المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما تجب به الدية من الجنايات - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب ما تجب به الدية من الجنايات

بسم الله الرحمن الرحيم

‌باب ما تجب به الدية من الجنايات

قال: إذا أصاب رجلاً بما يجوز أن يقتل؛ فمات منه، وجبت الدية:

أما إذا كان خطأ؛ فلقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92].

وأما إذا كان عمد خطأ؛ فلما روى الشافعي بسنده عن انب عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا إِنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ" وقد رواه أبو داود، عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس، عن ابن عمر رضي الله عنهم لكن لفظه:"أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"

ص: 3

وأخرجه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني في "سننه" والبخاري في "التاريخ الكبير"، ويعضده ما سنذكره عن ابن شعبة في هذا الباب.

وأما إذا كان عمداً؛ فلما روى أبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: "لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم [خَطِيباً] فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ [يُودَى، أو يُقَادَ] " وأخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه مختصراً ومطولاً.

ثم هذا الكلام من الشيخ موافق في حالة العمد؛ لما حكيناه في أول باب: العفو والقصاص عن الإمام أن القتل العمد موجب للمال لا محالة، ولكن يقتضيه أصلاً معارضاً، وموازناً للقصاص، أو يقتضيه على قضية من التبعية؟ فيه القولان، المعبر عنهما بأن الواجب أحد الأمرين، أو القود عيناً. [لكن الشيخ في المهذب قال: إن] الدية تجب بقتل العمد – في أحد القولين – وبالعفو على الدية في القول الآخر. وإذا كان كذلك فيكون كلامه [هنا] مفرعاً على القول الأول، [أو متعلقاً بمحذوف وهو العفو، ويكون تقديره: إذا أصاب رجلاً بما يجوز أن يقتل فمات منه وعفا عن القود في العمد – وجبت الدية] والله أعلم.

قال: وإن ألقاه في ماء أو نار قد يموت فيه؛ فمات منه – وجبت ديته؛ لنسبة تلفه إليه، وصورة ذلك:[أن] يلقيه في لجة بحر يبعد ساحله، وهو يحسن العوم أو لا يحسنه، أو في نهر أو بحر يقرب ساحله، وهو لا يحسن العوم، أو يلقيه في نار يطول مداها، ونحو ذلك؛ وهكذا الحكم فيما إذا شدّ يديه ورجليه، وطرحه في ساحل؛ فزاد الماء، وهلك منه – فلا فرق فيه بين أن تكون الزيادة معلومة الوجود، أو قد تحصل [أو لا تحصل في] العادة، لكن في الحالة الأول تجب دية العمد، وفي الثانية دية [شبه العمد، وفي الثالثة دية] الخطأ؛ كما صرح به في المهذب، والماوردي في باب: التقاء الفارسين.

قال: وإن أمكنه التخلص، فلم يفعل حتى هلك –ففيه قولان:

أصحهما: أنه لا تجب ديته؛ لأن التلف حصل باستدامة منسوبة إليه، دون

ص: 4

ملقيه؛ فلم تجب ديته؛ كما لو خرج من ذلك، ثم عاد إليه.

ووجه الوجوب: القياس على ما لو جرحه وقدر على المداواة، فلم يفعلها حتى مات.

والقائل بالأول فرق بما ذكرناه في باب ما يجب به القصاص.

وقيل في مسألة الماء: لا تجب الدية وجهاً واحداً، وإن جرى القولان في النار؛ لأن الإلقاء في النار جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين، وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه؛ فإن الناس جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين، وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه؛ فإن الناس قد يعومون فيه مختارين؛ لتبرد، أو تنظف، ولا ينسبون إلى تغرير.

وعن القفال طريقة قاطعة بالوجوب، وتنزيل ترك السباحة منزلة ترك المعالجة.

وقد حكى الماوردي [أن] القولين في مسألة النار مأخوذان ممن أذن لغيره في قتله، وعلى الصحيح منهما: يجب على الملقي أرش ما عملت فيه النار منحين ألقاه إلى أن أمكنه الخروج.

قال الجيلي: فإن لم يمكن معرفة قدر الأرش لم يلزمه إلا التعزير.

قلت: لو قيل: لم يلزمه إلا المحقق، لكان أولى.

وقد تقدم في باب ما يجب به القصاص طريقة معرفة إمكان التخلص.

وحكم التلف بعد الخروج من النار؛ بسبب النار – حكم تلفه [فيها] ولا خلاف في أنه إذا ألقاه في ماء خفيف لا يصدر إلى صدره عند الوقوف؛ [فرقد فيه] حتى علاه، ومات – أنه لا ضمان على الملقي.

قال: وإن ألقاه على أفعى، أو ألقاها عليه، [أو على أسد، أو ألقاه عليه]، أي: في مضيق – وجبت ديته؛ لأنه ألجأه إلى قتله.

وألحق في الحاوي بذلك في باب: القصاص بغير السيف – ما إذا حبسه في بيت مفعي؛ فنهشته أفعى؛ فمات، [أو كانت] مقيمة فيه، والبيت ضيقاً، وهو يقصر عن طولها، ومدى نفختها، ولا كوى فيه، ولا ثقاب تتسرب فيه الأفاعي.

وقال عند انتفاء شيء مما ذكرناه بعدم وجوب الضمان.

ص: 5

وألحق في "المهذب" و"الحاوي" بذلك أيضاً في باب: التقاء الفارسين - ما إذا شد يديه ورجليه، وطرحه في أرض مسبعة، أو غير مسبعة، وذكرنا في باب: ما يجب به القصاص ما قيل فيه.

وفي التتمة أن الدية لا تجب في مسألة الحية من مسألتي الكتاب؛ لأنه كالممسك؛ وهي كالقاتل، وقال في مسألة الأسد: [إذا كان قد أغراه عليه إن لم يمكنه التخلص منهن وجب فيه القصاص والدية، وإن أمكنه فهو كما لو ألقاه فيما يمكنه التخلص منه.

وهذه الصورة تخالف صورة مسألة الكتاب؛ فلا يظن أن الكلام يجري فيها؛ كما أوهمه لفظ بعض الشارحين.

تنبيه: الأفعى: الأنثى من الحيات، والجمع: أفاعٍ، والذكر: أفعوان؛ بضم الهمزة والعين.

قال الجوهري: الأفعى: أفعل، تقول: هذه أفعى بالتنوين؛ وكذلك أروى، وتفعى الرجل: صار كالأفعى في الشر، ولام الكلمة في الأفعى: واو.

وقال الزبيدي: الأفعى: حية رقشاء، دقيقة العنق، عريضة الرأس، وربما كانت ذات قرنين.

قال: وإن سحر رجلاً بما لا يقتل غالباً وقد يقتل؛ فمات منه - وجبت الدية؛ لأنه عمد خطأ، والدية تكون في ماله مغلظة؛ لأنه لا يثبت أنه سحره إلا بإقراره؛ كما ذكرناه.

نعم ما ينشأ عن ذلك السحر تارة يكون ثبوته بإقراره أيضاً، وتارة بالبينة، مثل: أن يقول: سحرته بكذا، فيشهد عدلان من السحرة بعد توبتهما بأن الذي أقر أنه [الذي] سحره به هذا شأنه.

ولو قال: سحرت غيره، فانقلب إليه - فهو اعتراف بقتل الخطأ؛ فتكون الدية مخففة في ماله.

ص: 6

قال: وإن ضرب الوالد ولدهن أو المعلم الصبي، أو الزوج زوجته – أي: عند النشوز – أو ضرب السلطان رجلاً في غير حد؛ أي: في تعزير؛ فأدى إلى الهلاك – وجبت ديته؛ لأن الضرب أبيح لهم للتأديب؛ فإذا بان مهلكاً – علمنا أنه مفرط؛ فضمن لذلك، [وشهد لذلك ما روى الشافعي بسنده، عن عليّ – كرم الله وجهه –أنه قال:"لَيْسَ أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيهِ حَدًّا؛ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئاً الحق قتله إلَاّ شَارِب الخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ شَيءٌ رَأَينَاهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ – فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِمَامِ" أو قال: "فِي بَيتِ الْمِال"، الشك من الشافعي.

ولا يجوز أن يكون المراد به: إذا مات من الحد؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم حد في الخمر؛ فثبت أنه أراد من الزيادة على أربعين.

وقد ادعى القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين على ضمان الزوج؛ فنقول في غيره: يضمن بالقياس عليه؛ بجامع ما يشتركان فيه من إرادة الإصلاح بضرب لم يقدره الشرع في آدمي.

واحترزنا بذلك عن المستأجر إذا ضرب الدابة المستأجرة الضرب المعتاد، فهلكت – لم يضمن [وكذلك الراكض إذا ضربها الضرب المعتاد فهلكت – لم يضمن]؛ كما قاله أبو الطيب وغيره].

قال العراقيون – كما حكاه الإمام عنهم في كتاب الرهن -: وهذا بخلاف ما لو قال السيد لآخر: اضرب عبدي؛ فضربه؛ فأتي عليه؛ فإنه لا ضمان؛ لأن لفظ الضرب [مطلق لا تقييد فيه، ثم قال الإمام: وهذا فيه نظر عندي؛ فإن الضرب] يخالف القتل، [وما حكاه قد نقله ابن الصباغ في كتاب الرهن، ثم قال: إلا أن عندي إن كان أذنه في تأديبه، أو تضمنه إذنه؛ فيشترط فيه –حينئذ –

ص: 7

السلامة؛ كما يشترط في الضرب الشرعي].

ثم الدية الواجبة – في هذه [الحالة] – دية شبه العمد؛ كما ستفهمه مما نحكيه عن القاضي أبي الطيب في مسألة ضرب بطن المرأة، [وصرح به الغزالي وإمامه].

واعلم أن هاهنا مباحثة لا بأس بذكرها، وهي أن الأصحاب أطلقوا القول بوجوب الدية في هذه الصورة موجهين ذلك بما ذكرناهن ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك إلا ما حكاه في الزوائد، وهو أن الشيخ الحسين الطبري قال: ذكر شيخنا – رحمه الله – أن التعزير على نوعين:

نوع واجب: كتعزير من قذف أمه، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج؛ فإذا أدى إلى التلف يحتمل ألا يضمن.

ونوع آخر: لا يجب؛ مثل: أن يسيء أدبه في مجلس القاضي؛ فيعزره؛ فهو مضمون.

وقال الغزالي: [في كتاب القسم النشوز ما يفهم أن الصبي إذا مات لا يضمن؛ لأنه قال: والأولى للزوج ترك الضرب؛ بخلاف الولي؛ فإن الأولى به ألا يترك الضرب؛ لأن مقصوده: إصلاح الصبي لأجل الصبي، وهذا يصلح زوجته؛ لنفسه؛ ولذلك كان [ضرب الزوج] مقيداً بشرط سلامة العاقبة.

وفي الرافعي في كتاب: موجبات الضمان حكاية وجه: أنه لا ضمان؛ إذ عزر بحق الآدمي؛ بناء على أنه واجب إذا طلبه المستحق؛ كما سنذكره.

وأطلق ابن يونس في باب: التعزير [حكاية وجه: أنه] إذا مات منه لا ضمان، ولم أره في غيره هكذا].

لكن لقائل أن يقول: التفريط تارة يحصل من كون الضرب لاقى محلاً يجب أن يُتَوَقى، وتارة عن تركه النظر في الزمان، أو في حال المضروب، أو صفة الضرب، وتارة من كونه جاوز الحد في عدد الضربات ولو تحققنا استناد الهلاك إلى الحالة الأخيرة لقلنا: حصل من مأذون فيه [وغير مأذون فيه]، وقضيته إيجاب نصف الضمان على أي كما قرره الأصحاب في الزيادة على الحد؛ وكذا لو تحققنا أن الهلاك حصل بسبب وقوع الضرب في حرٍّ شديد، أو

ص: 8

بردم مفرط – يجب أن نقول: حصل الهلاك بمأذون فيه، وغيره؛ فيجب عليه نصف الضمان – على وجه – كما حكاه الشيخ في مهذبه فيما إذا ختن الإمام في حر شديد أو برد مفرط، وإذا كان الحكم هكذا عند التحقق وجب أن يقال في حالة الشك: لا يجب أيضاً إلا نصف الضمان؛ لأنه المتيقن، والأصل براءة الذمة مما سواه.

وطريق الجواب أن يقال: ما ذكرتموه جرى في أمور ضبطها الشرع، ولم يكلها إلى اجتهاد المكلف؛ فلذلك أحلنا الهلاك عند مجاوزتها إلى الحق والباطل، وهاهنا لا تقدير من جهة الشرع، ولا مرد للقدر الواجب إلا الاجتهاد وبمجاوزته الحد تبين أنه ليس من أهله، والله أعلم.

قال: وإن سلم الصبي إلى السابح، فغرق في يده – وجبت الدية؛ لأنه لا يغرق إلا بإهمال السابح وقلة تحفظه، وتكون الدية فيه دية شبه العمد؛ كما لو ضرب المعلم الصبي للتأديب؛ فهلك.

وفي التتمة وجه: أنها لا تجب؛ كما لو نقله إلى مسبعة، وبل أولى؛ لأن الخطر هناك أكبر، ولأن ذلك تضييع، وهذا قد تدعو الحاجة إليه.

وأبدى الإمام هذا الوجه احتمالاً، وقال: الحر لا يدخل تحت اليد، ولم يوجد من السابح فعل، إذا خاض الصبي بنفسه في الماء.

نعم لو ألقاه السابح في الماء، ليعلمه، فقد يجعل الإلقاء موجباً للضمان على تفصيل مذكور في باب القصاص.

ويجري الخلاف فيما لو كان الولي يعلمه السباحة بنفسه؛ فغرق.

ولو أدخله الماء؛ [ليغسله، لا ليعلمه السباحة] – فالحكم كما لو ختنه، أو قطع يده من أكلة؛ فمات منه، قاله في التتمة.

قال: وإن غرق البالغ مع السابح لم تجب ديته؛ لأنه مستقل، وعليه أن يحتاط لنفسه، ولا يغتر بقول السابح. وهذا ما حكاه في التهذيب أيضاً.

[و] في الوسيط: أنه إن خاض معه؛ اعتماداً على يده، فأهمله – فيحتمل أنه يجب الضمان.

قال: وإن صاح على صبي، أي: غير مميز؛ فوقع من سطح، أو على بالغ وهو غافل، فوقع، ومات – وجبت الدية:

ص: 9

أما في الصبي؛ فلأنه كثيراً ما يتأثر ويضطرب بالصيحة الشديدة؛ فأحيل الهلاك عليها.

وأما في البالغ؛ فلأنه مع الغفلة كالصبي.

وقيل: لا تجب في البالغ؛ وهو الأصح في تعليق القاضي الحسين، والرافعي، وعند النواوي؛ لأن الغالب من حال البالغ التماسك، وعدم التأثر بالصياح؛ فالسقوط والموت يحملان على موافقة.

وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول صاحب المرشد، ونسبه البندنيجي إلى قول ابن أبي هريرة.

أما إذا كان البالغ غير غافل ففي الشامل وتعليق القاضي الحسين والتتمة: القطع بعدم الضمان، وكلام الرافعي يقتضي جريان الخلاف فيه أيضاً؛ فإنه حكى فيه ثلاثة أوجه، ثالثها وهو قول ابن أبي هريرة -: إن غافصه من ورائه وجبت، وإن صاح عليه في وجهه فلا.

والصبي المراهق المتيقظ كالبالغ، والمجنون والمعتوه الذي [تعتريه الوساوس]، والمرأة الضعيفة العقل، والنائم – كالصبي.

وشهر السلاح والتهديد الشديد، كالصياح، والصياح على الغير من صيد أو غيره – فيما ذكرناه – كالصياح عليه، ولا فرق فيه إذا وقع على صيد – بين أن يكون الصائح يحرم عليه الصيد، أو لا.

وعن صاحب التلخيص أن الصائح إن كان محرماً، أو في الحرم – تعلق بصيحته الضمان، وإلا فلا.

أما لو كان الصبي على وجه الأرض، ومات من الصيحة، فلا أثر لذلك.

وحكى الإمام عن بعضهم أنه أجراه مجرى الارتعاد، والسقوط من حرف الجدار، وهو ما جزم به القاضي الحسين في تعليقه.

ثم الدية الواجبة [- فيما ذكره الشيخ-] دية شبه العمد.

قال الرافعي: وقد قيل في مسألة الصبي بوجوب القصاص؛ كما قيل بمثله فيمن حفر بئراً في دهليزه، ودعا غيره؛ فوقع فيها، بل هاهنا أولى؛ لان تأثير

ص: 10

الصيحة بالارتعاد والاضطراب أشد من تأثير الدعوة، وقياس من يقول به: أن تجب مغلظة [على الجاني].

قلت: مسألة الحفر التي يجب فيها القصاص على هذا الوجه مصوَّرة في التتمة بما إذا حفر البئر في دهليز رجل ليس في الدار غيره، ولابد له من الخروج، وكان الرجل أعمى، أو كان الموضع مخرج الرجل، وإذا كان كذلك فلا يظهر للأولوية وجه، والدية الواجبة في حال الصياح على الغير دية الخطأ.

قال: وإن صاح على صبي، أي: غير مميز؛ فزال عقله – وجبت الدية؛ لما تقدم، ولا يجري القصاص على الأصح؛ لأن هذا [لا] يزيل العقل غالباً.

وقيل بوجوبه، فعلى هذا إذا آل الأمر إلى المال، لا يخفى الحكم، وعلى الأول تكون دية عمد الخطأ.

قال: وإن صاح على بالغ؛ فزال عقله، لم تجب؛ لأن معه من الضبط والعقل ما يمنعه من ذلك؛ فدل على أن زواله لم يكن من الصياح، وهذا ما جزم به القاضي الحسين، وكذا البندنيجي، وحكاه عن النص في "الأم".

وقد حكى الرافعي فيه الخلاف السابق في سقوطه وموته، وحكى الماوردي أن ابن أبي هريرة قال بالضمان هنا؛ بخلاف الوقوع، وأنه فرق بأن في الوقوع فعلاً للواقع؛ فجاز أن ينسب الوقوع إليه، وليس في زوال العقل فعل من الزائل العقل، فلم ينسب زواله إلا إلى الصائح المزعج.

قال: وإن طلب بصيراً بالسيف؛ فوقع في بئر –أي: ظاهر له – فمات؛ لم يضمن؛ لأنه سبب غير مجلئ؛ فقدمت المباشرة عليه؛ كما لو حفر إنسان بئراً؛ فجاء آخر وردى فيها نفسه؛ ولأنه أوقع نفسه فيما كان يحاذره من المتبع؛ فأشبه ما إذا أكره إنساناً على أن يقتل نفسه؛ ففعل؛ فإنه لا يجب الضمان على المكره.

وهذا إذا كان المطلوب مكلفاً، أما لو كان غير مكلف، وقلنا: عمده عمد، فالحكم كذلك، وإلا ضمن الطالب، صرح به المصنف، والماوردي، وغيرهما.

قال: وإن طلب ضريراً؛ فوقع في بئر، أي: وهو لا يعرف بها، ضمنه؛ لأن الواقع لم يقصد إهلاك نفسه، وقد ألجأه المتبع إلى الهرب المفضي إلى المعنى

ص: 11

المهلك؛ فضمنه كالشهود إذا شهدوا بالقتل، ثم رجعوا [عن الشهادة].

وحكم البصير إذا لم يعلم بالبئر؛ لكونه في ظلمة الليل، أو [في] موضع مظلم، أو كانت مغطاة – حكم الضرير، [وحكم الضرير] إذا علم بالبئر حكم البصير.

وحكم الوقوع في النار، ومن شاهق جبل، أو سطح عالٍ – حكم الوقوع في البئر، ولا يلتحق بذلك: إذا [افترس المطلوب سبعٌ في الطريق، سواء] كان بصيراً أو أعمى؛ لأنه لم يوجد من الطالب فعل مهلك، ومباشرة السبع التي عرضت كعروض القتل على إمساك الممسك، اللهم إلا أن يكون ألجأه إليه في مضيق؛ فيجب الضمان.

وهل يلتحق بالبئر انخساف السقف الذي حصل الهروب عليه؟ فيه وجهان في "المهذب" و"الحاوي".

وجه المنع: أن المعنى المهلك لم يشعر به الطالب، ولا المطلوب؛ فأشبه ما إذا عرض سبع؛ فافترسه، وهذا ما أجاب به البغوي، والروياني، والقاضي الحسين.

ووجه الإلحاق: أنه حمله على الهروب، وألجأه إليه، وقد أفضى إلى المعنى المهلك من غير شعور المطلوب [به]؛ فأشبه ما إذا وقع في بئر مغطاة.

قال الرافعي: وهذا ما أورده العراقيون، وحكوه عن نصه في الأم، ورجحه المتولي، وصاحب المرشد، وإليه مال الإمام.

تنبيه: قد يفهم من عدول الشيخ في هذه المسألة عن قوله: وجبت ديته، كما ذكر فيما تقدم، إلى قوله:"وجب ضمانه" – أن القصاص يجب؛ كما يجب في مسألة الشهود، وليس الأمر كذلك؛ لأمرين:

أحدهما: أنه ذكر هذه اللفظة في موضع لا قصاص فيه جزماً، وهو ما إذا ضرب بطن امرأة؛ فألقت جنيناً ميتاً.

والثاني: أن الماوردي صرح في المسألة: بأن الدية تجب على العاقلة، والعاقلة لا تحمل دية جناية يجب فيها القصاص جزماً.

ص: 12

لكن في التتمة أنه إذا حفر بئراً في دهليزه، وغطاه، ثم أذن لإنسان في دخول داره؛ فدخل؛ فوقع في البئر – أن حكمه حكم ما لو خلط السم بطعام، وقدمه إليه، وهذا إن لم يفهم منه القطع بوجوب القصاص هاهنا؛ لكونه هنا مكرهاً بالفعل، وفي مسألة الدهليز هو مكره بالعادة؛ فلا أقل من أن يكون مثله، حتى يجري فيه القولان.

قال: وإن ضرب بطن امرأة؛ فألقت جنيناً ميتاً – وجب ضمانه؛ لما روى أبو داود، عن المغيرة بن شعبة:"أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتاَ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟، فَقَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ وَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَة".

وفي رواية: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا" وأخرجه مسلم والترمذي وغيرهما.

ثم هذه الجناية حكمها حكم الخطأ، أو حكم شبه العمد؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنها خطأ؛ لأنه [مات] بسبب الضرب، ولم يباشر بالجناية.

والثاني-وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه إذا قصد ضربها فهو شبه عمد، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وذكر أن الشافعي نص عليه؛ لأن ذلك تولد من فعله؛ كما لو ضربه تأديباً؛ كذا حكاه عنه العمراني في الزوائد في دية الجنين، ولا يتصور في الجنين؛ لمحض العمدية؛ لأنه لا يقصد عينه، بل يقصد غيره؛ كذا جزم به الماوردي، والقاضي الحسين وغيرهما.

وفي المهذب أنه يكون عمداً محضاً، إذا قصد الإجهاض، ونحا صاحب التهذيب نحوه.

ص: 13

فروع:

لو طفرت الحامل، فألقت جنيناً ميتاً: فإن لم تخرج الطفرة عن عادة مثلها من الحوامل، ولا كان مثلها مسقطاً للأجنة، لم تضمنه، وإن خرجت عن عادة مثلها، وكانت الأجنة تسقط بمثل طفرتها، ضمنته بالغرة والكفارة، ولم ترث [من الغرة].

وهكذا لو شربت دواء؛ فأسقطت جنيناً ميتاً، روعي حال الدواء:

فإن زعم علماء الطب أن مثله قد يسقط الأجنة - ضمنت جنينها.

وإن قالوا: إن مثله لا يسقط الأجنة، لم تضمنه.

وإن أشكل، وجوزوه - ضمنته.

ولو امتنعت من الطعام والشراب حتى ألقت جنينها، وكانت الأجنة تسقط من جوع الأم وعطشها -نظر: فإن دعتها الضرورة إلى الجوع والعطش؛ للإعواز والعدم - فلا ضمان، وإلا ضمنته.

ولو جاعت وعطشت في صوم فرض ضمنت؛ لأنها مع الخوف على حملها مأمورة بالإفطار، منهية عن الصيام. قالهما الماوردي، والله أعلم.

قال: وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت [له] بسوء؛ فأجهضت الجنين - وجب ضمانه؛ لما روى: "أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الأَجْنَادِ يَغْشَاهَا الرِّجَالُ باللَّيْلِ يَدْعُوهَا، وَكَانَتْ تُرقِي فِي دَرَجٍ؛ فَفَزِعَتْ؛ [فَاَجْهَضَتْ ما في بَطْنِهَا]؛ فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوفٍ: إِنَّكَ مُؤَدِّبٌ؛ فَلَا شَيءَ عَلَيكَ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -: إِنِ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَم يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك، عَلَيكَ الدِّيَةُ؛ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -: عَزَمْتُ عَلَيكَ لَتُقَسِّمَنَّها عَلَى قَوْمِكَ".

قال الإمام في كتاب الأشربة: وقد اختلف فيمن المشار إليه بقوله: "إن اجتهد فقد أخطأ

" إلى آخره فقال بعض المتكلمين: إنه رسول عمر الذي بعثه إليها،

ص: 14

ومعناه: إن اجتهد الرسول، أي: في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة – فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخير زمان ومكان – فقد غش. قال: وهذا بعيد.

والصحيح: انه أراد بما قال عبد الرحمن بن عوف.

وقد أضاف بعضهم إلى القصة: "أن عثمان بن عفان –رضي الله عنه – وافق عبد الرحمن، وأنهم سكتا عند مقالة عليّ – كرم الله وجهه – وذلك يدل على رجوعهما إلى قوله؛ فكان إجماعاً.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا بخلاف ما لو بعث إليها السلطان؛ فماتت – لا ضمان؛ لأن الغالب على البالغة العاقلة عدم موتها من ذلك.

ولو لم يبعث السلطان إليها، لكن الرسول انطلق من عند نفسه، على لسانه – وجبت الغرة على عاقلة الرسول.

قال: وإن رمى إلى هدف، فأخطأ؛ فأصاب آدميًّا فقتله – وجبت الدية؛ للآية، وهكذا الحكم فيما إذا رمى إلى صيد؛ فوقع في آدمي.

ولو كان قد أكرهه إنسان على الرمي في هذه الصورة –فهما قاتلان خطأ، وعلى كل [واحد] منهما كفارة، وعلى عاقلة كل منهما نصف الدية، وهل لعاقلة المكره الرجوع بما يغرمونه على المُكرِه؟ قال الرافعي قبيل كتاب الديات: يحتمل أن يقال: لا يرجعون كما لا يرجعون على القاتل في شبه العمد، ويحتمل أن يقال: لا شيء على المكرِه وعاقلته؛ لأن الذي فعله المكرَه غير ما حمله المكرِه عليه.

قال: وإن ختن الحجام، فأخطأ؛ فأصاب الحشفة – وجب عليه الضمان، أي: وتحمله العاقلة؛ لأنه فوت ما لم يؤذن له في تفويته من غير ضرورة.

واعلم أن ما ذكره الشيخ من وجوب الضمان أو الدية على الجاني في هذا الباب، المخاطب بإيفائه العاقلة، عند اعترافها، أو إنكارها وقيام البينة، وهذا الإطلاق مستعمل كثيراً في كلام الأئمة؛ ومنهم الإمام، وقال: لست أعني به: ارتباط الضمان بماله، وإنما نعني به: ارتباط الضمان بعاقلته، ولكن التحفظ عسير في أثناء الكلام.

ص: 15

وهذا منه بناء على أن الوجوب يلاقي العاقلة ابتداء، أما إذا قلنا: إنه يلاقي الجاني، وتتحمله العاقلة – كما هو الصحيح- فلا حاجة إلى الاعتذار عن هذا الإطلاق، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قُتِلَ [فِي] عِمِيًّا، رَمْيّا بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرْباً بِعَصَا – فعليه عَقْلُ الْخَطَأِ"، والله أعلم.

قال: وإن امتنع من الختان، أي بعد وجوب عليه؛ وهو بعد البلوغ؛ فختنه الإمام في حرٍّ شديد، أو برد شديد، فمات – فالمنصوص [عليه] أي في "الأم": أنه يجب ضمانه؛ لظهور التفريط؛ فإن الإمام منهي عن أن يختن في هذين الحالين.

قال: وقيل: فيه قولان.

وجه الوجوب: [ما ذكرناه.

ووجه المنع]: أن إتلافه حصل بفعل ما هو مستحق عليه، وهذا خرج من نص الشافعي في المختصر على عدم وجوب الضمان فيما إذا أقام الإمام الحد في حر شديد أو برد شديد، وفيما إذا أقام الحد على حامل؛ فماتت منه. كما خرج من نصه هاهنا إلى ثَمَّ قولاً بوجوب الضمان.

والقائلون بالطريق الأولى – وهم المُقِرُّون للنصين- قالوا: الفرق من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الحد مقدر بمعلوم، غير مجتهد فيه؛ فلم تضمن سرايته، والختان مجتهد فيه؛ فضمنت سرايته؛ كالتعزير.

والثاني: أن استيفاء الحد إلى الأئمة؛ فإذا أقاموه لم يؤاخذوا بعواقبه، والختان لا يتولاه الولاة، وإنما يتعاطاه المرء في نفسه أو وليه في صباه؛ فإذا خاض الإمام فيه قهراً كان على شرط سلامة العاقبة.

والثالث: أن الختان جرح؛ فالغالب منه التلف والحد ضرب في ظاهر البدن؛ فالغالب منه السلامة.

ص: 16

وحكى القاضي أبو حامد في الجامع طريقة ثالثة حكاها ابن الصباغ عنه: أن ذلك ليس على قولين، وإنما أراد في الختان: إذا كان الغالب التلف، وأراد في الحد: إذا كان الأغلب السلامة، وصرح بذلك في الختان، وأطلق في الحد.

والخلاف المذكور في الختان [في] حالة البلوغ – جارٍ فيما إذا جرى من الإمام في حال الصبا أيضاً، عند عدم الوي، كما حكاه الإمام، وقال: إن النص فيه على وجوب الضمان، وذكر قبل ذلك أن النص الذي ذكرناه عن الأم يجري في الأب إذا ختن الطفل في الحر الشديد، والبرد المفرط، وإن جرى خلاف في نفس الضمان عن الإمام، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحد في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه، أما إذا ختن الإمام البالغ عند الامتناع في حال الاعتدال، وأدى إلى الهلاك – فلا ضمان [فيه].

وكذا لو ختن الأب الصب، [أو الإمام] الصبي الذي لا ولي له في هذه الحالة، وأدى إلى الهلاك – لا ضمان فيه عند الأصحاب.

وحكى الإمام، عن القاضي أنه قال: الذي أراه: وجوب الضمان فيه، [ورأيته في تعليقه في السلطان خاصة، وقاسه على التعزير، وقال: إنه هل يجب [القود] أم لا؟ يحتمل وجهين؛ بناء على ما لو ضرب رجلاً بإبرة؛ فمات، لأنه لا يخاف منه إلا أن فيه إنهار الدم؛ كذا الختان مثله في الصبي. وقال: إن أصحابنا قالوا على هذا: لو أكره رجلاً على الحجامة؛ فمات منها – ففي وجوب القود وجهان.

ووجه الإمام: [قول القاضي الذي حكاه عنه:] بأنه لا يجب في حق الصبين وليس هو من المعالجات التي لو تركت لجر تركها فساداً في البدن. ثم قال: وهذا في الأب بعيد؛ فإنه قد صح في الخبر: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ تُحْلَقَ رَاسُ الْمَولُودِ، وَيُعَقَّ عَنْهُ، وَيُخْتَنَ فِي السَّابعِ مِنْ وِلَادَتِهِ".

ص: 17

ووجه ما ذكره الجمهور: بأن الختان لابد منه؛ فإجراؤه في [الصغر] والبدن رخص أولى؛ فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة.

قلت: وهذا من الإمام؛ بناء على تسليم عدم وجوب الختان على الولي قبل البلوغ، [واستحبابه كما ذكره ابن الصباغ والبندنيجي.

أما إذا قلنا بوجوبه قبل البلوغ كما] حكاه في الزوائد، عن الصيدلاني، وأبي سليمان المروزي صاحب المزني؛ [حيث] قالا: الختان واجب، ويعصي الأب بتركه حتى يبلغ – فدليله: كونه قام بواجب؛ فأشبه ما بعد البلوغ.

[ولو ختن الصبي أجنبي في حالة عدم الولي، قال في التهذيب: يحتمل أن يبني ذلك على أن الإمام إذا ختن في الحر [الشديد]، أو البرد؛ فمات المختون؛ هل يضمن؟ إن قلنا: نعم، فكذلك هاهنا، وإلا فلا ضمان.

وعن أمالي أبي الفرج السرخسي أن ذلك مبني على أن الجرح اليسير هل يتعلق به القصاص؟ وفيه وجهان؛ إن قلنا: نعم، فهو عمد، وإلا فشبه عمد، وهذا شبيه بما حكيناه عن القاضي في المسألة السابقة، والذي حكاه الماوردي: إيجاب الضمان].

فرع: إذا قلنا بوجوب الضمان على الإمام في مسألة الكتاب؛ فماذا يضمن؟ فيه وجهان في "المهذب":

أصحهما في الحاوي: جميع الدية؛ لأنه مفرط.

والثاني: نصفها؛ لأنه مات من واجب ومحظور؛ فسقط النصف، ووجب النصف، وهذا ما حكاه الماوردي عن الشيخ أبي حامد، وقال الرافعي: إنه أظهر.

ثم محل وجوبها بيت المال أو عاقلته؟ يشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا استوفى الحد من حامل؛ فأسقطت الجنين، وفيه طريقان:

أحدهما: القطع بثبوتها على عاقلته، وهي ما حكاها الإمام [ثَمَّ] لأن بيت المال إنما يحمل ما يجب بخطأ الإمام، والإمام هنا عامد.

والثانية: حكاية قولين فيه؛ وهي ما ادعى ابن الصباغ أنها ظاهر المذهب ثَمَّ

ص: 18

قال: وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، أي: لمصلحة [نفسه] وسواء كان الناس يتضررونه بالحفر أو لا؛ كما صرح به في المهذب.

قال: أو وضع فيه حجراً، أو طرح فيه ماء، أي: وما في معناه؛ كبوله، أو بصاقه؛ كما حكاه البندنيجي في كفارة القتل.

قال: أو قشر بطيخ، أي: وما في معناه من الكناسات؛ فهلك به إنسان – وجب الضمان؛ لأنه تعدى بذلك؛ فضمن من هلك [به] كما لو جنى عليه، والضمان على العاقلة؛ كما نبهنا عليه من قبل، وصرح به ابن الصباغ وغيره.

وقد جعل الماوردي محل الجزم بوجوب الضمان في البئر، إذا أضر حفرها بالمارة، أو لم يضر، وقصد به التملك، أو لم يصده، ولم يحكم رأسها، وتركها مفتوحة.

وقال فيما إذا أحكم رأسها، وقصد بحفرها اختصاصه بالارتفاق بها؛ إما لحش داره، أو لماء مطرها؛ فإن استأذن الإمام على ذلك لم يضمن.

قال ابن الصباغ: كما يجوز أن يقطع بعض الطريق الواسع لمن يبنيه لنفسه.

قال الرافعي: وهذا ما أورده أصحابنا العراقيون، وتابعهم القاضي الروياني، وصاحب التتمة.

قال الماوردي: [فإن لم] يأذن الإمام، فوجهان: المذكور منهما في تعليق القاضي الحسين، والشامل: الجزم بالضمان. وادعى الإمام [عدم] اختلاف العلماء فيه، وإيراد القاضي يقتضي طرده في حالة الإذن، وهو الذي أورده في التهذيب. وحكى الإمام قطع الأئمة به، وأن في بعض التصانيف حكاية وجه في نفي الضمان، وقال: إنه بعيد عن التحصيل.

وقال البندنيجي في وضع الحجر: لا فرق في الضمان بين أن يكون الطريق ضيقاً أو واسعاً.

وقد ذكر الماوردي تفصيلاً في وضع الطين، ويجب طرده في الحجر، وهو أن الإنسان إذا أخرج من داره طيناً لهدم أو بناء يستعمله حالاً فحالاً: فإن كان الطريق ضيقاً، أو الطين كثيراً – فهو متعد بوضعه فيه؛ فيكون ضامناً لدية التالف، وإن كان الطريق واسعاً والطين قليلاً، وقد عدل [به] عن مسلك المارة إلى

ص: 19

فناء داره – لم يضمن؛ لأنه غير متعد، ولا يجد الناس من مثل هذه بدًّا. وقال بعض أصحابنا: يضمن؛ لأنه مباح بشرط السلامة؛ فإذا أفضى إلى الهلاك ضمن؛ كتأديب المعلم. [ثم قال]: وهذا فاسد؛ لما فيه من التسوية [بين المباح] والمحظور.

وما حكاه عن هذا القائل شبيه بما حكاه القاضي الحسين، عن صاحب التلخيص في قشر البطيخ؛ فإنه حكى عنه أنه [قال]: يباح له ذلك بشرط السلامة، وحكى مع ذلك وجهين:

أحدهما: أنه إن ألقاه في زاوية من الشارع، ليست بممرٍّ للناس – فلا ضمان عليه، وهو يجري في القمامات؛ كما صرح به الإمام.

والثاني: إن كان الجانب الذي يلي الباطن، وهو الوجه المأكول يلي الأرض؛ فزلقت به رجل إنسان؛ فتحرك – يلزمه الضمان، وإن لم يتحرك – لا يلزمه [الضمان]؛ لان القشر إذا لم يتحرك – كان سوط تَعثُّر به، لا بسببه.

وإن كان الجانب المأكول يلي الهواء؛ فن لم يتحرك، يلزمه الضمان، وإن تحرك، لم يلزمه؛ لأنه بفعله تحرك؛ فكان السقوط على الأرض لمعنى من جهة الساقط، لا بسبب القشر. وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب التلخيص، وطوائف من الأصحاب، [مع] حكاية الوجه الأول، وحكاية وجه آخر حكاه المتولي أيضاً: أنه لا ضمان؛ لأن الشوارع من مرافق الأملاك؛ فلو منع الملاك من طرح الكناسات والفضلات في الطرق الواسعة؛ لضاقت عليهم الأملاك. ثم قال الإمام: ومعظم المحققين [ذهبوا إلى] إبطال تفصيل صاحب التلخيص، والمصير إلى أن الضمان يجب، وهو ما اختاره القاضي الحسين، ثم قال: وعلى هذا لو رش الماء على باب داره، أو حانوته، فمر به مار؛ فزلق ومات، أو انكسرت رجله؛ فإن بالغ، يلزمه الضمان، وإن لم يفرط، بل قص به تسكين الغبار، [أي عن المارين، فالمذهب أنه لا ضمان. وقد قال الإمام بدل هذه العبارة:] إنه كاحتفار البئر؛ لمصلحة المسلمين.

ص: 20

ومحل ما ذكرناه من الضمان، إذا لم ير التالف ما حصل بسببه التلف، أما إذا رآه، وتعمد وضع رجله عليه حتى هلك – فلا ضمنا جزماً في جميع الصور.

فرع: إذا وضع إنسان حجراً في الطريق؛ فعثر به إنسان فدحرجه إلى موضع آخر، فعثر به آخر، وتلف منه – وجب الضمان على عاقلة الذي عثر أولاً؛ لأن الحجر في ذلك الموضع إنما حصل بفعله؛ قاله القاضي الحسين والرافعي، وغيرهما.

قال: وإن حفر بئراً، ووضع آخر حجراً؛ فتعثر إنسان بالحجر، ووقع في البئر؛ فمات – وجب الضمان على واضع الحجر، [أي]: وتتحمله عاقلته؛ لأنه سب دفعه إلى البئر، والسبب كالمباشرة؛ فيجعل ناصب الحجر كأنه باشر دفعه، ولو فرض ذلك، فالضمان على الدافع، وإن كان الهلاك لا يحصل بدفع الدافع لولا البئر؛ كما نقول بعدم وجوب الضمان على دافع الآلة إلى القاتل؛ وإن كان لا يحصل القتل بدون آلة.

وهكذا لو وضع إنسان حجراً، وآخر حديدة؛ فتعثر مار بالحجر، ووقع على الحديدة؛ فمات – وجب الضمان على واضع الحجر على النص، وهو الصحيح في المهذب.

وفيه [وفي] غيره: أن أبا الفياض البصري قال: إن كانت الحديدة سكيناً قاطعاً فالضمان على واضعها دون واضع الحجر فإن كان غير قاطع، وجب على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطع موح.

قال الماوردي: وهكذا قال فيمن دفع رجلاً على سكين [في يد] قصاب؛ فانذبح بها: إن ديته على القصاب دون الدافع.

والإمام، والقاضي الحسين، وغيرهما قالوا في الأخيرة: إن حرك القصاب يده قريباً من جوف الملقي عليه فيجب الضمان عليه حينئذ، وألا فهو على الدافع.

وهكذا لو حفر بئراً، ونصب آخر في أسلفها سكيناً؛ فوقع إنسان في البئر، وهلك من الحديدة، فالضمان على حافر البئر.

وفي البيان وجه: أن الضمان على ناصب السكين خاصة.

وقد أورد الإمام – على ما أجمع عليه الأصحاب [في مسألة الكتاب]

ص: 21

سؤالاً؛ فقال: الحجر سبب [في الدفع] وليس دفعاً، والبئر سبب في الهلاك، وليس إهلاكاً؛ فلا يبعد، من طريق القياس، وقد اجتمع السببان أن شترك المسببان في الضمان، وليس من الإنصاف أن يجعل الحجر كالدافع المباشر، ويجعل البئر على حقيقة السبب؛ فإن قدرت سبب الدفع دفعاً؛ فقدر سبب الهلاك إهلاكاً؛ فإنه لو ألقى ملقٍ إنساناً على سكين بيد إنسان؛ فتلقاه صاحب السكين؛ فالهلاك منهما، والضمان عليهما.

وما ذكروه من إلقاء الواقف على السكين أظهر إشكالاً من هذا؛ فإن حل السكين، وإلقاءه ممكن فالاشتمال به، والتحمل عيه ليدوم منتصباً كيف يحيط؟ فليكن ما قاله الأصحاب مفروضاً حيث لا يتمكن صاحب السكين من إلقائه وطرحه.

تنبيه: محل ما ذكرناه – كما اقتضاه كلام الشيخ – إذا كان الوضع في الطريق، وفي معناه إذا كان الحفر والوضع في ملك الغير بغير إذنه، والهالك غير متعد بالدخول.

أما إذا كان الحفر والوضع في ملك فاعله، أو في غير ملكه، ولكنه فعل بالإذن – فلا ضمان.

والرضا ببقاء المحفور هل يجعل كالإذن في الحفر؟ فيه وجهان مضيا عن الشامل وغيره في كتاب الغصب، والمذكور منهما في تعليق البندنيجي المنع، والأظهر في الرافعي: مقابله، وعليهما يخرج – كما قال الماوردي -: جواز الطم بعد ذلك بدون رضا المالك.

ولو كان الدخول أيضاً بغير إذن، فهل يحال الهلاك على الدخول، أو على الحفر العدوان؟ فيه وجهان في التتمة.

ولو كان وضع الحجر فيملكه، [أو] بإذن المالك، أو برزت نبلة من الأرض؛ كما قال الماوردي، والحفر أو وضع الحديدة غير مباح؛ فتعثر إنسان بالحجر، أو بالنبلة، ووقع في البئر، أو على الحديدة؛ فمات – فالضمان على

ص: 22

الحافر، أو [على] واضع الحديدة؛ [فإنه المتعدي، قال الرافعي: وينبغي أن يقال لا يجب الضمان على الحافر وواضع الحديدة]؛كما لو كان حفر البئر أو وضع السكين في محل عدوان، وحصل حجر على طرفه بمجيء سيل أو بوضع حربي، أو سبع؛ فعثر بالحجر إنسان، ووقع في البئر، أو على السكين؛ فمات، فإنه لا ضمان على أحد؛ كما صرح به القاضي الحسين، والإمام، وغيرهما؛ قياساً على ما لو ألقاه السبع أو الحربي [في البئر]. قال: ويدل عليه – أيضاً – أن المتولي قال: لو حفر في ملكه بئراً، وجاء آخر؛ فنصب فيها حديدة؛ فوقع إنسان في البئر، وجرحته الحديدة؛ فمات –فلا ضمان على واحد منهما: أما الحافر فظاهر، وأما الآخر؛ فلأن الوقوع في البئر هو الذي أفضى إلى الوقوع على الحديدة؛ فكان حافر البئر كالمباشر، [و] الآخر كالمتسبب.

على أن في المسألة التي حكيناها عن القاضي الحسين والإمام وجهاً حكاه المتولي: أنه يجب الضمان على عاقلة الحافر؛ لأنه لا وجه للإهدار، والحافر هو المتعدي.

فروع:

الفرع الأول: لو حفر بئراً قريبة العمق، فعمقها غيره؛ فضمان من تردى فيها على الأول، على وجه، وعليهما على وجه، وهو الأظهر؛ فعلى هذا: في كيفية شركتهما وجهان حكاهما الشيخ أبو عليٍّ:

أحدهما: النصف؛ كما لو مات من الجراحات.

والثاني: يوزع على ذلك الحفر.

الفرع الثاني: إذا حفر بئراً متعدياً، ثم طمها، وجاء آخر، وأخرج ما طمت به؛ فتردى فيها إنسان – فالضمان على الأول؛ لأنه المبتدئ بالتعدي، أو على الثاني؛ لانقطاع أثر الحفر الأول بالطم؟ فيه وجهان عن البيان.

قلت: وهذا الإطلاق فيه نظر، بل كان يجب أن يقال: إن كان الطم وجد بوجه مشروع، فلا وجه إلا تعلق الضمان بالثاني؛ لأن الأول برئ من الحفر بالطم.

ص: 23

وإن كان الطم بغير وجه مشروع، فيتجه أن يكون محل الخلاف.

الفرع الثالث: إذا وضع رجل حجراً في الطريق، ووضع آخران حجراً بجنبه، وتعثر بهما إنسان – فالوجه الأظهر: أو الضمان يتعلق بهم أثلاثاً، وهو ما ادعى ابن الصباغ انه قياس المذهب.

وفي التهذيب وجه: أنه يتعلق نص الضمان بالمنفرد، ونصفه بالآخرين.

قال: وإن حفر بئراً في طريق واسع؛ لمصلحة المسلمين، أو بني مسجداً، أي: للمسلمين، أو علق قنديلاً – أي: بكسر القاف – في مسجد، أو فرش فيه حصيراً، ولم يأذن له الإمام في شيء من ذلك، أي: ولا نائبه في أمر المسجد؛ فهلك به إنسان – فقد قيل: يضمن.

قال في المهذب: لأن ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص [به الإمام]؛ فمن افتات عليه كان متعدياً؛ فضمن من هلك بهن وهذه العلة تفهم أن الإقدام على ذلك – على هذا القول – لا يجوز.

وقد قال الرافعي: إنه جائز بشرط سلامة العاقبة.

وقد ادعى الجيلي أن هذا القول أصح، وقال القاضي أبو حامد: إن الشافعي أشار إليه في القديم في مسألة البئر.

وقيل: لا يضمن؛ لأنه اعتمد مصلحة المسلمين لا بإضرار؛ فهو كما لو فعله بإذن الإمام، أو إمام المسجد؛ فإنه لا يضمن، وهذا ما ادعى ابن يونس والنواوي أنه الأصح، واختاره في المرشد، وحكاه القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في الجديد في مسألة البئر، وصححه البغوي.

وعلى حكاية الخلاف المذكور قولين، جرى الإمام والقاضي الحسين.

وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد أثبته وجهين، وعلى ذلك جرى أتباعه – البندنيجي وغيره، [وكذا] البغوي والماوردي [في مسألة حفر البئر وبناء المسجد.

وقال الماوردي:] إن إجراءهما في مسألة القنديل، والحصير من تخريج الشيخ أبي حامد، وإن سائر أصحابنا خالفوه، وقالوا: لا يضمن وجهاً واحداً، سواء أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، [وإنه] الصحيح؛ لكثرته في العرف، وإن إذن

ص: 24

الإمام فيه يشق وهو المذكور في الشامل، وتعليق القاضي الحسين؛ كما حكى عن الشيخ أبي حامد، وقال: إن في معنى ذلك: ما إذا طين المسجد أو نصب فيه عماداً، فوقع على إنسان؛ فأتلفه.

وحكم تلف عضو من الأعضاء بسبب الحفر وغيره - حكم تلف النفس.

وحكم وضع دنٍّ على باب المسجد؛ ليشرب الناس منه حكم بناء المسجد، صرح به في التهذيب.

وأصل الخلاف في المسائل التي ذكرها الشيخ وغيره- كما قاله البندنيجي -مسألة البئر.

وادعى القاضي أبو الطيب أنه في مسألة البئر مخرج من القولين المذكورين في مسألة تعليق [قنديل] في مسجد، أو إحداث خشبة في سقفه، أو فرش بارية فيه، وهي الحصير، ولا يقال: حصيرة؛ كما قاله النواوي.

أما إذا بنى المسجد لنفسه فهو كحفر البئر لنفسه.

قال البندنيجي، وابن الصباغ: والحفر في المسجد كالحفر في الشوارع، وقد صرح به البغوي والرافعي، وهذا هو المشهور في الطرق، ووراءه أمران:

أحدهما: حكى الإمام طريقة قاطعة بأن الحفر إن حصل بدون إذن الإمام ضمن، وإن كان بإذنه، [ففي الضمان قولان]. ثم قال: الطريقة الأولى أمثل؛ فإن الحفر إذا كان للمصلحة، وكان قد صدر عن إذن الناظر في المصالح بَعُدَ في الرأي الكلي والجزئي تقدير الضمان.

ولو أمر الإمام ابتداء باحتفار بئر، ثم فرض التردي فيها؛ فلا يصير إلى إثبات الضمان - والحالة هذه - إلا جسور، ولا نأمن أن صاحب الطريقة الثانية يقضي بوجوب الضمان أيضاً.

الثاني: حكى صاحب التهذيب أن أبا حنيفة قال: إن الفاعل لما ذكرنه لمصلحة المسلمين إن لم يكن من أهل المحلة ضمن، وهو قول أبي إسحاق.

تنبيه: قد فهم من تصوير الشيخ المسألة بالطريق الواسع لمصلحة المسلمين - أن

ص: 25

محل ما ذكره إذا كان لا يضر بالمسلمين، وإلا لم يكن لمصلحتهم، ولم يكن لذكر "الوسع" معنى، وقد صرح الأصحاب كافة بأن الحفر إذا كان مضراًّ بالمسلمين اقتضى الضمان، وإن كان بإذن الإمام؛ لأنه ليس له الإذن إلا فيما فيه مصلحة.

قال: وإن حفر بئراً في ملكه، أو في موات؛ لينتفع بها، أي في مدة مقامه، ثم يتركها للمسلمين؛ كما نبه عليه البندنيجي؛ فوقع فيها إنسان، ومات - لم يضمن؛ لأنه غير متعد بذلك؛ إذ له الانتفاع بملكه، وبالموات.

قال الأصحاب: وعلى الصورة الأخيرة حمل ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْبِئْرُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جَرْحُهُ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ".

وذكر الماوردي مع هذا التأويل تأويلاً آخر، وهو أن المراد به: الأجير في حفر البئر والمعدن إذا تلف كان هدراً، ثم قال: ولا يمتنع أن يحمل على عموم الأمرين فيما أبيح فعله، وإن أريد به أحدهما؛ لاشتراكهما في المعنى.

لكنه حكى فيما إذا حفرها؛ لينتفع بها هو والسابلة بدون إذن الإمام في الضمان قولين:

القديم: وجوبه.

والجديد: منعه.

قال: وإن حفر بئراً في ملكه، [أو في طريق ملكه، [واستدعى إنساناً]؛ فوقع فيها؛ فهلك -: فإن كانت ظاهرة، أي: للداخل، لم يضمن؛ لعدم تفريط الآذن، وتفريط الداخل.

وظهورها يكون بأحد أمرين: بأن يكون الداخل بصيراً، والدخول في النهار، وهي في موضع لا ظلام فيه، أو بالليل وقد أعلم بها، وفي معناه الضرير.

قال: وإن كانت مغطاة، أي: ولم يعلم الداخل بها، ولا رأى أثراً يدل عليها، أو كان أعمى - كما قال الماوردي، وكذا البندنيجي في باب ضمان البهائم - ففيه قولان.

وجه المنع - وهو المنصوص هنا؛ كما قاله الماوردي، وأنه الأظهر، وادعى

ص: 26

القاضي أبو الطيب أنه المذهب -: أنه دخل باختياره، والحفر مباح.

ووجه الوجوب- وهو الذي صححه النواوي، واختاره في المرشد -: أنه ملجئ إلى ذلك عرفاً؛ فأشبه الإلجاء الحسي؛ فإنه لو فعله ضمن جزماً.

وقد ادعى الماوردي أنه مخرج من أحد قوليه؛ فيمن سم طعاماً، وأذن في أكله.

وحكى الإمام أن من الأصحاب من جعل هذه المسألة أولى بوجوب الضمان؛ فإن تناول الطعام وازدراده تعلق بعين المتلف؛ بخلاف الطروق؛ فإن التردي يقع لا عن اعتماد إليه.

لكن الإمام فرض ذلك فيما إذا كان الحفر في طريق ضيق لا مدخل إلى الملك غيره، ولا محيص للداخل عن التردي في البئر، وقال فيما إذا كانت البئر مائلة، وأمكن تقدير الازورار عنها: إن في هذه الحالة طريقين للأصحاب:

منهم من قطع بانتفاء الضمان، فإن الحفر ليس بعدوان، وكان من حق الداخل [أن] يتحفظ، وهذا هو المسلك الأصح.

ومنهم من جعل في الضمان قولين.

فرع: لو كان الحافر غير المالك بدون إذنه، لكن المالك علم بالبئر، ولم يعلم من استدعاه بها – ففي تعليق القاضي الحسين وجهان:

أحدهما: أن الضمان على المالك؛ حيث لم يعلمه.

والثاني: على الحافر؛ لأنه المتعدي بالحفر.

قال: وإن كان في داره كلب عقور؛ فاستدعى إنساناً؛ فعقره؛ فعلى القولين.

وقيل: لا يجب الضمان وجهاً واحداً، وهو ما نص عليه في باب: ضمان البهائم، وما جزم ابن الصباغ في باب: صفة العمد، وإن حكى الخلاف في باب ضمان البهائم، وأجراهما فيما إذا كان في داره أحبولة؛ فأذن لإنسان؛ فدخل فأصابته؛ لأن للكلب اختياراً، ويمكنه دفعه بعصاً وغيرها، وهذا إذا علم به،

ص: 27

ولم يعلم بأنه عقور، أما إذا علم بذلك فلا يجب الضمان جزماً، وكذا إذا كان مربوطاً في موضع؛ فصار إليه المستدعي، وهو غير عالم بحاله.

ولو أكرهه رب الدار على الدخول، قال الماوردي: فإن اتصل الإكراه بالتلف، فيكون مضموناً بالدية على المكره؛ لتعديه بالإكراه. وإن لم يتصل الإكراه بالتلف ففي استصحاب حكمه وجهان:

أحدهما: أن حكمه مستصحب؛ فعلى هذا يكون مضموناً على المكره.

[والثاني: أن حكمه قد زال بانقطاعه فيكون كغير المكره، والله أعلم].

قال: وإن أمر السلطان رجلاً أن ينزل إلى بئر، أو يصعد إلى نخل؛ لمصلحة المسلمين؛ فوقع؛ فمات- وجب ضمانه؛ لأنه يستحب للمأمور طاعته؛ فإذا فعل، وترتب عليه الهلاك – ضمن؛ لأن الاستحباب مرجح للفعل على الترك في نظر الفاعل؛ كما أن الإكراه الحسي بما يفضي إلى الهلاك مرجح للفعل في نظر فاعله على الترك، وقد قلنا: إن المكره يجب عليه الضمان؛ فكذلك هاهنا.

وما ذكرناه من الاستحباب هو ما صرح به القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ في باب: عدد الخمر، [وكلام الإمام في "التغريب" يقتضي وجوب الفعل على المأمور؛ فإنه قال: إذا استعان الإمام بأحد من المسلمين لزمه الانقياد له].

وقال في التهذيب: إنما يجب ضمانه، إذا قلنا: إن أمر السلطان يكون إكراهاً؛ نظراً إلى سطوته، ووجوب طاعته، وهذا ما اقتصر على إيراده في الجنايات الرافعي، وبعض الشارحين لهذا الكتابن ولو كان هذا المأخذ لما وجب ضمانه عند العراقيين؛ لأنهم لم يجعلوا أمر السلطان إكراهاً.

ثم الضمان على من يجب؟

قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في هذه الصورة: فيه قولان:

أحدهما: على عاقلته.

والثاني: في بيت المال.

وقالا فيما إذا كان قد أمره بذلك، لخاص نفسه: إنه يكون على عاقلة الإمام، وإن هذا بخلاف ما لو أمره أن يسعى في حاجته؛ فسعى؛ [فعثر] فمات؛ فإنه لا

ص: 28

ضمان على الإمام، لأن السعي ليس بسبب الإتلاف، ولا العثار؛ بخلاف صعود النخلة، ونزول البئر.

قال: وإن أمره بعض الرعية فوقع؛ فمات – لم يجب ضمانه؛ لأن طاعة هذا [الأمر] لا تجب، ولا تستحب؛ فصار كما لو فعل ذلك بدون أمر.

نعم، لو أكرهه على الصعود أو النزول فقد قال في الوسيط: إن القصاص واجب على المكره، ولم يجعله كشريك الخاطئ؛ لأن هذا الخطأ ولده إكراهه؛ بخلاف جهل المكره وصباه؛ فإن فيه وجهين، يعني: إذا أكره البالغ صبياًّ على القتل، فإن في وجوب القصاص على البالغ قولين مبنيين على أن عمد الصبي عمد، أو خطأ؟

قال الرافعي: والأظهر ما ذكره الفوراني، وصاحب التهذيب، وحكاه القاضي الروياني -: أنه عمد خطأ، لا يتعلق به القصاص؛ لأن الفعل ليس مما يقصد به الهلاك.

قال: وإن بنى حائطاً في ملكه، أي: مستقيماً، فمال إلى الطريق، فلم ينقضه، حتى وقع على إنسان؛ فقتله – لم يضمن على ظاهر المذهب؛ لأنه وضعه في ملكه، وسقط بعد فعله؛ فلم يتعلق به ضمان؛ كما لو سقط من غير ميل، واستهدام.

ولفظ الشافعي – رحمه الله – الذي قيل: إن هذا ظاهره: "إن مال حائط دار؛ فوقع على إنسان؛ فأتلفه – فلا شيء فيه، وإن أشهد عليه؛ لأنه بناه في ملكه، والميل حادث من غير فعله، وقد أساء بتركه.

وقد رجح هذا المزني والإمام، وقال به أبو سعيد الإصطخري، وأبو عليّ الطبري، والشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا؛ كما قاله القاضي أبو الطيب.

ولا فرق فيه بين أن يطالب بإزالته؛ فلم يزله، أو لا؟ كما صرح به المزني، وهو مأخوذ من قول الشافعي – رضي الله عنه – وإن أشهد عليه.

وقيل: يضمن؛ لأنه [لما] مال، لزمه إزالته؛ فكان متعدياً بتركه؛ فضمن ما هلك به؛ كما لو بناه مائلاً إلى الطريق؛ فإنه يضم ما تلف به جزماً، وهذا قول

ص: 29

أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، واختاره صاحب المرشد، والقضاة: الماوردي، وأبو الطيب والروياني، وأيده الماوردي بأنه لو أخرج روشناً من داره أقر عليه، وضمن ما تلف به، وهو هاهنا لا يقر على ميل الحائط؛ فكان أولى أن يضمن ما تلف به، ثم قال القاضي أبو الطيب: إن قائله حمل النص على ما إذا: مال [وسقط من غير أن يتمكن من تداركه.

والماوردي وابن الصباغ قالا: إنه حمل النص على ما إذا مال] إلى ملك نفسه؛ فإنه لا يضمن ما تلف به جزماً.

قلت: وما قالوه فيه نظر؛ لأن قول الشافعي: [وإن أشهد عليه]، يأبى الحمل الأول، وكذلك قوله:"فقد أساء بتركه"، يأباه، ويأبى الحمل الثاني؛ لأنه إذا مال، ولم يعلم به حتى سقط، أو مال إلى ملكه، وعلم به – غير مسيء بالترك.

ومن قال بأنه عند الميل مأمور بالإزالة أو لا يقر على ميل الحائط؛ فذاك منه مصادرة؛ لأن القائل بعدم الضمان لا يلزمه بالنقض؛ كما صرح به القاضي أبو الطيب.

لكن يشكل هذا بقول الشافعي: "فقد أساء"، إلا أن يحمل على ترك الأولى.

ثم على قول أبي إسحاق لو مال بعض الجدار، وحصل التلف بالمائل – كان المضمون جميع الدية، وإن كان بما لم يمل خاصة، لم يجب شيء، وإن كان بهما فهو كما سنذكره في الميزاب والجناح، إلا القول الثالث ثَمَّ.

وقد فهم من قول الشيخ والقاضي أبي الطيب: إن محل الخلاف في مسألة الكتاب إذا تمكن من النقض، فلم يفعله، أما إذا لم يتمكن، فلا يضمن وجهاً واحداً.

وقد صرح الرافعي بحكاية ذلك عن الشيخ أبي حامد، والبغوي.

وحكى القاضي الحسين مع هذه الطريقة طريقة أخرى، وهي: أن محلها إذا لم يتمكن، أما إذا تمكن، ضمن وجهاً واحداً.

وعند الاختصار يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه: ثالثتها: إن تمكن ضمن، وإلا فلا، وهذا ما أورده الإمام، وقال: إنه لم يره لأحد من أئمة المذهب.

ثم الوجهان في مسألة الكتاب جاريان – كما حكاه ابن الصباغ، والقاضي أبو

ص: 30

الطيب، والبندنيجي، وغيرهم – فيما إذا مال إلى ملك جاره، لكن في هذه الصورة للجار مطالبته بإزالة المائل إلى ملكه؛ كما إذا انتشرت إليه الأغصان؛ فإن لم يفعل كن له نقضهن قاله البندنيجي والماوردي.

ويجري الوجهان أيضاً – كما حكاه ابن الصباغ، عن رواية القاضي أبي الطيب- فيما لو وضع عدلاً على حائط نفسه، فوقع في ملك غيره؛ فأمر بإزالته، فلم يفعل؛ فعثر به إنسان؛ فهلك، أو سقط الحائط إلى الطريق؛ فلم يرفعه حتى تعثر به إنسان، وهلك؛ وكذلك حكاهما الماوردي في مسألة سقوط الحائط [المائل، فقال: إن قلنا: لا يضمن بسقوط الحائط]، فكلك لا يضمن من تعثر بنقضه إذا لم يتمكن من رفعه؛ فإن تمكن؛ فلم يفعل، ضمن. وإن قلنا: يضمن بسقوط الحائط؛ فكذا يضمن من عثر به.

وإطلاقه القول بالضمان عند التمكن موافق للطريقة التي حكيناها عن رواية القاضي الحسين في محل الخلاف.

وقد بقي من الصور السبع التي ذكرها الأصحاب في وقوع الحائط ثلاث:

إحداها: أن يبنيه مائلاً إلى ملكه؛ فيقع، ويتلف به إنسان، أو بما طار منه من شظية- فلا ضمان؛ كما قاله القاضي الحين وغيره.

نعم لو ربطه تحته – فسقط عليه، قال الماوردي: إن كان مؤذنا بالسقوط، ضمن الرابط، وإلا فلا.

الثانية: أن يبنيه مستقيماً؛ فيميل إلى ملكه – فلا ضمان بسببه من طريق الأولى.

الثالثة: أن يبنيه مستوياً؛ فيستهدم من غير ميل؛ فليس لأحد مطالبته بنقضه، وإذا وقع على إنسان؛ فأتلفه؛ فلا ضمان، وهذا ما حكاه الماوردي، ونسهب ابن الصباغ إلى الاصطخري، ثم قال: وفيه نظر؛ لأنه ممنوع من أن يصنع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى إلى ملك غيره؛ كما ليس له أن يؤجج ناراً في ملكه، مع وجود

ص: 31

الريح، ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى ملك غيره، كذلك هاهنا: إذا كان مستهدماً؛ فالظاهر أنه يتعدى إلى ملك غيره؛ فيمنع.

وقد أبدى المتولي هذا الاحتمال وجهاً، وقال: للجار، والمارة في الشارع المطالبة به؛ لما يخاف منه الضرر؛ فإن لم يفعل حتى سقط؛ فهو كما لو مال فلم ينقضه حتى أتلف.

واعلم أنا حيث نوجب الضمان فيما ذكرناه [والمتلف آدمي يكون على عاقلة صاحب الحائط، كما ذكرناه] من قبل، وإن كان مالاً غير آدمي، كان على صاحب الحائط.

ولو باع الحائط المبني مائلاً، قال صاحب التهذيب: لم يبرأ من الضمان حتى إذا سقط على إنسان؛ فهلك -يكون الضمان على عاقلة البائع.

[قلت: وقد يتخل أن محل ذلك إذا لم يقبض الجدار، أما إذا أقبضه فلا يكون من ضمانه، بل يكون من ضمان المشتري، ولا شك في أن هذا الحكم لا يزول عن البائع؛ إذا لم يقبضه المشتري، أما إذا خلي بينه وبينه؛ فيشبه أن يبني ذلك على أن التخلية في المنقول هل تكون قبضاً أم لا؟ وفيها خلاف، والأصح: أنها لا تكون بضاً؛ فعلى هذا لا يزول الضمان في هذه المسألة عن البائع بالبيع والتخلية؛ لأن الجدار المائل يستحق نقضه؛ فهو كالمنقول.

قد فرعنا على أن التخلية فيه لا تكفي، ويصح جواب البغوي - مطلقاً - وإن قلنا: إنها تكفي، فيكون هاهنا على المشتري، والله أعلم].

قال: وإن وضع جرة على طرف سطح، فرماها الريح؛ فمات بها إنسان - لم يضمن؛ لأنه غير متعد بوضعها في ملكه، ووقوعها كان بغير فعله. وهكذا الحكم فيما لو ابتلَّ موضع الجرة؛ فسقطت، وفيما لو نام على السطح؛ فانهار به الجدار؛ فسقط على إنسان؛ فقتله - لا ضمان عليه، بخلاف ما لو سقط؛ لتقلبه في نومه؛ فإن الضمان ثابت؛ كما حكاه الماوردي.

ولو وضع على طرف سطحه قفصاً فيه قوارير، فهبت الريح وألقته في الشارع، وكاد أن يسقط على أحد؛ فرماه عن نفسه حتى سقط على الأرض، وانكسرت القوارير - قال القاضي الحسين: عليه الضمان؛ لأنه كان من حقه أن يتأخر عنه،

ص: 32

ولا يدفعه حتى سقط على الأرض بفعله، فلو لم يتمكن من الخلاص إلا بالدفع والإتلاف؛ فهل يضمن؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ تنزيلاً لذلك منزلة البهيمة الصائلة.

وأظهرهما في الرافعي: نعم؛ لأنه لا قصد ولا اختيار فيها بخلاف البهيمة.

قال: وإن أخرج روشناً إلى الطريقين أي: وكان يسوغ له إخراجه؛ فوقع أي: بجملته – على إنسان؛ فمات – وجب نصف الدية، لأنه هلك بشيئين: أحدهما: الخارج منه، وهو مضمون؛ لأنه جاز فعله بشرط سلامة العاقبة؛ كالرمي إلى الصيد.

والآخر: الداخل في ملكه؛ وهو غير مضمون؛ فقسط الضمان على الشيئين، وهذا ما جزم به القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن الأكثرين، وقال: إنه القياس المرضي.

وحكى القاضي أبو الطيب وغيره قولاً آخر: أن الواجب من الدية بقدر ما كان خارجاً منه إلى الطريق: فإن كان الخارج ثلاثة أشبار، [والداخل] الذي على الحائط شبر – وجب ثلاثة أرباع الدية، وإن كان الخارج شبرين، والداخل شبراً – وجب ثلثا الدية.

والقولان مأخوذان من القولين فيما إذا ضرب الجلاد أحداً وأربعين في الخمر؛ فمات.

وحكى الماوردي أن القاضي أبا حامد حكى في جامعه قولاً ثالثاً: أنه يضمن جميع الدية لأن الداخل في الحائط من الخشب جذبه الخارج منه؛ فضمن به جميع الدية.

وحكى عن الشافعي [أنه] قال: ولا أبالي أي طرفيها أصابه. يعني: الخشبة؛ لأنها قتلت بثقلها.

وحكى الغزالي وإمامه وجماعة أنا على قول التوزيع ننظر إلى الوزن لا إلى المساحة.

قال: وإن تقصف من خشبة الخارج شيء؛ فهلك به إنسان –ضمن جميع الدية؛ لأنه هلك بما هو مضمون خاصة.

قال القاضي أبو الطيب، وغيره: وهذه المسألة يُعَمَّى بها؛ فيقال: ما تقول في خشبة إذا وقع جميعها على إنسان؛ فمات، لم يضمن إلا نصف ديته، وإذا وقع

ص: 33

بعضها عليه؛ فمات، وجب كل الدية؟

وفي النهاية أن القابول – وهو الروشن البارز – لو تناهى مخرجه في الاحتياط؛ فجرت حادثة لا تتوقع موجودة أو صاعقة؛ فسقط بها القابول- فلست أرى إطلاق القول بالضمان؛ فلينظر من أدرك هذا.

قال القاضي الحسين: ولو تصور حصول التلف بسقوط الداخل في الملك دون الخارج، لم يجب شيء.

تنبيه: قول الشيخ: أخرج روشناً إلى الطريق، احترز به عما إذا أخرجه إلى ملكه؛ فسقط؛ فإنه لا ضمان.

قال القاضي الحسين: وكذلك لو أخرجه إلى ملك غيره بإذن مالكه؛ لأنه وجد الإذن في المستحق المتعين.

وفيه أيضاً احتراز عما إذا أخرجه إلى درب غير نافذ بإذن أهل الدرب؛ فإنه لا يضمن؛ كما [إذا] أخرجه إلى ملك غيره بإذنه وقد صرح بذلك القاضي الحسين والمتلوي.

قال: وإن نصب ميزاباً؛ أي: في الطريق؛ فوقع على إنسان؛ فأتلفه –فهو كالروشن؛ لأن كلاًّ منهما جاز إخراجه ليتوسع به في الانتفاع في ملكه، وهذا هوا لجديد كما حكاه القاضيان: الماوردي وأبو الطب، والمصنف، وغيرهم؛ على هذا في كيفية ما يضمن به إذا سقط الجميع الأقوال السابقة.

ولا فرق بين أن يصيب الطرف البارز أو الذي في الحائط؛ كما حكاه المستظهري وابن الصباغ، وحكينا مثله عن النص في الروشن.

وقيل: لا يضمن؛ لأن الضرورة تدعو إليه؛ فإن المياه إذا اجتمعت، فلم يكن لها سبيل إلى الخروج- عادت إلى الدار؛ فيكون منه خرابها؛ بخلاف الروشن؛ فإن إخراجه؛ لاتساع في المنفعة، لا للضرورة الحاقّة، وهذا حكاه القاضي أبو حامد في جامعه عن القديم.

قال الأصحاب: وليس بشيء، لأنه [قد] كان يقدر على إجراء مائة إلى بئر يحفرها في داره، أو يفتح أخدوداً في الجدار، [و] يجري فيه الماء؛ فانتفت الضرورة.

ص: 34

ثم القول القديم يجري فيما إذا سقط البارز خاصة، ولفظ الغزالي في هذه المسألة قَلِق؛ فإنه قال: إذا سقط ميزاب إنسان على رأس إنسان: فإن كان الساقط هو القدر البارز فهو كالجناح، وإن كان الساقط جميع الميزاب ففي الضمان وجهان.

وهذا يقتضي الجزم بالضمان فيما إذا سقط البارز خاصة، وإجراء الخلاف فيما إذا سقط الجميع، والمنقول ما ذكرناه، وما يتلف من [الماء الساقط] من الميزاب مضمون على ناصبه.

تنبيه: المئزاب: بكسر الميم، وبعدها همزة، ويجوز تخفيفها بقلبها ياء؛ فيقال: ميزاب – بياء ساكنة- وقد غلط من منع ذلك، ولا خلاف بين أهل اللغة في جوازه.

ويقال أيضاً: مرزاب؛ براء، ثم زاي، وهي لغة مشهورة، قالوا: ولا قال: مزراب، بتقديم الزاي.

وجمع "مئزاب": مآزيب.

قال: وإن كان معه دابة، فأتلفت إنساناً بيدها أو رجلها – وجب عليه الضمان، أي: وتتحمله العاقلة؛ لأنها في يده؛ فكانت جنايتها كجنايته، وهكذا الحكم إذا أتلفت بذنبها أو بفمها، حتى لو ابتلعت جوهرة ضمنها، ولو كانت ما يؤكل، هل يجب ذبحها؟ فيه وجهان في تعليق القاضي أبي الطيب [والمهذب وغيرهما] مبنيان على القولين يمن غصب خيطاً وخاط به جرح حيوان يؤكل.

وقد حكيت في باب الغصب وجهاً عن ابن أبي هريرة فارقاً بي أن تكون الدابة بعيراً؛ فيضمن الجوهرة، أو شاة، فلا.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي مع الدابة راكباً أو قائداً أو سائقاً، ولا بين أن يكون مالكاً أو مستأجراً أو مودعاً أو مستعيراً أو غاصباً.

ولو كان معها قائد، أو سائق، فالضمان عليهما نصفين.

وإن كان أحدهما راكباً، والآخر سائقاً، أو قائداً- اختص الضمان به، على أحد القولين أو الوجهين.

ومقابله هو الأصح في تعليق القاضي أبي الطيب، والأقيس في الشامل.

وهذا كله إذا كانت الدابة طوعاً، أما لو كانت قويت بحيث لا يستطيع ردها، فسنذكرها في مسألة الاصطدام.

ص: 35

وحكم بول الدابة في يده إذا تلف به إنسان، أو تزلق به شخص؛ فهلك – حكم تلفه بيدها.

ولو لم تكن في يده لم يضمن ذلك، صرح به الماوردي وغيره، وحكى الإمام ذلك في باب وضع الحجر في حال طروقها عن الأصحاب، وأبدى عدم الضمان احتمالاً لنفسه، ووجهه: بأن هذا لا يمكن التصون منه؛ فلو ثبت الضمان لمنع من المرور والطروق.

وقال في باب ضمان البهائم: إن كان البول والروث في حال ممرها فلا ضمان إلا أن [يتفق مزيد انتشار] بسبب وقوفها؛ فقد قال الأصحاب: إن كان [الممر] ضيقاً فوقوف الدابة عدوان، وما يترتب عليه يقتضي الضمان. ولو كان الطريق واسعاً، ووقوف الدابة معتاد فوقوفها كمشيها، وهذا ما حكاه المسعودي.

ثم قال الإمام: وهذا يلتفت إلى اصطدام [الماشي مع الواقف] وسيأتي.

وقال الماوردي: إذا أوقفها في الطريق الواسع في وسطه ضمن، وإن أوقفها فيه بفناء داره، والدابة غير شغبة ففي وجوب الضمان وجهان من اختلاف قوليه في [جواز] حفر البئر بفناء داره.

وعن ابن الوكيل وجه مطلق: أنه يجوز أن يوقف الدابة في الطريق؛ كما يجوز أن يجريها، فإذا بالت أو راثت في وقوفها، وتلف به إنسان – لم يضمن.

والذي حكاه ابن الصباغ: أن إيقاف الدابة في طريق المسلمين مُضَمَّن، سواء كان الطريق ضيقاً أو واسعاً، وهو المحكي عن النص في الرافعي، وهذا بخلاف ما لو ربطها في دهليزه، فرمحت إنساناً خارجاً عنه، أو أتلفته ببولها – فإنه لا يضمن؛ [كما لا يضمن] إذا كسر حطباً في ملكه؛ فطارت منه شظية؛ فأصابت عني إنسان؛ فأبطلت ضوءها.

وقد ألحق الإمام بذلك ما تتلفه البهائم في حال طروقها في الشوارع، مما لا سبيل إلى دفعه: كالغبار الذي ينشره مشيها، ويتعلق بثياب الناس، والفواكه، [وغيرها]، وكذا ما يطير بسبب مشيها في زمن الشتاء وكثرة الوحل؛ لأن ذلك

ص: 36

لا يمكن دفعه؛ فلو تعلق الضمان به لاقتضى المنع من الانتفاع بالشوارع. نعم، لو جاوز المعتاد في ذلك؛ فتلف بسببه شيء، ضمنه.

فروع:

[الفرع الأول:] إذا كان للدابة ولد سائب؛ فأتلف شيئاً في حال كون أمه في يده - ضمنه؛ كما يضمن ما تُتْلفه أمه؛ وكذا لو كان يقود جملاً وخلفه آخر مقطراً، وأتلف المقطر شيئاً - ضمنه.

الفرع الثاني: إذا نخس الدابة، أو ضربها مغافصة؛ فرمت راكبها؛ فمات، أو أتلفت مالاً - وجب الضمان على الناخس، قاله أبو علي في الإفصاح.

وعن كتاب ابن كج وجه آخر: أنه عليهما.

قال في ["فتاوى" صاحب] التهذيب: إن كان النخس بإذن المالك فالضمان عليه.

الفرع الثالث: إذا غلبته دابة؛ فاستقبلها إنسان، وردها؛ فأتلفت في انصرافها، فالضمان على الراد.

[الفرع الرابع:] لو كان يحمل رجلاً، فجاء آخر وقرص الحامل، أو ضربه؛ فتحرك؛ فسقط المحمول عن ظهره- قال في التتمة: هو كما لو أكره الحامل على إلقاء المحمول عن ظهره.

قال: وإن لم ينك معها: فإن كان بالنهار لم يضمن ما تتلفه، وإن كان بالليل ضمن ما تتلفه، أي: من زرع وغيره؛ كما صرح به الرافعي والبغوي؛ لما روى الشافعي، عن مالك مسنداً إلى محيصة رضي الله عنهم أن:"نَاقَةَ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطا بِالنَّهَارِ؛ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ؛ فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:أَنَّ عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ المَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَمَانٌ عَلَى أَهْلِهَا"، أي: مضمون [على أهلها]؛ كقولهم: سِرٌّ كَاتِم، أي: مكتوم.

ص: 37

وروى أبو داود بسنده عن البراء [بن عازب] أنه قال: "كانَتْ لِي نَاقة ضَارِبَةٌ، فَدَخَلَتْ حَائِطاً؛ فَأفْسَدَتْ فِيهِ؛ فَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى لله عليه وسلم – فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ". وقد اتفق الأصحاب على ما شهد به الحديث في الليل والنهار في ضمان الزرع وعدمه؛ إذا كان عادة أهل تلك البلدة تسييب مواشيهم نهاراً؛ لترعى في الموات الجاري بها العادة من غير راع، وحفظها ليلاً، وليس على الحوائط، والزرع حيطان، وإليه أشار الشافعي بقوله:"حيطان المدينة لا حائط لها". نعم، لو اتفق ذلك في القرى العامرة، والبلدان المتجاورة التي تجاور زرعها، ولا يمكن الرعي إلا في ساقية أو نهر من بين المزارع، ونحو ذلك – فقد حكى البندنيجي، وكذا الشيخ أبو حامد كما ذكره ابن الصباغ عنهن عن بعض أصحابنا أنه قال: لا يجوز للإنسان إرسال ماشيته نهاراً، فإن فعل فعليه الضمان، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وهو الأصح في الرافعي.

ومنهم من قال: لا يضمن؛ للخبر.

وعن أبي الطيب بن سلمة: أنه إذا أرسل الدابة في البلد؛ فأتلفت شيئاً – ضمنه؛ لأن الدابة في البلد تراقب، ولا ترسل [وحدها]، وهو الوجه.

ولو تغيرت عادة أهل بلد بحفظ المزارع بالليل والمواشي بالنهار، انعكس الحكم على الأصح.

وعن رواية الشيخ أبي عليّ حكاية قول: أنا نتخذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم –مرجعاً؛ فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد؛ فكل ما يقع نهاراً فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً فعليهم الضمان؛ فإن تتبع الساعات عسير.

وكذا الخلاف جار فيما إذا كانت الحوائط محوطة، وترك صاحبها بابها مفتوحاً ليلاً، والأصح: أنه لا ضمان، وبه قال صاحب التخليص، وجزم به في الوسيط؛ لأن مالك الزرع مقصر، وبهذا أيد الإمام ما أبداه من عدم الضمان

ص: 38

فيما لو اطلع على دخول البهيمة في زرعه ليلاً، ولم يتعرض لها بإخراج مع إمكانه، وقياس القول الناظر إلى الحديث خلافه.

ولو كثرت المواشي [في النهار]؛ حتى عجز أرباب الزروع عن حفظها – ففي وجوب الضمان وجهان في الحاوي.

ولو ابتلعت البهيمة في النهار جوهرة وشبهها؛ فهل تلحق بالزرع؟ فيه وجهان:

اختيار ابن أبي هريرة: نعم.

واختيار غيره، وهو – كما قال في "المهذب" – أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري، والمختار في [المرشد]: أنه يضمن بكل حال.

وفرق بأن الزرع مألوف [فلزم] صاحبها حفظها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف؛ فلم يلزم صاحبها حفظها.

قال: وإن انفلتت بالليل، وأتلفت: فإن كان بتفريط منه في حفظها –أي: مثل أن ترك الباب مفتوحاً، [أو لم][يعقلها]؛ كعادة أهل تلك الناحية- ضمن، كما لو أرسلها، وإن لم يكن بتفريط [منه]، أي: كما إذا أغلق الباب؛ ففتحه لص، أو وقعت الحائط؛ فخرجتن أو عقل الناقة – كما يفعل أهل البادية – فتمرغت، وحلت العقال – لم يضمن؛ لأنه غير مفرط.

قال الأصحاب: وعلى هذه الحالة ونظائرها حمل قوله صلى الله عليه وسلم:"الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا [جُبَارٌ]، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ" كما رواه أبو داود عن أبي هريرة، وخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهم.

لكن أبو داود حمل الحديث على غير هذه الحالة، وقال: العجماء: التي لا يكون معها أحد، وتكون بالنهار، ولا تكون بالليل.

ومعنى جُبار: مهدر.

ص: 39

والعجماء - ممدوداً -: البهيمة، وإنما سميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم، وكل من لا يقدر على الكلام أصلاً فهو أعجم، ومستعجم، والأعجم - أيضاً -: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب.

وجرحها: حكى الشيخ زكي الدين في حواشيه على مختصر السنن أن بعضهم قال: هو هاهنا بفتح الجيم على المصدر، لا غيرُ. وقال الأزهري: فأما الجرح بالضم فالاسم.

وفي فتاوي صاحب التهذيب: أن الريح إذا هاجت، وأظلم النهار؛ فتفرقت غنم الراعي؛ ووقعت في زرع؛ فأفسدته - فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: المنع؛ فأفسدته - فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: المنع؛ وكذا الحكم لو ندَّ بعير من صاحبه؛ فأتلف شيئاً، وعليه ينطبق ما حكاه في الحاوي أن ابن أبي هريرة حكى وجهاً؛ أن أرباب الأموال إذا أحرزوا مواشيهم بالليل؛ فغلبتهم ونفرت؛ فرعت في الليل زرعاً - ضمنوه؛ لأنه لم يكن من أرباب الزرع تفريط.

وقال - أعني الماوردي- في غير الماشية: إن صاحبها إذا لم يكن معها، فإن كان قد أرسلها باختياره، أو فرط في ربطها، وحفظها؛ فاسترسلت - كان ضامناً لما أتلفت، وإن لم يفرط في ذلك؛ أتلفت مالاً، أو نفساً، ففي الضمان وجهان:

أحدهما - وهو الأصح -: أن لا ضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار".

والثاني: عليه الضمان؛ لأنه قلما يكون ذلك إلا من تفريط.

ولم يفصل - فيما ذكره - بين الليل والنهار، ثم قال: وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في اصطدام السفينتين إذا كان من غير تفريط.

فرع: إذا دخلت البهيمة المزرعة؛ فصاح عيها صاحب المزرعة؛ فخرجت، ووقعت في زرع الجار - قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها عن زرع نفسه فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجه الضمان عليه.

ص: 40

ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير؛ فسوق الدابة، وإخراجُها – في هذه الحالة – لا يجوز؛ لأنه ليس له أن يجعل مال غيره وقاية لماله؛ فإن فعل فهو ضامن.

نعم، عليه أن يتركها، ويأخذ من صاحبها [ضمان] ما أتلفته.

ولو دخلت بهيمة ملكه، ولم تُتْلف له مالاً – قال العبادي في فتاويه: إنه رأى في تعليق القاضي أنه إن نفرها عن ملكه – لا ضمان، وإن نفرها غَلْوة سهم ضمن. ثم قال: والقياس أنه يضمن كما لو هبت ريح؛ فألقت ثوباً في حجره، أو حط السيل حجراً؛ فألقاه في ملكه – لا يجوز إخراجه وتضييعه، بل يدفعه للمالك. وهذا ما جزم به البغوي في فتاويه؛ إذا لم تكن مسيبة من جهة المالك؛ كالإبل والبقر.

قال: وإن كان له كلب عقور، [فلم يحفظه]؛ فقتل إنساناً، أي: في ليل – أو نهار – ضمنه؛ لتفريطه. وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور، وقيل: لا ضمان عليه يهما؛ لأن العادة لم تجر بربط الكلاب والسنانير في البيوت؛ فأشبه ما لو أرسل طيراً، فلقط حبًّا لغيره، أو كسر عليه شيئاً؛ فإنه لا ضمان على مرسله – كما ذكره ابن الصباغ- لأن العادة جرت بإرساله.

أما إذا لم يكن الكلب عقوراً، ولا السنور مفسداً، ففي تعليق القاضي أبي الطيب أنه لا ضمان، بسبب ما يتلفه؛ كما حكاه أبو علي في الإفصاح.

وفي الرافعي، وابن يونس حكاية وجه: أن ذلك كالماشية.

وحكى الإمام وجهاً آخر في الهرة في هذه الحالة؛ أنه يضمن ما تتلفه بالنهار دون الليل؛ فإن الأشياء تصان عن السنور ليلاً، ولايحتاط فيها نهاراً.

ووجهاً آخر: أنه يضمن ما تتلفه مطلقاً.

قال: وإن قعد في طريق ضيق، وعثر به إنسان؛ فماتا – وجب على كل واحد منهما دية الآخر، أي: وتحملها العاقلة.

أما العاثر؛ فلأنه قتل المصدوم بفعله منفرداً؛ فلهذا ضمن عاقلته ديته.

ص: 41

وأما المصدوم؛ فلأنه متعد بقعوده في ذلك الموضع، وقد حصل الهلاك به؛ فضمن؛ كما لو وضع حجراً فهلك به إنسان، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.

أما إذا كان الطريق واسعاً فعلى عاقلة العاثر دية المصدوم، وديته هدر.

وهكذا الحكم فيما لو كان القاعد واقفاً؛ فعثر به إنسان؛ فماتا.

وعلى الحالة الأولى حمل أكثر الأصحاب قول الشافعي في القديم: إن دية الجالس على عاقلة العاثر، ودية العاثر على عاقلة الجالس. وحملوا قوله في الجديد:"لو كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر؛ فماتا – فدم الصادم هدر، ودية المصدوم كلها على عاقلة الصادم" على الحالة الثانية، وهي سعة الطريق، ولم يجعلوا اختلاف قوله في الجديد والقديم اختلاف قولين.

وحكى القاضي أبو الطيب أن من الأصحاب من قال: [إن] المصدوم تكون كمال ديته على عاقلة العاثر، وأما دية العاثر؛ فهل تلزم عاقلة المصدوم؟ فيه قولان.

وهذا من القاضي يدل على جريان طريقة القولين في الواقف في الحالين، [وهو] ما صرح به البندنيجي، وكلام الماوردي مصرح بأنهما في الحالين خاصة.

وفرق على القديم بينه وبين الواقف: بأن القيام في الطرقات لا يستغني عنه، ولا يجد الناس بدًّا منه؛ بخلاف الجلوس؛ فإن مواضعه في غير المسالك المطروقة.

وحكى الفوراني والقاضي الحسين والمسعودي مع النص الذي ذكرناه عن الجديد في العاثر بالقائم – نصًّا آخر: أن العاثر بالقاعد، والنائم في الطريق؛ إذا مات تجب دية الصادم على عاقلة المصدوم، وتهدر دية المصدوم.

وأن منهم من جعل فيهما قولين نقلاً، وتخريجاً:

أحدهما: في الواقف النائم تهدر دية المصدوم، وتجب دية الصادم على عاقلتهما.

والثاني: تهدر دية الصادم منهما، وتجب دية المصدوم.

وأن منهم من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وهو الصحيح عند القاضي الحسين والبغوي، والفرق ما حكيناه عن الماوردي، وعلى ذلك جرى الإمام

ص: 42

في باب: وضع الحجر، وقال: النقل والتخريج عندي تكلف.

ومحل اختلاف الطريقتين؛ كما صرح به الرافعي؛ وكذا البندنيجي عند ضيق الطريق، أما عند اتساعه، فلا ضمان على عاقلة الواقف، والجالس جزماً.

وعند الاختصار يخرج مما ذكرناه في المسألة أوجه، أو أقوال:

أحدها: دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر، وسواء فيه القاعد والواقف، وهو الذي حكاه البندنيجي عن القديم.

والثاني: وجوب دية الواقف أو القاعد على عاقلة الماشي، دون العكس، وهو الذي أطلقه في الجديد كما حكاه البندنيجي، وبه أجاب المتولي، ورجحه أبو الحسين العبادي.

والثالث: وجوب دية الواقف على الماشي، دون العكس، ووجوب دية الماشي على عاقلة الجالس، دون العكس، وهو مأخوذ مما حكيناه عن [الماوردي.

والرابع: وجوب دية الماشي على عاقلة الواقف، أو الجالس، دون العكس، وهو] أضعفها.

وهذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل؛ فإن وجد كما إذا انحرف إلى الماشي لما قرب منه؛ فأصابه في انحرافه، وماتا – فهما كماشيين اصطدما، وسنذكره.

فرع: لو جلس في مسجد؛ فعثر به إنسان، وماتا – فعلى عاقلة الماشي دية الجالس، ولا ضمان للماشي، وكذلك لو نام فيه، وهو معتكف.

ولو جلس في المسجد؛ لأمر يُنزَّه عنه المسجد، أو استوطن المسجد، لا للقرية – فهو الجاني، لا الصادم؛ فإن مات به الصادم يجب الضمان على عاقلته؛ كذا حكاه في التهذيب عن الشيخ؛ يعني: القاضي الحسين.

قال: وإن اصطدما، [وماتا]، وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر، أي: وتتحمله عاقلته؛ لأن كل واحد منهما هلك بفعل نفسه وفعل صاحبه، بخلاف المسألة قبلها؛ فأهدر النصف، ووجب النصف؛ كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر؛ فمات من الجراحتين.

وأيضاً: فقد روي عن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: "إذا اصطدم الفارسان؛ فماتا- فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه"،

ص: 43

ولم يظهر له مخالف؛ فإن كان قد انتشر فهو إجماع، وإن لم ينتشر فهو حجة على الخصم – وهو أبو حنيفة، رحمه الله – لأنه يرى أن ذلك حجة كما هو رأي الشافعي في القديم.

ولا فرق في ذلك بين أن يكونا راكبين فرسين أو حمارين، أو أحدهما راكباً فرساً، والآخر راكباً حماراً، ولا بنيأن يكونا ماشيين، أو أحدهما راكباً وهو قصير، والآخر ماشياً وهو طويل، ولا بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلاً والآخر مدبراً، ولا بين أن يقعا على وجوبهما أو على قُفِيِّهما، أو يقع أحدهما على وجهه، والآخر على قفاه؛ لأن صدم كل منهما لصاحبه قد وجد.

وقال المزني: إذا كانا ماشيين، ووقع أحدهما على وجهه – كانت ديته هدراً؛ لأنه دافع، ودية الآخر على عاقلته؛ لأنه مدفوع؛ فشابه ما إذا وقع بحجر وضعه الآخر في الطريق.

قال البندنيجي وصاحب "العدة": فمن أصحابنا من جعل هذا قولاً آخر للشافعي، وجعل المسألة على قولين.

وحكى الشيخ أبو علي عن صاحب "التلخيص" أنه صار إلى ذلك، وطرده فيما إذا وقعا منكبين على وجوههما، وقال: إن ديتهما هدر، وإذا وقعا على ظهورهما وجب على عاقلة كل منهما كمال دية الآخر.

ثم قال الشيخ أبو علي: وقد وافقه بعض الأصحاب، ومعظمهم ذهبوا إلى تغليطه.

وقال الماوردي: إن ما صار إليه المزني فاسد؛ لأن الاستلقاء يحتمل أن يكون لتقدم الوقوع، والانكباب لتأخر الوقوع، ويحتمل أن يكون الاستلقاء [في الوقوع]؛ لشدة صدمته؛ كما يقع الحجر من الحائط لشدة رميه؛ فلم يسلم ما اعتل به.

وكذا لا فرق بين أن يكون الاصطدام صدر عن صد أو لا عن قصد.

نعم، إن كان عن قصد فالدية فيه دية شبه العمد؛ كما قاله الشيخ أبو حامد، وبه جزم البغوي، وصاحب "العدة"، وإلا فدية الخطأ.

وقال أبو إسحاق المروزي: إذا اصطدم الفارسان عن قصد فذلك عمد محض، ويجب نصف الدية مغلظاً حالاً في ماله، ولا يجب القود؛ لأن الروح

ص: 44

خرجت عن عمد مضمون وغير مضمون، وإنما يجب القود إذا خرجت الروح عن عمد محض مضمون.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا عند أصحابنا خطأ؛ لأنه خلاف ما نص عليه الشافعي؛ لأنه قد نص- يعني: في "الأم"، كما حكاه الرافعي- على أن الاصطدام إما خطأ أو شبه عمد، [ولم يذكر فيه العمد]؛ لأنه لو كان عمداً محضاً لوجب القصاص على أحد قوليه فبمن شارك عمداً محضاً غير مضمون، مثل: من شارك في قتل الرجل سَبُعاً أو حربيًّا، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ؛ فصحح الأول.

واقتصر الإمام والغزالي على إيراد ما ذكره أبو إسحاق من كون ذلك عمداً محضاً، ثم قال الإمام: والجواب في القصاص: التخريج على شريك النفس، وقد مضى التفصيل فيه، وحكى القاضي الحسين الخلاف كما حكاه العراقيون، لكن حكى أن أبا إسحاق قال: كان القياس أن يجب عليه القود، غير أنه فات المحل؛ فسقط القود، ووجبت الدية مغلظة في ماله.

قلت: ويظهر أثر ذلك فيما لو اصطدما، ومات أحدهما دون الآخر.

[قال القاضي الحسين والبغوي والماوردي والبندنيجي: ولو كان أحدهما مخطئاً، والآخر] قاصداً [للقتل] فلكل منهما حكمه على التفصيل السابق.

تنبيه: في قول الشيخ: "وجب على كل [واحد] منهما دية الآخر"، ما يفهمك أن المسألة مفروضة فيما إذا كانا حرين، أما لو كانا عبدين فإن كل واحد منهما تعلق برقبته نصف قيمة صاحبه، وقد تلفت؛ فسقط، وهذا بخلاف المسألة السابقة؛ فإن العاقلة هي المتحملة.

ولو كان أحدهما عبداً، والآخر حرًّا - فإنه يسقط نصف قيمة العبد بجناية نفسه، والنصف الآخر في ذمة الحر إن لم تتحمل العاقلة العبد، وفي ذمتها إن تحملته. وأما الحر فإنه يسقط نصف ديته بجنايته على نفسه، والنصف الآخر تعلق برقبة العبد، والرقبة قد تلفت ببدل وهو نصف القيمة؛ فإن كان نصف الدية مثل نصف القيمة، وقلنا بأن الواجب في ماله - فللسيد ولورثة الحر أن

ص: 45

يتقاصَّا، قاله في "التهذيب" و"الحاوي".

وقال القاضي أبو الطيب: [إنه] لا يقع التقاص إلا باختيارهما؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فإن نصف الدية من الإبل، ونصف القيمة من نقد البلد، والعبارتان متقاربتان، لكن الثانية أبين.

وهذا إذا كانت الإبل موجودة، أما لو كانت معدومة فالواجب من الدراهم والدنانير بدلاً عنها، إما مقدر أو غيره؛ فيظهر جريان أقوال التقاص كلها في هذه الحالة.

وإن كان نصف الدية [أكثر من نصف القيمة فالزيادة هدَر.

وإن نصف الدية] أقل فالفاضل من القيمة يرجع به السيد.

وإن قلنا: إن نصف القيمة على العاقلة، قال في "التهذيب": فإن كانوا هم الورثة تقاصوا أيضاً، وإلاّ فالسيد يستوفيه؛ كما قال القاضي أبو الطيب؛ ويُوفى منه حق الورثة إن أمكن؛ فإن بقى [منه] شيء فهو له، وإن بقي من الدية شيء فهو هدر.

وحكى الماوردي مع ذلك وجهاً آخر: أن السيد لا يستوفيها، بل ينتقل الحق إلى ورثة الحر من نصف القيمة بقدر نصف الدية.

فرع: إذا تجاذب اثنان حبلا؛ فانقطع، وماتا – يهدر من دية كل منهما نصفها، ويجب النصف على عاقلة الآخر إن كان الحبل ملكهما أو غصباه، فإن كان أحدهما مالكاً، والآخر غاصباً – فدم الغاصب مهدر، وعلى عاقلته نصف دية الآخر.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه قال في كرة أخرى – يعني: القفال، رحمهما الله -: يجب كمال ديته على عاقلة الظالم.

ولا فرق في الصورة الأولى بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين، أو أحدهما كذا والآخر هكذا.

وفي "الزوائد" للعمراني أن أبا عليِّ قال: وكذلك الإمام قال: قال أصحابنا: وعلى [قياس] قول صاحب "التلخيص" إن استلقيا على القفا كان هدراً، وإن سقطا على وجوههما فتجب دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه، وإن استلقى

ص: 46

أحدهما، وانكب الآخر – فدية المستلقي هدر، ودية من وقع على وجهه على عاقلة المستلقي.

ونص الشافعي – رضي الله عنه – والذي [دل] عليه [كلام] عامة الأصحاب: الأول.

وذكر الرافعي عن صاحب "التهذيب" في الأخيرة أنه قال: يجب على عاقلة المستلقي نصف دية المنكب مغلظة، ويجب على عاقلة المنكب نصف دية المستلقي مخففة. ثم قال: وهذا إن صح اقتضى أن يقال في صورة الاصطدام: إذا انكب أحدهما، واستلقى الآخر – يجب على عاقلة المستلقي نصف دية المنكب مخففة، وعلى عاقلة المنكب نصف دية المستلقي مغلظة.

[قلت]: وما قاله في "التهذيب" هو المذكور في "الإبانة".

ولو قطع قاطع هذا الحبل؛ فسقطا- ضمن عاقلته دية كل منهما.

ولو أرخى أحدهما الحبل؛ فمات الآخر – سقط من ديته نصفها، ووجب نصفها على عاقلة المرخي.

فرع: إذا طصدم رجلان بإناءين [فيهما طعام]؛ فانكسرا – ضمن كل منهما نصف قيمة إناء الآخر، وأما الطعامان: فإن تميزا أخذ كل منهما طعامه؛ وإن احتاج فصله إلى مؤنةٍ، كانت عليهما، وكذا إن نقصا بعد التمييز كان أرش النقص عليهما.

وإن اختلطا ولم يتميزا: فإن كان طعام أحدهما سويقاً، والآخر عسلاً – فيقوَّم كل [واحد] منهما على انفراده، ثم يقومان بعد الاختلاط: فإن لم يكن ثَمَّ نقصان صارا شريكين فيه بقدر القيمتين؛ فإذا كانت قيمة السويق عشرة، والعسل خمسة – كان صاحب السويق شريكاً بالثلثين، وصاحب العسل بالثلث؛ فإن باعاه اقتسما ثمنه، وإن أرادا قسمته بينهما جبراً لم يجز، وإن أرادا قسمته عن تراض ففي جوازه قولان، حكاهما الماوردي؛ بناء على أنها [- أي: القسمة – بيع أو إفراز؟

ص: 47

وإن نقصت القيمة باختلاطهما ضمن كل [واحد] منهما لصاحبه [نصف أرش] الناقص من طعامه، وتقاصّا، ثم كانا في الشركة كما سبق.

قال: [إن اصطدمت] امرأتان حاملان؛ فماتتا، ومات جنيناهما –وجب على كل واحدة منهما دية الأخرى، ونصف دية جنينها، ونصف دية جنين الأخرى، أي: وتحمل ذلك العاقلة؛ لأن الهلاك منسوب إلى فعلهما.

قال: وإن أركب صبيين – أي: مميزين – [دابتين][أي:] تصلحان لمثلهما أو لا تصلحان، اتفق جنسهما أو اختلف.

[قال]: من لا ولاية له عليهما؛ فاصطدما، وماتا – وجب على الذي أركبهما ضمان ما جناه كل [واحد] منهما على نفسه وعلى صاحبه، أي: وتحمل ذلك عاقلته؛ لأنه تعدى بإركابهما؛ فضمن جنيتهما؛ كما لو دفع لصبي سكيناً، فوقعت من يده، ثم وقع عليها؛ فإن الدافع يضمن، كذا قاله ابن الخل.

ولو تلفت الدابتان ضمن قيمتهما في ماله، وهكذا الحكم فيما لو [لم يصطدما]، لكن سقطا من على الدابتين، كما قاله القاضي أبو الطيب.

وخص المتولي ذلك بما إذا كان [الصبي لا يستمسك على الدابة، وقال فيما إذا كان] يستمسك: إن كان ينقله من موضع إلى موضع فلا ضمان؛ لأنه لا يخاف الهلاك منه غالباً.

ولو أتلفت الدابة شيئاً، والصبي راكبها بإركاب أجنبي – ضمنه المُرْكِب، وتتحمله عاقلته إن كان آدمياًّ، قاله القاضي الحسين، وكذلك البغوي فيما إذا غلبته الدابة وأتلفت، بخلاف ما لو غلبت المالك البالغ؛ حيث لا يضمن على قول؛ لأنه غير متعد، والمُرْكِب هنا متعد.

ولا يجب في مال الصبيين في مسألة الكتاب شيء، وكذا على عاقلتها.

ص: 48

ولو أركب كل واحد من الصبيين واحد، ضمن عاقلة كل مْكِب نصف دية كل من الصبيين.

وحكى الشيخ أبو حامد أن أبا القاسم الداركي وأبا الحسين بن المرزبان كانا يقولان: يجب على عاقلة كل واحد من المركبين دية من أركبه، وقال: إنه ليس بشيء.

فرع: إذا تعمد الصبيان الاصطدام في هذه الحالة، وهلكا- قال في "الوسيط": يحتمل أن يقال: الهلاك محال على الصبيين إذا جعلنا للصبي عمداً؛ لأن المباشرة أولى من السبب، لكن لما لم تكن مباشرته عدواناً لصباه، أمكن أن يجعل كالتردي مع الحفر.

وهذا منه إشارة إلى الوجه الذي حكيناه عن المتولي فيما إذا حفر إنسان بئراً في محل عدوان، ووضع حربي حجراً عليها؛ فعثر به إنسان، ووقع في البئر: أن الضمان على الحافر. قال الرافعي: والاحتمال حسن.

والحكم – إن قتل به – كالحكم فيما إذا ركبا بأنفسهمان ولو ركبا بأنفسهما كان حكمهما حكم البالغين.

أما إذا أركبهما من له عليهما ولاية، أو أجنبي بإذن من له عليهما ولاية – [دابة] يصلح مثلهما أن يركبها، الحكم كما إذا ركبا بأنفسهما؛ لأنه غير متعد؛ إذ له تاديبهما، ومن جملته الركوب لتعليم الفروسية، وهذا ما حكاه العراقيون.

وحكى القاضي الحسين مع ذلك وجهاً آخر عند اقتضاء المصلحة ذلك: أنه يجب على عاقلة الولي الدية لكل واحد منهما، وإنما أبيح له ذلك بشرط السلامة، وهو اختيار الشيخ، أعني القفال. وقال الإمام: إنه غير سديد.

قال: والوجهان – عندي – [فيما] إذا كان الإركاب لزينة، أو لحاجة غير مهمة، أما إذا مست حاجة أرهقت للنقل من مكان إلى مكان؛ فلا يتعلق به الضمان، ويكون بمثابة ما لو عالج الولي الصبي بالفصد عند [حاجته و] إشارة الأطباء بذلك.

ص: 49

أما إذا لم يكن في إركابهما مصلحة، كما لو كانا غير مميزين كابن سنة [أو سنتين]، وقد أركبهما الولي – وجب على عاقلته دية كل منهما.

قال: وإن اصطدم سفينتان؛ فهلكتا وما فيهما – أي: من الآدميين وغيرهم – فإن كان ذلك بتفريط من القيمين، أي: بأن قصَّرا في تكميل آلتهما، أو في ربطهما عند طرآن الربح، أو في إحرافهما عند إمكان ذلك، فلم يفعلاه، أو سيَّرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها.

[قال:] فهما –أي: في الضمان – كالرجلين إذا تصادما، أي: عن قصد، وكانا راكبين، وتلفا وتلف مركوبهما؛ فيجب على كل واحد منهما [في ماله] ضمان نصف سفينة صاحبه إن كانت السفينتان للقيمين، وضمان نصف كل من السفينتين إن كانا أجيرين فيهما أو مستأجرين أو مودعين.

وكذا الحكم فيما فيهما من المتاع لهما أو لغيرهما، كذا أطلقه الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وهو محمول على استقرار الضمان، وألا فلكل من صاحبي السفينتين مطالبة قائد سفينته بكل ضمانها، وكذلك لكل من له مال في [سفينة] مطالبة ملاحها، وقرار الضمان في النصف من ذلك على كل من الملاحين؛ كما صرح به الفوراني، وكذا الرافعي في السفن، ووجهه أن كلاً من القيمينِ قد قصر قبل الاصطدام؛ فدخلت السفينة وما فيها في ضمانه [بذلك]، لكنه شاركه في الإتلاف غيره؛ فاستقر الضمان عليهما نصفين.

وأما الآدميون، فقد قال القاضي أبو الطيب: يراجع أهل الخبرة؛ فإن قالوا: إن مثل هذا [يغرق –غالباً – فهما قاتلان عمداً؛ فيجب عليهما القصاص، وإن قالوا: إن مثل هذا] لا يغرق – غالباً – فيجب دية شبه العمد على عاقلتهما.

وقول الشيخ: "فهما كالرجلين إذا تصادما"، يقتضي جريان خلاف في وجوب القصاص؛ كما حكيناه في مسألة الاصطدام عن أبي إسحاق وغيره. وقد صرح بحكاية هذا هاهنا الشاشي في "حليته"؛ حيث قال: هل يصح في ذلك العمد المحض أم لا؟

فقال أبو إسحاق: يصح العمد؛ لوجوب القود.

ص: 50

وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح.

قلت: والوجه حمل ما قاله القاضي [أبو الطيب] على ما إذا قصدا الاصطدام؛ كما قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ والمصنف، وحمل ما اقتضاه كلام الشيخ وذكره الشاشي على ما إذا لم يقصدا، بل قصرا؛ كما قاله المذكورون. واقتصر في "المهذب" في هذه الحالة- وغيره على أن الواجب على كل منهما نصف ديات ركاب السفينتين.

قال: وإن كان بغير تفريط، أي: مثل: إن كانت عدتهما كاملة، وقد طرحاها، أو لم يطرحاها حتى هاج ريح عاصفة، ولم يمكنهما إمساك السفن –ففيه قولان:

أحدهما: أنهما كالرجلين- أي: الراكبين – إذا اصطدما؛ فيضمنان؛ لأنه لما كان اصطدام الفارسين موجباً للضمان وإن عجزا عن ضبط الفرسين – وجب أن يضمن القيمان وإن عجزا عن ضبط السفينتين، وهذا ما نص عليه في "الإملاء".

وعلى هذا يكون الحكم كما تقدم، إلا في إيجاب القصاص وكون الدية مغلظة.

والثاني: لا ضمان على واحد منهما؛ لأن ما خرج عن التعدي والتفريط في الأمانات لم يضمن بالحوادث الطارقة؛ كالوديعة، ولأن التلف لو كان بصاعقة لم يضمن؛ فكذلك بالريح العاصفة، وهذا ما نص عليه في الإجارات، وصححه الرافعي، واختاره في "المرشد"، ويخالف اصطداما لفارسين؛ لأن عنان الدابة بيد راكبها، يتصرف على اختياره؛ فإن قهرته فلتفريطه في آلة ضبطها، والريح العاصفة لا يقدر على دفعها، ولا يجد [سبيلاً إلى ضبطها

ص: 51

ودفعها]؛ فعلى هذا تكون النفوس الأموال هدراً، إلا إذا كان القيم مستأجراً على حملها إلى كذا؛ فيتخرج ضمانه لها على ضمان الأجير المشترك إذا لم يكن صاحبها معها، والسفن لا تضمن إلا أن تكون مستعارة؛ فيضمن كل من الملاحين قيمة السفينة التي استعارها.

قال: وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، أي: في الابتداء، بأن كانت السفينتان –كما قال القاضي أبو الطيب والمصنف- واقفتين على الساحل؛ فحملت الريح كل واحدة [على] الأخرى.

قال: فأما إذا سيَّرا السفن، ثم اصطدمت، أي: بسبب طرد الريح – وجب الضمان قولاً واحداً؛ لأن بداية السير وجدت منهما، وكل مبتد بشيء، اتصل بفعله ما اخرج الأمر عن يده – لزمه ضمانه؛ كما إذا رمى [سهماً إلى غابة؛ فاشتد الريح، فأوصله] إلى غابة أخرى؛ فأتلف شيئاً؛ فإنه يلزمه ضمانه؛ لاتصال الإتلاف بفعله. وادعى الإمام أن هذا إسراف.

وقد صور ابن يونس عدم الفعل بأن تكون السفينة من المراكب الكبار التي ينصب القَيِّمُ الشراع، ويمد الحبال، ويقيم المركب نحو الريح، حتى إذا هبت دفعت.

و [صوَّر] الفعل بأن تكون السفينة من المراكب الصغار التي تندفع بالمجاديف؛ فدفعها في ابتداء السفر.

قال: وقيل: القولان في الجميع؛ لأن القيِّمَيْنِ وإن كانا قد وجد منهما بداية السير، إلا أن التلف لم يحصل بذلك، وإنما حصل بإلقاء الريح لإحداهما على الأخرى، وهذا قول أبي إسحاق والإصطخري، ولم يحك الماوردي سوى هذه الطريقة، وهي التي رجحها الرافعي.

وقد أجرى الخراسانيون القولين في الفارسين إذا غلبتهما الدابتان؛ فاصطدما، وماتا، وفي الواحد إذا غلبته الدابة، وأتلف شيئاً.

وعزاه في "الزوائد" إلى صاحب "التلخيص".

ص: 52

ولو كان التفريط من أحد القَيِّمينِ دون الآخر، فحكم كل منهما عند الانفراد كحكمه عند اجتماعهما على صفة الفعل، فلو اختلفا في التفريط، وجعلنا لعدمه أثراً في نفي الضمان - فالقول قول النافي له.

ولو صدمت السفينة المربوطة على الشط سفينة مجراة؛ فكسرتها - فالضمان على مجرى السفينة الصادمة، نص عليه في "المختصر"، كما صوره بعضهم.

واعلم أن النواوي رحمه الله قال: الصواب في قول الشيخ: "وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل" حذف الواو، وجعلها فاءً؛ لئلَاّ يبقى قوله:"وقيل: القولان في الجميع" تكراراً بلا فائدة، وقد سبق مثل هذا في الوقف، ونبهت عليه.

قال: وإن رمى عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق، فرجع [الحجر] عليهم؛ فقتل أحدهم - سقط من ديته العشر، ووجب تسعة أعشارها على الباقين، أي: وتتحمل ذلك العاقلة؛ لأن الهلاك حصل بفعله وفعلهم؛ فهدر بفعله العشر، ووجب تسعة أعشارها على عواقل الباقين.

وهكذا الحكم لو قتل جميعهم.

ولو قتل اثنين منهم سقط من دية كل منهما عشرها، ووجب تسعة أعشارها على عواقل الباقين والقتيل الآخر؛ وهكذا لو قتل ثلاثة أو أربعة أو غير ذلك.

ولو وقع الحجر على غيرهم؛ فقتل واحداً مثلاً - نظر: فإن قصدوا بالرمي هدم حائط، فاتق وقوعه عليه، وجب على عاقلة كل منهم عشر ديته مخففة. وكذا لو قصدوا قتل غيره، فوقع عليه. وإن قصدوا قتله، واتفقوا على اعتماده - فالعراقيون قالوا: لا قود على واحد منهم؛ إذ لا يتصور في الرمي بحجر المنجنيق قتل العمد؛ لأنه يرمي تحيقاً؛ يقع على من لم يقصد قتلهن ووزان ذلك: أن يرمي بالسهم إلى العلو، فيسقط؛ فيقتل إنساناً؛ فإنه لا قصاص فيه.

وجزم الماوردي بوجوب القصاص على جميعهم، وقال: إن بعضهم لو قال: تعمدت، وقال بعضهم: لم أتعمد - اقتص من العامد، ولزم من أنكر العمدية

ص: 53

دية الخطأ في ماله، بعد إحلافه، ولا تتحملها العاقلة عنه؛ لأنه اعتراف، إلا أن يصدقوه؛ فيتحملوا عنه.

وتوسط المتولي، والغزالي وإمامه، والصيدلاني، فقالوا: إن كان الغالب أنه يصيب من قصدوه فهو عمد [يتعلق به القصاص والدية المغلظة في أموالهم، وإلا فهو عمد] خطأ، وهذا ما صدر به القاضي الحسين كلامه فيما إذا كانوا قلَّما يخطئون في القتل بذلك، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: لا يجب القصاص؛ لأن الإصابة منهم نادر؛ بخلاف الرمي.

ولو قصد بالرمي قتل واحد من عشرة لا بعينه، قال الماوردي: فلا قود، ويجب [فيه] عمد الخطأ؛ لأنهم عمدوا الفعل، وأخطئوا في تعيين النفس.

وقد روى الدارقطني في "سننه"، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس – رضي الله عنهم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قُتَلَ فِي عِمِّيَّا رِميا بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرْباً بِعَصاً فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَأِ، وَمَنْ قُتَلَ اعْتِبَاطاً فَهُوَ قَوَدٌ، لا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ؛ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً" قال الماوردي: والعِمِّيَّا: ان يرمي [إلى] جماعة؛ فيصيب أحدهم لا بعينه. والاعتباط: أن يرمي أحدهم بعينه.

ولأن قصد عين الشخص معتبر في العمدية؛ ألا تراه لو قال: اقتل أحد هؤلاء، وألا قتلتك؛ فقتل أحدهم –لايجب القصاص على المكره؛ لأنه لم يقصد عين أحدهم؟!

وقد وافق على انتفاء القصاص القاضي الحين، مع تيقن مصير بعضهم مقتولاً؛ بأن كانوا في حصن أو نحوه، وقاسه على ما لو رمى سهماً إلى جماعة، ولم يقصد واحداً منهم بعينه؛ فأصاب واحداً. ثم قال: ويحتمل وجهاً آخر: أنه يجب؛ كما لو رمى إلى جماعة من الظباء سهماً؛ فأصاب واحداً – يحل؛ كذا هذا مثله.

وهذا الاحتمال قد حكينا مثله وجهاً في مسألة الرمي عن رواية المتولي وغيره

ص: 54

من قبل، وأجراه المتولي فيما إذا قال: اقتل أحد هذين الرجلين، وإلا قتلتنك – أنه يكون مكرهاً، حتى لا يجب القصاص على القاتل على أحد القولين.

وفرق صاحب "التهذيب" بين الرمي إلى الصيد وما نحن فيه: بأن حقيقة القصد إلى الشخص شرط في القصاص؛ بدليل ما لو رمى إلى شخص؛ فنفذ منه إلى آخر- لا يجب [القصاص بسبب الثاني، وليس ذلك شرطاً في حل الصيد؛ ألا ترى أنه لو رمى صيداً؛ فنفذ منه إلى آخر] حل الثاني على الأصح؟!

وادعى الإمام أن محل إطلاق الأصحاب القول بانتفاء القصاص إذا لم تتحقق إصابة الحجر للجميع، وعليه يدل كلام القاضي؛ حيث شبه ذلك برمي السهم، وقال فيما إذا كان القوم محصورين في موضع، وكان الحاذف على علم بأنه إذا سدد الحجر عليهم أتى على جميعهم، وحقق قصده؛ وأتى عليهم -: فالذي أراه وجوب القصاص، وهذا كما لو قال المكُرِه: اقتل هؤلاء؛ فقتلهم –يجب القصاص على المكره، ولا أثر للاختيار في التقديم والتأخير.

وقد أطلق في "الوسيط"أنا إذا لم نوجب القصاص في هذه الصورة [المذكورة]، يكون ما جرى طأ، ومقتضاه وجوب دية الخطأ، وهو ما دل عليه ظاهر الخبر، ويعضده ما سنذكره عن الإمام في أول كتاب الديات: أن من لا يتصور منه العمد المحض لا يتصور منه عمد الخطأ، لكن المنقول في "التهذيب" وغيره ما ذكرناه عن "الحاوي".

تنبيه: [المنجنيق] هي مؤنثة، فارسية معرَّبة، والميم مفتوحة عند الأكثرين.

قال الجواليقي: مفتوحة ومكسورة.

قال الجوهري: وأصلها [بالفارسية "من جي نيك"، أي: ما أجودني]!

وقال الفراء: تقديرها: منفعيل؛ لقولهم: [كنا نجنق مرة، ونرشق أخرى،]

والجمع: منجنيقات. قال: وقال سيبويه: هي ["فنعليل"]؛ فالميم أصلية؛ لقولهم في الجمع: مجانيقن وفي التصغير: مُجَيْنيق]. هذا كلام الجوهري.

وقال الجواليقي: قيل: الميم زائدة، وقيل: أصلية، وقيل: الميم والنون في أوله

ص: 55

زائدتان، وقيل: أصليتان، وقيل: الميم اصل والنون زائدة.

قال: وحكى الفراء: "منجنوق" بالواو، وحكى غيره:"منجليق" باللام.

قال: وإن وقع رجل في بئر، أي: لا يهلك مثلها؛ فجذب ثانياً، والثاني ثالثاً، والثالث رابعاً، وماتوا، أي: بوقوع بعضهم فوق بعض – وجب للأول ثلث الدية على الثاني، والثلث على الثالث، ويهدر الثلث؛ لأنه هلك بثلاثة أسباب: بفعله وهو جذب الثاني، وبفعل الثاني: وهو جذب الثالث، وبفعل الثالث: وهو جذب الرابع؛ فقسطت الدية على الأسباب الثلاثة، وسقط ما يخص فعله فكان الأمر كما ذكره الشيخ.

وقيل: لا شيء له؛ لأنه باشر قتل [نفسه] بجذبه الثاني وما تولد من جذبه.

قال: ويجب للثاني ثلث الدية على الأول، والثلث على الثالث، ويهدر الثلث؛ لأنه هلك بثلاثة أسباب: لجذب الأول له، وبجذبه هو للثالث، وبجذب الثالث للرابع؛ فقسطت الدية على الأسباب الثلاثة، وسقط ما يخص فعله.

وقيل: تهدر نصف ديته؛ بجذبه الثالث وما حدث من جذبه، ويجب نصفها على الأول بجذبه.

وقيل: يجب له الثلث؛ لأنه مات بجذب الأول، ووقوع الثالث والرابع عليه، ووقوعهما عليه من نتيجة فعله؛ فلم يتعلق بهما ضمان؛ فوجب الثلث على الأول، وقد استدل له بما سنذكره عن عليِّ، كرم الله وجهه.

قال: ويجب للثالث نصف الدية على الثاني، ويهدر النصف؛ لأنه هلك بسببين: جذب الثاني له، وبجذبه الرابع؛ فقسطت الدية عليهما، وسقط ما يخص فعله، وهذا هو الأصح في "الرافعي".

قال: وقيل: يسقط ثلث الدية، ويجب الثلثان، أي: على الأول والثاني؛ لأنه مات بثلاثة أسباب: جذب الأول للثاني، وجذب الثاني له، وجذبه الرابع؛ فقسطت الدية عليها، وسقط [ما يخص فعله].

قلت: ولو قيل: يجب على الأول والثاني نصف الدية، لم يبعد؛ لأنه

ص: 56

صار مجذوباً بالقوتين جميعاً.

قال: ويجب للرابع الدية على الثالث؛ لأنه هلك بجذبه له، وهذا هو الأصح.

قال: وقيل: يجب على الثلاثة- أي الأوَل – أثلاثاً؛ لأن وقوعه مضاف إلى الجذبات الثلاث.

والدية في هذه الأحوال تجب على العاقلة؛ كما ذكرناه.

أما إذا كان البئر مهلكاً؛ فالأول هلك بصدمته، وبالوقوع عليه، فإن كان في محل عدوان فهل يكون سبباً في الضمان، أم لا؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: لا، وهو ما يحكي عن الخضري؛ لأن الحفر سبب، والذي وجد وهو الجذب مباشرة؛ فقدمت على السبب – فالحكم فيه كما تقدم؛ فيكون – على الصحيح – يجب له ثلثا الدية.

وعلى وجه: لا يجب له شيء؛ لأنه باشر قتل [نفسه] بجذب الثاني وما تولد منه.

وإن قلنا: نعم – وهو [الصحيح] – فالهلاك حصل بأربعة أسباب: صدمة البئر، وفعل الثلاثة؛ فيسقط ربع الدية، ويجب ربعها على حافر البئر، أو يسقط أيضاً إن كان الحفر غير عدوان، أو حافره حربيًّا، ويجب ربع على الثاني، وربع على الثالث.

وحكى المتولي أنه يجب له ربع الدية على حافر البئر إن كان عدواناً لا غير، وإن لم يكن عدواناً، فلا شيء له؛ لأن الأول مات بالوقوع في البئر، وبوقوع الثلاثة فوقه ووقوعهم نتيجة فعله؛ فلم يتعلق به ضمان، وقد استدل له بما روي: أن ناساً باليمن حفروا زُبية للأسد؛ فوقع الأسد فيها؛ فازدحم الناس عليها؛ فتردى فيها واحد؛ فتعلق بواحد؛ فجذبه؛ وجذب الثاني ثالثاً، والثالث رابعاً؛ فقتلهم الأسد؛ فرفع ذلك إلى عليّ – كرم الله وجهه – فقال:"للأول ربع [الدية، وللثاني] الثلث، وللثالث النصف، وللرابع الجميع؛ فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هو كما قال".

ص: 57

وحكى الإمام والقاضي الحسين وجهاً: أن الواجب على حافر البئر نصف الدية، ويهدر النصف؛ لأن هلاكه حصل بصدمة البئر، وبثقل الثاني [والثالث] والرابع، وثِقَلُهم حصل بجذبه؛ فأحيل الهلاك عليه وعلى حافر البئر، فعلى هذا: لو كان الحفر غير عدوان، لمي جب شيء، وبهذا يحصل في المسألة خمسة أوجه.

[قلت:] ويمكن أن يقال بوجه سادس، مركب من أصلين:

أحدهما: إلغاء صدمة البئر، أو تفرض [المسألة فيما إذا لم يكن البئر مهلكاً]؟

والثاني: إيجاب دية الرابع على الأول والثاني والثالث أثلاثاً، ودية الثالث: على الأول ثلثها، وعلى الثاني ثلثها، ويهدر الثلث؛ فيقال: يجب له على الثاني سدس الدية وتسعها، وعلى الثالث تسع الدية، ويهدر الباقي؛ لأن إهلاكه حصل بوقوع الثاني والثالث والرابع عليه؛ فتسقط ديته على جذب الثلاثة؛ فينوب كل واحد ثلثها. ووقوع الثاني حصل من فعله؛ [فسقط]، ووقوع الثالث حصل من جذبه وجذب الثاني؛ فيسقط ما يخصه عليهما؛ فيسقط نصفه وهو السدس، ويجب السدس. ووقوع الرابع [حصل] من جذبه وجذب الثاني [وجذب الثالث] فيُقسَّط ما يخصه عليهم؛ فيسقط ثلثه وهو التسع، ويجب على كل [واحد] من الثاني والثالث [تسع، ولم أرَ ذلك، والله أعلم.

وأما الحكم في الثاني والثالث] والرابع فيما إذا كان البئر مهلكاً في محل عدوان، فكما لو لم يكن ذلك؛ لأنه لا أثر للحفر في حقهم.

ولو وقعوا متفرقين؛ لسعة البئر، فدية كل مجذوب على جاذبه؛ لأن جذبه عمد.

قال الإمام: ولو كان الجاذب حيًّا لتكلمنا في القصاص عليه.

ص: 58

ودية الأول على عاقلة حافر البئر إن كان متعدياً بحفره، وإلا فلا.

ولو وقع الثاني على الأول، والثالث على الثاني، والرابع على الثالث من غير جذب – فالكلام في ذلك يحتاج إلى تقيم أصل، وهو ما إذا وقع واد، ثم آخر عليه؛ فإن مات الأول فالثاني ضامن له؛ كما لو تعثر بحجر، وما الذي يلزمه؟ ينظر:

إن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يقتل غالباً لضخامته، وعمق البئر – فالقود. وإن لم يقتل غالباً فدية عمد الخطأ.

وإن لم يتعمد فدية الخطأ.

وقد أطلق بعضهم وجوبها كاملة على الثاني.

وبعضهم قال في هذه الصورة: يجب على الثاني نصف الدية؛ لأن الهلاك حصل به وبصدمة البئر.

ثم إن كان الحفر عدواناً وجب النصف الآخر على الحافر، وإلا فهو هدر، وهذا أصح عند المتولي وغيره. نعم، لو نزل الأول البئر من غير أن يصدمه، ثم وقع عليه الثاني – تعلق به كل الدية.

قلت: وساق ما قاله هذا القائل: ألا يجب القصاص في الصورة السابقة، كما لا تجب كل الدية؛ لأن البئر لا يوجب إلا المال؛ فيكون كعمد الخطأ أو الخطأ، وقد حصل الهلاك به، وبالعمد، ويتعين محل وجوب القصاص في الصورة الثاني، وبها صوَّر ابن الصباغ.

وأمَّا دية الثاني فهدر إن تعمد إلقاء نفسه، أو لم يكن الحفر عدواناً، وإلا تعلق الضمان بحافر البئر.

وقد أبدى الإمام تردداً فيما إذا كان البئر في محل عدوان، وسقط الأول ثم الثاني عليه – في أن الثاني هل يطالب بشيء، ثم يرجع به على حافر البئر؛ لأنه السبب، أم لا يطالب؟

وقربه بعضهم من المكره على إتلاف المال هل يكون طريقاً للضمان، مع أن القرار على المكره؟ وفيه وجهان.

ص: 59

ولو تردى في البئر ثلاثة، واحد بعد واحد؛ فمن قال في الصورتين السابقتين: إن دية الأول على الثاني، قال هاهنا: تكون على الثاني والثالث. ومن قال في الصورة الأولى: يكون على الثاني النصف، قال هنا:[يكون] على الثاني والثالث الثلثان والثلث الآخر على الحافر إن كان الحفر عدواناً، وإلا سقط.

وأما الثاني، فقد ذكر الشيخ أبو حامد أن ديته على الثالث؛ لأنه تلف بوقوعه عليه.

وذكر القاضي أبو الطيب [أن] الواجب عليه النصف، والنصف هدر؛ لأنه تلف بوقوعه على الأول، وبوقوع الثالث عليه.

قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوعه على غيره سبب في تلفه كوقوع غيره عليه.

قال: وإن تجارح رجلان –أي: خطأ، [أو عمد خطأ] وماتا – أي: بالسراية –وجب على كل واحد منهما دية الآخر، أي: وتتحملها عاقلته؛ لأنه قاتله.

أما إذا كانت عمداً فدم كل واحد منهما هدر، قاله القاضي الحسين، واستدل له بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا تَقَاتَل الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقُتُولُ فِي النَّارِ"، وهذا ظاهر إذا لم يكن الجرح مما يجري فيه القصاص، وكذا إن كان ما يجري فيه، [لكن جُرح الثاني لم يكن في موضع جرح الأول، فإن كان فيه] فيظهر أن يقال: إنا ننظر إلى انه هل كان قتل الجارح أولاً، أو بعده، ويتخرج على الخلاف السابق في موضعه.

قال: فإن ادعى كل واحد منهما أنه جرح للدفع، لم يقبل؛ لأن الأصل عدم التعدي من الآخر، وصيانة دمه؛ فإذا حلفا، قال الماوردي: وجب على كل [واحد] منهما القود: أي: إن كان الجرح يوجبه، ثم إن سرى الجرح إلى النفس، قال في "ابن يونس": وجب على كل واحد دية الآخر.

ولو أقام أحدهما بينة بأن الآخر دخل عليه بسيف مسلول أو قوس موتور، قال

ص: 60

الماوردي في باب صول الفحل: نظر في البينة: فإن أكملت الشهادة بأن قالت: أراده بذلك، سقط عنه القود [، وإن لم تقل ذلك فقد ذكر الشيخ أبو حامد أنه يقبل منه هذه الدعوى، ويسقط عنه القود] والدية؛ لأن ظاهر الحال يشهد بصدقه.

وعندي: أن هذه الشهادة توجب سقوط القود؛ لأنها شبهة فيه، ولا توجب سقوط الدية؛ لأنها شبهة فيه، ولا توجب سقوط الدية؛ لاحتمال دخوله على هذه الحالة هارباً من طالب. والذي قاله الجمهور قول الشيخ أبي حامد.

ولو شهدت البينة أنه دخل عيه بسيف غير مشهور، لم يسقط بها قود ولا دية. ولو وقع الاختلاف بين الوليين بعد موتهما.

قال القاضي الحسين: تحالف الوليان، وعلى كل واحد منهما إذا حلف الدية، ويتقاصان، ولا يفيد اليمين سوى أنه ربما ينكل أحدهما؛ فيستحق الثاني دعواه إن حلف عليها.

وهذا ما حكاه الإمام عن الأصحاب، لكن أسقط من اللفظ وجوب الدية والتقاص، قال: وقد يظهر أثر ذلك فيما لو اختلفت ديتهما، أو كان أحدهما حرًّا، والآخر عبداً؛ فإن التقاص – كما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب فيما تقدم – لا يجري في مثل هذا إلا بالتراضي.

ثم قال الإمام: لو التقى رجلان بسيفين، وكل واحد منهما قاصد للآخر، وغلب على ظن كل منهما أنه لا يندفع عنه إلا بوضع السيف فيه – فيجوز وضعه، ثم يخرج من ذلك: أنه لا ضمان أصلاً، ويصير كل واحد منهما وقد التبس الأمر عليه في حق صاحبه؛ كبهيمة صائلة.

ثم إذا قلنا بذلك فيتجه أن يكون دم [كل واحد منهما هدراً].

ثم قال: هذا ما أراهن وغالب ظني أني وجدت لبعض الأصحاب نصًّا في هذه المسألة، وسأحرص على طلبه وإلحاقه، على أن الكلام عندي في هذا على وجه لا يجوز تقدير الخلاف فيه، ولو فرض خلاف ذلك فهو هفوة من قائله، والله أعلم.

ص: 61