الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العارية
العارية: مشددة الياء، وروي تخفيفها، وجمعها: العواري مشدداً، أو مخففاً، وهي مشتقة من عار الرجل؛ إذا ذهب وجاء، ومنه العير؛ كما قاله مجلي.
وقيل للغلام الخفيف: عيار؛ لخفته في بطالته، وكثرة ذهابه ومجيئه.
قال الأزهري: وإنما شُددت؛ لأنهم نسبوها إلى العارة، يقال: أعرته إعارة [وعارة]، فالإعارة مصدر، والعارة الاسم، وهو كقولهم: أجبته إجابة وجابة، وأطعته إطاعة وطاعة.
وقيل: من التعاور، وهو التناوب؛ من قول العرب: اعتوروا الشيء، وتعاوروه، وتعوروه؛ إذا تداولوه، وتناوبوه، وكأن من دفع ما يختص به إلى غيره؛ لينتفع [به]، فقد جعل له نوبة.
وقيل: من العار؛ لأن طلبها عار وعيب؛ [قاله الجوهري].
ويقال: أعاره يعيره، واستعاره ثوباً فأعاره.
وحقيقتها شرعاً: إباحة الانتفاع [بما يحل الانتفاع] به مع بقاء عينه، لردها عليه.
وقيل: إنها هبة للمنافع، مع استيفاء ملك الرقبة؛ قاله الماوردي.
والأصل في جوازها واستحبابها قبل الإجماع من الكتاب – قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وهي [من البر،] وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [النساء: 114] وهي منه.
ومن السنة ما روى مالك، وأبو داود، والنسائي عن صفوان بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم خيبر، فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال: "لا، [بل] عارية مضمونة مؤداة".
وفيه: أنه ضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، قال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب.
وقال النسائي في بعض رواياته: "ثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً"، وغير ذلك من الأخبار التي سنذكرها.
ومن جهة المعنى: أن الأعيان لما جازت هبتها وإباحتها، فكذلك المنافع.
قال في البحر: وقد كانت واجبة في ابتداء الإسلام؛ حتى توعد الله – [تعالى – من] منعها، فقال {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون]، وهو كما قال ابن عباس، وابن مسعود: العارية.
وخصها ابن مسعود بإعارة الدلو، والقدر، والميزان.
قال: من جاز تصرفه في ماله، جازت إعارته؛ لأنها إباحة للمنافع؛ فلم تصح ممن لا يصح تصرفه في المال، وصحت ممن يصح تصرفه فيه؛ كإباحة الأعيان.
ولا فرق فيمن تصح إعارته بين أن يكون مالكاً للعين [المعارة]، أو لمنفعتها بسبب إجارة، أو وصية، أو غير ذلك.
وإن كان مستعيراً، فسيأتي الكلام فيه.
واحترز الشيخ بقوله: في ماله عن العبد المأذون؛ لأن الإذن في التجارة لا يبيح التصرف في غيرها.
ومما ذكره الشيخ فيمن [تصح إعارته يؤخذ: من يصح منه طلب الاستعارة وقبولها.
وفي الحاوي: أن من] يصح منه قبول الهبة، يصح منه طلب العارية؛ لأنها نوع من الهبة، ومن لا؛ فلا.
وقريب من هذه العبارة قول الغزالي: "لا يعتبر فيه إلا أن يكون أهلاً للتبرع عليه".
وفيما قالاه [نظر؛ فإن السفيه يصح منه قبول الهبة بغير إذن وليه؛ على الأصح، ومقتضى ما قالاه] أن يصح منه طلب العارية بدون إذن وليه، وقد صرح مجلي بأنها لا تصح [منه]، وهو موافق لما يقتضيه كلام الماوردي في باب الحجر؛ حيث قال فيما إذا أعار من سفيه شيئاً، فأتلفه: إن حكمه حكم إتلاف السفيه الوديعة؛ حتى يجري في [ضمانه] الخلاف، ولو كانت صحيحة منه، لضمنها قولاً واحداً. وإن لم يتلفها.
ووجه عدم الصحة: أن في تسليطه عليها تسليطاً على سبب يقتضي الضمان، وبهذا فارقت العارية الهبة؛ فإنه لا ضمان فيها.
واعلم: أنه لابد في صحة العارية من الإيجاب والقبول، ويكفي من أحدهما الإتيان به بالقول، ومن الآخر بالفعل؛ كما صرح به في المهذب؛ قياساً على إباحة الطعام، وعلى [ذلك] جرى البغوي.
وفي الوسيط: أنه لابد في جانب المعير من اللفظ، وهو أن قول: أعرت أو خذ، أو ما يفيد معناه.
وفي التتمة: أن اللفظ لا يعتبر في واحد من الطرفين حتى لو رآه عرياناً، فأعطاه قميصاً، فلبسه – تمت العارية.
وكذلك لو فرش لضيفه بساطاً، أو فراشاً، أو مصلى، أو ألقى إليه وسادة، فجلس عليها – كان ذلك إعارة؛ بخلاف ما لو دخل، فجلس على الفرش المبسوطة؛ لأنه لم يقصد بها.
قال: ويجوز إعارة كل شيء ينتفع به –أي: منفعة مباحة – مع بقاء عينهن أي: كالدواب، والدور، والدروع، والدلو، والفأس – وكل ما يجوز [إيراد] عقد الإجارة [عليه]، وكذا ما لا يجوز عقدها عليه من فحل الضراب، ودراهم، ونانر؛ للتزين، وكلب الصيد، وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً، فركبه، ومن صفوان أدرعاً، وقال ليعلي بن [أبي] أمية:"إذا أتتك رسلي فادفع [إليهم] ثلاثين درعاً، وثلاثين بعيراً، فقال: [يا] رسول الله، عارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ فقال: بل عارية مؤداة"؛ كما أخرجه أبو داود.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نزل في دار أبي أيوب الأنصاري بغير أجرة، وهي حقيقة العارية.
وقد قيل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال:"حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا".
وتفسير ابن مسعود المعاون يقوى ذلك؛ فثبت الجواز في هذه الأشياء بالنص،
وقيس عليها ما عداها؛ للاشتراك في المعنى.
وعلى ما فسر به أبو عبيد الماعون: من أنه اسم لكل منفعة، وعطية – يستغني عن القياس بالكتاب.
وما ذكرناه من جواز [إعارة] الدراهم، والدنانير – هو ما ذكره الماوردي، وصاحب البحر، والفوراني، والمتولي.
وحكى الغزالي في صحة إعارتها - لما ذكرناه – وجهين:
ووجَّه المنع بأن غرض التزيين من المقاصد البعيدة، وهو الذي صححه البغوي، والرافعي، وأفهم أن محل الخلاف عند الإطلاق، أما مع قصد منفعة التزين، فلا يتجه إلا الصحة.
فإن لم نصحح إعارتها، فهل تكون مضمونة؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنها فاسدة، والفاسد [حكمه] حكم الصحيح؛ وهذا ما نسبه الغزالي إلى العراقيين، وفيه إشارة إلى أنهم وافقوا على إجراء الخلاف في صحة إعارتها [، وهو كما نقله، وأفهمه كلامه عنهم؛ كما ستعرف ذلك في باب الإقرار].
والثاني: لا.
قال القاضي: لأن العارية تعتمد عيناً منتفعاً بها [ولا منفعة] لهذه العين، فبقي مجرد القبض من المالك برضاه ومن أقبض الغير مال نفسه لا لينتفع به، كان أمانة، وهذا ما نسبه الغزالي إلى المراوزة، وقال الإمام: إنه الأفقه.
وهكذا الحكم فيما لو أعاره حنطة، أو شعيراً؛ صرح به القاضي الحسين.
فرع: إعارة الشاة والناقة؛ للبنهما.
قال القاضي أبو الطيب: [تجوز]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: المنحة مردودة.
وأراد به: الشاة التي تستعار؛ لينتفع بلبنها.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ كإجارتها [لذلك، وأشار إلى الشيخ أبي حامد؛ كما صرح به ابن الصباغ، ثم قال: ولا ينبغي [أن يكون] في هذا خلاف،] ويكون ذلك إباحة للبن الذي كان فيها، وإباحة الأعيان جائزة.
وكذلك قال في الشجرة.
وما صار إليه أبو الطيب هو ما ذكره الماوردي، وكذلك المتولي، ونفى خلافه، لكن الماوردي لم يسم ذلك إعارة، بل قال: يجوز منحة الشاة؛ للبنها، وهو الذي يقتضيه ظاهر الخبر.
قال في البحر: وهذه التسمية هي الصحيحة.
وحكى البغوي الوجهين في صحة ذلك فيما إذا أتى بلفظ الإباحة، وطرده في إباحة النسل.
فرع: هل يشترط تعيين المستعار؟
قال المتولي: [لا؛ حتى] لو قال [لأجنبي]: أعرني دابة، فقال: ادخل الإصطبل، وخذ ما أردت، صحت العارية.
قال: ويكره إعارة الجارية الشابة من غير ذي رحم محرم؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها.
أما العجوز التي لا تشتهي، [فلايكره إعارتها؛ لأنه يؤمن عليها الفساد.
ومن هذا [يؤخذ] أنه إذا كانت الشابة شوهاء لا يشتهي] مثلها، أو صغيرة بهذه الصفة- لا يكره إعارتها؛ كما صرح به الأئمة.
وفي الجيلي حكاية وجه في الصغيرة.
[وفي البحر حكاية وجه في] الكراهة مطلقاً.
ثم [ما] المراد بالكراهة [هل] التنزيه أو التحريم؟ ظاهر كلام الشيخ الأول؛ فإنه عقب ذلك بقوله: وتحرم إعارة العبد المسلم من الكافر، فلو كان مراده الثاني، لجمع بينهما؛ وهذا ما صدر به في البحر كلامه، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إذا كانت شابة يخاف منه عليها، لا يجوز الإعارة منه، وتحرم؛ وهذه [الكراهة كراهة] تحريم، وما قاله آخراً هو ما ذكره في المهذب، وابن الصباغ، والغزالي، والرافعي، ويعضده أن الشيخ في باب [القرض] جزم بعدم جواز [إقراض] من هذا شأنها؛ خشية من الوقوع في وطء يكون في معرض الإباحة، والمنع هاهنا أولى؛ لأن ثم شبهة ملك، ولا شبهة هاهنا.
وعلى هذا إن كان هو مراد الشيخ – أيضاً – فيكون قد أتى بلفظ الكراهة؛ للاقتداء بالشافعي في لفظه؛ فإنه كذا نقل عنه فيها، لكن الظاهر الأول؛ فإن الإعارة لا يلزم فيها الخلوة المحرمة؛ فلذلك كرهت؛ ولذلك جزم الإمام بعدم التحريم فيما إذا استخدمها من غير خلوة.
[نعم:] حيث أطلقت الكراهة بالخلوة بها في الاستخدام – كما صرح به الماوردي – فهي محمولة على التحريم؛ كما صرح به الإمام، ولا يكاد يخالف فيه، وامتناع إقراض الجارية كان لما ذكرناه من الفرق.
ثم حيث تحرم الإعارة، فلا يكون قادحاً في صحتها.
تنبيه: قال النواوي: كان الصواب أن يقول الشيخ: "من غير امرأة، ومحرم"، لتدخل المرأة والمحرم بمصاهرة أو رضاع؛ فإنه لا كراهة فيهما.
فرع: لو استعار جارية للوطء، لم يصح؛ فإن وطئها، نظر: فإن كان عالماً فهو زانٍ، وإن كان جاهلاً بتحريم الوطء، فهو وطء شبهة موجب للمهر، وملحق للنسب، وينعقد الولد به حرًّا، ويلزمه قيمته.
قلت: وكان ينبغي أن يكون الحكم فيه كما لو وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن؛ إذ لا يظهر [لي] بينهما فرق، والحكم فيها: أنه إن كان عالماً وجب الحد، على الصحيح.
وقيل: إن مذهب عطاء إباحة الجواري [الوطء] بالإذن؛ فيصير شبهة، ويلتحق بوطء الشبهة.
وإن كان جاهلاً، فلا حد، وهل يجب المهر؟ فيه وجهان.
وفي قيمة الولد طريقان:
أحدهما: أنها كالمهر.
والثاني: القطع بالوجوب؛ لأنه لم يأذن في الاستيلاد، وهذا ينقضه أن المرتهن لو أذن للراهن في الوطء، نفذ استيلاده قطعاً.
قال: وتحرم إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لتحريم خدمته عليه؛ قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من الاستخدام.
ولا يمكن أن يجيء القول القديم هاهنا؛ لأن الإعارة تقتضي ملكاً حتى
يؤمر فيه بالنقل؛ كما يفعل معه [فيما] إذا استأجره.
وقال في الوسيط [إنه]: تكره الإعارة منه، ومراده كراهة التنزيه؛ فإنه قال في أول كتاب البيوع: والأولى فيه جواز الإجارة- يعني: من الكافر – كما في الإيداع، والإعارة، وقد صرح بذلك الرافعي هنا.
قال: والصيد من المحرم-أي: سواء كان المعير حلالاً أو محرماً – لأن المُحْرِم يحرم عليه التصرف في الصيد، وإمساكه [له]، وفي الإعارة منه إعانة على محرَّم؛ فحرمت لذلك، وإذا حرمت الإعارة على الحلال، فالاستعارة على المحرم من طريق الأولى.
فرع: إذا استعاره، فتلف في يده، وجب عليه الجزاء، وقيمته؛ لمالكه؛ إن كان حلالاً، وكذا إن كان محرماً، وقلنا: لا يزول ملكه عنه، وإن قلنا: يزول ملكه، لم يجب عليه [سوى] الجزاء.
ولو كان المعير محرماً، والمستعير حلالاً، فلا جزاء عليه، وعليه القيمة إن قلنا: لا يزول ملك المحرم [عنه]، وإن قلنا: بزواله، فلا، وعلى المحرم القيمة؛ لتقصيره بعدم الإرسال؛ [قاله المحاملي].
قال: ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لكراهة استخدامهما؛ لما فيها من تبذلهما.
أما لو استعارهما لا لهذا الغرض، بل ليوفرهما من الخدمة، كانت مستحبة؛ قاله القاضي أبو الطيب، والكراهة هاهنا كراهة تنزيه.
وفي الرافعي في كتاب الإجارة: أن [الولد إذا استأجر][عين والده] للخدمة، ففي صحتها وجهان؛ كالوجهين فيما إذا أجر المسلم نفسه من كافر، وهذا التشبيه يقتضي التحريم.
قال: ومن استعار أرضاً للغراس والبناء، جاز أن يزرع؛ لأن ضرر الزرع أقل من ضررهما، فإذا رضي به ففيما دونه أولى.
وشبه الإمام ذلك بما إذا وكله بالشراء بمائة، فاشترى بخمسين ما يساوي مائة. وقيل: لا يجوز؛ لأنه يرخي الأرض؛ حكاه ابن يونس.
وفي المهذب تخصيصه بما إذا استعار للبناء.
ولا خلاف في أنه إذا استعار [أرضاً] للزرع، لا يجوز له الغراس، ولا البناء.
قال: وإن استعار [أرضاً] للغراس، أي: لغرس الغراس؛ فإن الغراس هو نفس الأغصان، ويطلق أيضاً على وقت الغرس.
[قال: لم يبن] وإن استعار للبناء لم يغرس؛ لاختصاص كل [واحد] منهما بضرر؛ فإن ضرر الغراس في الباطن أكثر؛ بسبب انتشار العروق، وضرره في الظاهر أقل؛ لأنه يمكن الزرع تحته، وضرر البناء في [ظاهر الأرض] أكثر؛ لأنه لا يمكن الزرع تحته، إذا اختلفا، لم يملك وضع أحدهما موضع الآخر؛ كما لو وكله في البيع بدراهم، فباع بذهب.
قال: وقيل: يغرس فيما استعار للبناء، ويبني فيما استعار للغراس؛ لأن ضررهما متقارب؛ فإن كلاًّ منهما يراد للبقاء، ويحتاج إلى الحفر في الأرض، وسد الحفرة؛ فتقاربا.
قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه.
وجزم الماوردي بهذا الوجه فيما إذا استعار للبناء، حكاه مع الأول فيما إذا
استعار للغراس.
قال: وإن قال: ازرع الحنطة، زرع الحنطة؛ [لإذنه فيها]، وما ضرره ضرر الحنطة؛ لأن رضاه بزراعة الحنطة رضاً بزراعة مثلها.
وله من طريق الأولى زراعة الشعير، إلا أن ينهاه؛ فلا يجوز؛ على ظاهر المذهب؛ كما حكاه الإمام.
ولا يجوز له زراعة أضر من الحنطة: كالقطن، والذرة، بلا خلاف.
قال الإمام: فإن قيل: قد قلتم: ليس للمستعير أن يعير [في ظاهر المذهب] وإن كان انتفاع غيره بمثابة انتفاعه، فهلا قلتم: ليس له أن يبدل زرعاً بزرع مثله؛ جرياً على الاتباع في الموضعين.
[قلنا:] لا استواء؛ لأن الأغراض تختلف باختلاف واضعي الأيدي، ولا كذلك في المزروع المتساوي.
وما قاله سؤالا وجواباً هو ما [أبداه] القاضي الحسين.
فرع: إذا قال: "ازرع الحنطة"، فزرع الذرة، كان كما لو زرعها [من غير] إذن، وليس كما لو استأجر لزراعة الحنطة، فزرع الذرة؛ حيث قلنا على قول: للمؤجر مطالبته بالمسمى وأرش النقص؛ إذا صحت الإجارة، ولم نعدل عن جنس الزرع، وكان وزان هذا [هنا]: أن يرجع على المستعير بأرش لنقص، ليس إلا؛ لأن تسليط المستأجر على الانتفاع يشبه الملك، وهو قوي؛ بخلاف المستعير.
قال: وإن قال: ازرع، ولم يسم شئاً
…
[إلى آخره].
هذا من الشيخ – رحمه الله – بناء على أن العارية تجوز للزراعة من غير تعيين ما يزرع، وهو مذهب العراقيين، وواقهم [فيه] صاحب التهذيب، وابن
كج [وقالوا] بجواز الرجوع فيها متى شاء، وطردوا ذلك في جواز الإعارة مطلقاً من غير تقييد بزرع وغيره؛ حتى قال في المهذب: يجوز له إذا قال: "أعرتك لتنتفع بها" أن يزرع، وأن يغرسن وأن يبني، وهو محمول على ما جرت به عادة تلك الأرض من هذه الأنواع؛ كما قيده الماوردي.
ولا يجوز له في هذه الحالة التسليط على دفن ميت فيها؛ كما ذكره الرافعي.
وما ذكروه فهو الصحيح عند غيرهم في مسألة التقييد بالزراعة.
وقيل: لابد فيها من تعيين ما يزرع؛ [لتفاوت ما يزرع].
قال الرافعي: ولو قيل: تصح الإعارة، ولا يزرع إلا أقل الأنواع ضرراً – لكان مذهباً.
والقائل بعدم الصحة عند الإطلاق في الزراعة قائل بعدم الصحة عند [إطلاق الإذن] بالانتفاع من طريق الأولى.
وقد جعل الإمام هذا الوجه في هذه الحالة أظهر، و [جعله] القاضي الحسين ظاهر المذهب؛ ولأجله جزم في الوجيز به؛ لأن العارية معونة شرعية، جوزت للحاجة، فلتكن على وجه الحاجة.
فعلى هذا لو قال: "أعرتك؛ لتنتفع كيف شئت"، أو لتفعل به ما بدا لك – فوجهان في الوسيط:
وجه الصحة: أنه فوض الأمر إلى مشيئته.
ويظهر [لي] أن يكون الصحيح منهما عنده الصحة؛ فإنه جزم بها فيما إذا قال: أجرتك؛ لتنتفع [بها] كيف شئت، حتى يجوز له أن يزرع، ويبني، ويغرس، وكل ما أمكن من المنفعة، مع أن الإجارة لازمة، لا مستدرك لها.
وقد حكى في التهذيب في مسألة الإجارة وجهاً: أنها لا تصح، أيضاً.
رجعنا إلى [كلام الشيخ رحمه الله].
قال: ثم رجع، والزرع قائم، فإن كان مما يحصد قصيلاً –أي: كالشعير، والفول، ونحوهما؛ عند تناهيه إلى الحالة التي يقصل فيها – حصد؛ لأن العارية ليست بلازمة؛ لأنها مبرة وتبرع بالمنافع المستقبلة، ولم يتصل بها القبض؛ [فجاز الرجوع] فيها؛ كما في التبرع بالأعيان قبل القبض.
وإذا كان له الرجوع، وقد أمكن تفريغ الأرض من غير ضرر يلحق المستعير – عمل بموجبه.
والقصيل في كلام الشيخ، قال النواوي: بمعنى: مقصول أي: مقطوع، وإذا كان كذلك لم يستقم نظمه.
قال: وإن كان مما لا يحصد – أي: قصيلاً كالقمح، والذرة، ونحوهما، ترك إلى الحصاد، وعليه الأجرة من حينئذ؛ لأن الزرع محترم، وله أمد ينتظر؛ فوجب إبقاؤه بالأجرة إلى أوان حصاده؛ جمعاً بين الحقين؛ بخلاف البناء والغراس؛ فإنه لا أمد له ينتظر؛ فلذلك سلطناه على قلعه، أو تملكه؛ كما سنذكره.
قال الإمام: وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يملك المعير طلب الأجرة؛ لأن المنافع صارت في حكم المستوفاة، والمستعير إذا استوفى المنافع، لم يلزمه بعد استيفائها أجرة، ثم نسبه إلى العراقيين، ونسبه الفوراني في كتاب الإجارة إلى [قول] القفال.
وحكى القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً: أن حكم الزرع حكم الغراس، وهو ما حكى في البحر: أن القاضي أبا الطيب اختاره.
ونسب الإمام تسليط المعير على قلع الزرع- إذا اختاره مع غرامة أرش النقص - إلى تخريج صاحب التقريب، ونبه على [فساد] جواز بذل قيمة الزرع؛ لإرادة تملكه وإن لم يصرح بذكره؛ بأن في تغريم [قيمة الزرع] قبل الإدراك عسراً لا يهتدي إله؛ فإن الزرع إذا كان بقلاً فعاقبته مجهولة [له،] فإن قوم بقلاً فهو إفساد وإحباط، وإن قوم بتقدير إدراكه، فلا مطلع على هذا؛ وقيمة النباء والغراس تتيسر في الحال.
فرع: لو أقَّت الإعارة في الزرع مدة، فاتفق تأخير الحصاد عن منتهاها؛ بسبب اختلاف الهواء. قال الإمام -: لا يقلع وراء المدة - أيضاً - لما ذكرناه.
قلت: ولو خرج على الخلاف في مثله من الإجارة، لم يبعد.
قال: وإن قال: ازرع الحنطةن لم يقلع إلى الحصاد؛ لأن العادة جارية بإبقائها إليه، وكان المستعير راضياً بذلك؛ فالتزم مقتضاه.
فإن قيل: الحنطة مما لا تستحصد قصيلاً، فهذه المسألة مندرجة في قوله:"وإن كان مما لا يحصد [ترك إلى الحصاد"، فأي فائدة في تكرارها؟
قلت: كأن الشيخ أراد بذكرها التنبيه على أن ما لا يحصد] قصيلاً إذا اذن فيه المعير بخصوصه، ثم رجع، [لا أجرة] له؛ كما حكاه القاضي الحسين وجهاً للأصحاب؛ متمسكاً فيه بأنه لما أذن فيه مع علمه بأوان الحصادن فقد رضي بكون أرضه مشغولة به إلى تلك الغاية، وجزم في المسألة الأولى بالرجوع بالأجرة؛ لأن الإذن لما كان مطلقاً، لم يتحقق زرع ما يبقى إلى هذه الغاية؛ فلم يفد رضاه بالبقاء إليها.
قال: وإن استعار أرضاً للغراس، والبناء مدة- أي: كشهر مثلاً -
جاز [له] أن يغرس، ويبني ما لم تنقص المدة، أو يرجع فيها.
وإن استعار مطلقاً، كان له الغراس والبناء ما لم يرجع فيها-أي: فإذا رجع – لا يجوز له ذلك؛ لأنه ملك التصرف بالإذن؛ فيبقى إلى أن يزول، وزواله بما ذكرناه.
وإنما جوزنا الإعارة مقيدة بزمان، وغير مقيدة؛ لأنها عطية لا بدليها بحال؛ فصحت معلومة، ومجهولة؛ كالوصية.
فرع: لو أعار للغراس والزرع مطلقاً، قال في التهذيب: لم يزرع إلا زرعاً واحداً، [أو غراساً] واحداً؛ حتى لو قلعه لا يغرس بعده إلا بإذن جديد.
وحكى القاضي أبو الطيب فيما إذا أذن له في غرس شجرة في أرضه، فغرسها، ثم قلعها، فهل له أن يعيد بدلها؟ فيه وجهان:
وجه الجواز: أن الإذن [قائم ما] لم يرجع، وجعل الوجهين كالوجهين فيما إذا أعاره حائطاً لوضع الجذوع، فسقطت الجذوع، فهل له أن يعيد غيرها؟
قال: فإن رجع فيها أي: بعد البناء والغراس- فإن كان قد شرط عليه القلع – [أي]: عند رجوعه – أجبر عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"
قال: ولا يكل تسوية الأرض؛ لأنه مأذون فيه؛ فلم يلزمه الضمان فيما يحصل به من النقص؛ كاستعمال الثوب.
قال: وإن لم يشترط، واختار المستعير القلع، فقلع، لم يكلف تسوية الأرض؛ لأن القلع مباح؛ لكون المقلوع ملكه، وإذن المعير في البناء والغراس مع علمه بأن له القلع [يتضمن الرضا] بما يحصل من التخريب؛ فلم
يلزمه التسوية؛ كما لو شرطه.
قال: وقيل: يكلف ذلك؛ لأن النقص حصل باختياره؛ ولهذا لو امتنع لم يجبر، وإذا كان كذلك، لزمه جبره؛ ليرد العين كما أخذها؛ وهذا ما صححه الرافعي، وصاحب البحر، واختاره في المرشد، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه في نظير المسألة من كتاب الإجارة، وهي إذا انقضت مدة الإجارة، فاختار المستأجر القلع، وأبدى الوجه الأول المذكور هاهنا احتمالاً [فيها] لنفسه، مع تصريحه بحكايته هاهنا.
فعلى هذا: لو قلع المستعير بناءه، أو غراسه قبل الرجوع في العارية، أو انتهاء المدة المعينة- لزمه التسوية أيضاً.
وحكى الإمام فيما إذا قلع المستأجر الغراس في أثناء المدة وجهاً عن العراقيين: أنه لا يلزمه التسوية، وإن كان قد قلع بعد [انتهاء المدة]، لزمته؛ فقد [يقال بمجيء] مثله هاهنا، لكنه وجَّه الوجه المذكور بأنه تصرف في ملكه، وفي الأرض التي تحت يده، وهذه العلة مفقودة هاهنا.
قال: وإن لم يختر – أي: المستعير – القلع، فالمعير بالخيار بين أن يبقى ذلك [قيمته]، وبين أن يقلع، ويضمن [له] أرش ما نقص بالقلع-أي: إن حصل [به] نقص – فيقوم قائماً ومقلوعاً، ويجب ما بينهما.
وإنما قلنا: له ذلك؛ لأن العارية مكرمة ومبرة، فلا يليق بها منع المعير من ماله، ولا تضييع مال المستعير؛ لكونه غير ظالم فأثبتنا الرجوع على وجه لا يتضرر به المستعير؛ جمعاً بين الحقين، وربطنا الأمر باختيار المعير؛ لأنه الذي صدرت منه هذه المكرمة.
ولأن الأرض ملكه، وهي أصل، والبناء والغراس [تابع لها، وفرع عنها]؛ ولذلك يتبعها في البيع.
أما إذا لم يحصل بالقلع نقص، فليس له إلا القلع.
وقدحكى الشيخ في المهذب وغيره من العراقيين والمراوزة: [أن] للمعير الخيار في خصلة ثالثة، وهي بذل قيمة البناء والغراس؛ ليتملكهما، ويعتبر فيهما حالة البذل، لكن لم يصرح العراقيون عند اختيار البقاء بأن له طلب الأجرة، وسلكوا في ذلك مثل ما قاله الشيخ هنا.
وحكى الرافعي عنهم، وعن القاضي أبي علي الزجاجي، وغيرهم: أن المعير يتخير بين خصلتين: القلع وضمان الأرش، والتمليك بالقيمة، دون اختيار التبقية بأجرة، ثم قال: ويشبه ان يكون هو الأظهر في المذهب، وصرح المراوزة بأن له مع اختيار التبقية طلب الأجرة، وهو ما قيد به ابن يونس كلام الشيخ.
قال الإمام: وقد نسب الأئمة تخيير المستعير بين هذه الخصال إلى ابن سريج، وهو مذهب كافة الأصحاب.
ثم إذا اختار المعير خصلة من الثلاث، ووافقه عليها المستعير، فلا كلام.
وإن خالفه، نظر:
فإن عين القلع مع غرامة النقص –فعل، ودخل الأرش في ملك المستعير قهراً، وله إسقاطه بالإبراء؛ كما صرح به الإمام هاهنا.
وإن ين التبقية بأجرة، فإن قلع، وألا فهي واجبة على المستعير عند المراوزة.
قال في البحر: ومن أصحابنا من قال: لا يلزم المستعير بذل الأجرة، ولا القلع؛ لأن العارية تقتضي الانتفاع من غير ضمان، وهو اختيار المزني، وهذا عين ما حكاه الرافعي عن العراقيين.
وإن عين بذل القيمة؛ ليتملك العين، قال القاضي أبو الطيب، وأبو الحسن العبادي، والغزالي: أجبر المستعير على قبولها، وظاهر هذا يقتضي أنه يتملك
ذلك عليه قهراً؛ كما في الشفعة، وسنذكر [من] بعد عن المحاملي ما يعضده.
وقال الماوردي في هذه الحالة: إذا لم تحصل الموافقة، قلع بناءه وغراسه مجاناً، وهو ما صرح به القاضي الحسين، وأبداه الإمام هاهنا احتمالاً لنفسه، وحمل عليه إطلاق [كلام] الأئمة.
وفي الرافعي [أن] من اعتبر - يعني: من أصحابنا - رضا المستعير في التمليك [بالقيمة]، لا نكلفه التفريغ، بل يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يجز المعير شيئاً مما خيرناه فيه.
وحكى الإمام عن ابن سريج فيما إذا انقضت مدة الإجارة، والبناء قائم في الأرض، ولم يشترط عليه القلع: أن الأجير يتخير بين الخصال الثلاث التي ذكرناها، وأي خصلة عينها، فلم يرض بها صاحب البناء، فيقال له: إما أن ترضى [بها] وإما أن تقلع بناءك مجاناً؛ وأن ما ذكره ابن سريج [هو الذي قطع به معظم أئمة المذهب.
ثم حكى [عن] الشيخ أبي علي أنه قال: فيما ذكره ابن سريج] نظر عندي؛ فإني أقول: إذا عين صاحب الأرض خصلة، وامتنع [منها] صاحب البناء، فله أني قلع بناءه، ولا يقلعه مجاناً؛ إذ يستحيل أن يحبط حقه، ويبطل ملكه بسبب امتناعه عما له الامتناع عنه؛ حتى يصير في حكم من بنى في أرض مغصوبة.
وبيان ذلك: أنه إذا قال صاحب الأرض: [بع مني فامتنع]، فلا سبيل إلى أن يباع ملكه عليه قهراً، ولكن يقال له: إن بعت منه ذلك فذاك، وإلا فاقلع، ولك أرش ما ينقصه القلع.
قال الإمام: وحقيقة ما ذكره الشيخ أبو علي يئول إلى أن مالك الأرض يجبر صاحب البناء [على القلع]، ويغرم له أرش النقص، وهو مخالف لقول المعظم وإن كان متجهاً في المعنى.
[قلت: وما قاله الشيخ أبو علي قد صرح بمثله البندنيجي، وابن الصباغ فيما إذا دفع إنسان لشخص أرضاً؛ ليغرسها بغراس من عنده؛ ليكون الغراس والأرض مشتركين بينهما؛ حيث قالا: إن الغراس محترم في هذه الصورة إذا وقع، فلو أراد صاحب الأرض تملكه، وقال صاحب الغراس: بل أقلعه، وأغرمك أرش النقص- فإن المجاب صاحب الغراس.
وهكذا الحكم فيما لو قال صاحب الأرض؛ أبق الغراس بأجرة، وقال رب الغراس: بل أقلعه، وأغرمك أرش النقص – أن المجاب صاحب الغراس.
وللمالك أن يسقط عن نفسه غرامة [الأرش] بأن يقره [بغير أجرة]؛ ذكر ذلك في كتاب القراض].
ولا خلاف أن المتعير لو بذل قيمة الأرض؛ ليتملكها – لم يجب؛ لأنها أصل؛ فلا تتبع الفرع؛ بخلاف البناء والغراس؛ ولأن ملكها أسبق.
واعلم ان محل تخيير المعير في الخصال الثلاث إذا كانت الأرض كلها له، أما لو كان للمستعير شيء فيها، لم يكن للمعير إلا التبقيةبأجرة؛ كما صرح به المتولي.
واعتبر القاضي الحسين في تنجيز التخيير عند الرجوع ألَاّ يكون على الأشجار ثمرة لم يبد صلاحها، أما لو كانت، فلا يخير في الخصال إلا بعد جذاذها؛ كما في الزرع؛ لأن لها أمداً ينتظر؛ قاله في كتاب الصلح؛ وعلى ذلك جرى الإمام ثم.
فائة: قال الإمام في كتاب الإجارة؛ إذا طلب المالك القلع مع بذله أرش النقص، فأجرة القلع على من؟ هذا مما لم يصرح به الأصحاب وكنت من أمرهم
فيه على تردد، [والظاهر] من كلام المعظم: أن ذلك على صاحب البناء، وإذا قلع فعليه النقل، والتفريغ.
ثم قال: وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مؤنة القلع على صاحب الأرض؛ كماأن عليه ما ينقصه القلع، وهو متجه جدًّا.
وأما النقل والتحويل، فعلى مالك الأرض بلا خلاف.
قال: وإن تشاحا –أي: تباخلا – فامتنع المعير من البذل، وطلب القلع مجاناً، وامتنع المستعير من القلع مجاناً؛ فإنه ليس بواجب عليه بذل الأجرة – لم يجبر المستعير على القلع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقّ"، والمستعير ليس بظالم؛ فلم يجزأن يؤخذ بالقلع [كالظالم].
قال الماوردي: ومتى وجد الشرطان – وجب الإقرار، ومتى فقد أحدهما – تعين القلع.
وأراد بالشرطين: بذل الأجرة، وامتناع المعير من البذل مع طلب القلع.
وفي ابن يونس حكاية وجه فيما إذا طلب المعير [القلع] من غير أرش، وبذل المستعير الأجرة: أنه يجبر على القلع.
وفي المهذب حكاية وجه فيما إذا امتنع المستعير من بذل الأجرة، ومن القلع، وامتنع المعير من بذل الأرش مع طلب القلع: أن القلع يمتنع، وإطلاق الجمهور
هاهنا دال عليه و [هو] ما جعله الإمام أظهر الوجهين في باب الإجارة.
وحكى وجهاً عند امتناع مالك الأرض من بذل [أرش النقص، وطلب القلع، وامتناع مالك البناء من إجابته، ومن بذل] الأجرة: أن البناء يقلع، ويجب على مالك الأرض أرش النقص.
وحكى في البحر: أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن الأرض، والبناء أو الغراس يباعان عليهما في هذه الحالة، ويوزع الثمن [عليهما] على قدر قيمتهما، وكيفية التوزيع قد قدمتها في كتاب الرهن.
والمذهب: [عدم] الإجبار.
فعلى هذا: هل تجب الأجرة؟ قال الإمام في الإجارة: والظاهر الوجوب، وعقبه بأن ما ذكرته لا اختصاص له بالإجارة، بل يجري في الإعارة، وكل ما في معناها.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه عند طلب المعير القلع بغير أرش، وامتناع المستعير منه – ستة أوجه:
[أحدها]: لا يقلع، تجب أجرة المثل.
[الثاني] لا يقلع، ولا أجرة.
[الثالث]: يقلع، ويجب الأرش.
[الرابع]: يقلع، ولا أرش؛ إن بذل المستعير الأجرة.
[الخامس]: لم يقلع، وإلا قلع.
[السادس]: يباعان عليهما.
وكلام الشيخ يقتضي عدم القلع والبيع؛ فإنه ذكر ما يترتب على ذلك؛ حيث قال: لم يمنع المعير من دخول أرضه، أي: وإن كان مستغلاًّ البناء والغراس؛
لأن الأجرة مأخوذة على إقرار الغراس والبناء، والبياض الذيبين إنشائه ليس بمشغول بملك الغير، ولا أخذ عنه أجرة؛ فلا يجوز منعه منه.
وهكذا لو بذلت [له] عنه أجرة، لم يلزمه قبولها.
نعم: ليس له أن يستند إلى شيء من ذلك، ولا [أن] يربط فيه شيئاً؛ كما حكاه المحاملي، والماوردي، والقاضي الحسين.
ثم قال: وقد ذكرنا في كتاب الصلح في مثل هذا: أنه يستند، [والله أعلم].
قال: ويمنعالمستعير من دخولها؛ للتفرج؛ لأنه انتفاع بملك الغير بغير إذنه، ولا يمنع من دخولها؛ للسقي، والإصلاح – [أي][كذا] لجني الثمار، و [نحوه] – لأنا لو لم نمكنه من ذلك، لأتلفنا عليه ماله؛ فألحقنا به الضرر، وهو منهي عنه شرعاً؛ وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو المذهب في البحر، والأصح عند الشيخ، والإمام، غيرهما.
فعلى هذا: إذا تعطلت المنفعة على صاحب الأرض بدخوله، لا يمكن إلا بأجرة؛ قاله في التتمة.
قال: وقيل: يمنع من ذلك؛ لأنه انتفاع بملك الغير؛ فلا يجز من غير إذنه.
قال الإمام: وهذا سرف، وفيه إرهاق إلى هدم البناء، وتعطيل الثمار.
قال: فإن أراد صاحب الأرض بيع الأرض – جاز؛ لخلوص [الحق له] فيها.
وحكى الإمام في باب الإجارة في جواز البيع بعد انقضاء المدة – وجهين؛ على [قولنا] بمنع بيع المستأجر، وحكاهما هنا صاحب البحر، ورجح وجه المنع، ووجهه بأن مدة الغراس فيها مجهولة، واسترجاعها غير ممكن إلا ببذل قيمة الغراس، أو أرش النقص، وذلك غيرواجب على المعير، ولا على المشتري.
ثم إذا جوزنا البيع، ثبت للمشتري الخيار؛ إن كان جاهلاً بالحال، وإن كان عالماً، أو رضي بعد العلم – ثبت له ما كان للبائع من الخيار [بين] الخصال الثلاثة أو الخصلتين [؛ كما] صرح به القاضي الحسين هنا.
و [قال] في البحر: [إنا] إذا صححنا البيع أخذنا المستعير بقلع الغراس، وأجبرنا البائع على بذل نقص الغراس؛ لأنه من حققو التسليم؛ كما يجبر على مؤنة التسليم.
قال: وإن أراد صاحب الغراس بيع الغراس – جاز.
وقيل: لا يجوز من غير صاحب الأرض.
هذا الخلاف بناه القاضي أبو الطيب على أن المستعير هل له الدخول للسقي، والإصلاح، أم لا؟
فإن كان له، جاز بيعه من الغير؛ لانه يتمكن من تسليمها، [وتسلمها].
وإن [لم يكن له]، لم يجز البيع؛ لعدم القدرة على التسليم.
ومقتضى هذا البناء أن يكون الصحيح الجواز؛ كما صرح به في المهذب، وغيره.
وبناه الماوردي على أن المستعير؛ هل له [أن] يعير أم لا؟ لأنا لو صحنا البيع، كان المشتري مع المعير [كالبائع].
ومقتضى هذا [البناء]: أن يكون الصحيح المنع.
ووجَّه المحاملي [المنع] بأن ملك المستعير على ذلك غير مستقر؛ فإن لصاحب الأرض أن يدفع إليه قيمة غراسه، ويزيل [ملكه].
[ووجه الجواز – وهو الصحيح –: بأنه ملكه، وأكثر ما فيه: أن غيره يملك
إسقاط حقه، وإزالة ملكه عنه]، وهو لا يمنع صحة البيع؛ كما في بيع الشقص المشفوع.
واعلم أن هذا كله فيما إذا كان الرجوع في العارية المطلقة بلا خلاف، أما الرجوع في المؤقتة، فقد اختلف فيها الأئمة:
فالذي ذهب إليه الجمهور: أن الحكم كذلك.
وذكر الإمام عن صاحب التقريب: أنه خرج لنفسه احتمالاً في أن الحكم في حال بقاء المدة كالحكم في الإعارة للزرع الذي لا يحصد قصيلاً، وبعد انقضاء المدة، يكون الحكم [كما في العارية] المطلقة بعد الرجوع.
وروى الماوردي [عن المزني]: أن للمعير بعد انقضاء المدة القلع مجاناً، وكذلك مذهبه فيما إذا انقضت مدة [إجارة] البناء، والغراس.
وحكى أبو لي الزجاجي قولاً مثل مذهبه في العارية عن رواية الساجي، قال الرافعي: وهو اختيار القاضي الروياني، والذي رأيته في البحر تخطئته.
وقال الإمام: قد صار طائفة من الأئمة إلى موافقته في مسألة [الإجارة [وفي كلام القاضي رمز إليه، ثم حكى عن بعض الأئمة موافقته في مسألة] العارية دون مسألة الإجارة]، وقال: الفرق: أن التأقيت في الإجارة مستحق؛ لإعلام المعقود عليه؛ فلم يتعين حمله على اعتبار القلع مجاناً؛ بخلاف العارية؛ فإنها تصح مطلقة ومؤقتة؛ فانتفى هذا الاحتمال فيها، وكانت فائدة التأقيت القلع مجاناً.
والمذهب الأول؛ فإن التأقيت كما يجوز أن يكون لهذا الغرض يجوز أن يكون للمنع من إحداث البناء والغراس بعده، أو لطلب الأجرة؛ فلا يسقط حق المستعير بالشك.
فرع: على مذهب الزني ومن وافقه: إذا قال رب الأرض: انقضت المدة،
وقال الثاني: لم تنقض المدة – فالقول قول صاحب الأرض مع يمينه؛ حكاه في البحر عن [القاضي] أبي علي الزجاجي، وفيه نظر؛ فإن الأصل بقاء المدة، ولذلك جعل [القول] قول المستأجر في مثل هذه الصورة.
قال: وإن حمل الماء بذراً أي: حنطة، أو نوى، أو غيرهما – لرجل إلى أرض غيره فنبتت، فقد قيل: يجبر على قلعه –أي: مجاناً – لأن ملكه حصل في ملك غيره بغير إذنه؛ فأجبر على إزالته وإن لم يكن بفعله؛ كما لو حصلت أغصان شجرة في هواء دار غيره؛ وهذا هو الصحيح في الطرق.
وعلى هذا: لا أجرة على صاحب البذر لما مضى.
قال القاضي أبو الطيب: لأنه حصل بغير صنع منه.
قال الماوردي: وكذا لو حمل الهواء شيئاً لرجل، فملأ به دار غيره، لا أجرة عليه.
قال: [وقيل]:لا يجبر –أي: مجاناً – بل هو كما لو حصل ذلك بإذن المالك، ثم رجع في العارية؛ لأنه غير متعد في إنباته فأشبه المستعير.
قال في البحر: وعلى هذا إذا قلع، لزمه تسوية الأرض:
ولا يخفى أن الهواء إذا حمل ذلك، كان كحمل الماء.
وقال الماوردي في كتاب الغصب: أصح من هذين الوجهين عندي: أن ينظر في الزرع بعد قلعه: فإن كانت قيمته كقيمة الحنطة أو أكثر – [أي: إن كان البذر حنطة] أجبر على قلعه.
وإن كانت أقل من قيمة الحنطة، لم تقلع ويندفع الضرر عن صاحب الأرض بالأجرة.
ولو حمل الهواء أو الماء ما لا قيمة له من نواة واحدة، أو حبات، فنبتت، فهي
لمالك الأرض في وجه، ولمالك الأصل في وجه؛ لأنها محرمة الأخذ؛ فعلى هذا الحكم كما تقدم.
قال: وإن استعار شئاً؛ ليرهنه بدين؛ فرهنه، ففيه قولان، أي: منصوصان في الرهن الصغير من الأم؛ كما صرحبه أبو حامد، ومن تابعه، والغزالي قال: إنهما مأخوذان من تردد الشافعي في المسألة.
قال: أحدهما: أن حكمه حكم العارية؛ لانه قبض مال الغير بإذنه؛ لمنفعة نسه منفرداص بها؛ فكانت عارية؛ كما لو قبضه للخدمة.
قال: فإن تلف في يد المرتهن، أو بيع في الدين، ضمنها المستعير بقيمتها؛ لأن العارية مضمونة بالقيمة.
وأي وقت تعتبر فيه القيمة؟ سيأتي الكلام فيه؛ وهذا ما حكاه الجمهور.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا بيعت [بأكثر] من القيمة، رجع المعير بما بيعت به؛ لأنه ملك الثمن قبل إيفائه؛ فكان كالعين؛ وهذا ما صححه ابن الصباغ، والإمام، وغيرهما.
قال: والثاني: أن المعير كالضامن للدين في تلك العين؛ لأن الأعيان كالذمم؛ بدليل جواز التصرف فيهما، وقد صح الضمان في الذمة؛ فكذلك في العين.
قال القاضي أبو الطيب: ولأن العارية ما أتلفت منافعها، وحيل [بين صاحبها] وبين الانتفاع بها في حال الاستعارة، وقد أجمعنا على أن منفعة العين المعارة هاهنا لصاحبها؛ فوجب ألا تكون إعارة، وإذا بطل كونه إعارة تعين أن يكون ضماناً؛ لأنه لا يحتمل غيرهما؛ وهذا هو مختار الشافعي، وعليه نص في الرهن الكبير؛ كما حكاه البندنيجي، وصححه، ووافقه في
التصحيح الرافعي، وغيره.
قال: فلا يجوز حتى يبين جنس الدين، وقدره، وصفته؛ أي: من صحة وتكسير، وحلول وتأجيل، وغير ذلك؛ كما في الضمان.
وهل يشترط معرفة من يرهن عنده؟ فيه خلاف؛ أصله: اشتراط معرفة الضامن للمضمون له.
والأصح-هاهنا-:الوجوب.
وحكى عن القديم أنه أجاز السكوت عن الحلول والأجل.
وهذا الكلام من الشيخ فيه إشعار أنا على القول الأول لا نشترط شيئاً من ذلك، وقد صرح به غيره.
وقال: لا يشترط معرفة المعير المرهون عنده، [عليه] أيضاً.
قال: وإذا تلف في يد المرتهن –لم يرجع المعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئاً، والامن لا يرجع ما لم يقض.
وهكذا الحكم فميا لو تلف في يد الراهن عند الشيخ أبي حامد.
وكلام الغزالي الآتي ذكره يقتضي أنه يضمن على القولين معاً.
قال: وإن بيع [في] الدين – رجع بما بيع به؛ لأنه القدر الذي غرمه.
ثم الحالة التي يسوغ فيها البيع ما هي؟
قال البندنيجي: المرتهن يطالب الراهن بوفاء دينه، فإن لم يوفه، طالبه ببيع الرهن [به] فإن امتنع، باعه الحاكم، ومتى باع هو أو الحاكم، ففي قدر ما يرجع به المعير ما ذكرناه.
وفي النهاية: إذا أراد المستعير بيع العين في وفاء الدين دون مراجعة المعير – فعلى الول: لم يجد [إليه] سبيلاً، ولا يبيعه إلا بإذن مجدد.
قال الإمام: وقياس طريق القاضي – [أي]: في أن العارية لازمة على هذا القول؛ كما سنذكره- أنه يجوز بيع الرهن عند الإعسار من غير مراجعة.
وعلى الثاني: ليس له الانفراد ببيع الرهن ما وجد اقتداراً على أداء الدين من مال نفسه، فإن أفلس، ولم يجد ما يفوي به دينه فيباع المرهون في دينه وإن سخط المعير.
وأبدى الرافعي احتمالاً لنفسه في جواز البيع [في] حال اليسار [كما يطالب الضامن في حال اليسار]،وكانه لم يقف على ما حكاه البندنيجي.
وقد بقي من تمام [التفريع على القولين] مسائل:
منها: هل يملك المعير مطالبة المستعير بفك الرهن؟
قال الأصحاب: إن كان [الدين] حالاً، ملك ذلك على القلين جميعاً، وإن كان مؤجلاً، فعلى الأول: نعم، وعلى الثاني: لا؛ إذ الضامن لا يمكن له مطالبة المضمون عنه [إذا كان الدين مؤجلاً قبل حلوله.
فإن قيل: قد حكيتم فيما إذا ضمن بإذنه و [كان مؤجلاً وفيما إذا ضمن بإذنه و] كان الدين حالاًّ –خلافاً في أن الضامن هل يملك مطالبة المضمون عنه بتخليصه أم لا؟].
ولم تجروه هاهنا على قول الضامن.
قلنا: قد فرق الإمام بينهما بأن الضامن قبل أن يغرم ليس عليه بأس إلا تعلق
الدين بذمته، و [لا] كذلك ما نحن فيه؛ فإن العين المستعارة مستغلة بوثيقة الرهن فكان شبيهاً بأداء الضامن ما ضمنه.
ومنها: لو [كان] المستعار عبداً، فأعتقه المعير بعد القبض.
قال القاضي الحسين: إن قلنا بالثاني – نفذ.
وفي التهذيب: أنه مخرج على عتق المرهون.
[وإن قلنا] بالأول، قال القاضي: كان بمثابة عتق الراهن [المالك] للعبد المرهون، وهو بناء على [أن] الصحيح فيه أن الرهن لازم.
قال الإمام: ومعظم الأصحاب علىمخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهن وحكمه على قول العارية، وألزموه، وأكدوه على قول الضمان.
والوجه عندنا تنزيل العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي تعلق الأرش برقبته.
ومنها: لو جنى العبد المستعار، فعلى الثاني: لا ضمان على المعير؛ لأن يده ليست يد ضمان؛ على هذا القول.
قال الإمام: فما ظنك باليد المتفرعة على يده.
فإن قلنا: الرهن عارية، فهل يجب الضمان على المستعير؟ فيه وجهان مبنيان على أن العارية تضمن ضمان المغصوب [أم لا]؟ فعلى الأول: يضمن أرش الجناية، وهو الأقيس في النهاية، وبه جزم البندنيجي، والبغوي.
وعلى الثاني: لا.
وعلى القولين معاً: إذا تلف الرهن في يد المرتهن، لا يطالب بشيء، وكلام الغزالي يشعر بالمطالبة على قول الضمان؛ فإنه قال: وحقيقة هذا العقد لا تتمحض، بل هو فيما يدور [بين المرتهن والراهن رهن محض، وفيما بين
المستعير والمعير عارية، وفيما] بين المعير والمرتهن تزدحم عليه مشابهة العارية والضامن؛ وهو غير مساعد عليه.
نعم: حكى الإمام تفريعاً على مذهب ابن سريج [في] أن الرهن باطل على قول العارية - كما سنذكره - تردداً في ضمانه، وقال: الظاهر: أنه لا يضمن.
وعلى القولين معاً: إذا استعار ليرهن [من شخص، لم يجز أن يرهن من غيره وإن لم يشترط معرفته في الابتداء]، وإذا استعار ليرهن بدين حال لا يجوز أن يرهن بدين مؤجل، وكذلك العكس، وإذا استعار ليرهن [بجنس، أو بصفة، لا يجوز أن يرهن بغير ذلك، ولو عين قدراًن جاز أن رهن] بدونه، دون ما فوقه، فلو فعل، بطل في الجميع في ظاهر المذهب، في تعليق القاضي أبو الطيب، وهو الذي صار إليه المعظم؛ كما حكاه الإمام، وجزم به [في] المهذب.
وقيل: يبطل في القدر الزائد، وفي [القدر] المأذون فيه قولاً تفريق الصفقة. وعد الإمام هذا من تخريج صاحب التقريب.
وعلى القولين معاً: للمضمون عنه الرجوع في العين قبل الرهن وبعده، وقبل القبض؛ لأنه إذا لم يلزم في حق المستعير، ففي حق المعير أولى وليس له الرجوع بعد القبض عند العراقيين، والقاضي ابن كج، والحسين، وإن كان في الوسيط قد حكى عن القاضي: أنه له الرجوع في هذه الحالة؛ على قول العارية، والمنقول عنه في النهاية والبسيط؛ الأول.
نعم حكى العراقيون عن ابن سريج على قول العارية: أن الرهن لا يصح؛ لأن العارية لا تكون لازمة، والرهن لازم، وأجابوا: بأنها ليست بلازمة هاهنا، فإن للمعير مطالبة المستعير بالفكاك؛ على قول العارية، بكل حال كما ذكرناه.
وغيرهم أجاب بأن العارية قد تفضي إلى اللزوم في موضع؛ كما في الإعارة للدفن؛ لحرمة الميت؛ فكذلك هاهنا؛ لان في رجوعه إبطالاً لوثيقة الرهن.
وحكى الإمام: أن صاحب التقريب والشيخ [أبا محمد]، والأثبات من أصحاب القفال – صاروا إلى أن للمعير الرجوع على قول العارية متى شاء، فيسترد العين.
ثم قال: وهذا عندي راجع إلى ما صار إليه ابن سريج؛ فإن الرهن إذا كان لا يلزم، [ولا يملكي المستعير بيعه في دينه – كما ذكرناه – فلا أثر للحكم بصحته.
وحكى عن صاحب التقريب فيما إذا كان الدين مؤجلاً، هل له لأن يرجع في العين في الحال؟
[فيه وجهان]:
أحدهما: نعم؛ كما بعد الحلول.
والثاني: لا؛ لأنه أقت إذنه، وربط به شيئاً؛ فصار كما لو أعاره للغراس [إلى مدة].
فرع: لو قال مالك العبد: "ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي [هذا] "، ولم يقبل المضمون له – قال ابن كج: صح على قول الضمان، ويكون كالإعارة [للرهن]؛ وهذا منه تفريع على أنه لا يشترط القبول [في الضمان].
قال الإمام: وعلى هذا يدل كلام القاضي.
ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتلعق [بالأعيان؛ تقريباً له من المرهون وإن [قلنا:] لا يعتبر في الضمان المطلق] في الذمة، ويجوز ألَاّ يعتبر؛ نظراً إلى اللفظ، فإن الشروط قد تختلف باختلاف الألفاظ وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول، ولو كان بلفظ الهبة، افتقر إليه؛ على الأصح.
فرع: لو استعار منه شيئاً؛ ليؤجره – جاز؛ على وجه حكاه الرافعي في
آخر الإجارة عن ابن كج؛ كما لو استعاره؛ ليرهنه.
قال: وإن أعاره حائطاً؛ لوضع الجذوع، لم يرعج فيها ما دامت الجذوع عليها – أي: محكمة – لأن الشيء ينتفي؛ لانتفاء ثمرته، وثمرة الرجوع هاهنا [منتفية؛ فانتفى لذلك، وإنما قلنا: إن الثمرة] منتفية؛ لانها منحصرة في تملك ما أحدث في المستعار بالقيمة أو المطالبة بقلعه مع بذل أرش النقص، أو مجاناً، أو طلب الأجرةِ، وكل منها منتفٍ:
أما التمليك؛ فلأنه لا سبيل إلى تملك كل الجذع؛ لأنه إنما يتملك ما علا ملكه، وبعضه لم يعله، بل علا ملك صاحبه.
ولا سبيل إلى تملك رأس الجذوع؛ لأنه لا منفعة فيه، وقد يتضمن بيع ما تنقص قيمته بقلعه.
وأما القلع مع ضمان أرش النقص، فلأن الجذع إذا رفع طرفه من حائط، لم يستسمك على الحائط الآخر؛ فاستلزم القلع إجباره على إزالة ملكه عن ملكه، وليس للمعير الإجبار على مثل ذلك؛ ألا ترى أنه لو أعاره حصته من أرض له فيها حصة؛ ليبني فيهان أو يغرس – لم يملك إجباره على القلع؛ فكذلك هاهنا. وأما القلع مجاناً؛ فلأنه إذا امتنع القلع مع ضمان النقصان – لما ذكرناه – فمع عدمه أولى، مع أنه أذن فيه، وهو مراد للبقاء؛ فأشبه البناء والغراس.
وأما طلب الأجرة؛ فلأن هذه المنفعة مسامح بها، ولم تجر عادة بمقابلتها بالأعاض؛ ولهذا أجبر عليها [في القديم، وجازت المصالحة عليها] لا إلى غاية؛ لتمكن مالك الجدار من الانتفاع به مع بقاء الجذوع؛ بخلاف الأرض المعارة للبناء والغراس؛ فإن العادة جارية بأخذ مقابل منفعتها؛ فإن الانتفاع بها متعذر مع ذلك؛ وهذا ما حكى الرافعي أنه مذهب العراقيين، وحكى الإمام – هاهنا -: أنه الذي أطلقه المحققون.
وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يجوز له الرجوع فيها، [وفائدة ذلك]: طلب الأجرة، فإن امتنع من بذلها – اخذ بقلعها، وهو ما حكاه الإمام في كتاب الصلح، عن رواية القاضي، عن بعض الأصحاب؛ وحكاه الغزالي عن القاضي.
وحكى عن المذهب [جواز الرجوع] وأن فائدته التسلط على النقض؛ بشرط أن يغرم الأرش، وهو الذي جعله الإمام فيه ظاهر المذهب.
والذي رأيته في تعليق القاضي الحسين: أنه لا يملك القلع مجاناً، وهل يملكه مع ضمان أرش النقص؟ فيه وجهان.
[وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الرجوع، وأنه يتخير بين النقض بالأرش، وبين طلب الأجرة].
وحكى في الزوائد؛ أن صاحب الفروع قال: إن الفتوى عليه.
وعلى ذلك جرى الرافعي، وصحح الرجوع، وجعلالأظهر التخييربين القلع مع ضمان الأرش، وبين التبقية بأجرة.
وقد رأيت في تعليق البندنيجي في كتاب الصلح [ما يداني ذلك]؛ فإنه قال: إذا وضع الجذوع، لزمت العارية، ولم يكن [له الرجوع]؛ وهذا أصل كل عارية كانت [لما] يتأبد بقاؤه كالغراس والبناء، لزمت إذا صارت علىصفة لا يمكن المعير [أن يرجع فيها] إلا بضرر المستعير.
ولا خلاف أن للمعير الرجوع في العارية قبل وضع الجذوع على الحائط، وكذابعده، وقبل البناء عليه؛ كما صرح به الرافعي، والبغوي، وابن الصباغ، ودل عليه كلام [غيره من] العراقيين، ومنهم الشيخ في المهذب؛ فإنه قال: لو أعاره حائطاً؛ ليضع عليها أجذاعاً، فوضعها، لم يملك إجباره على قلعها [؛ لأنها تراد للبقاء؛ فلم يجبر على قلعها] كالغراس.
وحكى في الغراس: أنه إذا لم تنقص قيمته بالقلع، كان له القلع؛ فيجب أن
يكون هاهنامثله، والقلع قبل إحكام الجذوع بالبناء [لا نقص فيه].
وفي الذخائر أن من أصحابنا من قال: ليس له الرجوع بعد وضع الجذوع، ولم يشترط وجود البناء، وهو الذي حكاه في المهذب، ولم يحك سواه. انتهى.
وغالب ظني: أن من أطلق الوضع، أراد به [الوضع] المفيد، ولا يكون [مفيداً] ما لم يحكم بالباء عليه.
ولو تأمل الشيخ مجلي ما نبهت عليه من كلام الشيخ لم يأبه؛ علىن ما قاله الشيخ مجلي إذا أجرى على ظاهره، أمكن أن يوجه بأنه لو ألزم إزالة الجذوع عن الحائط المعار، استلزم إجباره على إزالة طرفها الآخر عن ملكه، وهو ممنوع.
ولو تأمل الشيخ مجلي ما نبهت عليه من كلام الشيخ لم يأبه؛ على أن ما قاله الشيخ مجلي إذا أجرى على ظاهره، أمكن أن يوجه بأنه لو ألزم إزالة الجذوع عن الحائط المعار، استلزم إجباره على إزالة طرفها الآخر عن ملكه، وهو ممنوع.
واعلم: أن ماذكرناه من تعليل المنع من التسليط على القلع مع غرامة النقص، ومن عدم التمليك – يقتضي أن الجذوع لو كان طرفاها على حائطين للمعير: أنه يجوز ذلك، وهوما حكاه في رفع التمويه في جواز الرجوع.
وقد حكى الرافعي: أن الخلاف في جواز الرجوع و [في] فائدت التي ذكرناها تجري في هذه الحالة أيضاً.
فائدة: قال في التهذيب: يجب أن يعين في الإعارة لوضع الجذوع الموضع الذي توضع عليه، وما يضعه عليه.
قلت: وينبغي أن يعتبر مع ذلك ما ذكرناه عند إرادة المصالحة عليها بعوض، خصوصاً على مذهب العراقيين في أنها لازمة، ولا يتمكن من الرجوع فيها.
قال: فإن انهدم – أي: الحائط-أو هدمه –أي: [إما] متعدياً عند سلامته، أو من غير تعد؛ كما استهدم، ثم أعيد بنقضه.
قال: أو سقطت الجذوع- أي: والحائط [باقياً] –فقد قيل: يعيد مثلها؛
اعتماداً على الإعارة السابقة، والإذن يقتضي بقاءه على الدوام.
قال: وقيل: لا يعيد، وهو الأصح – أي: إلا بإذن جديد – لأن المأذون فيه الأول، وقد زال؛ فلم يملك غيره.
ورتب القاضي الحسين الخلاف فيما إذاهدم الجدار أو قلعت الجذوع على الخلاف فيما إذا انهدم بنفسه، أو سقطت الجذوع، وقال: الأولى [عدم] الإعادة.
[وفي الجيلي: أن محل الخلاف في إعادة تلك الجذوع] أما إذا أراد إعادة غيرها عند سقوطها، فليس له ذلك وجهاً واحداً.
والذي حكيته من قبل عن القاضي أبي الطيب عند الكلام في مسألة الغراس [يرد عليه، ولا نزاع في أن الجدار إذا أعيد بغير النقض الأول، لا يملك المستعير الإعادة [عليه]]؛ كما صرح به ابن الصباغ، والبندنيجي، والإمام، وغيرهم.
وفي البحرك أنه قيل: لا فرق بين أن يعيده بتلك الآلة، أو غيرها في جريان الوجهين.
وقال في ابن يونس: إن الشيخ أبا حامد لم يذكر هذا التفصيل.
واعلم: أن ظاهر [كلام الشيخ] يقتضي جواز الإعادة على القول الأول وإن منعه المالك منها.
وتعليل الماوردي يقتضيه فيما إذا أعيد الجدار؛ حيث قال في كتاب الصلح في توجيهه؛ لأنه صار مستحقًّا على التأبيد؛ كما لو كان الأول باقياً.
وقال- هاهنا: - لأن العاريةأوجبت دوا وضعها.
فعلى هذا لو امتنع صاحب الحائط من بنائه، كان لصاحب الأجذاع: أن يبنيه؛ ليصل إلى حقه من وضع أجذاعه فيه، وهو ما صرح به القاضي أبو الطييب في كتاب الصلح.
وقال الإمام: لا ينبغي أن يُعتقد خلافٌ في أن صاحب الجدار لو منع من الإعادة؛ لعلة – يبقى للمستعير خيار، وإنما الخلاف في [أنه هل] له ذلك من غير إذن؛ بناء على الإعارة الأولى؟
وعلى ذلك جرى المتولي، ووجهه بأن المنع من الرجوع في حال البقاء، كان لأجل الإضرار، وهو منتفٍ هاهنا.
فرع: لو رأينا أجذاعاً لشخص علىحائط لآخر، ولم ندر هل هي موضوعة بحق، أو بغير حق – حمل على أنها موضوعة بحق لازم وجهاً واحداً؛ صرح به الشيخ في المهذب، والمحاملي، والبندنيجي، وغيرهم في كتاب الصلح، وهنا.
قال: وإن أعاره أرضاً؛ للدفن، لم يرجع فيها – أي: بعد الدفن – ما لم يبل الميت؛ لأن الدفن يراد للاستدامة شرعاً وعرفاً؛ فاقتضاه الإذن، وفي نبشه هتك لحرمته.
قال الإمام: ولأن النبش من غير ضرورة حرام.
ولو رضي أولياؤه بنقله منعوا منه؛ لأنه حق للميت.
قال الماوردي: ولأن فهي انتهاك حرمته بالنقل.
وليس لصاحب الأرض المطالبة بأجرة القبر بعد الرجوع في العارية؛ صرح به في التهذيب، وقال الماوردي: قولاً واحداً؛ لأن العرف غير جار به، والميت زائل الملك، والأولياء لا يلزمهم.
أما لو وضع الميت في القبر، ولم يدفن، فكلام الرافعي يقتضي [منع] الرجوع في هذه الحالة؛ فإنه قال: وله الرجوع قبل الحفر وبعده، مالم يوضع فيه الميت.
ثم قال: وقال المتولي: له الرجوع.
ومؤنة الحفر في هذه الحالة على ولي الميت، ولا يلزم المعير الضمان.
وكلام الإمام يقتضي ما ذكره المتولي؛ فإنه قال: وللمعير الرجوع قبل إيعاب الدفن.
فرع: لو كان للمعير في تلك البقعة أشجار، فأراد سقيها، قال الإمام: نظر: إن كان السقي يخرق [موضع] الدفن؛ بحيث يُندي من المدفون شيئاً منع، وإلا فلا.
قال: ويما سواه – أي: سوى ما [ذكره مما يقتضي منع الرجوع] – يرجع إذا شاء؛ إذ لا ضرر في ذلك.
قال: ومؤنة الرد على المستعير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى [تُؤَدِّيَ"، أخرجه] أبو داود.
[ولأنه ضامن للعين]؛ فكانت مؤنة الرد عليه؛ كالغاصب.
ولأن العارية بر ومعروف، فلو لم تجب مؤنة الرد على المستعير، لامتنع الناس من الإعارة.
قال: فإن تلفت العارية- أي: بغير الاستعمال – وجب عليه قيمتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم [لأمية بن صفوان، وقد قال للنبي صلى اللهعليه وسلم] لما استعار منه أدرعاً: أغصباً يا محمد؟ [قال: لا]، بل عارية مضمونة مؤداة، فوصفها بالضمان عند التلف، وبالرد عند البقاء؛ بياناً لحكمها عند جهله به.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ"؛ فأوجب الأداء، وهو يقتضي عموم الحالين من قيمة وعين.
ولأنها عين تفرد باحتباسها لنفسه من غير استحقاق؛ فوجب أن تكون من ضمانه؛ كالقرض.
ولأنها مضمونة الرد؛ فكانت مضمونة العين؛ كالغصب.
وقد روى الشخي أبو علي عن الشافعي قولاً في الأمالي: أنها غير مضمونة إلا إذا تعدى فيها.
قال الماودي: وهو وهم من الربيع؛ فإن قول الشافعي في الإجارات: العارية غير مضمونة إلا بالتعدي – محمول على أحد ثلاثة أوجه:
إما على سقوط ضمان [الأجرة، أوعلى سقوط ضمان] الأجراء.
أو حكاية [عن] مذهب الغير.
قال: يوم التلف؛ لأن الأصل فيما [يجب رده رد العين]، والتحويل إلى
القيمة سببه فوات رد العين، وهذا إنما يتحقق بالتلف؛ فعلى هذا لو حصلت [في العين] المستعارة زيادة: كالسمن، وغيره، ثم زالت في يد المستعير، لا يضمنها؛ كذا دل عليه كلام القاضي أبي الطيب في كتاب الغصب؛ حيث حكى عن [ابن] أبي هريرة: أن الجارية المبيعة بيعاً فاسداً، إذا قبضها المشتري، وزادت في يده، ثم ردها، أو تلفت: أنه لا يجب عليه ضمان الزيادة التي حصلت في يده [عند رد العين]؛ وإن تلفت في يده، لم يلزمه قيمتها إلا وقت التلف؛ كالعارية.
قال: وقيل: يجب قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف؛ لأنها لو تلفت في حال زيادة القيمة - لضمنها؛ فأشبه المغصوب.
فعلى هذا: لو كانت العارية من ذوات الأمثال - وجب فيها المثل.
وعلى الأول: [لا]؛ صرح به في المهذب، والحاوي.
وقال في التتمة: إن [صورة] محل الخلاف في الأصل إذا كان ما نقص من القيمة بسبب تغير السوق أما إذا كان بسبب الاستعمال، [ولم تذهب العين]، ثم تلفت- فلا يضمن القدر الزائد؛ وهذا مادة ما سنذكره عن الإمام من بعد، ومقتضى ذلك الجزم برد القيمة في ذوات الأمثال - أيضاً - كما اقتضاه إطلاق الشيخ هنا، لكن كلامه في المهذب، وكلام الماوردي، وغيرهما يقتضي خلافه؛ فإنهم قالوا على القول الثاني: تصير الأجزاء تابعة للعين، فإن ضمن العين بالقيمة، ضمنها، وإذ لم يضمن العين، لم يضمنها.
وحكى [قول] آخر: أنه يجب قيمتها يوم القبض تشبيهاً لها بالقرض، وهو مشهور من طريق المراوزة، ورأيته في نسخة من تعليق القاضي أبي الطيب.
وادعى في التتمة أن محله فيما إذا كانت قيمته أكثر من قيمته يوم التلف، أما
إذا كانت قيمته يوم التلف [أكثر]، فقدادعى أنه لا يختلف المذهب: أنه يضمنها.
وكلام الجمهور - كما ذكرته في باب: ما يجوز بيعه - يدل على خلافه.
والمذهب في الطريقين الأول؛ فإنه لو ضمن أكثر القي، أو قيمة يوم القبض - أدى إلى أن يضن مما أذن له في إتلافه، وهي الأجزاء المنسحقة بالاستعمال، وهو لا يضمنها إذا انسحقت به، دون ما [إذا تلفت بغيره] على الأصح.
وعلى تقدير: أن يضمنها عند رد العين وانسحاق بعض الأجزاء بالاستعمال؛ ما هو وجه محكي في طريق المراوزة، ونسبه الطبري إلى أبي العباس- قال الإمام -: يلزم منه أن يقع في عملية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته.
قال الرافعي: ومعنى هذا: أن من قال بتضمينه أقصى القيم؛ [فعلى تقدير أن تكون القيمة] يوم التلف أكبرن فقد ضمنه الآن قيمة ما تلف قبل ذلك، وذلك ممتنع.
قال الإمام في باب الشروط التي تفسد البيع: والوجه التفريع على الصحيح في أن التالف بالبل يغير مضمون، فنقول: إذا انسحق الثوب بعض الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قول: يجب قيمة ثوب منسحق [بأنقص ما يقدر من يوم القبض إلى يوم التلف.
وفي قول: تجب قيمته يوم التلف.
وفي قول: يجب قيمة ثوب منسحق] يوم القبض.
أما إذا تلفت العارية بالاستعمال؛ بأن انسحق الثوب باللبس، ففي الضمان وجهان: أصحهما: أنه لايجب؛ كالأجزاء.
والثاني: يجب؛ لأن حق العارية أن ترد، فإذا تعذر الرد، لزم الضمان؛ وعلى هذا، [فما الذي] يضمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: [-وهو المذكور في النهاية -: أنه يضمن العين بجميع أجزائها.
وأصحهما]-وهو المذكور في التهذيب -: أنه يضمن في آخر حالات التقويم.
فعلى هذا: إذا انتهى الثوب إلى تلك الحالة- ليس له استعماله؛ قاله المتولي، والبغوي.
وتلف الدابة [المستعارة] بسبب الركوب، والحمل المعتاد - كانمحاق الثوب بالاستعمال، وتعيبها به كانسحاق بعض الأجزاء؛ صرح به الرافعي.
وكذا انكسار السيف المستعار للقتال في القتال؛ صرح به في البحر.
وفيماجمع من فتاوي القفال أنه لو جرح ظهرها بالحمل، وتلفت منه في يده، أو في يد المالك - ضمن وإن لم يكن متعدياً بما حمل؛ لأنه إنما أذن في الحمل، لا في الجراحة.
قال الرافعي: وهو في غير حالة التعدي جواب على وجوب الضمان في صورة الانسحاق.
فرع: لو اشترط في العارية: أن يرد عند تلفها أكثر من قيمتها؛ بأن كانت قيمتها خمسة، فشرط أن يرد عشرة - فوجهان خرجهما القاضي:
أحدهما: هي عارية فاسدة؛ فتكون مضمنوة عليه، وهل يستحق فيها أجرة المنفعة؟ فيه وجهان في الحاوي، والبحرن وهما جاريان في كل عارية فاسدة.
والثاني: إجارة فاسدة بلا ضمان.
تنبيه: محل ما ذكرناه فيما إذا وجدت العارية من المالك لحاجة المستعير، أما
إذا وجدت لحاجة المالك؛ كما إذا أرسله في حاجته، وأعاره دابته؛ ليركبها في شغله، فتلفت في يده – لا ضمان على المستعير.
وكذا لو لقيه في الطيرق، ومع دواب، فأركبه [دابة]؛ ليحفظها [له]، فتلفت – لم يضمنها.
ولو وجدت العارية من غير المالك، نظر:
فإن كان مستعيراً، فسيأتي حكمه.
وإن كان مستأجراً، أوموصى له بالمنفعة، فهل تكون مضمونة على المستعير؛ كما لو استعار من المالك، أو لا؛ لأن يده نائبة عمن يده ليست مضمنة؟ فيه وجهان:
[وأصحهما]: الثاني.
ونسب القاضي الحسين القائل بمقابله إلى الغلط.
وعلى المستعير مؤنة الرد؛ إن رد على المستأجر، وإن رد على المالك؛ فهي عليه؛ كما لو رد على المستأجر.
و [إن استعار] من الغاصب، وتلف في يده، غرم المالك من شاء منهما أقصى القيم من يوم [وضع يده] إلى يوم التلف، ولا يرجع المستعير على المعير بما غرم من قيمة العين، إن قلنا: تضمن العارية ضمان المغصوب، وإن قلنا: إنها تضمن بقيمتها يوم التلف، فكذلك الحكم؛ إن كان ما غرمه قيمة يوم التلف، وإن كان أكثر من قيمة يوم التلف، فهل يرجع عليه بما زاد عن قيمة يوم التلف؟ فيه قولان، وهما جاريان في الرجوع بما غرمه من الأجرة:
والجديد: لا رجوع.
وهذا إذا كان قد استوفى المنافع، أما إذا لم يستوفها – رجع بها؛ هكذا حكاه القاضي الحسين في [كتاب] الغصب.
والمستعير من المستأجر من الغاصب إن ضمناه فكالمستأجر من الغاصب وإن لم نضمنه، رجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر، ورجع المستأجر على الغاصب.
قال: وإن تلف ولدها، [ضمن؛ لأنها مضمونة، ضمن ولدها]؛ كالمغصوبة.
قال البندنيجي: وليس بشيء.
قال: وقيل: لا يضمن؛ لأن معنى الضمان في الأم معدوم في الولد؛ بخلاف الغصب؛ لأن ولد العارية لا يكون معاراً؛ فإنه لا يجوز له استعماله بلا خلاف، وولد المغصوب يكون مغصوباً؛ وهذا ما جعله البندنيجي في كتاب الغصب المذهب واختاره في المرشد.
ولا فرق في ذلك بين الولد الموجود حال العقد، أو الحادث بعده.
وفي الجيلي: تخصيص محل الخلاف بما إذا حدث، وجزم فيما إذا كان موجوداً حال العقد، فتسلم الأم، وتبعها الجحش: أنه لا ضمان.
وقد بنى القاضي الحسين وغيره هذا الخلاف على أن العارية تضمن ضمان
الغصوب أم لا؟
فعلى الأول: يضمن الولد.
وعلى الثاني: يكون حكمه حكم ما لو هبت الريح بثوب إلى داره
قال: ومن استعار شيئاً، لم يجز أن يعيره- أي: من غير إذن - لأنه مخصوص بإباحة المنفعة؛ فلم يجز له أن يبيحها؛ كما في إباحة الطعام.
قال: وقيلك يجوز، كما يجوز للمستأجر أن يؤاجر [قال:] وليس بشيء؛ لأن المستأجر ملك المنفعة فملك نقلها؛ كالأعيان؛ بخلاف المستعير؛ فإنه لا يملك المنفعة إلا بالاستيفاء؛ كذا قاله ابن الصباغ في أثناء كلامه؛ [وإذ ذاك] لا يملك النقل، ويجوز له أن يستوفي المنفعة بوكيله.
ولو استعار دابة؛ ليُركبها زوجتها زينب، [فلا يجوز] أن يركبها زوجته عمرة وإن كانت مثلها؛ على أحد الوجهين في العدة.
أما الإعارة بالإذن، فجائزة، لكن إن لم يسم المستعير الثاني، كان الأول على إعارته، والثاني مستعير منه؛ فله الرجوع فيها متى شاء، فإذا ردها عليه - برئ.
وإن سماه للمعير خرج الأول منهما، وبرئ من ضمانها، وليس له الرجوع فيها، وإذا ردها الثاني عليه، لم يبرأ - قاله الماوردي.
ولا نزاع في مشهور الكتب: أن المستعير لا يملك الإجارة.
وحكى الزبيلي في أدب القضاء له عن الشافعي: أن من استعار داراً، كان له أن يؤجرها؛ كما لو كانت مستأجرة، وأن أبا الحسين قال: إنه الأولى.
ثم قال: فإن قيل المؤجرة لا يملك صاحبها استرجاعها؛ بخلاف المستعارة.
قلنا: [المؤجرة] يحتمل أن تغصب، وأن تنهدم في أثناء المدة؛ فتسقط
منفعتها، أو يحال بينه وبينها، ثم لم يجعل ذلك علة في منع إجارتها؛ [فكذلك هذا]، فإذا استرجعها صاحبها، أخذ المستعير من المستأجر بقد رما ثبتت العارية في يده؛ كالمؤجر إذاتلف.
قال: وإن أعاره، فهلك عند الثاني، فضمن، لم يرجع به على الأول؛ لدخوله على الضمان، وقد وجد التلف تحت يده.
ولا فرق بين أن نقول: يضمن المستعير أقصى القيم، أو قيمة يوم التلف، أو يوم القبض؛ إذا كان المستعير عالماً بأن المعير مستعير؛ لأنهما عاصيان.
وإن لم يعلم: أنه مستعير، فحكهم معه كما لو استعار من الغاصب، وقد تقدم.
قال: وإن دفع إليه دابة، فركبها، ثم اختلفا، فقال صاحب الدابة: أجرتكها؛ فعليك الأجرة، وقال الراكب: بل أعرتني – [أي:] والعين قائمة – فالقول قول الراكب في أصح القولين؛ لأنهما اتفقا علىتلف المنافع على ملك الراكب؛ لان صاحب الدابة يزعم أنه ملكها بالإجارة، والراكب يزعم أنه ملكها بالاستيفاء؛ لأن المستعير يملك بذلك، والمالك يدعي عليه ثبوت عوض في ذمته، والأصل عدمه، وهذا ما نص عليه الشافعي في العارية.
والقول الثاني: أن القول قول المالك، وبعضهم يرويه منصوصاً.
والجمهور على أنه مخرج مما نص عليه [الشافعي] في كتاب المزارعة، فيما إذا اختلف رب الأرض وزارعها بعد الزراعة، على مثل هذا النحو – أن القول قول المالك؛ كما خرج من هنا إلى هناك قول: أن القول قول المستعير؛ وهذا القول اختيار المزني، والربيع، وهو الذي صححه الرافعي.
ووجهه: أن المنافع مملوكة تصح المعاوضة عليها؛ كالأعيان وقد ثبت أنه لو اختلفا في العين بعد استهلاكها، فقال المالك: بعتكها، وقال المستهلك: بل
وهبتنيها –أن القول قول المالك، دون المتلف، وله البدل، وهذا ما استدل به العراقيون.
وقد يخالف القائل الأول في مسألة الهبة؛ كما نبهت عليه في باب التحالف.
وقداختار هذه الطريقة أبو إسحاق، وأبو علي وابن أبي هريرة، والربيعن والمزني، وابن سريج؛ كما حكاه الرافعي، والجمهور.
وجعل في الوسيط مأخذ القولين تقابل الأصلين؛ إذ يمكن أن يقال: الأصل وجوب الضمان في المنفعة، وعدم ما يسقطها، والأصل عندجريان الإذن [عدم الضمان].
وذهب ابن سريج-كما حكاه الماوردي – إلى تقرير النصين؛ اعتباراً بالعرف فيهما؛ لأن العادة جارية بإعارة الدواب فكانت شاهدة للمستعير، وجارية باستئجار الأراضي؛ فكانت شاهدة للمالك.
وقد روي [في الرقم] أن هذا أظهر عند القفال.
ومن قال [بالأول، قال:] لا اعتبار بالعادة في ترجيح المدعي؛ دليله: اختلاف الزوجين في متاع البيت؛ فإنه يقسم ما يليق بالنساء وما يليق بالرجال بينهما.
التفريع:
إن قلنا بالثاني، قال الغزالي: حلف المالك على نفي الإعارة، ولا يتعرض لإثبات الإجارة، والمسمى؛ فإنه مدع فيهما، فإذا حلف، أخذ أقل الأمرين من المسمى، أو أجرة المثل.
وقال القاضي والعراقيون: إنه يتعرض للإجارة، فيحلف ما أعاره، ولقد أجره بكذا، إذا حلفن فهل يستحق المسمى، أو أجرة المثل؟ فيه وجهان:
أصحهما –وهو المنصوص في الأم كما حكاه المحاملي -: الثاني.
وحكى الإمام [بدله]: أنه يستحق أقل الأمرين، ويكون الحلف على إثبات الإجارة؛ لينتظم كلامه، وبهذا يحصل ثلاثة أوجه.
فإن نكل عن اليمين، قال العراقيون، والقاضي الحسين في تعليقه: لا ترد على الراكب؛ لأنه لا يستفيد بها شيئاً.
وفي الوسيط حكاية عن القاضي: أنه يحلف، وفائدته: رفع الغرم، وهو أقرب من القضاء بالنكول.
وإن قلنا بالأول فحلف الراكب – برئ، وإن نكل، حلف المالك، واستحق المسمى.
قال الماوردي والشيخ: وجهاً واحداً.
وقال المحاملي والقاضي الحسين: فيه الوجهان السابقان، لكن الأظهر منهما في تعليق القاضي [الحسين] – هنا -: استحقاق المسمى.
ولا خلاف في أن هذا التنازع لو وقع قبل مضي المدة بتقوم منفعتها: أن القول قول الراكب في نفي ما يدعي عليه من الإجارة المستقبلة.
ولو وقع هذا الاختلاف والدابة هالكة، فإن قلنا بالثاني، استحق الأجرة دن القيمة؛ لأنه لا يدعيها، لكن [هل] يحتاج إلى اليمين؟ ينظر:
إن كانت القيمة والأجرة سواء، أو كانت القيمة أكثر – فوجهان؛ بناء على اختلاف الجهة، وإن كانت الأجرة أكثر، فلا يستحق القدر الزائد، إلا بيمين وفي القدر المساوي الوجهان.
وإن قلنا بالأول، فهل يلزمه للمالك أقل الأمرين من الأجرة، أو القيمة، أو لا يلزمه شيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لاتفاقهما على استحقاقه؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى اليمين.
والثاني: لا؛ لانه لا يدعي القيمة، ولا يستحق الأجرة.
قال: وإن قال صاحب الدابة: أعرتكها، وقال الراكب: بل أجرتني، فالقول قول صاحب الدابة، أي: إذا كانت الدابة قد تلفت في يد الراكب، [أو هي] باقية، ولم تمض المدة التي ادعى الراكب وقوع عقد الإجارة [عليها؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه الراكب من عقد الإجارة]، وضمنا مال الغير إذاتلف في يده، ما لم يثبت أن اليد [يد] أامنة، [ولم يثبت].
لكن حال قيام [الدابة] يحتاج إلى [اليمين على] نفي الإجارة، وفي حال تلفها، ينظر:
إن كان ما اعترف به الراكب من الأجرة أو أقل [من قيمتها، أو لم يكن قد مضت مدة لمثلها أجرة، فلابد من اليمين؛ لأجل استحقاق القيمة.
[وإن كانت القيمة قدر ما اعترف به الراكب من الأجرة، أو أقل] فهل يستحق المالك قدر القيمة بيمين، أو بغير يمين؟ [فيه وجهان].
ولا نزاع في أنه لا يستحق القدر الزائد على القيمة إلا أن يكذب نفسه.
أما لو كانت الدابة باقية وقد انقضت المدة، فلا يظهر لهذا الاختلاف فائدة.
قال: وإن قال صاحب الدابة: غصبتني، وقال الراكب: بل أعرتني، فالقول قول الراكب؛ لأن المنافع قد تلفت، وليست ملكاً قائماً، والمالك يدعي عليه عوضاً، والأصل براءة ذمته.
[و] لأن الظاهر من اليد أنها بحق، ومدعي الغصب يدعي خلاف الظاهر؛ فكان القول قول صاحب اليد؛ وهذا ما نقله المزني.
وقال الشيخ أبو حامد: إنه منصوص الشافعي في الأم، ووجهه بما ذكرناه.
وقيل: في المسألة طريقان؛ كما في المسألة الأولى؛ لأن المالك يدعي الأجرة.
هاهنا، كما يدعي المسمى هناك، والراكب ينكرها، والأصل براءة الذمة؛ وهذا من تخريج ابن سريج، وجعله الرافعي الأظهر.
وقيل: منا نقله المزني غلط، والقول قول المالك قولاً واحداً؛ لأن المالك لم يساعد على أن المنافع تلفت في يد المتصرف؛ بخلاف المسألة الأولى، وهذا ما صححه ابن الصباغ [وكذا القاضي أبو الطيب في آخر باب الإجارة، وحكى أن الربعي قال: ما نقله المزني مدفوع عنه] وادعى الغزالي أن [عليه] أكثر الأصحاب، وأنه الأولى.
[ولا] نزاع [في] أن القيمة تجب في هذه الصورة عند التلف من غير يمين؛ إذا قلنا: إن المستعير يضمن ضمان الغصوب، أو قيمة يوم التلف [إن كانت أكثر أو مساوية للقيمة يوم القبض، أما إذا كانت قيمته يوم التلف] أقل، وقلنا: لا يضمن المستعير سواها - فله أخذها بغير يمين، وهل يستحق القدر الزائد؟ إن جعلنا القول قول المالك، استحقه [مع اليمين]، وإلا [فلا، وكذا] تظهر ثمرة الخلاف في الأجرة أيضاً.
ولو قال المالك: غصبتها، وقال الراكب:[بل] أجرتني - فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الإجارة، لكن إن كانت الدابة تالفة، فلابد من اليمين؛ لاستحقاق القيمة، وإن كانت باقية، فكذلك إن لم تكن المدة قد انقضت، [وإن كانت قد انقضت]، فهل يستحق أجرة المثل بيمين، أو بغير يمين؟ ينظر:
إن كانت قدر المسمى، أو أقل، استحقها من غير يمين.
وإن كانت أكثرن فلابد في استحقاق القدر الزائد من اليمين؛ وهذا هو الصحيح.
وفي الرافعي: أنه خُرِّجَ قول مما [مر] في المسألة الأولى: أن المصدق الراكب عند هلاك الدابة قبل مضي مدة لمثلها أجرة.
ولو قال المالك: غصبتني، وقال صاحب اليد: بل أودعتني، قال الرافعي: حلف المالك؛ على الأصح، وأخذ القيمة إن تلف المال، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة.
وفي بحر المذهب في كتاب الوكالة: أن أبا حنيفة قال: لو قال [رجل: أخذت من فلان كذا وديعة، وقال] المالك: بل غصباً- فالقول قول المقر له [ولو قال: دفعه فلان إلى وديعة، وقال [المالك]: بل غصباً، فالقول قول المقر،] فمن أصحابنا من قال: لا نقول بهذا التفصيل، والقول قول المقر في الموضعين.
وقال القفال: عندي المذهب كما قال أبو حنيفة؛ لأنه إذا قال [أخذت]، فقد أقر بأخذه، وهو فعل من جهته، وادعى على المقر الإذن في الأخذ، والأصل عدمه.
وما قاله بعض الأصحاب هو ما حكاه القاضي الحسين في تعليقه في باب الكالة.
[والذي أورده صاحب الإشراف [منقولاً]: أن القول قول المقر؛ لأن المالك ادعى الضمان عليه، وهو أنكره، والأصل فراغ ذمته عن الضمان، وخرج من عند نفسه وجهاً: أن القول قول المالك؛ بناء على تقابل الأصلين، وفرق بين ما نحن فيه؛ حيث جعل القول قول المقر، وبين ما إذا ادعى المالك الإعارة، والمقر الإجارة؛ حيث جعل القول قول المالك: بأن المقصود من الإجارة ملك العوض المسمى فيها، وحكم الأمانة تابع، فإذا سقط المتبوع من جهة أن الأصل عدم العوض، سط التابع في ضمنه؛ بخلاف عقد الوديعة؛ فإن
[الحكم] المقصود فيه هو الأمانة، والأصل عدم الخيانة] [وسيكون لنا عَوْدَةٌ إلى هذا الفرع في باب الإقرار –إن شاء الله تعالى – لأن الأصحاب ذكروه ثَمَّ، فليطلب منه].
قال: وإن اختلف المعير والمستعير في رد العارية، فالقول قول المعير؛ لأن الأصل عدم الرد، مع أن المستعير قبض العين [لمحض حق] نفسه.
ولنختم الباب بفروع تتعلق به.
أحدها: إذا قال: أعرتك هذه الدابة، بشرط أن تعلفها، أو الدار بشرط أن تطين سطحها – فهي إجارة فاسدة، لاتضمن العين فيها.
وكذا لو قال: أعرتك داري بعشرة دراهم لتعيرني ثوبك شهراً.
وفيه وجه: أنها عارية فاسدة؛ نظراً إلى اللفظ.
الثاني: إذا أركب أمن عياه المشي في الطريق؛ تقرباً لله تعالى، فهي عارية.
وأبدى الإمام فيه احتمالاً، جعله الغزالي وجهاً [أظهر:] أنه لا يضمن؛ كما لو أركبه لحاجته، وهو قريب مما حكاه المتولي في الغصب، فيما إذا أوصى للغاصب بمنفعة المغصوب، ومات، وقيل: إنه يبرأ [على وجه] من ضمان الغصب؛ كما لو أجره المغصوب؛ موجهاً ذلك بأن المقصود من الوصية الثواب، وقد تعجل له، واستحق الموصى له المنافع؛ كما في الإجارة.
وعلى الأول إذا أركبه خلفه، فعلى الرديف نصف الضمنا.
ورأي الإمام: أنه لا يلزمه شيء تشبيهاً بالضيف.
وعلى الأول: لو وضع متاعه على دابة غيره، وأمره أن يسير الدابة، ففعل، كان صاحب [المتاع مستعيراً][للدابة][بقسط متاعه مما عليها].
ولو لم يكن صاحب المتاع سيرها، ولكن سيرها المالكن لم يكن صاحب المتاع مستعيراً، ودخل المتاع في ضمان صاحب الدابة.
الفرع الثالث: إذا استعار دابة؛ ليركبها إلى موضع، فجاوزه، فهو متعد من وقت المجاوزة، وعليه أجرة المثل ذهاباً ورجوعاً إلى ذلك الموضع، وفي لزوم الأجرة من ذلك الموضع إلى البلد الذي استعاره [فيه] وجهان:
وجه المنع: أنه مأذون فيه من جهة المالك.
ووجه اللزوم: أن ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة.
وعلى هذا فليس له الركوب من هذا الموضع، بل يسلمه إلى حاكم الموضع الذي استعار إليه.
الفرع الرابع: إذا اشترى من إنسان شيئاً، وتسلمه في ظرف، فتلف الظرف في يد المشتري، فهل يكون مضموناً عليه ضمان العارية؟ فيه وجهان:
أصحهما في الرافعي في كتاب الإجارة: الضمان.
ويقرب منه ما حكى عن الشيخ أبي عاصم: أن المهدي إليه إذا انتفع بظرف الهدية المبعوثة إليه حيث جرت العادة باستعماله: كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها –كان عارية؛ لأنه منتفع بملك الغير بإذنه.
ويقرب من ذلك – أيضاً – ما حكاه القاضي الحسين فيما إذا أخذ من سقاء كوزاً، فسقط من يد الآخذ، وتلف، وكان عادته أن يشرب منه في كل جمعة بكسره فإنه لا يضمنه على المذهب؛ لكونه أمانة [في يده].
وفيه وجه أنه عارية.
الفرع الخامس: إذا استعمل المستعير العارية بعد رجوع المعير فيها، وهو جاهل بالرجوع – لم تلزمه الأجرة؛ كذا ذكره الرافعي عن القفال.
قلت: ويتجه أن يتخرج على ما إذا رجع المبيح للثمار فيها، ولم يعلم
المباح له، وفيها ثلاث طرق:
إحداها: مثل ما ذكره القفال هنا، وهي ما جزم بها الغزالي في كتاب القسم.
والثانية: أن في تغريم المتناول ما يتناوله بعد ما رجع – قولان؛ كما في مسألة عزل الوكيل، وهي طريقة الشيخ أبي محمد.
والثالثة: عن أبي بكر الصيدلاني: الجزم بالغرامة؛ لأن الغرامات لا فرق فيها بين العلم والجهل، وإلى هذه مال الإمام؛ كذا حكاه الرافعي في كتاب القسم.
الفرع السادس: إذا مات المستعير، وجب على الورثة الرد، وإن لم يطلب المعير؛ لأن الرد واجب؛ بخلاف الوديعة، والله أعلم.