الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الضمان
"الضمان" مأخوذ من "التضمين".
ومعناه: تضمين الدين في ذمة من لا دين عليه، مع بقائه في ذمة من عليه.
واختصاره: ضم ذمة إلى ذمة.
وهو مصدر: ضَمِنته أضمَنُه ضماناً: إذا كفلته، ويقال: ضمن الشيء، وضمن به [ضَمْناً و] ضماناً، وضمَّنه إياه: أي كَفَّله.
والضامن: يسمى الضمين، والحميل - بفتح الحاء - والزعيم، والكفيل، والصبير.
قال الماوردي: غير أن العرف جارٍ بأن الضمين مستعمل في الأموال، والحميل في الديات، والزعيم في الأموال العِظام، والكفيل في النفوس، والصبير في الجميع، والضمان يصح بكل واحد منها ويلزم.
والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]، وقوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
وذلك يدل على مشروعية الضمان في الجملة عندهم.
وقد ورد في شرعنا ما يقرره، وهو ما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ" وقال: إنه حديث حسن صحيح.
وروى أبو سعيد الخدري: أن جنازة أُتِيَ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هَلْ عَلَى
صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ؟ " فقالوا: نعم، درهمان، قال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" فقال علِيٌّ: هما عليَّ يا رسول الله، وأنا بهما ضامن؛ فصلى عليه، ثم قال له: "جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلامِ خَيْراً، وفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ".
وقد روي عن أبي قتادة أنه ضمن عن ميت دينارين.
وفي البخاري: أنه أتى بجنازة، فقيل: يا رسول الله، صلِّ عليها، قال:"هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ " قالوا: لا، قال:"هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، فقال:"صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" قَالَ أَبُو قَتَادَة: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
قال جابر: كان في ابتداء الإسلام لا يصلي النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة عليها دين، حيث كان في الأموال قلة؛ لأن صلاته توجب المغفرة إذ هي شفاعة، وهو صلى الله عليه وسلم مُشَفَّع في أمته، والديون معاقب عليها، فلام كثرت الأموال نسخ ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ خَلفَ مَالاً أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ خَلفَ كَلاًّ أَوْ دَيْناً فَكَلُّهُ إِلَيَّ وَدَيْنهُ عَلَيَّ" فقيل: يا رسول الله، وعلى كل إمام بعدك؟ فقال:"وَعَلَى كُلِّ إِمَامِ بَعْدِي".
واختلف العلماء – عل ما حكاه الماوردي-في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَلفَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ خَلفَ دَيْناً فَعَلَيَّ" على وجهين:
أحدها: أنه إذا مات وعليه دين، قضاه من مال الصدقات من سهم الغارمين، ومن مات ولا دين عليه وله مال، كان لورثته.
والثاني: أن من ترك ديناً له ومالاً، فَعَليَّ اقتضاء الدين له، واستخراجه ممن هو عليه حتى يصير مع ماله تركة إلى ورثته.
[ولأجل هذا الاختلاف، اختلف أصحابنا في أنه: هل كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم قضاء ديون من مات ولا مال له أم لا؟ على وجهين، أصحهما في "النهاية" في أول كتاب النكاح: نعم، وعلى هذا: هل يجب مثل ذلك على الأئمة من بعده أم لا؟ فيه وجهان].
[وبالتفسير الثاني أخذ من لم يوجب من أصحابنا على الأئمة قضاء [ديون] المَوْتَى، إذا قلنا بأن ذلك كان حتماً على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما هو الأصح في "النهاية" في أول كتاب النكاح.
ومن قال منهم بأنه يجب على الأئمة ذلك من سهم المصالح، تمسك بظاهر الخبر، وفسره بالتفسير الأول].
وقد أجمع المسلمون على أصل الضمان، وإن اختلفوا في التفصيل.
قال: من صح تصرفه في ماله بنفسه صح ضمانه، [أي: سواء كان المضمون عنه حياً أو ميتاً:
أما إذا كان ميتاً؛ فلحديث علي وأبي قتادة].
وأما إذا كان حيًّا فلما روي عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل عن رجل عشرة دنانير، وأنه أتى له بها فردها النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وروي أن قَبِيصة بن المخارق الهلالي تحمل حمالة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"نُؤَدِّيهَا عَنْكَ يَا قَبِيصَةُ" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "حَرُمَتْ الْمَسْأَلَةُ – أَوْ قَالَ: لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ – إِلَاّ لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَيَسْأَلُ حَتَّى يَقْضِيهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ".
وقد حكى الرافعي عن أبي الحسين: أن من الأصحاب من لم يصحح ضمان
الأخرس بالإشارة، وقال: لا ضرورة بنا إليه، بخلاف سائر التصرفات، وانه لو ضمن بالكتابة كان في الصحة أيضاً وجهان، أظهرهما: الصحة عند وجود القرينة المشعرة بالمقصود.
قال: ومن لا يصح تصرفه في المال كالصبي، والمجنون، [أي: ومن [في معناهما من مغمي عليه] أو مُبَرْسَمٍ أو سكران بغير مُحَرَّم.
قال: والمحجور عليه لسفه لا يصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح ممن ذكرناه كالبيع.
أما السكران بمحرم فقد قدمت الكلام في تصرفاته في باب الحجر، وسيأتي في كتبا الطلاق، وقد قال الماوردي هنا: إن ضمانه صحيح على الجديد، ويجيء قول آخر من القديم: أن ضمانه باطل.
وعن السفيه احترز الشيخ بقوله: بنفسه؛ لأنه يصح تصرفه في ماله بإذنه وليه على الأصح.
واحترز عنه الغزالي بقوله: وكونه من أهل التبرع.
وهو ما نَحَا إليه الإمام؛ فإنه قال: المحجور عليه وإن كان تصح عبارته عن إذن وليه فضمانه مردود من قبل أنه تبرع وتبرعات المبذر مردودة، ولا يصح من الولي الإذن فيها.
وقد اعترض الرافعي عليه [فيها] بأنه إنما يكون تبرعاً إذا كان في صورة لا يثبت فيها الرجوع، أما إذا كان في صورة يثبت فيها الرجوع فهو إقراض لا محض تبرع.
ويدل عليه: أنه إذا ضمن في مرض الموت بغير إذن من عليه الدين فهو محسوب من ثلثه، وإن ضمن بإذنه فهو محسوب من رأس المال، وهذا وإن لم يكن تبرعاً فلا يصح من المحجور [عليه]، كالبيع، فإن أذن فيه الولي فليكن كما لو أذن في البيع. انتهى.
قلت: ما ذكره الإمام ظاهر الصحة، وفيما اعترض به الرافعي عليه نظر من
وجهين: أحدهما: أنه أطلق على الضمان بأنه قرض في الصورة التي يثبت فيها الرجوع، وليس كذلك؛ بل الأداء هو القرض.
وجوابه: أنه يجوز؛ [فعبر عنه بما] يئول إليه.
الثاني: أن قوله: فليكن إذا أذن فيه الولي كما لو أذن في البيع، لا تظهر صحته؛ فإنه قد قرر أنه قرض، وقرض مال السفيه لا يجوز إلا لضرورة كما تقدم.
فرع: لو ضمن مالاً، ثم ادعى أنه في حال الضمان كان صبيًّا أو مجنوناً، واحتمل ما يقوله – فالقول قوله، ويعتبر فيما إذا ادعى الجنون أن يُعْهَدَ له جنون سابق أو يقيم عليه بينة، هكذا أطلقه الأصحاب هاهنا.
وقد حكى الغزالي قبيل كتاب الصداق فيما إذا زوج أمته، ثم ادعى أنه زوجها في حال جنونه أو صباه، واحتمل ما يقوله – وجهين في قبول قوله، ويتجه جريان مثلهما هاهنا أيضاً.
قال: والمحجور عليه بالإفلاس يصح ضمانه، أي: وإن لم يصح تصرفه في ماله بنفسه.
ويطالب به إذا انفك الحجر عنه، أي: وله مال إذ ذاك؛ لأن الحجر عليه لحق الغرماء، ولا ضرر عليهم في الضمان؛ فصح منه.
ومقتضى الوجه الذي تقدم في أن الحجر يتعدى إلى نفسه: أنه لا يصح ضمانه؛ كما لا يصح شراؤه بثمن في ذمته.
قال: والعبد لا يصح ضمانه بغير إذن سيده، أي: المأذون غيره؛ لأنه إثبات مال في الذمة بعقد فلم يصح من العبد بغير إذن سيده كالنكاح.
وهذا ما ذهب إليه ابن سريج، وبه قال الإصطخري، وجعله القاضي الحسين في "تعليقه" هنا، والإمامُ في آخر "النهاية" المذهبَ، والرافعيُّ: أصحَّ الوجهين، وكلام القاضي أبي الطيب في "تعليقه" يقتضي ترجيحه، كما سنذكره.
قال: وقيل: يصح ويُتَّبع به، أي: يطالب به، وهو بفتح التاء المثناة فوق المشددة، إذا عَتَقَ، أي: وأيسر؛ لأن الحجر عليه لحق السيد والسيد لا ضرر عليه في الضمان؛ ولهذا لو أقر العبد لأجنبي بمال قبل إقراره إذا لم يكن على السيدات والسادة:
ضرر فيه، وهذا قول ابن أبي هريرة كما حكاه الماوردي وغيره.
وقال الرافعي: إن الأول من تخريج ابن سريج، وإن أبا إسحاق قال به.
فإن قيل: قد حكى الغزالي: أن العراقيين ألحقوا شراء العبد بغير إذن سيده بثمن في ذمته، بشراء المفلس، وكذلك حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب التفليس، ومقتضى ذلك: أن يكون الصحيح جوازه، وقد ذكرتم هاهنا أن الصحيح عدم صحة الضمان بغير إذن السيد، مع أنه في الموضعين شغل ذمته بما لا ضرر على السيد فيه في الحال؛ فكان القياس التسوية.
قلت: قد صار إلى التصحيح هاهنا صاحب "المرشد"، والإمام في مداينة العبيد، وهو الذي يقتضيه كلام ابن الصباغ؛ فإنه أخذ يذكر ما رد به القاضي أبو الطيب على القائل بهذا القول سؤالاً، [وقال: فإن قيل: إن في الضمان إضراراً بالسيد؛ لأنه مستحق إرث ماله بالولاء، إذا أعتقه]، وثبوت الدين يمنع الإرث.
وأجاب بأن حكم الإرث لا يمنع الضمان، بخلاف حكم الملك؛ ولهذا لا يمنع الإقرار، والملك يمنع الإقرار فيه.
ويمكن الفرق بين الضمان والبيع عند من قال بتصحيح القول بعدم صحة الضمان: بأن السيد وإن تضرر بتعلق الثمن بتركته بعد عتقه، فقد انجبر بدخول المبيع في ملكه عاجلاً، بخلاف دين الضمان؛ فإنه لا جابر له - خصوصاً إذا كان بغير إذن المضمون عنه - لا عاجلاً ولا آجلاً.
على أن من حكى من العراقيين أن شراء العبد ملحق بشراء المفلس - وهو القاضي أبو الطيب - قد حكى هاهنا أن شراءه وإقراضه ملحق بضمانه.
وكذلك [هاهنا] حكاه البندنيجي، وطرده في عقود المعاوضات كلها: من الصلح، والإجارة وغيرهما، إلا النكاح؛ فإنه لا يصح وجهاً واحداً. وما قالاه مشكل بما ذكرناه من الفرق.
قال: ويصح بإذنه كما يصح نكاحه؛ [ويتبع به إذا عتق]، أي: إذا لم يعين له السيد ما يوفي منه، أطلق الإذن له؛ لأن اللفظ لم يكن فيه ما يقتضي [التزام]
السيد شيئاً، والعبد لا ملك له؛ فصار كضمان المعسر.
قال: وقيل: يؤديه من كسبه، أو من مال التجارة إن كان مأذوناً له فيها؛ لأن الضمان يقتضي الغرم كما يقتضي النكاح المهر والنفقة، وهو لو أطلق الإذن له في النكاح تعلق المهر والنفقة بما ذكرناه، وكذلك إطلاق الإذن في الضمان.
وهذا ما اختاره في "المرشد"، وجعله القاضي الحسني في الأولى ظاهر المذهب.
وحكى الماوردي: أنه قول أبي علي الطبري، وصححه الرافعي والإمام فيها.
وقال الإمام فيما إذا كان العبد مأذوناً له في التجارة: إن الخلاف فيه يبني على الخلاف في غيره، وأولى بأن يتعلق بما في يده؛ لأن ظاهر الحال مشعرٌ بذلك.
وقيل: يتعلق الغرم برقبته.
والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه وبين المهر والنفقة، بأنهما يجبان عوضاً عن الاستمتاع المعجل؛ فلذلك عجلاً بخلاف الضمان.
وأيضاً فإنه لا يزيد على الإذن [له] في الشراء، ولو ابتاع بالإذن كان الثمن في ذمته دون كسبه كما قاله الماوردي؛ فكذلك الضمان.
على أن في كلام الإمام وغيره ما يشعر بأن الإذن في المعاملات يتعلق بما ذكرناه وجهاً واحداً؛ فلا يحسن الإلحاق [به].
فرع: إذا قلنا: يتعلق بمال التجارة، فهل يتعلق [بما يكسبه] من بعد الضمان؟ أو به وبما في يده من الربح الحاصل من قبل؟ أو بهما وبرأس المال؟ فيه ثلاثة أوجه، أقيسها الثالث، وهو الذي يقتضيه إطلاق الشيخ.
ومحل الخلاف إذا لم يكن على المأذون دين –كما يدل عليه كلام الشيخ
من بعد – أما إذا كان وقد حجر عليه الحاكم، [فلا] يتعلق بما في يده وجهاً واحداً،
وإن وجد الدين دون الحجر، فثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يتعلق بها، ويشارك الغرماء.
[والثاني: لا تعلق له بما في يده أصلاً؛ لأنه كالمرهون بحقوق الغرماء].
والثالث: أنه يتعلق بما في يده، لكن حقوق الغرماء تقدم، فإن ضل من المال عنها شيء، أو سقطت حقوق الغرماء، [أي]: بسبب من الأسباب – وفِّي منه دين الضمان، كذا صرح به الإمام.
وحكم المدبر وأم الولد، حكم القن، ومن بعضه حر وبعضه رقيق كذلك إن لم يكن بينهما مهايأة أو كانت، ووقع الضمان في نوبة السيد.
قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: إلزامه [بالضمان كإلزامه] بالشراء؛ فيصح ويختص به، ويجوز أن يخرج على الخلاف في أن المؤن والأكساب النادرة، هل تدخل في المهايأة؟
ولو ضمن في نوبته صح بلا خلاف، وفي "تعليق" القاضي الحين فيما إذا لم يكن بينهما مهايأة في صحة ضمانه وجهان مبنيان على أنه هل يورث أم لا؟ فإن قلنا: يورث عنه، صح.
قال: وإن قال للمأذون له: اضمن في مال التجارة، لزمه القضاء منه؛ لأن المنع كان لعدم استلزام اللفظ [ذلك]، وقد صرح به.
قال: إلا أن يكون عليه دين آخر، أي: فلا يلزمه؛ لأن حقوق الغرماء متعلقة به، وهي سابقة فقدمت.
وفي "الحاوي" حكاية خلاف في المسألة – والحالة هذه – مبني على أن العبد المأذون هل هو محجور عليه بالنسبة إلى الغرماء، كما هو محجور عليه بالنسبة إلى السيد؟ وفيه قولان حكاهما ابن سريج:
فإن قلنا: إنه محجور عليه بالنسبة إليهم، لم يقض من مال التجارة، كما أشار إليه الشيخ.
وإن قلنا: إنه غير محجور عليه بالنسبة إليهم، شاركهم المضمون له.
ثم على الأول في صحة ضمانه وجهان:
أحدهما: إنه باطل؛ لأنه صرفه إلى جهة لم يثبت فيها الرجوع.
والثاني: أن ضمانه جائز.
فعلى هذا: فيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون فيما اكتسبه بعد الضمان، وفيما فضل من المال الذي كان بيده قبل الضمان.
والثاني: أن يكون في ذمته يتبع به إذا عَتَقَ.
ولو عجز مال التجارة عن الوفاء بالمضمون حيث لا دين على العبد، قال الماوردي: تعلق الفاضل بالمستقبل من كسبه.
فإن قيل: الحر لو قال: ضمنت لك مالك على فلان في هذا المال، لم يصح؛ لأن حقيقة الضمان الضم، ولم يوجد، وقد صححتم ضمان العبد فيما في يده من مال التجارة بإذن سيده، فأي فرق بينهما؟!
قلنا: لا نسلم أن الضمان في العين لا يصح؛ فإن القاضي ابن كج صححه كما ستقف عليه في العارية، [إن شاء الله تعالى].
وإن سلمنا عدم الصحة فنقول: لا فرق بينهما؛ فإنا لم نصححه فيما في يده غير متعلق بذمته؛ فإنه لو صرح بذلك لم يصح – كما ذكرناه في الحر – بل صححناه في ذمة العبد والمال متعين للأداء.
قال البندنيجي: كما لو قال الحر: ضمنت لك ما في ذمة زيد على أن أؤديه من هذا المال؛ فإنه يصح، ويلزم على ما ضمن.
على أن القاضي الحسين جزم في هذه الصورة التي استشهدنا بها بالبطلان، لكنه فرق بين الحر والعبد؛: بأن الحر ذمته واسعة وجهات أداء المال في حقه كبيرة، فإذا شرط هذا يكون ذلك حجراً على نفسه فلم يجز، بخلاف العبد فإنه ليس له جهات كثيرة، ولا له ذمة سليمة تتعلق بها الحقوق.
فروع:
إذا ضمن العبد بإذن سيده، وأدى في حال رقه، فحق الرجوع يثبت للسيد، وإن أداء بعد العتق، فحق الرجوع للعبد، على أصح الوجهين، وفي الثاني: هو للسيد؛ فيرجع حاصل الخلاف إلى أن العبرة بحال الضمان أو بحال الأداء.
وعلى ذلك يخرج ما لو ضمن ديناً عن سيده، وأداه بعد العتق، فإن قلنا: حق الرجوع للسيد، لم يرجع عليه العبد؛ كما صار إليه القاضي أبو حامد.
وإن قلنا: إنه للعبد، رجع كما صار إليه ابن سريج.
وعلى ما أشرت إليه من المأخذ يخرج ما لو ضمن السيد عن عبده مالاً، وأداه بعد عتقه، هل يرجع عليه أم لا؟ كما لو صرح به الماوردي.
فعلى رأي أبي العباس: يرجع؛ اعتباراً بحال الأداء، وعلى رأي القاضي أبي حامد: لا يرجع؛ اعتباراً بحال الضمان؛ فإن السيد لا يثبت له على عبده دين ابتداء.
وفي "الوسيط" الجزم في هذه الصورة بالرجوع، وحكى أن رأي الأصحاب فيما لو أدى قبل العتق: أنه يرجع، وان فيه نظراً من حيث إن فيه إثبات دين السيد على عبده في دوام الرق.
آخر:
لو ضمن العبد ديناً لسيده، لم يصح.
وفي "الحاوي" – حكاية عن ابن سريج -: أنه يصح ويطالب به إذا عَتَقَ، ثم
قال: إن كان ابن سريج يقول في مبايعة السيد لعبده مثل ما يقوله في الضمان، فقد جرى على القياس، وكان لقوله وجه، وإن كان يمنع من مبايعته فقد ناقض، وفسد مذهبه.
قال: وأما المكاتب قبل الإذن فهو [كالعبد القِنِّ)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُكَاتِبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ".
[قال]: فإن أذن له ففيه قولان، أي: مبنيان على تبرعاته بإذن سيده، وفيها خلاف محل ذكرها باب الكتابة.
فإن قلنا بصحتها صار كالعبد القن إذا ضمن بإذن سيده فيما في يده، وإن قلنا: لا تصح، اتُّبع بما ضمنه إذا عَتَقَ وأيسر، ويكون فائدة الإذن: صحة الضمان، لا الأداء مما في يده.
تنبيه: القن- بكسر القاف – عند أهل اللغة: العبد المملوك هو وأبواه، قال الجوهري: ويستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والمؤنث، قال: وربما قالوا: عبيد أقنان، ثم يجمع على: أقنة.
وفي اصطلاح الفقهاء: الرقيق الذي لم يحصل فيه شيء من أسباب العتق ومقدماته، بخالف المدبر، المكاتب، والمستولدة، ومن عُلِّقَ عتقه بصفة.
قال: "ولا يصح الضمان حتى يعرف الضامن المضمون له؛ لأن الناس متفاوتون في الاقتضاء والاستيفاء: تشديداً، وتسهيلاً، والأغراض تختلف بذلك؛ فلذلك اشترطت معرفته، [كما اشترطت معرفة] قدر الدين؛ لاختلاف الغرض به.
وهذا ما ذهب إليه أبو علي بن أبي هريرة من غير اشتراط معرفة المضمون عنه، واختاره في "المرشد"، وصححه الرافعي، وحكى البندنيجي: أنه المنصوص عليه في "اختلاف العراقيين".
وقيل: تشترط معرفة المضمون عنه أيضاً؛ لينظر: هل هو ممن يستحق إسداء
الجميل إليه والمعونة أم لا؟ وهل هو موسر وممن يتوقع منه المسار إلى وفاء الدين أو لا؟ وذلك مما يختلف الغرض به. وهذا قول المزني.
وقيل: لا تشترط معرفة واحد منهما، وهو قول ابن سريج؛ لأن عليًّا وأبا قتادة ضمناً دينَ من لم يعرفاه، مع قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، ومن يجيء به غير معروف؛ كذا قاله الماوردي مع أنه حكى في موضع آخر: أن المضمون عنه كان من أهل الصُّفَّة، واستدل له القاضي أبو الطيب من حديث علي وأبي قتادة بأنه – صلى الله عليه وسلم لم يسألهما عن معرفتهما بصاحب الدين ولا بالميت.
التفريع:
إن قلنا باشتراط معرفة المضمون عنه فلا خلاف في عدم اشتراط رضاه، وإن قلنا باشتراط معرفة المضمون له – كما جزم به الشيخ – فهل يشترط قبوله أو رضاه، أو لا يشترط واحد منهما؟ فيه ثلاثة أوجه مجموعة من كلام الماوردي وغيره، كما سيظهر لك:
أحدها: أن تمام الضمان موقوف على قبوله في الحال؛ لأن الضمان عقد وثيقة يفتقر إلى لفظ الضامن بالضمان؛ فافتقر إلى لفظ المضمون له بالقبول؛ كالرهن.
وهذا ما نسبه البندنيجي إلى ابن سريج، وكذلك الماوردي.
وقال: إن أبا علي الطبري، صرح بهذا القول في "إفصاحه"، وهو الذي جزم به المحاملي.
والثاني - حكاه ابن أبي هريرة عن بعض شيوخه؛ على ما حكاه الماوردي -: أن رضاه شرط دون القبول باللفظ؛ لأنه لو كان شرطاً لاعتبرت المواجهة فيه، وقد ضمن علي وأبو تقادة دين الميت مع غيبة صاحبه؛ فعلى هذا: إن رضي المضمون له بقول صريح، أو فعل دال على الرضا في مجلس الضمان -جاز، وإن تراخى عن حال الضمان، فإن لم يوجد منه الرضا حتى فارق المجلس، فلا ضمان، وللضامن أن يرجع في ضمانه، وإن رضي المضمون له.
الثالث - وهو المذكور في "الشامل"، و"تعليق" القاضي أبي الطيب وغيرهما بدلاً من الوجه الأول - أنه لا يشترط رضا المضمون له، ونسبوه إلى ابن سريج، وأن وجهه: أن عليًّا وأبا قتادة ضمنا الدينارين والدرهمين عن الميت، ولم يستأذنا المضمون له.
ونسبوا الثاني إلى قول أبي علي الطبري، وهذا ترتيب العراقيين.
وسلك الإمام في الترتيب طريقاً آخر، قال: لم يختلف أصحابنا في أنه لا يشترط رضا المضمون عنه لصحة الضمان، فهل يشترط رضا المضمون له؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم.
والثاني - وهو الذي ذهب إليه الأكثرون -: لا.
لكن على هذا: لا يلزم المضمون له قبول ما يحضره الضامن إن كان بغير إذن المضمون عنه، وإن كان في صورة يثبت للضامن الرجوع بما غرم وجب.
وإن كان بإذن المضمون عنه حيث لا يثبت له الرجوع - كما سنذكره - ففي اللزوم وجهان:
والأشهر: أنه ليس له الامتناع، وهما مبنيان على أن المؤدي يقع فداء أو موهوباً ممن عليه الدين؟
إن قلنا بالثاني لم يكن له الامتناع، وعلى القول باشتراط الرضا، هل يشترط [القبول]؟ فيه وجهان قرَّبهما الشيخ أبو محمد من اشتراط القبول في الوكالة؛ لأن كل واحد منهما تَجَدد سلطةٌ لم تكن مع أن أصل الحق ثابت.
وعلى القول بعدم اشتراط الرضا والقبول، لا يضر تقدم الرضا المعتبر على الضمان بزمان متطاول، ولو تأخر الرضا عن الضمان، كان في حكم الإجازة إذا جوزنا وقف العقود.
وعلى القول في اشتراط الرضا والقبول، هل يشترط معرفة المضمون له والمضمون عنه؟
فيه أربعة أوجه جمعها صاحب "التقريب"، رابعها – غير ما ذكرناه -: يشترط معرفة المضمون عنه دون معرفة المضمون له.
قال الرافعي: وفي طريقة الصيدلاني ما يقتضيه، وهو غريب.
فرع: هل يشترط أن يأتي الناطق بلفظ الضمان، أو تكفي كتابته مع القرينة المشعرة بالمقصود؟ فيه وجهان، أظهرهما: الثاني.
آخر:
هل يشترط إقرار المضمون عنه بالدين، حتى لو أنكر أصل الدين واعترف به إنسان ثم ضمنه: هل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما الإمام في باب الإقرار بالنسب، والأصح – وهو المشهور في الطرق -: أنه لا يشترط.
تنبيه: لا شك أن الضمان يلزم [بقول الضامن] ضمنت ما لك على فلان، أو تكفلت به، أو: تحملته، أو تقلدته، أو التزمته، أو أنا بهذا المال ضامن، أو: زعيم، أو: حميل، أو: صبير، أو: قبيل، كما حكيته من قبل.
وفي "البيان" عن كتاب الطبري حكاية [وهج] في لفظ "القبيل": أنه ليس بصريح.
قال الرافعي: ويطرد في "الحميل" وما ليس بمشهور في العقد.
ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي لك عليه عندي – فهذا ليس بصريح في الضمان.
ولو قال: دين فلان إليَّ، فوجهان في "زوائد" العمراني حكايةً عن الطبري في أنه هل هو صريح في الضمان أم لا.
قال: ويصح ضمان كل دين لازم: كثمن المبيع، أي: سواء كان منفعة أو عيناً، قبض أو لم يقبض، ودين السلم، وأرش الجناية، أي: إذا كان نقداً؛ لأنه وثيقة يستوفي منها الحق؛ فصحت في كل دين لازم، وإن لم يكن مستقراًّ كالرهن، والمراد باللازم – كما صرح به المارودي -: ما يلزم إقباضه عند المطالبة، وبهذا التفسير يصح ضمان الأجرة في الإجارة قبل استيفاء المنفعة، والصداق قبل الدخول، ونفقة القريب بعد الوجوب في ابتداء النهار؛ اعتباراً بلزومها وقت الضمان، وإن كانت قد تسقط بمضي الوقت، كما صرح به البندنيجي.
وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه لا يصح ضمان نفقة القريب؛ لأنه ليس طريقها طريق الديون.
وفي "الحاوي" حكاية وجه في ثمن المبيع إذا لم يقبض، وفي الأجرة إذا لم تُستوفَ المنفعة، وفي الصداق قبل الدخول: أن حكم ذلك حكم ثمن المبيع في زمن الخيار، وسنذكره.
قال: أو يئول إلى اللزوم كثمن المبيع في مدة الخيار، وكمال الجعالة، أي: مثل أن يقول: من رد عليَّ عبدي فله درهم، كما صور ابن الصباغ؛ لأنه لما كان مما يئول إلى اللزوم ألأحق باللازم.
وقد استدل لصحة ضمان مال الجعالة بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
وهذا ضمان من المنادي قبل الرد، إذ الجاعل يوسف – عليه السلام.
قال: وقيل إن مال الجعالة لا يصح ضمانه.
قال القاضي أبو الطيب: لأن العقد ليس بلازم في الحال في حق المجعول له، ولا يئول إلى اللزوم في حقه بحال؛ لأنه لا يجبر على رد الآبق بحال فكان المال في حقه بمنزلة مال الكتابة في حق المكاتب.
قال ابن الصباغ: وهذا [غير صحيح]؛ لأن العمل لا يلزم، والمال يلزم بوجوده، والضمان في المال دون العمل.
وقد أجرى بعضهم الخلاف المذكور في مال الجعالة في ثمن المبيع في زمن الخيار، وهي طريقة البندنيجي، لكن قال: الصحيح في ضمان الثمن الصحة، وفي ضمان مال الجعالة البطلان.
ثم محل الخلاف في الثمن إذا كان الخيار للمشتري وحده أو لهما، أما إذا كان للبائع [وحده] صح وجهاً واحداً، صرح به المتولي.
وأشار الإمام إلى أن محل الصحة إذا قلنا: إن الملك ينتقل [بنفس العقد، أما إذا قلنا: لا ينتقل؛ فهو] ضمان ما لم يجب، وقد حكينا عنه مثل ذلك في الرهن.
ومحل الخلاف في مال الجعالة – على ما حكاه البندنيجي هنا، والمتولي والقاضي الحسين – بعد الشروع في العمل.
وقال القاضي: لا خلاف في عدم الصحة قبل الشروع.
والذي حكاه ابن يونس، واقتضاه تصوير ابن الصباغ المسألة: أن محله قبل الشروع في العمل، وهو ما اقتضاه كلام البندنيجي في صحة الرهن [به] كما حكيته في الرهن.
وقد حكى الإمام عن شيخه أنه خَرَّج ضمان الجعل قبل العمل، على الخلاف في ضمان ما لم يجب، ولكن جرى سبب وجوبه.
فرع: حقوق الله تعالى المالية لا تصح الكفالة بها؛ لأنها موكولة إلى أمانته إن تعلقت بذمته، أو زكاة تؤخذ من [عين ما بيده]، كذا قاله الماوردي في باب اللعان.
قال: وأما ما ليس بلازم ولا يئول إلى اللزوم كدين المكاتب فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب لا يجبر على دفعه [و] الضامن فرعه، والضمان هو الالتزام؛ فإذا لم يلزم الأصل لم يلزم الفرع.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه حكى عن ابن سريج وجهاً في جواز ضمانه؛ تخريجاً على ضمان ما لمي جب وقد وجد سبب وجوبه، ثم قال: وهذا فيه بعد.
وحكى أيضاً وجهين عن ابن سريج في صحة ضمانه على الترتيب القديم في صحة ضمان ما لم يجب [ولا وجد] سبب وجوبه.
قال: ولا يصح ضمان مال مجهول، أي: مثل: أن يقول: ضمنت لك ما لك على فلان، وهو لا يعرفه؛ لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد لازم، فلا يصح مع الجهالة؛ كالثمن في المبيع.
واحترزنا بقولنا: "في الذمة" عمن غصب من رجل شيئاً مجهولاً، وبقولنا:"بعقد" عمن أتلف على غيره مالاً مجهولاً، أو وطئ امرأة [في نكاح] فاسد.
قال: وقيل: يصح ضمان إبل الدية وإن كانت مجهولة؛ لأنها معلومة السن، والعدد، والمرجع في الصفة واللون إلى عرف البلد، وهذا خرجه من صحة من الصلح عنها وإصداقها، وهذا الخلاف في الجديد.
وأما في القديم: فيجوز ضمان المجهول إذا أمكن تقدير الإحاطة به؛ بأن قال: ما بعت من فلان، فأنا ضامن لثمنه، كما سنذكره.
فروع:
لو قال: ضمنت لك الدراهم التي على فلان، وهو لا يعرف قدرها - فلا يصح؛ على الجديد فيما زاد على ثلاثة دراهم، وفي قدر الثلاثة وجهان، في "التتمة".
لو قال: ضمنت لك من واحد إلى عشرة، ففي الصحة وجهان على الجديد.
وإذا صح - كما هو الأصح في الرافعي- وكان [على] المضمون أكثر من عشرة، فيلزمه عشرة أو ثمانية أو تسعة؛ إدخالاً [للطرف الأول] دون الثاني؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها في "التهذيب": الأول.
لو قال: ضمنت لك ما بين الدرهم والعشرة، وعرف أن دينه لا ينقص عن عشرة - صح، وكان ضامناً لثمانية. وإن لم يعرف، ففي صحة الضمان الوجهان في المسألة قبلها.
قال: ولا يجوز ضمان ما لم يجب، مثل: أن يقول: ضمنت لك ما تقرضه
لفلان من الدراهم، من درهم إلى ألف، أو ثمن ما تبيعه منه؛ لأن الضمان وثيقة بالدين؛ فلم يصح قبل ثبوته كالشهادة، وقد اختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق.
وحكى هو وغيره طريقاً آخر عن ابن سريج: أن في المسألة قولين، وادعى الرافعي أنه أشهر من الأول:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو الجديد.
والثاني – وهو القديم -: الصحة؛ لأنه قد تمس الحاجة إليه.
وقد حكيت هذا القول في كتاب الرهن، وذكرت ثم [بعض] تفاريعه، وحكيت عن الماوردي وغيره شيئاً يتعلق بما نحن فيه؛ فليطلب منه.
ومن تمام تفاريع القول القديم أمور:
أحدها: أنه إذا قال: ضمنت لك ما تبيعه من فلان، فباع منه الشيء بعد الشيء –كان ضامناً للكل، بخلاف ما لو قال: إذا بعت من فلان فأنا ضامن؛ حيث لا يكون ضامناً إلا لثمن ما باعه أولاً، وفرق الإمام بينهما بما لا يكاد يسلم له، وهو أن "ما" من أدوات الشرط؛ فتقتضي التعميم، و"إذا" ليست من أدوات الشرط؛ [فلا تشعر بالتعميم أصلاً].
الثاني: إذا شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين فهاهنا أولى، وإن لم تشترطها فهاهنا وجهان، وكذا معرفة المضمون عنه.
الثالث: لا يطالب الضامن ما لم يلزم الدين على الأصل.
ويلتحق بهذا النوع الدية على العاقلة، وقد صرح المتولي بأنه لا يصح ضمانها؛ لأنها غير واجبة في تلك الحالة ولهذا تسقط بالموت، والدين المؤجل لما كان واجباً حل بالموت.
واعلم أن إطلاق الشيخ يقتضي عدم صحة الضمان عند عدم الوجوب، سواء وجد سبب الوجوب أو لم يوجد، وقد حكى الغزالي في صحة ضمانه على الجديد قولين، غيره حكى ذلك وجهين:
قال: ويصح ضمان الدرك على المنصوص؛ لأن الحاجة تدعو إلى معاملة من
لا يعرف من الغرماء، ولا يوثق بيده وملكه، ويخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق، فاحتيج إلى التوثُّق، وبهذا قطع أبو إسحاق وابن القطان.
وخرج ابن سريج قولاً: أنه لا يصح.
قال القاضي أبو الطيب: وهو قول أبي العباس ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول؛ فإنه قد يخرج بعض المبيع مستحقًّا.
وحكى في "البيان" عن ابن سريج: أنه قال: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
والصحيح هو المنصوص، وبه قال عامة أهل العلم، وأطبق الناس عليه.
وصورته: أن يشتري إنسان عيناً أو بعضها، ويخشى أن تخرج مستحقة لغير البائع: إما بأن تكون مغصوبة، أو يكون قد أخذ الحصة المبيعة بالشفعة، فيضمن له نسان الثمن إن خرج المبيع مستحقًّا.
وصيغته أن يقول: ضمنت لك الثمن إن بان المبيع مستحقًّا. ويقوم مقام هذا قوله: ضمنت لك عهدة المبيع، أو الدرك فيه، أو خلاصك منه، ولو قال: ضمنت لك خلاص المبيع – لم يصح؛ لأن المستحق ربما لا يسلمه.
ولو قال: ضمنت لك عهدة الثمن وخلاص المبيع – لم يصح ضمانه بخلاص المبيع، وفي ضمانه العهدة قولاً تفريقِ الصفقة.
وقد رد الأصحاب على ابن سريج بأن المبيع إن لم يخرج مستحقًّا فلا ضمان، وإن خرج مستحقًّا بان وجوبُ رد الثمن وصحة الضمان، وليس يشبه ضما المجهول؛ لأن جملة الثمن معلومة، فإن خرج البعض مستحقًّا فهو بعض ما ضمنه؛ فلا يكون في الجهالة غرر؛ كما قلنا بصحة البيع فيما إذا خرج بعض المبيع مستحقًّا.
التفريع:
إن قلنا: يصح، فمحله بالاتفاق: إذا علم الضامن قدر الثمن قبل الضمان، ووقع الضمان بعد قبض البائع الثمن وتصرفه فيه بحيث لم يبق في يده منه شيء، أما إذا لم يعلم بقدره ففي "التتمة": أن الحكم فيه كالحكم في المرابحة، ولو علمه لكن الضمان وقع قبل قبضه:
فالذي حكاه معظم العراقيين: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
وفي "المهذب"، و"التتمة" وغيرهما حكاية وجه: أنه يصح؛ لأن هذا النوع من الضمان إنما جاز للحاجة، والحاجة تدعو إلى تجويزه في هذه الحالة – أيضاً – وهذا هو الذي يقتضي كلام الإمام ترجيحه؛ فإنه حكى الخلاف في صحة ضمان العهدة، ثم قال: وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مفصلاً بين أن يكون البائع قبض الثمن فيصح، أو لا فلا يصح.
ولو وقع الضمان بعد القبض، أطلق ابن الصباغ وغيره القول بالصحة.
وقال البندنيجي: إن كان باقياً في يد البائع فهو ضمان عين، وسيأتي الخلاف فيه.
وكما يصح ضمان العهدة للمشتري، يصح ضمان نقصان الصنجة للبائع؛ بأن جاء المشتري بصنجة، ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضمن ضامنٌ النقصَ، وقد يقوى في هذه الصورة ما خرجه ابن سريج من حيث إن المضمون النقص، وهو مجهول، بخلاف جملة الثمن في ضمان الدرك؛ فإنه معلوم.
وكذا يجوز ضمان رداءة الثمن إذا شك البائع في أن المؤدى: هل هو من الضرب الذي يستحقه أم لا؟ ولا يختص ذلك بالثمن، بل لو كان لرجل على رجل ألف درهم، فقبضها، وضمن له رجل بدل ما في من زائف أو بَهْرَجٍ – جاز.
قال الماوردي – قبل باب بيع اللحم باللحم -: وهذه من منصوصات ابن سريج.
فإن وجد القابض فيها زائفاً أو بهرجاً، فهو بالخيار في إبداله من القاضي أو الضامن، فلو قال الضامن: أعطوني المردود بعينه لأعطيكم بدله، لم نعطه إياه.
ولو اختلف البائع والمشتري في نقصان الصنجة، صدق البائع بيمينه، فإذا حلف طالب المشتري بالنقصان دون الضامن [على أقيس الوجهين.
ولو اختلف البائع والضامن] في نقصانها، فالمصدق الضامن على أصح
الوجهين؛ لأن الأصل براءة ذمته، بخلاف المشتري؛ فإن ذمته كانت مشغولة بحق البائع، والأصل بقاء الشغل.
ولو اختلفا في أن المردود من المعوَّض أم لا؟ قال الماوردي هاهنا: فإن كان معيباً فالقول قول البائع وضمانه، وإن كان من غير جنس الدراهم، فهو كما لو وقع الاختلاف في النقص.
واعلم: أن ضامن الدرك يلزمه عند خروج المبيع مستحقاً القيام ببذل الثمن، ولا يلزمه ذلك عند فسخ العقد بالإقالة، أو بتعذر تسليم المبيع من غصب أو إباق، أو نحوه.
وهل يلزمه عند الفسخ بالعيب السابق على العقد؟ ينظر:
إن كان لفظه: ضمنت لك ثمن المبيع إن كان مستحقاً، فلا، وإن كان لفظه ما عدا ذلك مما ذكرناه ففي لزومه وجهان حكاهما العراقيون والمراوزة، وقال الإمام: إنهما مأخوذان عندي من أصلين:
أحدهما: ضمان العهدة؛ فإن الاستحقاق يبين إسناد وجوب الرد إلى حالة الضمان.
والثاني: ضمان ما لم يجب ولكن وجد سبب وجوبه؛ فإن وجوب رد الثمن يتحدد عند جريان الرد، ولكن لا يجوز أن يقدر العيب القديم قبل الاطلاع عليه شيئاً ناجزاً.
والمذكور منهما في "الحاوي"، وهو الذي اختاره المزني والأكثرون: عدم اللزوم؛ لأنه مختار فيه فأشبه الفسخ بخيار المجلس والشرط والإقالة.
ومقابله، قال القاضي الحسين: هو قول من يقول: الرد بالعيب فسخ للعقد من أصله.
وهما يجريان فيما لو خرج بعض المبيع مستحقًّا، وقلنا: بفسخ العقد في الجميع بالنسبة إلى القدر المقابل لم يكن مستحقًّا، أو قلنا بعدم انفساخ العقد في غير المستحق وفسخ العقد [في المستحق].
قال القاضي الحين: والأظهر هاهنا: أنه يرجع عليه؛ لأن الفسخ حصل بسبب
الاستحقاق، وفيما إذا اطلع المشتري على العيب وقد تعذر الرد، في الرجوع بالأرش على الضامن.
قال أبو العباس: اللهم إلا أن يقول الضامن: ضمنت لك كل درك يلحق من عيب، فحينئذ يرجع بالأرش على الضامن، كذا حكاه البندنيجي عنه، وأرسله المحاملي وقال: يرجع عليه وجهاً واحداً.
وحكى الماوردي في هذه الصورة: أن الضمان لا يصح، ثم قال: وفيه وجه: أنه يصح مخرج من القديم في ضمان نفقة الزوجة، وإيراد المتولي يقرب منه؛ فإنه قال: لا يصح على ظاهر المذهب.
وهذا الخلاف يجري كما حكاه الرافعي فيما إذا قال: ضمنت لك الثمن إن تلف المبيع قبل القبض.
وانفساخُ العقد بتلف المبيع عند العراقيين – كما حكاه القاضي والبندنيجي – ملحقٌ بفسخه بالإقالة.
وبناه المتولي على أنه يرفع العقد من أصله أو من حينه:
فإن قلنا بالثاني كان كالرد بالعيب.
وإن قلنا بالأول فمن الأصحاب من قال: إنه كظهوره مستحقًّا، ثم قال: وهذا ليس بصحيح، بل هو كالرد بالعيب؛ لأن ملك المشتري زال عن الثمن ثم عاد، بخلاف ما إذا كان مستحقاً.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إذا قلنا: إنه يرتفع من حينه، ففيه خلاف مرتب على الرد بالعيب، وأولى بأن يرجع.
وفساد العقد بسبب شرط فاسد أو جهالة في العقد بناه المتولي على الرد بالعيب، فقال: إن قلنا في الرد بالعيب: إن الضامن يغرم، فهاهنا كذلك، وإن قلنا: لا يغرم، فهاهنا وجهان؛ لأن ذلك شُبِّهَ بالاستحقاق من حيث إن ملك المشتري عن الثمن لم يزل.
فروع:
يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه إذا خرج رأس المال مستحقًّا بعد تسليم
المسلم فيه، وقبله لا يجوز في أصح الوجهين؛ قاله الرافعي، ويتجه أن يجيء فيه ما ذكرناه في المثمن.
ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقًّا؛ لأن المسلم [فيه] في الذمة، والاستحقاق لا يتصور فيه.
ولو ضمن له رأس المال إن تعذر التسليم بالانقطاع، قال المتولي: إن قلنا: الانقطاع لا يوجب فسخ العقد، فهو كما لو ضمن الثمن إن حدث بالمبيع عيب، وإن قلنا: بالانقطاع ينفسخ العقد، فهو كما لو ضمن الثمن إن تلف المبيع قبل القبض.
ولو ضمن مع العهدة نقص ما يحدث من بناء وغراس في الأرض المبيعة عند خروجها مستحقة وقلع ذلك ونقضه – لم يجز، إن كان ذلك واجباً على البائع للمشتري على أصح الوجهين؛ لأنه ضمان مالم يجب.
ويصح ضمان العهدة للمستأجر، كما حكاه الرافعي في آخر الإجارة عن "الفتاوى"، حتى يرجع على الضامن عند خروج الاستحقاق، خلافاً لابن سريج.
تنبيه: الدرك – بفتح الدال وبفتح الراء وإسكانها -: التَّبِعَة.
قال المتولي: وسمي دركاً؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحق عين ماله.
والعهدة، قال البندنيجي هي في الحقيقة عبارة عن الصَكِّ المكتوب فيه الثمن، غير أن الفقهاء يستعملونه [عبارة عن] الثمن؛ لأنه مكتوب في العهدة.
وقال المتولي: إنما سمي به؛ لالتزامه ما في عهدة البائع برده.
قال الرافعي: ويجوز أخذه في شيئين آخرين:
أحدهما: قال في "الصحاح": يقال: في الأمر عهدة، أي: لم يحكم بعد، وفي عقله عهدة، أي: ضعف؛ فكأن الضامن ضمن ضعف العقد والتزم ما يحتاج فيه من غرم.
والثاني: قال: العهدة: الرجعة، يقال: أبيعك المَلَسَي لا عُهْدةً، أي: لا تَنْمَلِس وتنفلت لا ترجع إليَّ، فالضامن التزم رجعة المشتري عليه عند الحاجة.
قال: وإن قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، فألقاه – لزمه ضمانه: هذه المسألة تحتاج إلى مقدمة، وهي:
أن إلقاء ما في السفينة من غير حاجة لا يجوز.
وإذا احتيج إلى إلقاء شيء منها؛ بسبب إشرافها على الغرق – جاز.
وقد يجب؛ رجاء نجاة الراكبين إذا خيف.
ويجب إلقاء ما لا روح فيه؛ لتخليص ذي الروح ولا يجوز إلقاء الدواب إذا حصل الغرض بغير الحيوان.
وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب، ألقيت لإبقاء الآدميين، والعبيد كالأحرار.
وإذا قصر من له الإلقاء، فلم يُلْقِ حتى غرقت السفينة – فعليه الإثم، ولا ضمان؛ كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطر حتى هلك، يعصي ولا يضمن.
إذا تقرر ذلك عدنا إلى مسألة الكتاب، فإذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، وكان في صورة يجوز فيها الإلقاء، فألقاه – لزمه ضمانه؛ لأنه استدعاء إتلاف ما يعاوض عليه لغرض صحيح؛ فلزمه كما لو قال: أعتق عبدك على ألف في ذمتي، أو طلق زوجتك.
وقال أبو ثور وبعض أصحابنا – كما حكاه الرافعي عن "شرح التلخيص" -: إنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
وجوابه: أن هذا ليس على حقيقة الضمان وإن سمي به، وإنما هو استدعاء إتلاف؛ لمصلحة؛ كما ذكرنا.
قال الإمام في أوائل باب السلم: وهو قريب من أكل المضطر لطعام الغير.
ولا فرق في لزوم الضمان بين أن يكون المستدعي [في السفينة أو لا، إذا كان فيها غير مالك المتاع، وقيل: يشترط أن يكون المستدعي] فيها، ولا بين أن يسلم المستدعي إذا كان فيها أو لا، ويؤخذ الغرم من تركته.
ولو لم يكن فيها إلا مالك المتاع، لا يصح هذا الضمان؛ لأنه يجب [عليه] إلقاء المتاع لحفظ نفسه.
ولو كان فيها مع غيره، فالصحيح: أن الضمان لازم.
وقيل: لا يلزم، حكاه ابن يونس.
وقيل: يسقط من الضمان ما يقابله، حتى لو كان فيها عشرة، سقط من الضمان العُشْر.
ولو قال: ألق متاعك، ولم يتعرض للضمنا، ففي "الشامل" – وبه قال الأكثرون -: أنه لا ضمان عليه إذا وجد الإلقاء، بخلاف ما لو قال: اقض ديني، فقضاه؛ فإن في رجوعه عليه وهجين.
والفرق: أن قضاء الدين يسقط الحق يقيناً، وأما إلقاء المتاع فيجوز أن ينفعه، ويجوز ألا ينفعه وسوى الغزالي بين المسألتين في إجراء الخلاف، وهو ما حكاه ابن يونس.
ولو ألقى صاحب المتاع متاعه من غير استدعاء – لم يرجع على من في السفينة، سواء كان في حالة يجب فيها الإلقاء أم لا، وسواء كان فيها أم لا؛ بأن يكون في زورق، أو على الشط، بخلاف ما إذا أطعم إنسان المضطر طعامه؛ فإنه يرجع على أحد الوجهين، والفرق ما ذكرناه في المسألة قبلها.
وعن "المنهاج" للشيخ أبي محمد: إجراء الوجهين فيما إذا ألقى المتاع ولا خوف عليه، وأبدى الإمام ذلك احتمالاً لنفسه، وقال: ظاهر كلام الأئمة بخلافه.
ولا نزاع في أن الإلقاء والاستدعاء إذا كان في غير حالة الخوف لا يجب الضمان، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يضمن وإن كان الإلقاء في حالة المن من الغرق، وقال: إنه أقيس.
وأما أخذ الرهن في هذا الضمان فلا يجوز.
قال الماوردي: وقد أجازه بعض أصحابنا كالضمان، وليس بصحيح؛ لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهن؛ لأن ضمان الدرك يجوز، وأخذ الرهن عليه [لا يجوز].
فرع: حكاه الشيخ وغيره.
لو قال: بع مالك من فلان بخمسمائة وعليَّ خمسمائة، فالأصح: أنه لا يصح.
وفيه وجه، واختاره في "المرشد".
فائدة: الواجب على المستدعي بعد الإلقاء المثل إن كان الملقي مثليًّا، والقيمة إن كان من ذوات القيم، ويعتبر بما قبل هيجان الأمواج؛ لأنه لا قيمة له في تلك الحالة.
وفي "النهاية" في أوائل كتاب السلم حكاية عن القاضي؛ أنه ذكر وجهاً: أن الواجب في ذوات القيم المثل الصوري، كما في القرض.
قلت: وهذا منه يدل على أن الملقَى يملكه المستدعي.
وهو قضية ما حكاه الماوردي؛ فإنه قال في كتاب الأيمان: حكى ابن أبي هريرة قولين فيما إذا قال لغيره: أعتق عبدك عني، متى يملكه الآمر؟
أحدهما: أنه يصير بإعتاقه مالكاً له قبل إعتاقه، وهو الظاهر من المذهب.
والثاني: أنه ليس بمالك، وإنما يجير عليه حكم الملك؛ فإنه قبل العتق لا يملك، وبعده لا يصح أن يملك.
ثم قال: ومثل هذين القولين يجري فيما إذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ قيمته، هل يصير مالكاً قبل إلقائه أم لا؟ على هذين القولين:
أحدهما: أنا لا نعلم بعد إلقائه: أنه كان مالكاً قبل إلقائه.
والثاني: يجري عليه حكم الملك؛ لأنه قبل الإلقاء لا يملك، وبعده لا يصح أن يملكه.
والذي حكاه الإمام هاهنا وغيره: أن الملقَي لا يخرج عن ملك الملِقي حتى لو لفظه البحر على الساحل، واتفق الظفر به فهو لمالكه، ويسترد الضامن ما بذله، وهل للمالك أن يمسك ما أخذه، ويرد بدله؟ فيه خلاف كما في القرض.
فروع:
لو قال: ألق متاعك في البحر؛ على أن أضمنه وكل واحد من ركبان السفينَة، كان ضماناً للجميع، ولو قال: علي أن أضمِّنه ركبان السفينة، [فإنه يلزمه] بحصته.
ولو قال: علي أن أضمنه وركبان السفينة، وعلي تحصيله من مالهم، فإنه يضمن جميعه.
ولو قال: علي أن أضمنه وركبان السفينة، وقد أذنوا لي في هذا الضمان عنهم، وأنكروا ذلك – وجب عليه ضمان الكل.
ولو قال: أنا وهم ضامنون، أو: على أن أضمنه وركبان السفينة –فيه وجهان:
أظهرهما: أنه يلزمه الجميع.
ومقابله: أنه يلزمه بحصته، وينسب إلى اختيار المزني.
ولو قال: ألق متاعك على أن أضمنه وركبان السفينة، فأذن له فألقاه، ففيه وجهان:
أحدهما –وبه قال القاضي أبو حامد -: أنه يلزمه ضمان الجميع.
وعلى الثاني: لا يلزمه إلا قدر حصته.
ولو قال: أُلْقِي متاعي وعليك ضمانه؟ فقال: نعم، أو: أجل، فألقاه – لزمه ضمانه.
ولو قال [لآخر]: ألق متاع فلان وعلي ضمانه إن [طالبك، فألقاه] فالضمان على الملقي دون الآمر.
ثم قول المستدعي عن ركبان السفينة: هم ضامنون، إما للجميع أو للحصة: إن قصد به الإخبار عن ضمان سابق منهم، فاعترفوا به توجهت المطالبة عليهم، وإن أنكروا فهم المصدقون، وإن قال: أردت إنشاء الضمان عنهم، فعن بعض الصحاب: أنهم إن رضوا به وجب المال عليهم، والظاهر خلافه؛ لأنا [لا] نرى وقف العقود، وهذا ما ارتضاه القاضي الحسين والإمام، وقرَّب في "الوسيط" الأول؛ لأن هذا يبني على المسامحة.
قال: ولا يثبت في الضمان خيار المجلس ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار يطلب لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون، قال الشيخ وابن الصباغ: يقال في الكفالة: إن أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
فلو شرط فيه خيار الثلاث للضامن – فسد، وسواء فيه كفالة المال والبدن،
وإن شرط للمضمون له فلا أثر له؛ لأن الخيار له دائماً.
وفي "الحاوي" عند الكلام في تأجيل الضمان حكاية قول للشافعي فيما إذا شرط للضامن أن الضمان لا يفسد ويبطل الشرط.
قال: ولا يجوز تعليقه على شرط مستقبل، أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد ضمنت [لك]، أو: إن لم يؤد ما لك غداً فأنا ضامن؛ لأنه عقد من العقود فلا يقبل التعليق كالبيع ونحوه.
وكما لا يقبل التعليق لا يقبل التأقيت، مثل أن يقول: أنا ضامنه إلى شهر، فإذا انقضى ولم أغرم أبرأُ.
وعن ابن سريج: أنه إذا جاز على القديم ضمان المجهول وما لم يجب – جاز التعليق؛ لأن من حقيقة الضمان قبل الوجوب تعليق مقصوده بالوجوب؛ فعلى هذا: لو قال: [إذا] بعت عبدك لفلان بألف، فأنا ضامن للثمن، فباعه منه بألفين – قال ابن سريج: لا يكون ضامناً [لشيء، وقال صاحب "التقريب": يكون ضامناً لألف.
ولو باعه بخمسمائة فعند صاحب "التقريب": يكون ضامناً لها]، وعند ابن سريج: لا.
قلت: وقد حكى الإمام عن ابن سريج في أواخر هذا الباب: أن رجلاً لو ادعى: أن فلاناً ضمن لي ألف درهم، وأقام شاهدين: شهد أحدهما: أنه ضمن ألفاً، والآخر: أنه ضمن خمسمائة – [فالألف لا تثبت]، وهل تثبت الخمسمائة؟ فعلى قولين خرجهما ابن سريج، وكان يتجه أن يخرج مثلهما هاهنا.
ولو قال: إذا أقرضته عشرة، فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر –كان ضامناً لعشرة على الوجهين؛ لأن من أقرض خمسة عشر، قد أقرض عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعاً بعشرة.
ولو أقرضه خمسة فقد وافق ابن سريج على أنه يضمنها.
قال الإمام: وهذا يخالف قياسه؛ لان الشرط لم يتحقق.
قال: وإن شرط ضماناً فاسداً في بيع، أي: مثل أن قال: بعتك هذا بدرهم على أن يضمنه لي فلان، على أنه بالخيار في الأداء –بطل البيع في أحد القولين دون الآخر، وتوجيههما قد تقدم في كتاب الرهن.
ولا نزاع في أنه لو شرط في البيع، أو في زمن الخيار: أن يضمن له نقص الغراس والبناء الذي يحدث في الأرض المبيعة عند خروجها مستحقة، وقلع ذلك- أن البيع باطل قولاً واحداً؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما.
قال: وللمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه، أي: إذا كان الدين حالاً وضمنه على حكمه، أو أطلق، أو كان مؤجلاً وضمنه على حكمه، أو أطلق ثم حل: لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزَّعِيمُ غَارِمٌ" ولم يفرق.
ولأنه دين حال على مليء؛ فجاز لمستحقه أن يطالب أيهما شاء؛ كالضامنين والغاصبين أحدهما من الآخر.
فإن قيل: لا نسلم أن الدين يبقى في ذمة المضمون عنه، بل الضمان نقله إلى ذمة الضامن فلا يملك المضمون له إلا مطالبته، كما صار إليه أبو ثور فيما حكاه عنه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ. ويدل على ذلك ما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة لما ضمن الدينارين: "حَقُّ الْغَرِيمِ عَلَيْكَ وَبَرِئَ مِنْهُ
المَيِّتُ"، قال: نعم: وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي لما ضمن الدرهمين: "جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلَامِ خَيْراً، وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ"، هذا يدل على أن المضمون عنه يبرأ من الدين بالضمان، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة قبلا لضمان، فلما حصل الضمان صلى.
فالجواب عن [حديث] أبي قتادة: أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وَبَرِئَ مِنْهُ [المَيِّتُ] " براءته من رجوع أبي قتادة عليه؛ لأنه ضمان بغير أمره، وقد روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة من الغد: "مَا فَعَل الدِّينَارَانِ؟ " فقال: يارسول الله، إنما دفناه أمس، ثم قال له من بعد:"مَا فَعَل الدِّينَارَانِ؟ " قال: قضيتهما يا رسول الله، قال:"الآن بَرَّدتَ جِلْدَتَه"، فلو كان الحق قد انتقل بالضمان لكان قد بَرَّدها به.
وعن حديث علي: أن المراد بفك رهان الميت، الفك من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم [من الصلاة عليه].
وعن امتناعه من الصلاة قبل الضمان وصلاته بعده: بأنه كان من أهل الصٌّفَّة كما حكاه الماوردي لا يملك شيئاً فلما ضمن عنه الدين صار كمن خَلَّف وفاءً، وامتناع الصلاة كان إذا لم يخلف الميت وفاء.
وقد حكى الماوردي عن أبي ثور أنه قال: لا يطالب الضامن إلا إذا
تعذرت عليه مطالبة المضمون عنه، ثم قال: وجعل ابن أبي هريرة هذا قولاً محتملاً، وخرجه لنفسه، والصحيح هو الأول.
ثم محله إذا أطلق الضمان، أما إذا قال: بشرط براءة الأصيل، فقد حكينا في صحة الضمان وجهين عن ابن سريج، وأشبههما: المنع؛ لأنه قرن به شرطاً يخالف مقتضى الضمان، فإن قلنا بالصحة، ففي صحة الشرط وجهان.
قال الرافعي: وقد يعكس الترتيب، ويقال: في صحة الشرط وجهان، وإن فسد ففي فساد الضمان وجهان.
وإذا صححناهما، برئ الأصيل، وبقي الحق في جهة الضامن، وله الرجوع على المضمون عنه في الحال؛ إن كان قد ضمن عنه بإذنه، كما حكاه الرافعي.
فرع: لو أفلس الضامن والمضمون عنه، وأراد الحاكم بيع مالهما في دينهما، فقال الضامن: ابدأ ببيع مال المضمون عنه، وقال المضمون له: أريد بيع مال أيكما شئت بديني – قال الشافعي، كما حكاه الماوردي عن رواية حرملة: إن كان الضامن ضمن بأمر المضمون عنه فالقول قوله، وإن ضمن بغير أمره فالخيار إلى المضمون له في بيع مال أيهما شاء.
أما إذا ضمن الضامن الدين الحال مؤجلاً إلى أجل معلوم ففي صحته وجهان: أحدهما- وهو الأصح، والذي أورده العراقيون -: الصحة.
وعلى هذا: فلا يطالب: إلا كما التزم، وهذا ما يوجد لعامة الأصحاب، وفي "تعليق" القاضي الحسين: إنه يصح حالاً على وجهٍ، وادعى الإمام إجماع الأصحاب على أن الجل لا يثبت، وأن في فساد الضمان بفساده وجهين، أظهرهما: الفساد.
ومن العجب: أن اعتماد الإمام في كتابه على القاضي، وقد حكى في "تعليقه" أن الضمان يصح، ويثبت الأجل، وأن للشافعي ما يدل عليه.
وما ذكرناه يجري فيما لو كان الدين مؤجلاً إلى شهر فضمنه إلى شهرين، ولو ضمن المؤجل حالاً، فقد حكى العراقيون في صحته وجهين، أصحهما -: وبه جزم القاضي الحسين -: الصحة.
وعلى هذا: فهل عليه الوفاء بشرط التعجيل؟ فيه وجهان:
أحدهما- وبه قال ابن سريج كما حكاه الماوردي -: نعم، وغلطه.
وأشبههما – وبه قطع القاضي الحسين -: لا؛ لأنه فرع فينبغي أن يكون كأصله.
وعلى هذا: فالأجل يثبت في حقه مقصوداً أم تبعاً لقضاء حق المشابهة؟ حكى الإمام فيه وجهين تظهر فائدتهما فيما لو مات الأصيل قبل الحلول: فإن قلنا: يثبت تبعاً، حلَّ على الضامن أيضاً، وإلا فلا.
والحكم فيما لو كان الدين مؤجلاً إلى شهرين فضمنه إلى شهر كذلك.
فرع: إذا كان له ألف، فأعطاه عليها رهناً، وأقام له بها ضامناً – صح.
وإذا حل الحق، فقولان حكاهما القاضي أبو حامد في "جامعه":
أحدهما: أن لصاحب الحق مطالبة الضامن، وليس [له] بيع الرهن إلا بعد تعذر استيفائه من الضامن.
والثاني: ليس له مطالبة الضامن إلا بعد تعذر استيفائه من الرهن.
قال الماوردي في أواخر الرهن: والصحيح عندي: أن له بيع الرهن ومطالبة الضامن.
قال: فإن ضمن عن الضامن ضامن آخر طالب الكل؛ لأن الضمان صحيح لكون الدين المضمون لازماً على الضامن كما هو على الأصيل، وإذا صح الضمان توجهت المطالبة؛ لما ذكرناه.
ومقتضى ما حكيناه عن [ابن] أبي هريرة: أنه لا يطالب الضامن الثاني ما لم يعجز عن مطالبة الأول.
ويؤيده أن القاضي الحسين وغيره قالا: إن الضامن الثاني مع الأول كالأول مع الأصيل سواء، وأثر هذا يظهر في البراءة أيضاً، ويجوز أن يضمن الأصيل ضامن آخر وأكثر؛ لبقاء الحق في ذمته – كما قررناه – ويجوز أن يضمن الأصيل وضامنه ضامن، ولا يجوز للأصيل أن يضمن ضامنه ما ضمنه عنه.
وهل يجوز لأحد الضامنين للأصيل أن يضمن صاحبه فيما ضمنه عن الأصيل؟
المذهب: لا.
وعن ابن سريج: أنه يجوز.
قال الماوردي: وهو خطأ.
فرع: إذا ضمن ألفاً بشرط أن يرهن [بها] عيناً، ففي صحة الضمان وجهان، كما لو رهن عنده رهناً على ألف بشرط أن يضمن الألف ضامن، فإن في صحة الرهن وجهين حكاهما الماوردي في أواخر كتاب الرهن.
قال: فإن أبرأ الأًيل برئ الكفيل؛ لأن الفرع يسقط بسقوط أصله، دليله: انفكاك الرهن بالبراءة منا لدين.
قال: وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل؛ لأنه إسقاط وثيقة [الدين]، فلا يسقط بها الدين كما لو فك الرهن.
قال: وإن قضى الكفيل الدين، فإن كان [قد] ضمن عنه بإذنه رجع عليه؛ لأن الضمان الذي هو سبب الوجوب وقع بالإذن، والأداء الذي حصلت به براءة ذمتها مرتب عليه؛ فاكتفى به، وهذا هو المنصوص في النكاح والطلاق في رواية الربيع، وفي "الإملاء" على مسائل مالك كما حكاه القاضي أبو الطيب، وبه قال ابن أبي هريرة، وأكثر الأصحاب كما حكاه الماوردي وصححه.
قال: وقيل: لا يرجع حتى يضمن بإذنه ويؤدي بإذنه؛ لأن الضمان قد يوجد معه الأداء، وقد لا يوجد؛ فلم يكن الإذن فيه مستلزماً للأداء، فإذا لم يصرح بالإذن فيه، كان كما لو أدى دين غيره بغير إذنه، وهذا ما حكى الجيلي أنه الأصح في "الشامل"، ولم أره في هذا الموضع فيه.
وقد خص الماوردي محل الخلاف بما إذا أدى الضامن الدين من غير مطالبة، وجزم بالرجوع فيما إذا أداه بعد المطالبة له والتشديد عليه ومحاكمته، وفي "الشامل" وغيره حكاية هذا وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاق، معبرين عنه بأنه: إن أدى من غير مطالبة أو عن مطالبة، لكنه أمكنه مراجعة الأصل واستئذانه، فلم يفعل – لم يرجع، وإن لم يمكن مراجعته لكونه غائباً أو محبوساً فله الرجع.
قال الإمام: وقد مال إلى هذا صاحب "التقريب".
وحكى ابن الصباغ والبندنيجي عن الأصحاب: أن الأوجه تجري فيما إذا وكل إنساناً في أن يشتري له عبداً بألف، وأدى الوكيل ذلك من ماله؛ إذ المطالبة متوجهة عليه.
وقال الماوردي: إن الحكم في الوكيل كما ذكره في الضمان، وروى الإمام رمزاً عن صاحب "التقريب" فيما إذا ضمن بالإذن، وأدى بالإذن من غير شرط الرجوع: أنه لا يرجع.
وقد حكيت مثله وجهاً عن رواية الماوردي فيما إذا صالح عن المنكر أجنبي بإذنه.
قال: وإن ضمن بغير إذنه لم يرجع؛ لأن الأداء فرعُ الضمانِ ولم يأذن فيه، فكان كما لو قضى دينه بغير إذنه، وهذا هو الأصح.
قال: وقيل: إن دفع بإذنه رجع؛ لأن الأداء هو المقصود، وقد حصل بالإذن، وخص الماوردي محل هذا الوجه بما إذا قاله له: أدِّ عني ما ضمنته، وجزم بعدم الرجوع فيما إذا [قال: أد ما ضمنته، من غير أن يقول: أدِّ عني، وجزم بالرجوع فيما إذا] قال [له]: أدِّ عني ما ضمنته لترجع عليَّ به.
ولم يجعل الإمام لهذه الزيادة أثراً في الرجوع، وبني القاضي الحسين الكلام في هذه المسألة على ما إذا قال ابتداء لشخص: أدِّ ديني، من غير شرط الرجوع، وفي ذلك وجهان، أصحهما: أنه يرجع، فإن قلنا بأنه لا يرجع فهاهنا أولى، وإن قلنا بالرجوع فهاهنا وجهان، والفرق: أن في الضمان قد التزم فغلب في أدائه القيام بما وجب عليه، وقد حكى الإمام عن شيخه في مسألة الأداء بالإذن من غير ضمان: أنه رتبها على ما إذا وهب إنسان لإنسان شيئاً من غير شرط الثواب، وهاهنا أولى بالرجوع؛ لوجهين:
أحدهما: أن الهبة في صيغتها مصرَّحة بالتبرع، وليس كذلك الأمر بالأداء.
والثاني: أن المتبرع مبتدئ بالهبة، والاستدعاء فيما نحن فيه قرينة من ثبوت الرجوع.
وكان يقول في الهبة قولاً ثالثاً فارقاً بين أن يكون الواهب ممن يسترفد من مثل الموهوب له أم لا.
ثم قال الإمام: ولا يمتنع أن يتخرج وجه ثالث هاهنا على هذا النحو.
والذي اختاره القاضي أبو الطيب في مسألة الأداء بالإذن من غير ضمان – كما حكاه ابن الصباغ في كتاب الرهن – قول أبي إسحاق، وهو ثبوت الرجوع، وقال: إنه ظاهر كلام الشافعي.
والذي اختاره الشيخ أبو حامد، وقال ابن الصباغ: إنه الذي يجيء على المذهب –قول ابن أبي هريرة، وهو عدم الرجوع؛ تمسكاً بمسألة القصَّار إذا قصر الثوب من غير شرط.
ولو ضمن بغير الإذن وأدى بغير الإذن فلا رجوع له عندنا اتفاقاً، وإن كان قد قام عنه بواجب؛ لأن أبا قتادة لما وفي الدينارين عن الميت، قال له – عليه السلام:"الآن بَرَّدتَ جِلْدَتَهُ"، فلو كان الدين يثبت في ذمته، مع أنه ضمن وأدى بغير الإذن، لما كانت الجلدة قد بردت؛ لأن الدين الذي سقط خلفه غيره. وفي هذا نظر من حيث إن الأصحاب صرفوا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة:"وَبَرِئَ مِنْهُ الْمَيِّتُ" إلى براءته بالنسبة إلى أبي قتادة – كما ذكرناه – وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن للضامن أن يرجع وإن ضمن وأدى بغير الإذن.
وحوالة الضامن المضمون له على من له عليه دين كالقضاء فيما ذكرناه، وكذا الحوالة عليه إن شرطنا رضاه، وإن لم نشرطه فلا يتجه أن يجيء وجه أبي إسحاق.
ثم محل الرجوع – حيث بينته – إذا أشهد الضامن على الأداء رجلين يقبل الحاكم شهادتهما، أو رجلاً وامرأتين كذلك، وكذا لو أشهد من ظاهره العدالة، وإن كان في الباطن غير عدل؛ على أولى الوجهين في الرافعي.
ولو أشهد عدلاً واحداً؛ اعتماداً على أنه يحلف معه، ففي "الحاوي" وغيره حكاية وجهين، أصحهما في "الرافعي": أنه يكفي.
ووجه مقابله: أنه قد يرفع الأمر إلى حنفي فلا يقضي به، وذلك تقصير منه.
وخص القاضي الحسين محل الخلاف بما إذا مات الشاهد أو غاب، أما إذا كان حاضراً، وشهد وحلف معه الضامن عند إنكار المضمون له القبض- فإنه يرجع وجهاً واحداً، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمتولي أيضاً، وألحق بحال موته ما إذا رفعه إلى حاكم لا يرى الشاهد واليمين.
أما إذا لم يشهد من يقع الاغتناء به نظر:
فإن صدقه المضمون له وعنه كان كما لو أشهد، وإن كذباه فلا رجوع له، وإن كذبه المضمون عنه وصدقه المضمون له، رجع على أصح الوجهين، وإن كذبه المضمون له، وصدقه المضمون عنه فالقول قول رب الدين، وله مطالبة الأصيل والضامن، فإن غرم الضامن، كان له الرجوع على المضمون عنه؛ إن كان تصديقه لكونه حضر الأداء وجهاً واحداً، وكذا إن صدقه ولم يكن حاضراً على المذهب.
وفيه وجه: أنه لا يرجع؛ لأن الأول غير مبرًّا في الظاهر، والثاني هو مظلوم فيه.
وقد أجرى الماوردي هذا الوجه فيما لو كان المضمون عنه حاضر الأداء؛ بناء على أنه يجب على الضامن الإشهاد، فإن كان المضمون عنه حاضراً ثم [أداه رجع بما غرمه أولاً]؛ إن كان الأصيل حاضر الأداء الأول.
وإن كان غائباً فثلاثة أوجه:
أحدها:
يرجع بالأول.
والثاني: بالثاني.
[وفائدتهما تظهر] فيما لو كان الأول صحيحاً والثاني مكسراً.
والثالث – حكاه المتولي-: بأقلهما.
وتجري هذه الأوجه أيضاً فيما إذا كان الأصيل حاضر الأداء على الوجه الصائر إلى وجوب الإشهاد بحضرة الأصيل.
وإن غرم رب الدين الأصيل، فهل للضامن الرجوع عليه بما غرمه فيه وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي الحين وغيره فيما إذا كان المضمون عنه حاضر الأداء: الرجوع، وفيما إذا كان غائباً: العدم، وبه جزم البندنيجي.
فإن قلنا: إن له أن يرجع عليه، فله تحليفه إذا أنكر.
وإن قلنا: لا يرجع عليه، فينبني تحليفه على أن النكول مع اليمين كالبينة أم الإقرار؟ فإن قلنا: كالبينة، كان له تحليفه، وألا فلا، كذا صرح به المتولي.
فرع: إذا أشهد من يكتفي به في الرجوع، فمات أو غاب، فلا أثر لذلك فيمنع الرجوع إذا صدق المضمون عنه على جريان الإشهاد، إلا أن يشهد من يعرف أنه يظعن عن قريب.
وفي "النهاية" حكاية وجه فيما إذا مات من أشهده: أنه لا يرجع إذا لم ينتفع المضمون عنه بأدائه – فإن القول قول رب الدين في نفي الاستيفاء، ولو كذبه في دعواه الإشهاد، فالقول قول المضمون عنه على الأصح، وفيه وجه: أن القول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم التقصير.
ولو عين الضامن شاهدين، وقال: إنه أشهدهما، فكذباه، فهو كما لو لم يشهد. ولو قالا: لم نذكر وربما نسينا، ففيه تردد للإمام.
فرع: إذا كان الضامن بحيث إذا غرم رجع، فهل له مطالبة المضمون عنه بشيء قبل الأداء؟
قال الأصحاب: إن طولب الضامن بأداء الدين وحبس، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه إن كان بالغاً عاقلاً، وإن كان صغيراً وقد أذن أبوه في الضمان فكذلك له مطالبة الأب بتخليصه قبل بلوغ الصبي، وبعده يطالب الصبي الذي بلغ، كما صرح به الماوردي.
وإن لم يطالب فهل له المطالبة بتخليصه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا.
فعلى هذا: للضامن أن يقول للمضمون له: إما أن تبرئني من الحق، وإما أن تطالبني به لأطالب المضمون عنه بفكاك ذمتي، هكذا حكاه البندنيجي عن أبي العباس.
وقد حكى عن القفال وجه: أن الضامن ليس له المطالبة بالتخليص، وإن طالب ما لم يغرم، والمشهور هو الأول.
ومعنى التخليص: أن يؤدي دين المضمون له ليبرأ ببراءته.
وقد حكى الأصحاب: أن أصل الوجهين في تمكن الضامن من المطالبة بالتخليص قبل المطالبة وجهان خرجهما ابن سريج: في أن مجرد الضمان هل يثبت للضامن حقًّا على الأصيل ويوجب عُلْقةً بينهما أم لا؟ وبعضهم حكى هذا الخلاف قولين، وبنوا على هذا الأصل أربع مسائل أخر:
منها: أن الضامن هل يتمكن من تغريم الأصيل المال قبل أن يغرم؟ فيه وجهان ذكرهما الشيخ أبو محمد.
ومنها: إذا أخذ المال هل يملكه؟ فيه وجهان، فإن قلنا: إنه يملكه، فله التصرف فيه كالفقراء إذا أخذوا الزكاة المعجلة، لكن لا يستقر ملكه عليه إلا بالغرم، حتى لو أبرأه المستحق رد ما أخذه.
ومنها: أن الضامن إذا حبس هل له حبس المضمون عنه، وقد قلنا: له المطالبة بتخليصه كما قيده الإمام؟ فيه وجهان، والأصح: لا.
ومنها: لو أبرأ الضامن الأصيل مما سيغرمه هل يبرأ؟ إن قلنا: إن الضمان بمجرده يثبت عُلْقَةً، صح، وألا خرج على الإبراء مما لم يجب ووجد سبب وجوبه.
ومنها: لو رهن المضمون عنه عند الضامن شيئاً على ما سيغرمه هل يصح؟ فيه وجهان، وهما يجريان في الضمان:
فإن صححناه وشرط في ابتداء الضمان أن يعطيه بما يضمنه ضامناً أو رهناً – صح، فإن وفىَّ به وألا فله فسخ الضمان.
وإن أفسدناه فشرطه في ابتداء الضمان، فسد به الضمان على أصح الوجهين.
فرع: إذا أدى ضامنُ الضامنِ الدينَ كان حكمه مع من ضمنه كحكم الضامن مع الأصيل.
وإذا لم يكن له الرجوع على الضامن الأول، [لم يثبت بأدائه للأول الرجوع على الأصيل.
وإن كان له الرجوع على الضامن الأول]، فرجع عليه، رجع الأول على الأصيل إذا وجد شرطه.
ولو أراد ضامن الضامن أن يرجع على الأصيل، نظر:
إن كان الأصيل قد قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه وجهان؛ كما لو قال لإنسان: أدِّ ديني، وليس كما لو قال: اقضِ دين فلان، ففعل؛ حيث لا يرجع على الآمر؛ لأن الحق لم يتعلق بذمته، ولو لم يقل له: اضمن عن ضماني، فإن كان الحال بحيث لا يقتضي رجوع الأول على الأصيل، لم يرجع الثاني عليه، وكذلك لو كان يقتضيه على أصح الوجهين.
فرع: إذا أدى الضامن الدين، وكان ثمن مبيع، فخرج مستحقًّا – استحق عين ما بذل، وإن خرج معيباً، فرده المضمون عنه، نظر:
إن كان الضمان في صورة تثبت الرجوع، وجب رد المقبوض على المضمون عنه؛ فإنا نقدر دخول المدفوع في ملك المضمون عنه قبيل الدفع للمضمون له، كما صرح به الإمام في ضمن ما إذا ضمن للمرأة صداقاً عن زوجها، وغرم، ثم ارتدت قبل المسيس.
وإن كان في صورة لا تثبت له الرجوع، فهذا شبيه بما إذا أدى ذلك من غير ضمان.
وقد حكى الإمام في أواخر كتاب الرهن وجهين في أن المقبوض- والحالة هذه – هل يرد إلى المؤدي أو إلى المؤدي عنه؟ وكذلك حكى المحاملي هذين الوجهين في كتاب الرهن أيضاً.
تنبيه: ما الذي يرجع به الضامن إذا ثبت له الرجوع؟ ينظر: فإن كان المضمون مثليًّا وقد أداه، رجع بمثله، وإن كان من ذوات القيم كالحيوان ونحوه، قال الإمام هاهنا: لا يمتنع أن يجري فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان، وصرح
بحكاية ذلك عن رواية القاضي في أوائل باب السلم، فقال في وجه: يرجع بالمثل الصوري، وفي وجه: بالقيمة. وهذا البحث صحيح؛ لما تقرر أن المؤدي عند الرجوع فيه بسبب العيب، يرجع إلى المضمون عنه.
قال: وإن ضمن ديناً مؤجلاً فقضاه قبل الأجل، لم يرجع قبل الأجل؛ لأنه متبرع بالتعجيل.
وهكذا الحكم فيما لو مات الضامن وأدى ورثته المال بسبب حلوله [عليهم] لا يرجعون به قبل الأجل.
قال: وإن مات أحدهما حل [عليه] الدين؛ لوجود سبب الحلول في حقه، ولا يحل على الآخر؛ لعدم ما يقتضيه، فلو حل به لكان إضراراً به؛ فإنه يرتفق بالأجل، وخرج ابن القطان وجهاً فيما إذا مات الأصيل: أن الدين يحل على الضامن؛ لأنه فرعه.
ونقل ابن كج وجهاً: أن الضامن إذا مات لا يحل عليه كما لا يحل على الأصيل، والمذهب: ما حكاه الشيخ.
نعم، لو كان الميت هو الأصيل، فأخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من تركة الأصيل في الحال، أو يبرئ الضامن؛ لأن التركة قد تهلك، فلا يجد مرجعاً إذا غرم.
وفي رواية أبي علي وجه: أنه ليس للضامن هذه المطالبة.
قال: وإن تطوع بزيادة لم يجرع بالزيادة [كما] إذا كان [الدين] مكسراً فدفعه صحاحاً ونحو ذلك؛ لأنه تبرع بها.
ولو كان المدفوع مكسراً عن الصحاح لم يرجع إلا بالمكسر كالمسألة التي تليها.
وهذا ما جزم به البندنيجي، واختاره الشيخ أبو محمد، وخرج بعضهم ذلك
على الخلاف في المسألة التي تليها.
قال: وإن دفع إليه عن الدين – أي: الثابت في ذمته بطريق الضمان – ثوباً، رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين؛ لأن قيمة الثوب إن نقصت لم يغرم إلا هي، وإن زادت لم يرجع بالزائد؛ لأنه متبرع به، وهذا ما جزم به الماوردي، وهو الأصح.
وقل: يرجع فيما إذا كانت قيمة الثوب أقل من الدين بقدر الدين، وهو ما حكاه الروياني في "البحر" عن ابن سريج، وأنه طرده فيما إذا قضى المكسَّر عن الصحاح؛ لأنه قد حصل براءة ذمته بما فعل، والمسامحة جرت معه.
ولو أنه باعه الثوب بقدر الدين وتقاصَّا فالرجوع بالدين بلا خلاف، أما إذا دفعه عن الدين المضمون بأن قال للمضمون [له]: بعتك هذا [الثوب] بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة البيع وجهان حكاهما الرافعي عن الأستاذ أبي منصور البغدادي.
فإن صححناه، فيرجع بما ضمنه أم بالأقل مما ضمنه ومن قيمة الثوب؟ فيه وجهان.
قلت: والخلاف في صحة البيع قريب مما حكيته في الصلح عن الإمام وغيره [فيما إذا أدى من لم يكن ضامناً عن دين غيره] عوضاً، هل يصح؟ فيه وجهان، والأصح: الصحة.
وقد رجع حاصل الخلاف إلى أن الضامن يرجع بما أسقط، أو بما أدى إذا كان أقل مما أسقط.
وعلى ذلك يخرج ما لو ضمن ذمي عن مسلم مالاً لذمي، ثم تصالحا على خمر: هل يبرأ المسلم؟ فيه وجهان.
إن قلنا بالأول: انبنى على ما أشرنا إليه، وإن قلنا: إن الضامن يرجع بما أسقط، رجع هاهنا بقدر الدين، وإن قلنا:[بما أدى]، فلا.
قال: وإن أحاله الضامن على من له عليه دين، رجع على المضمون عنه، أي: في الحال؛ لأن الحوالة إما بيع – كما هو الصحيح – فأشبه ما إذا أعطاه عن الدين ثوباً، وإما استيفاء، وهو لو أوفاه لرجع؛ فكذلك إذا أحاله.
قال: وإن أحاله على من لا دين له عليه، أي: وصححناها – لم يرجع، أي: في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئاً.
قال: حتى يدفع إليه المحال عليه، ثم يرجع على الضامن، فيغرمه، ثم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه حينئذ قد غرم بإذنه
وهذا من الشيخ تفريع على أن هذه الحوالة لا تحصل براءة ذمة المحيل في الحال؛ بناء على أنها في الحقيقة ضمان – كما حكيناه عن صاحب "التهذيب" وغيره في بابها – وقد وجد من المحيل الإذن في الأداء، أو لم يوجد على أصح الوجوه فيما إذا ضمن بالإذن، فأدى بغير الإذن؛ إقامة للحوالة مقام الإذن في الضمان؛ كما صرح به البندنيجي.
أما إذا قلنا: إنها تحصل براءة الذمة في الحال، فلا يشترط دفع المحال عليه المال للمحتال، بل يشترط رجوع المحال عليه على المحيل الذي هو الضامن؛
كما صرح به الرافعي في باب الحوالة، وإن كان القاضي أبو الطيب وابن الصباغ قد صارا إلى براءة ذمة الضامن والمضمون عنه بمجرد الحوالة إذا صححناها، وقالا كما قاله الشيخ.
قلت: وقد حكى الرافعي فيما إذا صححنا الضمان بشرط براءة الأصيل: أن الأصيل يبرأ، وأن الحق يبقى في ذمة الضامن، وأن له الرجوع على المضمون عنه في الحال إن كان قد ضمن عنه بإذنه، ومثل ذلك يظهر مجيئه هاهنا؛ إذ لم يظهر لي فرق بينهما.
قال: وإن دفع إليه الحق، ثم وهبه منه رجع؛ لأنه عاد إليه بسبب جديد، فلم يسقط رجوعه، كما لو وهبه لأجنبي، ثم وهبه الأجنبي منه، وهذا هو الأصح في "الجيلي، واختاره في "المرشد".
قال: وقيل: لا يرجع؛ لأنه لم يغرم شيئاً على الحقيقة، وقد صرح الأئمة بأن هذا الخلاف وجهان مبنيان على القولين فيما إذا وهبت المرأة زوجها الصداق، ثم طلقها قبل الدخول.
قال: ولا تصح الكفالة بالأعيان: كالغصوب، والعواريِّ، وكذا بالعين المبيعة قبل القبض، والعين في يد المستلم؛ لأن حقيقة الضمان: ضم ذمة إلى ذمة، والذي [تكون] العين مضمونة عليه لا شيء في ذمته بعد، وهذا هو المذهب في "بحر المذهب".
قال: وقيل: تصح؛ لأن الأعيان ستحق تسليمها [بعقد البيع وغيره؛ فاستحق تسليمها] بعقد الضمان؛ كالديون.
وبنى ابن سريج الخلاف – كما حكاه البندنيجي – على الخلاف في كفالة البدن، قال: إن قلنا [بأنها] لا تصح، لم تصح هذه، وإلا صحت.
ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح الصحة، وهو الذي اختاره في "المرشد".
وحكى الرافعي: أن بعضهم جزم به وإن أجرى الخلاف في كفالة البدن،
وأنه فرق بأن حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى تحصيل المال، وهاهنا المضمون رد العين، وهي المقصودة بالرد.
فعلى هذا: لو تلفت العين قبل الرد، فهل عليه قيمتها؟
حكى البندنيجي عن ابن سريج أنه خرجه على الوجهين الآتيين فيما لو مات المكفول ببدنه.
ومقتضى هذا: أن يكون الصحيح عدم اللزوم، ولكن الذي اختاره في "المرشد": اللزوم.
فعلى هذا: [هل يجب] في المغصوب أقصى القيم أم قيمة يوم التلف؛ لأن الكفيل لم يكن متعدياً؟ حكى الإمام فيه وجهين.
وإذا تلفت العين المبيعة في يد البائع انفسخ العقد، فإن لم يكن المشتري قد وفي الثمن لم يطالب الضامن بشيء، وإن كان قد وفاه فهل يغرم الضامن الثمن أو أقل الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟ فيه وجهان، أظهرهما: أولهما.
وهذا كله إذا تكفل برد أعيانها، أما إذا تكفل برد قيمتها إذا تلفت، فقد قال في "التهذب": يبني ذلك على أن المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الدين؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة لو تلفت العين، وإلا لم يصح، وهو الأظهر.
وأيضاً: فإن القيمة قبل التلف ليست بواجبة وهي مجهولة عند الوجوب؛ فيكون ضمانها ضمان ما لم يجب وهو مجهول.
تنبيه: الكفالة: بفتح الكاف.
ويقال: كفله، وكفل به، وكفل عنه، وتكفل به.
الغصوب: جمع غصب، وهو اسم الشيء المغصوب.
قال الجوهري: وشيء غصب، ومغصوب.
وياء "العواري" يجوز تشديدها.
قال: وفي كفالة البدن قولان، أصحهما: أنها تصح؛ لقوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَباً
شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78]، قيل: وذلك كفالة البدن.
وقد روى أن عبد الله بن مسعود لما ضرب عنق عبد الله بن النَّوَّاحة؛ لكونه أذَّن في مسجده مسجد بني حنيفة، وقال [فيه]: أشهد أن مسيلمة رسول الله –شاور الصحابة في بقية من كان في المسجد حين الأذان، فقال عدي بن حاتم: تُؤْلُولُ كُفْرٍ قد اطلع رأسه فاحْسِمْه وقال غيره: استَتِبْهم، [فإن تابوا كفَّلْهم عشائرهم وإلا قتلوا، فاستتابهم] فتابوا، فخلَّى عنهم وكفَّلهم عشائرهم. وهذا يدل على إجماعهم على أن الكفالة بالبدن صحيحة.
ولأن بالناس حاجةً إليها كحاجتهم لكفالة المال.
ولأن البدن يستحق تسليمه بعقد النكاح والإجارة؛ فاستحق تسليمه بعقد الضمان كالدين.
والثاني: لا يصح؛ لقوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَاخُذَ إِلَاّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، [فكان قوله ذلك إنكاراً للكفالة أن تجوز حين سأل إخوته أن يأخذ أحدهم كفيلاً عمن وجد متاعه عنده].
ولأنها كفالة بعين؛ فلم تصح كالكفالة ببدن الشاهد والزوجة.
ولأن المكفول به لا يجب عليه تسليم نفسه، وإنما يجب عليه الخروج مما عليه من الحق، وحبسه – إن حبس – ليخرج من الحق، فَلأَلَاّ يجب على الكفيل تسليم المكفول به أولى، وهذا القول أخذ من قول الشافعي في "الدعاوى والبينات" بعد أن نص على جوازها:"كفالة البدن ضعيفة".
وأجاب من صار إليه عن أثر ابن مسعود بأنه وقع بعد التوبة، [ثم هو] ضمان [من عليه حد لله تعالى، والخصم يسلم عدم صحة الضمان به].
وهذه الطريقة صار إليها المزني، وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة والقاضي أبو حامد.
قال: وقيل: تصح قولاً واحداً؛ لما ذكرناه. وقد صار إلى هذه الطريقة ابن سريج وطائفة من متقدمي الأصحاب، وحملوا قول الشافعي: إنها ضعيفة، على ضعفها من جهة القياس.
وما أجاب به القائلون بالمنع عن أثر ابن مسعود: بأن الاستدلال به وقع من جهة أن الصحابة أمروا بأن يُكَفِّلَهم عشائرهم، وذلك منهم دليل على أن كفالة البدن مشهورة عندهم، لا من خصوص هذه الكفالة، كما استدل الأصحاب بمثل ذلك في قول الصحابة لعمر رضي الله عنه في حق ولديه: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً.
التفريع:
إن قلنا بالبطلان فلا كلام، وإن قلنا بالصحة فله شروط:
أحدها: أن يكون عارفاً بالمكفول بدنه.
وهل يشترط أن يكون عارفاً بالمكفول له؟ فيه وجهان.
الثاني: أن يكون على المكفول بدنه حق يستحق المطالبة به، سواء كان ثابتاً في الظاهر أم لا، هكذا قال الماوردي.
وقال البندنيجي وغيره: أن يكون على المكفول به حق يصح ضمانه.
وما قاله الأول يقتضي جواز الكفالة ببدن امرأة يدعي رجل زَوْجِيَّتها، وكذا الكفالة بها لمن ثبتت زوجيَّتُه، وكلام البندنيجي وغيره يقتضي عدم ذلك، وقد صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عند الكلام في توجيه القولين في صحة الكفالة، ويقرب منه قول المتولي: إن حكم الكفالة ببدنها حكم الكفالة ببدن من عليه قصاص؛ لأن المستحق عليها لا يقبل النيابة.
وما ذكرناه في ضمان المرأة يجيء مثله في ضمان البد الآبق، وقد صرح ابن سريج بأنه يصح ضمانه.
ومقتضى كلام الماوردي: أنه تصح الكفالة ببدن الكفيل؛ كما صرح به في "المهذب"، وعلى قول البندنيجي يلزم منه الدَّوْر؛ لأنا لا نعلم: أنه يصح ضمانه
إلا إذا وجد الشرط، والشرط: أن يكون ما عليه يصح ضمانه.
ثم مقتضى الكلامين: جواز الكفالة ببدن من هو ببغداد لمن هو في البصرة، وقد صرح الإمام بعدم الجواز؛ لأن من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد في الخصومات، والكفيل فرع المكفول بدنه؛ فإذا لم يجب عليه الحضور لا يمكن إيجاب الإحضار على الكيل.
قال الرافعي: وهذا منه بناء على ما سنذكره من أن المكفول لو كان فوق مسافة القصر، أو غاب إليها لا يلزمه إحضاره.
الثالث: هل يشترط أن يكون عارفاً بقدر ما على المكفول بدنه من الدَّيْن إن كان الضمان لأجله؟ فيه وجهان يبنيان على أنه إذا مات: هل يلزم الكفيل ما عليه أم لا؟ وبقية الشروط مذكورة في الكتاب نأتي عليها – إن شاء الله تعالى.
قال: وإن تكفل ببدن من [عليه] حد لله – تعالى – أي: كحد الزنى لم يصح؛ لأن الكفالة للاحتياط شرعت، وبناء الحد على الإسقاط، [وحكى القاضي الحسين قولين في كتاب اللعان في جواز الكفالة].
قال: وإن تكفل ببدن من عليه قصاص، أو حد قذف صح؛ لأنه حق لآدمي فأشبه ما لو كان له عليه دين.
قال: وقيل: لا تصح؛ لأنه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح ببدنه كمن عليه حد لله تعالى.
وهذه طريقة ابن سريج ومتقدمي الأصحاب، وحكاها الماوردي عنهم في حدود الله تعالى أيضاً: كحد الزنى والخمر.
والقاضي الحسين حكى الخلاف المذكور قولين في كتاب اللعان.
وصرح الرافعي بنسبة ذلك إلى أبي الطيب بن سلمة وابن خيران، وادعى القاضي أبو الطيب الإجماع على دم صحة الكفالة [في حدود الله تعالى، وقد
حكى الرافعي عن الشيخ أبي حامد: أنه بنى القولين في صحة الكفالة] ببدن من عليه قصاص أو حد قذف، على أنه إذا مات المكفول ببدنه، هل يغرم الكفيل ما عليه من الدين؟ إن قلنا: نعم، لم تصح، وإلا صحت.
ومقتضى هذا البناء: أن يكون قولُ التصحيح المذهبَ، كما اقتضاه كلام الشيخ، واختاره القفال، وصاحب "المرشد"، وجزم به بعضهم، وادعى الروياني أن المذهب المنع.
قال: وإن تكفل بجزء شائع من الرجل، [أي:] كالثلث والربع.
قال: أو بما لا يمكن فصله عنه – أي: مع بقاء الحياة –كالكبد والقلب صح؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم جميع البدن؛ فأشبه ما لو قال: تكفلت ببدنه.
وقيل: لا يصح، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي [أبي] الطيب وابن الصباغ؛ لأن ما لايسري إذا خص به عضو لم يصح كالبيع.
والذي جزم به الماوردي: [الأول]، وألحق به ما إذا قال: كفلت لك نفسه، أو روحه، أو وجهه، أو عينه، وحكى الخلاف عن ابن سريج فيما لو قال: تكفلت لك [بيده أو رِجْله] وما في معناهما.
وأجرى البندنيجي الخلاف فيما لو قال: كفلت لك عينه، والقاضي الحسين أجراه فيما لو قال: كفلت شعره.
وقد تَنَخَّلَ بما إذا تكفل بعضو من البدن ثلاثة أوجه، كما صرح [بحكايتها في "المهذب" وغيره،] ثالثها: إن كان المكفول عضواً لا يبقى البدن دونه صح، وألا فلا، وهذا ما صححه البغوي.
وروى الرافعي وجهاً رابعاً عن القفال في "شرح التلخيص": أنه إن تكفل بما يعبر به عن جميع البدن: كالرأس والرقبة، صح، وإلا فلا، وقال عنه: إنه صححه.
قال: وإن تكفل به بغير إذنه لم يصح؛ لأن المقصود إحضار المكفول بدنه عند المطالبة، فإذا كان بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه؛ فبطلت فائدة الكفالة.
قال: وقيل: تصح؛ كما يصح [ضمان] الدين بغير إذن من هو عليه، وهذا قول ابن سريج، وبناء على أنه إذا عجز عن إحضاره يلزمه الغرم، والأول مبني على أنه لا يلزمه الغرم عند العجز عن إحضاره.
وحكى صاحب "التقريب" وجهاً في جواز الكفالة به بغير إذن إن قلنا: إن الكفيل لا يغرم عند العجز عن إحضاره.
ثم على قول ابن سريج: للكفيل مطالبة المكفول بدنه بالحضور معه [إذا طالبه المكفول له بإحضاره، ويجب على المكفول بدنه الحضور معه] لا من جهة الكفالة، بل من جهة الوكالة في إحضاره.
فلو لم يقل المكفول له للكفيل: أحضره، ولكن قال [له:] أخرج من الكفالة- فهل يستلزم ذلك التوكيل في إحضاره حتى يلزم المكفول بدنه الحضور مع الكفيل؟ فيه وجهان عن ابن سريج كما حكاه البندنيجي عنه وغيره، واستبعده الأئمة.
قلت: وفي وجوب الحضور معه مع التصريح بطلبه من المكفول له، نظر من حيث إن من عليه الحق لا يجب عليه الحضور إذا طلبه صاحب الحق بنفسه كما ذكرناه من قبل، وصرح به الإمام في موضعه، بل الواجب وفاء الحق، نعم: إذا استدعى القاضي الخصم وجب عليه الحضور؛ إجابة له.
وإذا كان صاحب الحق غير قادر على إحضاره، فوكيله أولى؛ ولهذا المعنى خَطًّأ الماوردي [ابن سريج] في قوله.
وقال القاضي الحسين: إن المذهب عدم صحة الكفالة؛ لأنه ليس له أن يكلفه الحضور إلا بإذن الحاكم، حتى لو وكله الخصم في إحضاره لم يكن له ذلك.
وقد بنى الماوردي صحة الكفالة ببدنه الصبي والمجنون على الخلاف في
اعتبار إذن المكفول ببدنه، وقال: إنها على المذهب لا تصح.
وذلك منه محمول على ما إذا لم يأذن الولي فيها، أما إذا أذن صحت وجهاً واحداً، كما في البالغ العاقل، ويكون الولي هو المخاطب من جهة الكفل بالإحضار إذا طولب الكفيل به؛ للحاجة إلى إقامة البينة على عينهما بإتلافهما مال الغير، وغير ذلك، وهذا ما لم يزل الحجر عنهما.
أما إذا زال فلا طلبة على الولي، والمطالب بالحضور من زال عنه الحجر، كما صرح [به غير] الماوردي.
ومؤنة إحضار المكفول ببدنه واجبة على الكفيل، صرح بذلك القاضي الحسين.
واعلم أن محل خلاف ابن سريج في صحة الكفالة بغير الإذن – كما حكاه القاضي الحسين -: ما إذا تكفل به بعد ثبوت المال.
أما إذا كان قبل ثبوته فلا خلاف أنه لا يصح بدون الإذن.
قال: وإن أطلق الكفالة طولب به في الحال؛ لأن كل عقد صح حالاً ومؤجلاً إذا أطلق كان حالاًّ كالعوض في البيع والإجارة.
قال: وإن شرط فيه أجلا – أي: معلوماً – طولب [به] عند المحل؛ وفاء بالشرط كما في ضمان الأموال، والمحل: بكسر الحاء.
أما إذا كان مجهولاً: كما إذا أُجِّلَ بالحصاد والقطاف والصرام، ففي الصحة وجهان عن ابن سريج حكاهما البندنيجي وغيره، وأصحهما: البطلان، ووجه الصحة: القياس على العارية.
وقد أجرى مثل هذا الخلاف فيما لو علق كفالة البدن بمجيء الشهر، وكذا فيما لو علقها بحصاد الزرع، أو بقدوم زيد، لكنه في التعليق بالحصاد مرتب على الخلاف بمجيء الشهر وأولى بالبطلان، وفي التعليق بقدوم زيد مرتب [على][التعليق بالحصاد] وأولى بالبطلان أيضاً.
فرع: لو اشترط أن يكفله شهراً، فإذا انقضى برئ من كفالته – لم يصح على الأصح، وفيه وجه محكي في "التتمة" وقول في "التهذيب": أنه يصح.
قال: وإن أحضره قبل المحل وليس عليه ضرر في قبوله، أي: مثل أن كان حقه حالاًّ وبينته حاضرة، والقاضي يتيسر الاجتماع به في ذلك الوقت؛ ولا ظالم يمنعه من تسليمه – قال: وجب قبوله؛ لما ذكرناه في السلم.
وقد حكى القاضي الحسين وجهاً: أنه لا يجب قبوله كما حكينا مثله في السلم.
وعلى الأصح: إذا لم يقبله سلمه الكفيل إلى الحاكم، فإن لم يكن حاكم أشهد عليه شاهدين بالامتناع من التسليم، [ويبرأ.
وقال القاضي أبو الطيب: لا يحتاج إلى الدفع إلى القاضي، بل يشهد الشاهدين ابتداء]، وهذا ما اختاره ابن الصباغ وجزم به في "المهذب".
أما إذا كنا [عليه] ضرر بأن فقد ما ذكرناه أو بعضه، لم يجب قبوله لدفع الضرر عنه.
فرع: حكاه القاضي أبو الطيب وغيره:
إذا تكفله على أن يسلمه إليه في موضع، فسلمه إليه في موضع آخر:
فإن كان عليه مؤنة في حمله إلى موضع التسليم لم يلزمه قبوله.
وإن لم يكن عليه مؤنة ولا ضرر لزمه قبوله كما ذكرناه في المحل، ولا فرق في ذلك بين [المكان والزمان].
وهكذا الحك فيما لو أطلق العقد وأحضره في غير موضع العقد؛ فإنه يستحق تسليمه في موضع العقد.
وحكى البندنيجي عن ابن سريج وجهاً فيما إذا أحضره إليه في غير الموضع المشروط، أو في غير الموضع الذي أطلق فيه العقد: أنه لا يلزمه قبوله، وإن لم يكن عليه ضرر؛ كما لو أحضره له في [غير] البلد، وسوى الماوردي بين البلد والمحلة فيما ذكرناه أولاً.
قال: وإن سلَّم المكفول به نفسه، أي: عن الكفيل؛ كما قيده القاضي أبو الطيب وغيره – برئ الكفيل؛ كما لو قضى المضمون عنه الدين؛ فإن ضامنه يبرأ من ضمانه، أما إذا أطلق فلا يبرأ، صرح به الرافعي وغيره.
وهكذا لو لم يسلم نفسه، لن ظفر به المضمون له في مجلس الحكم، فادعى عليه بالحق.
وكذا لو سلمه أجنبي لا عن جهة الكفالة، ولو سلمه عن جهة الكفالة برئ لكن للمكفول له الامتناع من قبول إذا كان [ذلك] بغير إذن الكفيل، ولو كان بإذنه وجب تسليمه.
فرع: لو تكفل ببدنه اثنان، فأحضره أحدهما، أطلق العراقيون: أنه لا يبرأ، وقال في "المهذب": يحتمل عندي أنه يبرأ؛ كما لو قضى أحدهما الدين.
وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن المزني، وحكى ابن يونس هذا الخلاف وجهين.
وفي "التهذيب": أنهما إن كفلا على الترتيب وقع تسليمه عن المسلم دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي، أو لم يقل، وإن كفلا معاً فوجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: أنه يبرأ.
قال: وإن غاب – أي: إلى موضع معلوم – لم يطالب به حتى يمضي زمان يمكن المضي [فيه إليه والرجوع]؛ لأن القدرة على تسليم الدين المضمون شرطٌ في المطالبة؛ فكذلك في البدن.
فإذا مضت تلك المدة ولم يأت به حبسه الحاكم إلى أن يحضره أو يموت المكفول به.
وهكذا الحكم فيما لو كان المكفول به ابتداء غائباً.
وفي "الجيلي" حكاية وجه في مسألة الكتاب: أنه يحبس في الحال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في "تعليقه".
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون المسافة قريبة أو بعيدة كما صرح به البندنيجي، وصححه الرافعي.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه إذا كان في مسافة القصر لا يكلف إحضاره؛ إلحاقاً لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة كما لو غاب الولي أو شاهد الأصل إليها. انتهى.
فرع: لو كان المكفول بدنه حال المطالبة به محبوساً أو لحق بدار الحرب، قال المزني: يلزمه إحضاره من دار الحرب؛ لأنه ما مات، وإن كان في الحبس فعليه رده إليه؛ لأنه يمكنه أن يقضي دينه ويفكه من الحبس.
قال البندنيجي: والذي عليه أصحابنا: أنه يلزمه تسليمه إليه وهو في الحبس كما فصلناه.
والذي فصله: أنه إن كان في حبس الحاكم، فقال المكفول له: أحضر مجلس الحكم حتى تتسلمه – فإنه يحضر معه، ويسلمه إليه في الحبس، والحاكم ينظر بينه وبين المحبوس.
قال: وإن انقطع خبره لم يطالب به حتى يعرف مكانه؛ لعدم القدرة على التسليم قبل العرفان، وإمكانه بعده كما في ضمنا المعسر.
قال: وإن مات سقطت الكفالة؛ لأن الإحضار [منوط] بالحياة؛ فإنه الذي يخطر بالبال غالباً، وقد انتهت بالموت.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المكفول مشهور النسب؛ بحيث لا يحتاج في الشهادة عليه إلى إحضاره، أو لا.
وفيه وجه صححه الرافعي وغيره: أنه إذا لم يكن مشهور النسب، واحتيج إلى إقامة الشهادة على عينه -:أنها لاتسقط بالموت، بل يطالب بإحضاره ما لم يدفن؛ كما تصح الكفالة ببدن الميت؛ لهذا الغرض.
فإن دفن لم يُنْبَش، قاله في "التهذيب".
قال: وقيل: يطالب الكفيل بما عليه من الحق، أي: إن كان قد ضمنه بعد ثبوت الحق كما قاله القاضي الحسين؛ لأن الكفيل وثيقة في الحق، فإذا مات من عليه وجب استيفاؤه من الوثيقة، أصله: الرهن، وهذا قول ابن سريج.
وقيل: يلزمه أقل الأمرين من قدر الدين أو دية المكفول.
وقد حكى الرافعي وغيره: أن هذا الخلاف مبني على القولين في أن السيد يفدي العبد الجاني بماذا؟
وفي ذلك نظر؛ لأن وجه من قال: إن السيد يفدي العبد بالأكثر؛ لاحتمال وجود زَبُونٍ يشتريه به، وهذا الاحتمال مفقود هاهنا بل هذا شبيه بأم الولد إذا جنت.
وقد حكى الماوردي: أن ابن سريج طرد قوله فيما إذا هرب المكفول به إلى حيث لا يعلم أو توارى.
وقال الرافعي: إن الخلاف في هذا مرتب على الموت، وأولى بألا يطالب إذا لم يحصل اليأس عن إحضاره، وهو الذي جعله القاضي الحسين المذهب.
ولو شرط في الكفالة أنه إذا جز عن تسليمه غرم الدين: فإن قلنا إن يغرم عند الإطلاق، فلا بأس، وإلا لم يصح؛ لأنه ضمان معلق بشرط، وفي صحة الكفالة بالبدن دون المال وجهان يبنيان على تفريق الصفقة، كذا حكاه القاضي الحسين.
أما إذا كان قد ضمنه ولم يثبت الحق عله بعدُ ومات فلا شيء عليه.
فروع:
لو مات المكفول له، [هل] تبطل الكفالة؟ فيه لاثة أوجه عن ابن سريج:
أظهرها – وهو ما حكاه الماوردي -: بقاء الكفالة؛ كما لو ضمن له المال.
فعلى هذا: لو كان للميت ورثة، وموصى لهم، وغرماء، فسلمه إلى الورثة والغرماء والموصى لهم دون الوصي، ففي براءته ثلاثة أوجه، أحدهما: لا؛ كما
لو سلمه إلى واحد من الثلاثة دون الباقي، أو إلى اثنين منهم، حكاه الماوردي.
والثاني: أنها تنقطع؛ لأنها ضعيفة.
والثالث: إن كان له وصي أو عليه دين بقيت؛ لأن الوصي نائبه، وتمس حاجته إلى قضاء الدين، فإن لم يكن وصي ولا عليه دين، انقطعت.
وأبدل في "الوسيط" لفظ "الوصي" بـ"الوصية"، والمذكور في "النهاية" ما ذكرناه.
لو مات الكفيل: قال الماوردي: فعلى مذهب الشافعي سقطت الكفالة.
ويجيء على مذهب ابن سريج: أنها لا تبطل؛ لأنها قد تفضي إلى مال، فيتعلق بالتركة، ثم قال: لكن لم أجد له نصًّا فيه.
[لو تكفل ببدن فلان على أن يبرأ فلان من كفالته، أو: على أن يبرئه من الكفالة – لم تصح الكفالة.
وفي "المهذب" وجه في الثانية عن ابن سريج: أنها تصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين في المسألة الأولى؛ فإن الأول يبرأ إذا رضي المضمون له، وطرد فيما إذا ضمن ديناً له به ضامن آخر بشرط أن يبرأ الضامن الآخر إذا تكفل ببدن زيد، ثم قال: تكفلت به ولا حق لك عليه – فالقول قول المكفول له، لكن بيمين أو بغير يمين؟ فيه وجهان حكاهما العراقيون، وحكى الغزالي فيما لو قال الكفيل: كنت أبرأت قبل كفالتي ولم أعرف – في سماع دعواه للتحليف – وجهين يجريان في كل دعوى محتملة [يناقضها عقد سابق]].