن يكون العلف والسقي على الوجه المأثور وتلفت البهيمة – بين أن يكون العلف والسقي مع دواب المودع أو مفردة.

وقال الإصطخري: متى عزلها عن دوابِّه وعلفها في غير إصطبله ضمنها بكل حال.

تنبيه: يقال علفت الدابة، أعلفها – بكسر اللام – علفاً: بإسكان اللام، والعلف – بفتحها -:التبن والشعير وغيرهما مما تأكله الدواب.

قال: وإن أودع عند غيره من غير سفر ولا ضرورة – ضمن، أي: وإن كان لا يضمن لو أراد سفراً، أو كان ثم ضرورة.

أما إذا كان الإيداع عند أجنبي غير حاكم فبالاتفاق منا ومن الخصم.

وأما إذا كان عند من هو في رعاية المودع: كعبده، وأجيره، وولده، وزوجته، أو من حاكم؛ فلأنه أودع من لم يأتمن المالك من غير حاجة ولا ضرورة؛ [فضمن كما لو أودع] أجنبيًّا غير حاكم.

وقد حكى القاضي أبو الطيب وجهاً: أنه يجوز له الإيداع عند الحاكم في غيبة المالك ووكيله؛ لأنه لو كان حاضراً لوجب عليه القبول، فقام الحاكم فيه مقامه كولاية التزويج، وغيره نسب هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد.

وعلى هذا هل يجب على الحاكم القبول؟ فيه وجهان، أظهرهما: نعم، كما ذكرناه.

هذا ما حكاه الأصحاب هاهنا، وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ فيما إذا كان الرهن على يد عدل، وأراد دفعه إلى الحاكم، أو أمين عند غيبة الراهن والمرتهن، من غير أن يريد سفراً ولا ضرورة-أنه ينظر:

إن كانت غيبتها طويلة – وهي السفر الذي تقصر فيه الصلاة – فإن الحاكم يقبضه عنهما، ولا يلجئه إلى حفظه، وإن لم يكن حاكمٌ أودعه عند أمين.

ص: 342

وإن كانت المسافة قصيرة فهو كما لو كانا حاضرين.

وكذلك حكى الإمام، ثم قال: ولا يبعد عندنا اعتبار مسافة العَدْوَى حتى يقال: إن كانا على مسافة العدوى فلابد من مراجعتهما، وإن كانا فوقها ففيه تردد.

قلت: وهذا بعينه يتجه جريانه هاهنا؛ [إذ لا] يظهر بينهما فرق، كما حكيناه عن رواية الإمام من قبل عن الأصحاب عند إرادة المودع السفر لحاجة؛ ولهذا أحال الرافعي الكلام في مسألة الرهن على إيداع الوديعة.

قال: وله أن يضمّن الأولَ؛ لتفريطه بتسليم الوديعة لمن لا يجوز تسليمها إليه. والثاني- لأنه أخذ ما ليس له أخذه وتلف تحت يده.

ولا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالحال أو أحدهما؛ لأن الضمان لا يختلف بالعلم والجهل.

قال: فإن ضَمَّن الثاني رجع على الأول، أي: إذا جهل الحال؛ لأنه غره.

ومن هذا يؤخذ أن الأول إذا غرم لا يرجع على الثاني؛ إذ لا فائدة فيه.

وقيل: لا يرجع الثاني، أما لو علم الثاني حقيقة الحال لم يرجع على الأول عند تغريمه وجهاً واحداً، ويرجع الأول عليه عند تغريمه وجهاً واحداً، ويرجع الأول عليه عند تغريمه وجهاً واحداً.

قال الماوردي: وعلى مالك الوديعة الإشهاد بقبض القيمة وجهاً واحداً؛ [لأنها] مضمونة.

قال: وإن خلط الوديعة [بمال له] لا يتميز – أي: كالحنطة إذا خلطها بمثلها، والدراهم بمثلها – ضمن؛ لسخط صاحبها بهذا الخلط المفضي إلى سوء المشاركة.

وهكذا لو خلطها بمال المودع الذي لا ختم عليه ولا قفل وما في معناه، على أظهر الوجهين.

ص: 343

وفيه وجه: أنه لا يضمن والحالة هذه.

أما إذا تميز مال الوديعة من المختلط به، مثل: أن خلط الدراهم بالذهب فلا ضمنا، اللهم إلا أن يحصل نقص بسبب الخلط؛ فيضمنه، كما صرح به الماوردي.

قال: وإن استعملها، أي: مثل: أن كان ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها.

قال: أو أخرجها من الحرز لينتفع بها، أي: غير ظان أن ذلك ملكه.

قال: ضمن، أي: وإن لم ينتفع؛ لتفريطه وخيانته.

ولو أخرج البعض بهذا الغرض، مثل: أن كانت الوديعة عشرة دراهم مثلاً، فأخرج منها درهماً، ولم يكن الحرز مقفلاً ولا مختوماً – ضمنه لا غير.

فلو تصرف فيه وأعاد بدله لم يملكه المالك ما لم يقبضه، لكن ينظر: إن لم يتميز عن المختلط به ضمن جميع العشرة، وإن تميز فلا، وإن تميز عن البعض ضمن ما لم يتميز عنه خاصة.

ولو أعاد الدرهم بعينه: فإن تميز لم يضمن سواه، وإن لم يتميز فكذلك على أصح القولين، هو ظاهر النص في "المختصر"، ونسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرة والبغداديين؛ لأن هذا الاختلاط كان حاصلاً قبل الأخذ. فعلى هذا: لو تلفت العشرة لم يضمن إلا درهماً، وإن تلفت خمسة لم يضمن إلا نصف درهم.

أما إذا كان الحرز مقفلاً، ففتح قفله ضمن جميع العشرة، وإن لم يخرج منها شيئاً، كذا لو كان مختوماً ففك ختمه، أو مربوطاً فحله، أو قطع الكيس من تحت الرَّبْط.

وحكى الماوردي في فك الختم، وحل الربط وجهاً: أنه لا يضمن العشرة بمجرد ذلك؛ لأنه لم يكن منيعاً، بخلاف القفل.

وهذا ما أورده الرافعي في حل الخيط [من رأس] الكيس، ومن رزمة الثياب، وعلله: بأن القصد من ذلك المنع من الانتشار، لا أن يكون مكتوماً

ص: 344

عنه، وحكاه مع الأول في فتح القفل أيضاً.

وعلى الأول: هل يضمن الظرف من كيس إذا حله، أو صندوق إذا فتحه؟ فيه وجهان في "الرافعي".

أما إذا خرق الكيس من فوق الربطة، قال الرافعي: لم يضمن إلانقصان الخرق، وما قاله فيه نظر؛ فإنه حكى من بعد فيما إذا أتلف بعد الوديعة وكان له اتصال بالباقي: كتخريق الثوب، وقطع طرف العبد – فإنه ينظر: إن كان عامداً فهو جانٍ على الكل فيضمن، وإن كان مخطئاً ضمن المتلف، وفي الباقي وجهان، أصحهما: المنع.

وما ذكره يتجه أن يجري في [مسألة تخريق الكيس]، وقد ألحق بنقصالختم نبش ما أودعه إياه مدفوناً.

ولو كانت الدراهم في غير وعاء، فعدها أو وزنها، أو ذَرَعَ الثوبَ المودع: فهل يضمن بذلك؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وجه الضمان: أنه نوع من التصرف.

أما إذا أخرج الوديعة ظاناًّ أنها ملكه، لم يكن ذلك سبباً في الضمان. نعم، لو ادعى ذلك لا يقبل منه في الظاهر.

ولو انتفع بالوديعة ظانًّا أنها ملكه ضمن، صرح به الإمام في أول كتاب الغصب.

ثم محل كون الاستعمال مضمِّناً إذا لم يتعلق به مصلحة الوديعة، أما ما يتعلق بمصلحتها: كلبس الصوف الذي لا يصلحه إلا نفس الآدمي وبسطه، إذا فعله المودع كذلك فلا ضمان عليه.

نعم، لو لم يفعله ضمن، إلا أن ينهاه المالك عنه.

وفي "التتمة": إشارة إلى أنه يجري وجه الإصطخري في البهيمة فيه، [وقد حكيناه عن كتاب الزبيلي من قبل].

وكذلك إخراج الوديعة من الحرز مشروط بألا يتعلق به مصلحة الوديعة. أما

ص: 345

الذي يتعلق به مصلحتها: كنشر الثوب، وفرش البسط، مشي الدابة إذا خشي عليها الزمانة – فلا يضمن به، وإن احتاج في ذلك إلى فتح قفل وفض ختم.

وفي "التهذيب" حكاية وجه فيما إذا فتح القفل: أنه يضمن.

وعلى الأول: لو لم يفعل ذلك مع العلم به ضمن، وعن ذلك احترز الشيخ بقوله:"لينتفع بها".

قال: وإن نوى إمساكها لنفسه – أي: بعد أن قبضها – لم يضمن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عَفَا لأَّمتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا"، ولأنه مال يضمنه بالإتلاف فلا يضمنه بالنية [كمال غيره، والذي] ليس بمودع عنده إذا نوى إتلافه.

قال: وقيل يضمن؛ كما إذا نوى ذلك عند القبض، وبالقياس على الملتقط إذا أمسك العين وترك التعريف، ونوى تملكه. وهذا قول ابن سريج.

والقائلون بالأول منهم من سوى بين نيته في الابتداء والانتهاء؛ فلم يضمِّنه فيهما.

ومنهم من فرق بأن النية في الابتداء اقترن بها الفعل فأثرت، بخلاف الدوام، وبهذا فرق أبو الطيب بينه وبين اللقطة من حيث إنه إنها ضمنها؛ لاقتران نيته بالفعل، وهو [تَرْكُ التعريف]، وغيره قال: لأن أمانته تثبت بالنية؛ فكذلك الضمان يكون بها، بخلاف المودع وهذا الخلاف يجري ما لو نوى أن يستعملها وإن لم يخرجها من الحرز.

وحكى الماوردي عن القاضي أبي حامد: أنه في هذه الحالة لا يضمن بهذه النية، ويضمن إذا نوى إمساكها لنفسه، وأنه لا يردها لمالكها، وصححه.

قال: وإن طالبه بها، أي: بالتمكين منها؛ إذ هو الواجب عليه كما نص [عليه] في "شرح الفروع"، وادعى الإمام فيه الوفاق.

قال: فمنعها من غير عذر – ضمن؛ لأنه متعدٍّ بترك الرد، قال الله تعالى: {إِنَّ

ص: 346

اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

أما إذا كان بعذر، مثل: أن طالبه في جُنْح الليل، والوديعة في خزانة لا يتأتى فتح بابها في ذلك الوقت، أو كان مشغولاً بصلاة، أو قاضء حاجة، أو طهارة، أو في حمام، أو على طعام؛ فأخر حتى يفرغ، أو كان ملازماً لغريم يخاف هربه، أو كان يخشى المطر والوديعة في البيت؛ فأخر حتى يقلع ويرجع إلى البيت، وما أشبه ذلك – فلا نزاع في أن ذلك جائز، لكن هل يضمن؟

الذي قاله في "الوسيط" هاهنا: أن التأخير إن كان بسبب تعذر الوصول إليها – كما في جنح الليل – لم يضمن، وإن كان بسبب كونه في حمام أو على طعام، ضمن، وإن لم يَعْصَ بالتأخير. وكذلك حكاه في كتاب الوكالة عن قول الأصحاب، ثم قال: وهذا منقدح إذا كان التلف بسبب التأخير، وبعيد إذا لم يكن التأخير سبباً فيه. وما ذكره هاهنا وثَمَّ هو احتمال أبداه الإمام لنفسه.

والمنقول عن الأصحاب: أنه لا يضمن في الجميع، كما صرح به القاضيان الحسين وأبو الطيب، وكذلك ابن الصباغ والماوردي وغيرهم في الوكيل إذا أخر الرد بهذا العذر، وطرده في كل يد أمانة كالمودع وغيرهن وهو ما حكاه المتولي أيضاً، وإيراد البغوي يقتضيه.

فروع:

لو وكل المالك وكيلاً ليرد عليه المودَع، لزمه الرد مهما طلب، فإن تمكن منه ولم يطالبه الوكيل ففي الضمان وجهان.

قال الغزالي: كنظيره في الثوب إذا طيَّرته الريح في داره؛ لأن أمره بالرد للوكيل عزل فصارت أمانته شرعية.

ولو قال له: رد الوديعة على من قدرت عليه من وكلائي ولا تؤخر، ضمن بتأخيره عن الرد على بعضهم عند قدرته عليه، وعصى، ولو لم يقل له: ولا تؤخر، ضمن بالتأخير، وفي العصيان وجهان.

ولو قال: ردها على من شئت منهم، فلم يردها على واحد ليرد على آخر –

ص: 347

فلا يعصي، وفي الضمان وجهان، كذا قال الإمام في "الأساليب".

قال: وإن تعدى فيها – أي: بما ذكرناه أو غيره – ثم ترك التعدي، لم يبرأ من الضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ"، ويد المودع متعدية قد أخذت الوديعة؛ فوجب أن يكون عليه حتى يؤديها، ولأنه ضمنها بالعداون فلم يبرأ من الضمان بالرد إلى المكان؛ كمن غصب من دارٍ ثم رد إليها، وكما لوجحد الوديعة ثم اعترف بها؛ فإن الخصم – وهو أبو حنيفة – قد وافق على عدم البراءة.

قال: فإن أحدث له استئماناً – أي: مثل أن قال: استأمنتك عليها، أو: أودعتك إياها، أو: أذنت لك في حفظها، أو: أبرأتك من ضمانها – برئ على ظاهر المذهب؛ لأنه ضمن بحقه فسقط بإسقاطه.

قال: وقيل: لا يبرأ حتى تُرد إلى صاحبها، أي: أو وكيله؛ للحديث، ولأن الإبراء يختص بما في الذمة، ولا حق بما [في] ذمته بعد، وقد روى بعضهم هذا عن ابن سريج، وبعضهم قال: إنه منصوص عليه في "الأم".

ولو أمره بردها إلى الحرز بعد التعدي، قال الماوردي في كتاب العراية: كان في سقوط الضمان وجهان كالإبراء.

قال: وللودِع والمودَع فسخ الوديعة متى شاء. وإن مات أحدهما، أو جن، أو أغمي عليه – انفسخت الوديعة؛ لأنها في الحقيقة وكالة في الحفظ، وهذا حكم الوكالة.

ولو قلنا: إنها ليست بعقد، بل مجرد إذن فالآذن يبطل إذنه بطرآن هذه الأحوال، والمودع يخرج عن أهليَّة الحفظ بها – أيضاً – ويظهر أن يأتي فهيا من الخلاف عند طرآن الجنون والإغماء ما ذكرناه في الوكالة.

ثم إذا انفسخت بموت المودَع، وجب على الوارث إعلام صاحب الوديعة بها إذا عرفه أو الرد عليهن وكذلك يجب على وليه إذا جن أو أغمي عليه. وهل

ص: 348

يجب عليه السعي في معرفته؟ قد تقدم الكلام فيه في أول الباب؛ لأنها أمانة شرعية، وهذا إذا ثبت أن ثم وديعة: إما بإقرار الميت، أو بإقرار الورثة، أو قايم بينة عليها.

أما لو لم يوجد سوى الكتابة عليها بأنها وديعة لفلان، فليس ذلك بحجة على الورثة.

قال: وإن قال المودَع: رددت عليك الوديعة، فالقول قوله – أي: مع يمينه –لقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فأمر بأداء الأمانة ولم يأمر بالإشهاد؛ فدل على أن قوله مقبول من غير بينة؛ إذ لو لم يكن كذلك لأرشد إليه كما أرشد إليه – تبارك وتعالى – في حق من بلغ رشيداً بقوله تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]؛ ولأنه ائتمنه فقبل قوله عليه.

قال القاضي أبو الطب: ولأنه لا خلاف أنها إذا هلكت قبل قوله؛ فكذلك إذا ادعى ردها إليه وجب أن يقبل قوله مع يمينه.

وما قاله منتقض بالمرتهن والمستأجر؛ فإنه لا يقبل قولهما في دعوى الرد عند العراقيين وإن قبل قولهما في التلف.

قال: وإن قال: امرتني بالدفع إلى زيد –أي: ودفعتُ إليه – فقال زيد: لم يدفع إلي، فالقول قول زيد، وهذا مما لم يختلف الأصحاب فيه؛ لأن الأصل عدم الدفع إليه، وهو غير مؤتمن من جهته؛ فلا يقبل قوله عليه كما لو ادعى الوصي الدفع إلى الصبي بعد البلوغ. نعم، لو كان كذلك زيد مالك الوديعة وقد أودعها عند الآمر، وأذن له في إيداعها عند المودع – كان القول قول الدافع؛ لأنه ائتمنه، كذا قاله الماوردي، ولو خرج على أن وكيل الوكيل

ص: 349

وكيل لم يبعد.

وإذا لم يقبل قول المودع على زيد فما حكمه مع المالك؟ ينظر:

إن كان الدفع في وفاء دين، أو إيداعاً، فقد قدم الشيخ الكلام فيه في الوكالة.

وإن كان عارية أو قرضاً فقد جزم الماوردي بأن المودع يضمن، سواء صدقه أو كذبه؛ إذ هو مقصر بترك الإشهاد.

وإن كان هبة، وقلنا: إنها تقتضي الثواب – فكذلك الحكم، وإن قلنا: لا تقتضيه، فلا ضمان.

قلت: وكان يتجه الا يكون ضامناً بترك الإشهاد – على رأي – كما في ضاء الدين، ويمكن أن نفرق بأن هاهنا لابد من المطالب؛ فالحاجة إلى البينة متوقعة، وهذا إذا صدقه المالك في صدور الإذن في الدفع إلى زيد، أما إذا كذبه فالقول قوله، والمودع ضامن.

قال: وإن هلكت الوديعة فالقول قوله؛ لأنه أمين مقبول القول في الرد؛ فكذلك في دعوى التلف من طريق الأولى؛ لأن الرد لا يتعذر إقامة البينة عليه؛ لأنه منوط بالاختيار، بخلاف التلف. ولا فرق في ذلك بين أن يدعي التلف بسبب خفي أو ظاهر يتيسر إثباته بالشهادة. نعم، إذا ادعى التلف بسبب خفي كالسرقة والغصب –كما صرح به في "المهذب" و"التهذيب" ونحوهما – لم يكلَّفْ إقامة البينة على السبب.

وإن ادعاه بسبب ظاهر: كالحريق والنهب، وكذا موت الحيوان والغصب – عند صاحب "التتمة" كُلِّفَ إقامة البينة على السبب دون التلف، ويقوم مقام البينة على الحريق وجودُ أمارته، وكذا تصديق المالك وجودَ الحريق والنهب دون تلف الوديعة.

ولو أطلق دعوى التلف لم يكلَّف بيان السبب.

وإذا نكل عن اليمين عند ذكر السبب الخفي فللمالك الحلف على نفي العلم بالتلف، ويضمن المودع.

قال الإمام: ومن أصحابنا من يكلفه جزم اليمين؛ من جهة أن من الممكن أن

ص: 350

يطلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودع تلفها فيه، وإذا لم يُقِمِ المودع البينة على ما ادعاه من السبب الظاهر: فإن كان لا يبعد وقوعه في الوجودحلف المالك، وإن كان مماي حكم العرف باشتهاره لو وقع ولم يشتهر، في تحليفه وجهان:

وجه المنع: أن المشاهدة تكذبه؛ فإن الحريق الظاهر لا يخفى، وتتوفر الدواعي على نقله، فإذا لم ينقل بأنَ الكذبن وهذاما رجحه الإمام وضعف مقابله.

وحكى عن المراوزة انهم رأوا تصديق المودع وإن ظهرت مخايل كذبه، واكتفوا بإمكان صدقه، قرب أو بعد، وأنهم فصلوا القول في الحريق فقالوا: إن كان ليلاً بحيث يتوقع إطفاؤه من غير اطلاع يفرض في طرف البلد، فخفاؤه نادر ولكنه ممكن؛ فالمودع مصدَّق مع يمينه.

وإن كان الحريق نهاراً بحيث يستيقن أنه لو كان لما خفي فلا سبيل إلى التصديق.

فرع: لو مات المودع قبل الحلف فللمالك تحليف الورثة، لكن الوارث إن تحقق تلف الوديعة جاز له الحلف، وكذا إن غلب على ظنه.

وإن غلب على ظنه كذبُ مورثه فلا، وإن أمكن استواء الأمرين ففي جواز اعتماده على قول المورث في الحلف خلاف حكاه الإمام.

فرع: لو مات المالك، فادعى المودع التلف بعد ذلك – نظر:

إن ادعى أنه وجد في حالة حياة المالك فالقول قوله مع يمينه.

وإن ادعى تلفها بعد موته وقبل تمكنه من الرد فمن المصدق؟ فيه وجهان، ومثلهما يجري فيما إذا مات المودع وتلف المال في يد ورثته، وقال الإمام فيها: الوجه عندنا القضاء بتصديقه؛ لأنه أمين ليس متعدياً.

قال: وإن قال: أخرجتها من الحرز، أو: سافرت بها لضرورة، أي: مجوِّزة للإخراج والسفر وقد تلفت، فقال المالك: أنت متعدٍّ بذلك؛ فدعواك التلف لا

ص: 351

تقبل ويجب عليك الغرم.

قال: فإن كان ذلك بسبب ظاهر كالحريق والنهب وما أشبههما، أي: مثل خشية الغرق ونحوه – لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه.

قال: ثم يحلف: إنها هلكت؛ لأنه ثبت عدم تعدِّيه في الإخراج، ويحتاج أن يحلف أيضاً: إنه أخرجها لأجل هذا السبب؛ فإنه قد يخرجها معه لغيره.

وقيل: لا يحتاج إلى اليمين على الإخراج لأجل هذا السبب؛ اكتفاء بظاهر الحال.

قال: وإن كان سبب خفي –أي: كخشية السرقة – قبل قوله [مع يمينه]؛ لأنه أمين، وقد ادعى عليه الخيانة فيما يعسر إقامة البينة عليه، فكان القول قوله كدعوى التلف، وقد شبه العراقيون ذلك بما إذا قال لزوجته: إن ولدت فأنت طالق، فادعت الولادة، لا يقبل قولها إلا ببينة، بخلاف ما لو قال: إن حِضْت.

قال: وإن قال: ما أودعتني – أي: بعد أن طلب منه الوديعة – فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الإيداع، لكنه إن كان كاذباً صار بالإنكار متعدياً، حتى لو أقر بذلك أو قامت عليه بينة بالإيداع، وتلفت في يده ضمنها. ولو ادعى تلفها أو رَدَّها قبل الجحود، ولم يكن له بينة – لم تسمع منه؛ لأن دعوى التلف والرد مناقض لإنكار الإيداع فلم يقبل منه.

قال: فإن أقام المدعي بينة بالإيداع، فقال – أي: المدعي عليه -: أودعتني، ولكنها هلكت، أقام بينة أنها هلكت قبل الجحود – سمعت؛ لأن البينة حجة ناصَّةٌ على الغرض فيجب الحكم بموجبها، وهذا ما قال القاضي الحسين: إنه المذهب، والإمام هاهنا: إنه ظاهر المذهب، ورجحه الرافعي أيضاً،

ص: 352

ويحكي عن اختيار القفال والشيخ أبي علي.

قال: وقيل: لا تسمع؛ لأن دعواه غير مسموعة لمناقضتها إقرار الأول، والبينة فرع الدعوى، وإذا لم يسمع الأصل لم يثبت الفرع، وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة، وذكر الإمام في باب الوكالة أنه الأظهر، والغزالي ثَمَّ: أنه الأصح، واختاره في "المرشد".

والقائلون بالأول قالوا: المودع قد أنشأ الآن قولاً ممكناً، وقوله الأول يجوز أن يكون لنسيان، والدعوى قول ممكن؛ فإذا اعتضدت البينة ثبت المقصود بها؛ ولهذا لو قال: لا بينة لي، ثم أحضر بينة – سمعت لهذا المعنى.

قال الإمام: وإنما لا تقبل البينة إذا كان قول من يقيمها عند إقامتها يناقضها. وطرد هذا القول في كل من سبق منه قول مناقض ورجع عنه وكذب نفسه فيه، وأقام على وفق القول الثاني بينة، وهذا يلزمه عليه مسألة المرابحة، وهي ما إذا قال: اشتريته بمائة، ثم قال: اشتريته بمائة وعشرة – فإنه لا يقبل وإن أقام بينةً، اللهم إلا أن يبدي عذراً – كما ذكرناه في موضعه – فإن في سماع البينة خلافاً، فإن كان قد أراد هاهنا هذه الحالة فقد خرج عن عهدة السؤال، مع أن كلامه يوهم إجراءه مطلقاً؛ ولهذا قال الرافعي: قد حكيت عن بعض الأصحاب في مسألة المرابحة: أنهم فرقوا بين أن يذكر وجهاً محتملاً في الغلط أو ال يذكر، ولم يتعرضوا لمثله هاهنا، والتسوية بينهما متجهة.

وعلى كل حال: فالجمهور متفقون في مسألة المرابحة على عدم سماع البينة، وهاهنا على السماع، وقد أشرت إلى فرق لطيف بينهما في "باب المرابحة"، وقد يظهر بينهما فرق آخر: وهو أن ما حصل به بالتضاد من قول المودع ثانياً: أودعتني، بعد قوله أولاً: ما أودعتني – مالكُ الوديعة موافق له عليه، وهو معمول به؛ لأنه إقرار بعد إنكار، وأيضاً: فإن البينة غير معمول بها في إثبات

ص: 353

الوديعة بعد إقراره بها، وإذا كان معمولاً بها – مع أنه صريح في المناقضة – رتب عليه مقتضاه، ولا كذلك في مسألة المرابحة ونظائرها؛ فإن ما حصل به التضاد من قول البائع ثانياً لقوله أولا، لم يوافق عليه مَنْ تَعَلَّق حقه به، وكذلك لم يعمل بموجبه، والله أعلم.

أما إذا قال المودع للمالك من غير مطالبة: ما أودعتني، فهل يكون بذلك ضامناً؟ فيه وجهان، ولا خلاف في أنه لو قال لأجنبي: ما أودعني فلان شيئاً، لم يَصِرْ بذلك ضامناً، ثم الخلاف المذكور في سماع البينة على التلف – كما ذكره الشيخ – [بعينه يجري] في سماع البينة على الرد على المالك قبل الجحود. ولو لم يكن له بينة، ولكنه أراد أن يحلِّفَ المالكَ على ما اعداه من تلف أو ردٍّ: فهل له ذلك؟ حكى الإمام فيه تردداً عن الأصحاب، ثم قال: ظاهر المذهب: أنه يحلفه.

قلت: ولو بنى ذلك على أن يمين الرد مع النكول كالبينة أو كالإقرار حتى إذا قلنا: إنها كالإقرار، حلف، وإن قلنا: إنها كالبينة، جرى الخلاف – كما حكاه الغزالي في مسألة المرابحة – لم يبع.

ولو أقام بينة على تلفٍ بعد الجحود لم تفده بالنسبة إلى إسقاط الضمان، وتفيده في نقل المطالبة إلى البدل.

ولو أقام بينة على ردٍّ بعد الجحود قبلت؛ كالغاصب، وأبدى افمام فيه احتمالاً في إجراء الوجهين السابقين في سماع مثل هذه البينة قبل الجحود؛ نظراً إلى أن البينة مرتبة على الدعوى، ودعوى الرد بعد الجحود مناقضة لإنكار الوديعة أولاً.

وإلى ذلك أشار مجلي بقوله: ومن أصحابنا من قال: هل تسمع البينة؟

ص: 354

فيه وجهان، ولم يفصل قبول الجحود أو بعده، ومن هاهنا اختلفت نسخ "الوسيط" في آخر باب الوكالة – حيث حكى مثل هذا الخلاف بين الوكيل والموكل -: ففي بعض النسخ: أن الوكيل إذا أقام بينة على تلفٍ بعد الجحود فكذلك على أحد الوجهين، وفي بعض: فكذلك على الوجهين:

قال: وإن قال: مالك عندي شيء، فأقام البينة بالإبداع، فقال: أودعتني ولكنها تلفت – قبل قوله، أي: مع يمينه؛ إذ لا منافاة بين ما ذكره صيرحاً آخراً وبين ما أبهمه أولا؛ فلذلك قبل منه، بخلاف المسألة قبلها.

والحكم فيما لو ادعى الرد قبل الجحود حكمُ دعوى التلف، ولو ادعى [بعد إقامة] البينة رد الوديعة بعد الجحود لم تسمع، ولزمه الغرم، وإن ادعى تلفاً فهو ضامن، لكن هل يقبل قوله مع اليمين حتى تنتقل المطالبة من العين إلى البدل؟ فيه خلاف، كما في الغصب، والمذهب: القبولُ.

فروع:

إذا غصبت الوديعة من يد المودَع، هل له المخاصمة عليها واستردادها؟ فيه وجهان.

إذا أكره المودَع على تسليم الوديعة فسلمها، هل يضمنها؟ فيه قولان.

إذا أدخل المودَع أقواماً إلى موضع الوديعة فسرقت: فإن سرقها الداخل أو من دَلَّهُ عليها الداخل ضمن ذلك، وإن لم يكن ذلك فلا ضمان.

وهكذا الحكم فيما لو نهاه المالك أن يدخل عليها أحداً، فأدخله وجاء التلف من جهته والله أعلم.

ص: 355