المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب قسم الفيء والغنيمة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب قسم الفيء والغنيمة

‌باب قسم الفيء والغنيمة

"الغنيمة" و"المغنم": بمعنىً، وهو في اللغة مشتقة من "الغُنم"، وهو الفائدة الحاصلة بغير بدل.

و"الفيء" مأخوذ من قولهم: فاء الفيء، إذا رجع، والمراد بالرجوع - هاهنا-: المصير، أي: صار للمسلمين.

قال الإمام: واسم الفيء يطلق - في اللغة ووضع اللسان - على الغنيمة، انطلاقه على ما يظفر به من أموال الكفار من غير قتال، وهو منطبق على قول المسعودي وطائفة: إن كل اسم من المالين يقع على الآخر، إذا أفردا بالذكر، فإن جمع بينهما، افترقا كـ[اسمي "الفقير"] و"المسكين".

وعن الشيخ أبي حامد القزويني وغيره: أن اسم "الفيء" يشمل المالين، واسم "الغنيمة" لا يتناول الفيء. وفي لفظ الشافعي رضي الله عنه ما يشعر به، وضابطهما في عرف الشرع مذكور في الكتاب، ويقال: غنم يغنم غنما، [بضم الغين].

قال- رحمه الله: الغنيمة: ما أخذ من الكفار بالقتال، وإيجاف الخيل والركاب.

الإيجاف: الإعمال، وقيل: الإسراع، والوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل، يقال: وجف يجف - بكسر الجيم - وجفا: بإسكانها ووجيفا، وأوجفته أنا.

والركاب: الإبل خاصة، قال الأزهري وغيره: هي الرواحل المعدة للركوب، ولا واحد لها من لفظها، بل واحدها: راحلة، وجمعها: ركب، ككتاب وكتب.

فإن قيل: إيجاف الخيل والركاب ليس شرطاً في اسم الغنيمة؛ لأن ما حصل

ص: 473

من المال بقتال الرجالة وأصحاب السفن في البحر غنيمة، وليس فيه إيجاف خيل وركاب، وكذا القتال ليس شرطاً في اسم الغنيمة؛ فإن الصفين إذا التقيا وولانا الكفار ظهورهم، ومنحونا أكتافهم من غير [شهر] سلاح، فما تركوه- إذ ولوا منهزمين –مال مغنوم؛ كما صرح به الإمام في أثناء كلامه؛ فالحد الصحيح ما أورده الغزالي أن الغنيمة: كل مال أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة [على الكفار]، دون ما يختلس ويسرق؛ فإنه خاص بذلك المختلس.

قيل في الجواب عنه: إن كلام الشيخ محمول على الغالب، أو كما قال ابن عطية: إن المأخوذ بالسعي وإيجاف [الخيل] والركاب غنيمة، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً له.

وقد يقال: إن هذا السؤال إنما جاء من جعل "الواو" في قول الشيخ: "وإيجاف الخيل" للتشريك، والظاهر أن الشيخ لم يرده، وإنما أراد جعلها بمعنى:"أو"؛ لأن للواء اثني عشر موضعاً أو أحد عشر موضعاً، تستعمل فيه كما قاله أبو الحسن على ابن محمد الهروي النحوي في كتاب "الأزهية"، منها: أنها تستعمل بمعنى "أو"؛ كما في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وإن كان الزمخشري منع من استعمالها بمعنى "أو" في الآية المذكورة، ويدل عليه قوله: والركاب؛ فإنه لا يتبادر إلى الفهم اشتراط مجموع إيجاف الخيل والركاب في اسم الغنيمة، وإذا كان كذلك؛ فكأنه قال: الغنيمة: ما أخذ من الكفار بالقتال، أو بإيجاف الخيل، أو الركاب. وحينئذ يندفع السؤال، ولاندفاعه طريق آخر سأذكره في الباب الذي يليه، إن شاء الله تعالى.

[فإن] قلت: يلزم من هذا أن يكون ما أخذ من الكفار عند انجلائهم بسبب حصول خيل المسلمين أو ركابهم في دار الحرب، وضرب معسكرهم، والبروز في مقاتلتهم –غنيمة، لأنه حصل بإيجاف خيل أو ركاب، وليس كذلك.

قلت: قد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي وصاحب "التقريب" في ذلك

ص: 474

وجهين، فلعل الشيخ اختار جعله غنيمة، [وعلى مقابله – وهو الصحيح عند الإمام – وهو الصحيح عند الإمام – أنه لا يكون غنيمة]، بل فيئاً.

ففي قوله: ما أخذ من الكفار، ما ينافي ذلك؛ فإنه ليس مأخوذاً منهم. نعم، لفظة "ما أخذ"، في قول الشيخ تدخل الكلب المنتفع به في الغنيمة، وليس بغنيمة عند العراقيين، فيقسم كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ، [بل] قالوا: إن كان في الغانمين من يحل له اقتناؤه للزرع أو الماشية أو الصيد، دفع إليه، قال ابن الصباغ: ولا يحسب عليه، وإن لم يكن فيهم من يحل له اقتناؤه – لفقد ذلك يهم – دفعه إلى من هو محتاج إليه من أهل الخمس، [وهذا] قد حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي، رضي الله عنه.

قال البندنيجي: وإن لم يكن في أهل الخمس من يل له اقتناؤه ترك. وهو كذلك في "الحاوي" وقال: إنه إذا دفعه إلى شخص لا يعوض الغانمين عنه؛ لأنه

ص: 475

ليس بمال. وقد حكاه الإمام عن العراقيين- أيضاً – حيث قال: إنهم قالوا: نسلمه إلى واحد من الغانمين لعلمنا باحتياجه إليه، ولا يكون محسوباً عليه. واعترض عليه بأن الكلب منتفع به؛ فليكن حق اليد فيه لجميعهم؛ كما أن [من] مات وله كلبن لا يستبد به بعض الورثة.

قال الرافعي: والذي نجده في كتب العراقيين: أنه إن أراده بعض الغانمين، أو بعض أهل الخمس، ولم ينازع فيه –سلم إليه، وإن تنازعوا: فإن وجدنا كلاباً وأمكنت القسمة عدداً، قسمت، وإلا أفرع.

وما قاله الرافعي لم أقف عليه فيما وقفت عليه منها، بل قال في "الشامل" بعد حكاية ما ذكرته عنه: ولم يذكر أصحابنا إذا تنازع فيها الغانمون، وأبدى ما ذكره ["الرافعي"] احتمالاً لنفسه فقال: ينبغي أن يكون الحكم في ذلك: أنه متى أمكن قسمتها بينهم عدداً من غير تقويم فعل، وإن لم يمكن ذلك، أقرع بينهم فيها. وليس ما أبداه الإمام من الإلحاق بالميراث، بالقوي؛ لأن الوراثة سبب قوي يحصل الملك مع عدم الرضا به، فجاز أن تنقل الاختصاصات، وسبب ملك الغانمين ضعيف؛ لأنه لا يحصل الملك أو لا يلزمه إلا بالرضا؛ فلا يلحق بالقوي.

[وكذلك أعرض] الغزالي عن إبداء احتمال الإمام، وأورد ما ذكره العراقيون، واحترز عن إدخال الكلاب في الغنيمة بقوله: الغنيمة كل مال. ومن هذا الوجه كان ما ذكره الغزالي من الحد أولى، على أن لك أن تقول: في كلام الشيخ ما يخرجها أيضاً، وهو قوله:"ومتى تملك ذلك"، فنبه به على أن مراده بالأول: ما يقبل الملك، والكلاب لا تقبله، والله أعلم.

وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً في المال المسروق: أنه يكون غنيمة، عند الكلام في غزو طائفة بغير إذن الإمام، وضعفه بعد أن حكى – عند الكلام في التبسط في طعام أهل الحرب – إجماع الصحاب على مقابله، وهو

ص: 476

الذي أورده الفوراني قبيل كتاب قسم الصدقات، وصور الإمام محله بما إذا أمكن الوصول إلى مكان المال منه غير عدة ونصرة، بأن السارق يقصد تملك المال بإثبات اليد عليه، ومال الحربي غير معصوم؛ فصار سبيله سبيل الاستيلاء على المباحات، تملك بوضع اليد، وقد وجد، بخلاف مال الغنيمة؛ فإنه وإن حصل في يد الغانمين فليس مقصودهم الملك؛ إذ لا يجوز التغرير بالمهج لاكتساب الأموال، والغرض الأعظم إعلاء كلمة الله – تعالى- وقمع اعداء الدين، وللمقصد أثر ظاهر فيما يملك بالاستيلاء، وعلى ذلك ينطبق إيراد الشيخ، وما حكاه البغوي والفوراني من أن الرجل إذا دخل دار الحرب، وأخذ من حربي مالا بالقتال، يؤخذ منه الخمس والباقي له، وإن أخذه على جهة السوم، ثم جحد أو هرب، فهو له خاصة- فالمراد: ما إذا لم يكن قد صدر من أهل الحرب للمسلم أمان، أما إذا كان له منهم أمان، فلا يملكه، بل يجب عليه رده على من أخذه منه، فإن لم يفعل اجبر عليه إذا طلبه صاحبه، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، والوجه المنقول عن رواية الشيخ أبي محمد، قال الرافعي: إنه الموافق لما أورده أكثرهم، وكأنهم جعلوا دخوله دار الحرب وتغريره بنفسه قائماً مقام القتال.

قلت: وقد نأخذ ذلك من كلام القاضي الحسين، حيث جزم بأن الأسير في أيدي الكفار إذا أطلقوه، فاستولى على شيء من أموالهم – أنا حيث نجوز له اغتيالهم، فما يأخذه من المال ويخرجه من دار الحرب يكون غنيمة تخمس. ومن كلام الماوردي حيث جزم بأن المأخوذ خلسة وتلصصاً يخمس، لكنه قال في موضع آخر: إن أبا إسحاق المروزي قال في المختلس: إنه فيء؛ لأنه حصل بغير إيجاف خيل و [لا] ركاب. وهو الذي أورده في كتاب السرقة، وأبدى احتمالاً لنفسه: أنه يخمس، وقد أجاب القاضي أبو الطيب بمثله في التلصص حيث قال: إن ما أتوا به على وجه التلصص بخمس. وقال في موضع

ص: 477

آخر قبله في السلب: إنه مال خاطر بنفسه عليه؛ فلم يجز تخميسه؛ كما لو تلصص على الكفار في دار الحرب.

فرع: إذا أهدى الكفار للمسلمين شيئاً، فهل يكون غنيمة أم لا؟

قال القاضي أبو الطيب: ينظر: فإن كان ذلك والحرب قائمة، فإنه يكون غنيمة لجماعة المسلمين، وإن كان بعد انقضاء الحرب، فهو لمن خص به دون غيره. وعلى [ذلك] جرى الماوردي وابن الصباغ في الرجل الواحد إذا أهدي إليه أميراً كان أو غيره.

وجعل ابن الصباغ حكم الهدية قبل الخروج من دار الإسلام بمنزلة الهدية بعد انقضاء الحرب، ونسب ذلك إلى نصه في "حرملة"؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: الوجه أن يجعل محل القول بأن المختلس والسارق يختص بما أخذه، إذا دخل الواحد أو النفر اليسير دار الحرب وأخذوا، فأما إذا أخذه بعض الجند الداخلين بسرقة أو اختلاس، فيشبه أن يكون غُلولاً.

قال: ومتى يملك ذلك؟ فيه قولان:

أحدهما: بانقضاء الحرب؛ لأنه في أيدي الكفار قبل انقضائه، ولم يحصل في قهر المسلمين، وبعد انقضائه زالت أيديهم وقهروا، فحصل في ملك المسلمين؛ لوجود سببه وهو القهر.

والثاني: بانقضاء الحرب وحيازة المال؛ لأن المال قبل حيازته معرض للاسترداد؛ فلا يكمل الاستيلاء عليه إلا بحيازته، قال القاضي الحسين: وحيازته الاستيلاء على أموالهم من غير منازعتهم.

وقال النواوي: الحيازة والحوز: الجمع والضم، ويقال: حازه يحوزه واحتازه.

وقد حكى القولين في الملك هكذا: الماوردي عند الكلام فيما إذا لحقهم مدد أو أسير، وكذلك ابن الصباغ حكى ذلك في موضعين، وقضية ذلك: أن المال متى حيز بعد انقضاء الحرب فقد ملكوا وجهاً واحداً.

وعن المحاملي حكاية القولين فيما يثبت به الحق في الغنيمة، وقضيته: أن الحيازة إذا حصلت بعد انقضاء الحرب، فقد حصل الاختصاص قولاً واحداً.

ص: 478

ويظهر أن ما قاله المحاملي مخالف لما أورده الشيخ وغيره، و [إذا جمعت بينهما جاء في المسألة قولان:

أحدهما: أنهم ملكوا بانقضاء الحرب والحيازة حقيقة.

والثاني: أنهم لم يملكوا المال، بل ملكوا أن يتملكوه، وهو اختيار ابن سريج وابن خيران.

وقد حكى القولين هكذا القاضي الحسين وغيره في كتاب الزكاة].

وقد يجمع بين الكلامين بالحمل على حالين، فيقال: ما أورده الشيخ يحمل على ملك جملة الغانمين، لا على ملك كل [واحد] منهم قدر ما يستحقه، ويحمل ما حكاه المحاملي على كل [واحد] من الغانمين؛ كما هو ظاهر النص في "المختصر" في كتاب الزكاة؛ حيث قال: ولو غنموا ولم يقسم المال حتى حال الحول، فقد أساء إن لم يكن عذر، ولا زكاة في فضة منها ولا ذهب، حتى يستقبل بها حولاً كاملاً بعد القسم؛ لأنه لا ملك لأحد فيه بعينه.

ويدل على الحمل على هذين الحالين أن الماوردي قال في أوائل باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة من كتاب "السير": إذا استقر الظفر بالهزيمة وحيزت الأموال والسبي فقد ملكها جميع الغانمين، [على وجه الاستحقاق، لا على وجه التعيين؛ كما يملك أهل السُّهمان الزكاة قبل دفعها.

وأما كل واحد من الغانمين]،فإنما يملك بالحضور أن يتملك ولا يتعين إلا بالقسم؛ كالشفعة تملك الخليط بالبيع أن يتملك، ولم يتعين له الملك لمعنيين:

أحدهما: أن حقه فيها يزول بتركه، وتعود إلى غيره كالشفعة.

والثاني: لو تأخر قسمها حتى حال حولها، لم تجب زكاتها، ولو ملكت وجبت.

وعلى ذلك ينطبق ما حكاه ابن الصباغ في الباب المذكور حيث قال: قال الأصحاب: إذا جمعت الغنائم ثبت لكل واحد من المسلمين حق الملك،

ص: 479

ولا يملك إلا باختيار التملك، سواء فيه ما قبل القسمة وبعدها، وهو كذلك في "تعليق" البندنيجي.

لكن في كلام ابن الصباغ – في موضع آخر – ما يخالف ذلك؛ فإنه قال: إذا باع حصته من الغنيمة قبل القسمة، فإن كان قد اختار التملك صح؛ عن كان معلوماً، وإن لم يختر التملك قال أبو إسحاق: يصح إذا كان معلوماً؛ لأنه ملكه بالحيازة. ومن أصحابنا من قال: لا يملك البيع؛ لأن ملكه لم يستقر عليه. والوجهان يدلان على أن الواحد قد ملك قبل القسمة بالاحتياز.

فإذا تقرر هذا، فللقولين فوائد:

منها: إذا لحق من شهد الوقعة مدد بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة، فعلى القول الأول: لا يشاركهم المدد، قال ابن الصباغ: وهو المنصوص. وفي "الرافعي": أنه الصحيح، وعلى القول الثاني: يشاركهم، وهو المختار في "المرشد".

وعن ابن كج: أنه حكى عن بعض الأصحاب أنه قال: إن كان لا يؤمن رجعة الكفار استحق، وإن كان يؤمن لم يستحق، ولو لحقوهم بعد الحيازة وقبل تقضي الحرب، فقضية ما ذكرناه انعكاس الحال.

وفي "النهاية" حكاية القولين فيه، وقال القاضي الحسين: إن ذلك مرتب على الحالة الأولى، وهاهنا أولى بالمشاركة، فإن قلنا بعدمها، شارك [فيما حيز] بعد حضوره [جزماً.

وقد تعرض لذلك بعض الأصحاب كما حكاه ابن كج؛ حيث قال: إنه يشارك فيما حيز بعد حضوره] دون ما حيز قبله، وهو في "الإبانة" أيضاً، ولو لحقهم قبل تقضي الحرب وقبل الحيازة، فلا خلاف في المشاركة.

ومنها: إذا تخلص الأسير من يد العدو ولحق بالمسلمين، فإن كان قبل تقضي الحرب وحيازة المال، ففي "الحاوي" انه يستحق، قاتل أو لم يقاتل.

ص: 480

وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين: أنه إن قاتل استحق، وإلا فوجهان أو قولان، ووجه المنع: انه حضر لخلاصه من الأسر لا للقتال؛ فلم يستحق السهم، وهذا كالخلاف في الأجير [والتاجر] كما سيأتي، وهذا بخلاف الكافر إذا أسلم ولحق بالصف قبل انقضاء الحرب والحيازة؛ فإنه يسهم له إذا قاتل، وكذا إن لم يقاتل، وأشار في "الوجيز" إلى وجه فيما إذا لم يقاتل بقوله:"استحق على [الأظهر] "، وهذا المشار إليه هو الذي أورده صاحب "الرقم" فيه.

وفصل الفوراني في الأسير فقال: إن كان من هذا الجيش استحق إذا حضر الصف، قاتل أو لم يقاتل، وإن كان من جيش آخر، فإن قاتل استحق على الأصح، وإلا فقولان، وإنه خُرج فيه قول آخر إذا قاتل: أنه لا سهم له، وهو الصحيح في "الرافعي".

ولو لحق الأسير بهم بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة، فعلى القول الأول: لا مشاركة، وعلى الثاني: أطلق الماوردي القول بالمشاركة، وفي "الشامل"أنه كذلك إن قاتل، وألا فوجهان على هذا القول.

ومنها: لو أسلم واحد من الكفار بعد انقضاء الحرب، وقبل حيازة ماله، فعلى القول الأول: لا يؤثر إسلامه في إحرازه، وعلى الثاني: أحرزه إسلامه، كذا حكى القاضي الحسين الوجهين.

ومنها: لو مات أحد من الذين حضروا الصف بعد تقضي الحرب وقبل الحيازة والإعراض عن القسمة، فعلى القول الأول: استحق ورثته ما كان له، وهو أصح في "التهذيب"، وعلى الثاني: [لا شيء لهم، قاله القاضي الحسين.

ومنها: إذا مات فرسه قبل الحيازة وبعد انقضاء الحرب، فعلى القول الأول، له سهم الفرس، وعلى الثاني:] لا، قاله ابن الصباغ، وطرد ذلك فيما إذا أعار فرسه أو وهبه، وهذه طريقة، وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" فيما إذا غنمت النساء ولم تقسم، هل يثبت الملك قبل القسمة للغانمين؟ ثلاثة أوجه تجري في سائر الأموال:

ص: 481

أحدها: لا يثبت لهم حقيقة الملك قبل [القسم، وإنما] يثبت لهم حق الملك؛ لأن من أعرض منهم سقط حقه، ولو ملكوا بالاستيلاء لاستقر ملكهم؛ كما يستقر ملك المصطاد والمحتش والسارق من مال الكفار من غير مطاردة وقتال. وهكذا أورد الحكم البندينيجي والقاضي أبوا لطيب، وكذا ابن الصباغ في كتاب الزكاة، واستدل له بأن الواحد منهم إذا سقط حقه سقط، ولو كانوا قد ملكوا الأعيان لم تسقط بالإسقاط؛ كالميراث. وأسند أبو الطيب هذا التعليل إلى أبي إسحاق.

والوجه الثاني: أنه يثبت لهم ملك ضعيف؛ كما يثبت للمشتري في زمان الخيار على القول الصحيح؛ فإن سبب الملك الاستيلاء؛ فاستحال أن يثبت السبب ولا يثبت الملك، وأيضاً: فإن ملك الكفار زال، والأموال المغنومة أملاك محضة، ويبعد على مذهب الشافعي- رضي الله عنه – ملك [لا مالك له].

والوجه الثالث: أن ملكهم موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسمت، تبين لنا أنهم ملكوها لما غنموها، وإن لم تتفق القسمة حتى تلفت الغنيمة، أو أعرض من يريد الإعراض، فيتبين لنا أن الغنيمة لم تملك إن تلفت، ويتبين أنه [لم] يملكها من أعرض عنها، وهذا مع تعليل الوجه الأول يدل على أن الخلاف في ملك الواحد من الغانمين، على الإشاعة.

ثم قال الإمام: والرأي الحق أنا لا نقول: نتبين أن حصة كل واحد من الغانمين كانت له على التعيين قبل القسمة.

وحكى صاحب "التقريب" وجهاً غريباً مفرعاً على قول الوقف: أنا نتبين بالقسمة أن كل واحد منهم ملك الحصة التي أصابته عند الاستيلاء على المغنم، وهذا على نهاية البعد، وقد ظهر لك مما ذكرناه أن الواحد من الغانمين إذا أعرض قبل الرضا بالملك أو أسقط حقه نفذ إعراضه.

قال الأصحاب: ويقدر كأنه لم يحضر مع الغانمين، وتقسم الغنيمة خمساً وأربعة أخماس، وهكذا أورده الإمام.

ص: 482

قلت: وحينئذ تكون فائدة إعراضه راجعة إلى الغانمين لا إلى أهل الخمس، وكلام الإمام في آخر الفصل – كما سنذكره – مصرح بأن نصيب المعرض يكون أربعة أخماسه للغانمين، وخمسه لأهل الخمس. وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه يضم جميع نصيبه إلى الخمس، وهذا ما أبداه الإمام تخريجاً لنفسه مما سنذكره من تخريج ابن سريج، وقال: إنه تكلف، والمذهب الذي عليه التعويل: الأول، وهو إخراجه من البين.

قلت: [وقضية ما حكيناه] في باب قتال المشركين عن ابن الصباغ من الجزم به فيما إذا كان قد أسر أباه وحده، واختار الإمام استرقاقه، فرد الآسر الملك – أن خمسه لأهل الخمس، والأخماس الأربعة [تكون لمصالح المسلمين – أن يكون هذا حكم نصيب الراد من جملة الغانمين، إلا أن يقال: إنما صرنا إلى ذلك ثَمَّ؛ لأنه تعذر الصرف للغانمين، ولابد من الصرف لجهة الخمس، وجهة أخرى، وهاهنا أمكن للصرف]، إلى جهة الغانمين؛ فلا ضرورة في صرفه إلى جهة المصالح.

وفي كلام الإمام أن محل نفوذ الرد بالاتفاق إذا لم يفرز الإمام الخمس، وكان المعرض بعض الغانمين، أما إذا أفرزه، وأفرز ما يخرج من رأس الغنيمةن ولم يقسم ما للغانمين – فالمذهب وهو المنصوص: أن الإعراض نافذ أيضاً، وذكر ابن سريج قولاً مخرجاً؛: أنه لا ينفذ، ثم قال الإمام: والذي أراه: أن الإمام إن استبد بإخراج الخمس، فحقوق الغانمين لا تحول عما كانت عليه، وإن استقسموا الإمام، واستدعوا منه أن يميز الخمس فأجابهم، فهذا يشعر باختيارهم تأكيد حقوق أنفسهم.

قلت: وهذا يظهر بناؤه على ما إذا قال الغانمون: اخترنا الغنيمة قبل القسمة، فإن الملك هل يلزم بذلك؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، فإن قلنا: إنه لا حكم لذلك، بل لا تستقر الحصص إلا بالقسمة والإفراز – فلا اثر لما صدر من سؤال القسمة من طريق الأولى، وإن قلنا: إن ملكهم يستقر بذلك حتى لو فرض

ص: 483

إعراض- لم يؤثر، وهذا ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الزكاة والرافعي عن الأصحاب ثم، وكذلك هاهنا في الواحد، فيظهر أن يكون محل التردد.

وفي "التهذيب" حكاية القول المنصوص والمخرج فيما إذا أفرز الخمس، وأفرز نصيب كل واحد من الغانمين، أو أفرز [لكل] طائفة شيئاً معلوماً، وقال: إن الأصح نفوذ الرد وعدم الملك، وهو الذي أورده العراقيون.

ولو أعرض جملة الغانمين فالذي ذهب إليه المحققون صحة ذلك، وتنعكس الأخماس الربعة إلى مصارف الخمس، وتوزع عليها. ومن أصحابنا من قال: إذا أعرضوا لم يسقط بإعراضهم شيء من حقوقهم، وهذا الترديد مرتب على ما هو المذهب من أن حصة المعرض نُقَضُّ على الخمس والأخماس الأربعة، ويظهر أن يجيء مثل ذلك فيما إذا كان الغانم واحداً وأعرض.

وقد فرع الأصحاب على أقوال الملك فروعاً ضاق المحل عن الكلام فيها، فلنذكر ما يتيسر منها بعد فراغ مسائل الباب، إن شاء الله تعالى.

قال: وأول ما يبدأ منه بسلب المقتول، فيدفع إلى القاتل؛ للحديث السابق، ولأن حقه متعلق بعينه، وسابق على الاغتنام، وكذا يبدأ بالرضخ إن قلنا: إنه من رأس [المال المغنوم]، كما يبدأ بأجرة النقال والحافظ ونحو ذلك.

وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير": أن الإمام إذا رام نقل الغنيمة [إلى] دار الإسلام، فإن كان معه حمولة، حمل عليها، وإن لم يكن معه حمولة، فينبغي للمسلمين أن يحملوها بلا كراء إن كانت لهم حمولة، فلو امتنعوا فعلى قولين:

أحدهما: يُكْرِي، ويكون الكراء على الغنيمة.

والثاني: يجبر من معه فضل حمولة؛ لأنه موضع ضرورة.

ص: 484

فرع: لو أعرض ستحق السلب عنه، فهل يسقط حقه؟

فيه وجهان حكاهما الإمام:

أحدهما: نعم؛ كما تسقط حصة الغانم من المغنم بذلك.

والثاني: لا يسقط؛ لأنه متعين له، فصار كتعيين الحصة بالقسمة.

قال: ثم يقسم الباقي، أي: بعد الحيازة وانقضاء القتال، على خمسة، [أي: عقاراً كان أو غيره]؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال:41]، وإذا أخرج من مالٍ خُمسه، [كان] مقسوماً على خمسة. ثم بعد ذلك يأخذ خمس رقاع، فيكتب على واحدة: لله والمصالح، وعلى أربعة: للغانمين، ويدرجها في بنادق من طين متساوية، ويخرج لكل قسم رقعة، فما خرج عليه اسم الله تعالى جعله لأهل الخمس، والباقي للغانمين.

قال الإمام: فلو ثبتت الأيدي صورةً على مغانم والحرب قائمة، والمطاردة قائمة، فاقتسموا في هذه الحالة – فالذي رأيت للأصحاب: أن [هذه] القسمة مردودة، ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد إذا لحق بعد وضع الأيدي والحرب قائمة هل يشارك أم لا؟ وهذا لابد من تخريجه.

قال: فيقسم الخمس على خمسة أسهم؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].

فإن قيل: [المذكور في الآية ستة؛ فينبغي] أن يقسم الخمس عليها كما صار إليه بعض العلماء، وجعل ما لله مصروفاً لرتاج الكعبة؟

قيل في جوابه: إن السنة ثبتت أن المصارف خمسة؛ فإن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما – قالا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ.

ص: 485

وروى محمدبن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ"، فلو كان مقسوماً على ستة لقال: إلا السدس، وأما الآية فقد قيل: إنما أضيفت إلى الله – تعالى – تبركا بالافتتاح باسمه – عز وجل وقيل: إن هذا الخمس لله؛ لأن مصارفه مصارف القربات، وقيل: أضيف إليه؛ قطعاً عما كانت الملوك تفعله قبل الإسلام، فإنها كانت تأخذ الخمس، وقيل: ليعلم أنه ليس مختصاً برسوله اختصاصاً يسقط بموته.

فإذا تقرر ذلك، فهم أن المال كله يقسم على خمسة وعشرين جزءا؛ لأنه أقل عدد لخمسه خمس صحيح.

قال: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في المصالح، أي: سهم منها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو الآن يصرف في المصالح.

ووجه كون الخمس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته قد تقدم، وروي أنه كان ينفق [منه] على نفسه وأهله وفي مصالحه صلى الله عليه وسلم، وما فضل جعله في السلاح عدة في سبيل الله – تعالى- وسائر المصالح.

ووجه كونه بعد وفاته يصرف في المصالح، قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن مطعم:"مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ"؛ فدل [برده على جميع] المسلمين على ثبوته لهم وإن تغير حكمه، لا على سقوطه، ولا يمكن رده على جميع المسلمين غلا بصرفه في مصالحهم؛ فتعينت، ولأنه سهم مستحق من سهام الخمس؛ فلم يسقط كسائر السهام.

وحكى الإمام قولا: أن سهمه صلى الله عليه وسلم [بعد وفاته] يسقطن وتبقى القسمة على الأسهم الأربعة الباقية، ثم قال: وهذا غريب لم أره إلا في طريقة شيخنا أبي علي.

وفي "الرافعي" أن أبا الفرج الزاز حكاه عن بعض الأصحاب؛ لأن الشافعي

ص: 486

- رضي الله عنه – حكاه عن بعض أهل العلم ثم استحسنه.

وحكى الإمام –أيضاً – أن بعض العلماء ذهب إلى أن سهم [رسول الله صلى الله عليه وسلم] يصرف إلى خليفة الزمان، ولم يصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا، وفي بعض الطرق – يعني طريقة الفوراني، كما هو مذكور في "إبانته" – صيغة مخيلة لهذا المعنى؛ فإنه قال: ظاهر المذهب أن السهم الذي كان له – عليه السلام – لا يصرف إلى خليفة الزمان. فقوله: ظاهر المذهب، يشعر بخلافه، ولكنه إفهام لا حاصل له، وقد أقامه في "الوسيط" وجها لبعض الأصحاب.

[قال: وأهمها سد الثغور، أي: بالرجال المقاتلة والعدد وإصلاحها؛ لأن بها يحفظ المسلمون.

و"الثغور": جمع "ثغر"، وهو موضع المخافة].

قال: ثم الأهم فالأهم من أرزاق القضاة والمؤذنين، وغير ذلك من المصالح.

قال: وسهم لذوي القربى، أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب، أي دون غيرهم من بني عبد شمس ونوفل، وإن كان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل أولاد عبد مناف؛ لما روي عن جبير بن مطعم قال: لما [قسم] رسول الله صلى الله عليه وسلم [سهم] ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيت أنا وعثمان بن عفان النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم؛ لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُوا الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" خرجه أبو داود والبخاري بنحوه.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ"، يعني أنهم كانوا متناصرين لحلف عقدوه بينهم في الجاهلية، وتميزوا به عن بني عبد شمس

ص: 487

ونوفل لما كتبت قريش الصحيفة وتبايعوا على ألا يجالسوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا ينكاحوهم، وبقوا على ذلك سنة؛ ولهذا الحلف دخل بنو المطلب مع [بني] هاشم في الشِّعْب بـ"مكة" حين دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمعنى بقول جبير وعثمان –رضي الله عنهما: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أن رسول الله صلى الله عيه وسلم [هو] محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وبقولهما: فما بال إخواننا من بني المطلب وقرابتنا وقرابتهم واحدة، أنا بنو عم؛ لأن جبيراً من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس.

وقد اختلف الأصحاب لأجل ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سبب الاستحقاق على ثلاثة أوجه حكاها الماوردي:

أحدهما: أنه القرابة [وحدها]، والمنع مع وجودها في بني عبد شمس ونوفل كان لسبب آخر؛ كما نقول في اثنين احدهما قاتل.

والثاني: أنه القرابة والنصرة.

والثالث: أنه القرابة والتقديم بالنصرة؛ كما نقول في أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب.

قال: للذكر مثل حظ الأنثيين.

هذا الفصل يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه يصرف للإناث منهم، وقد وجهه الجيلي بأنه – عليه السلام – أسهم لأم الزبير من ذوي القربى، وقال غيره: إن الزبير أخذ من الخمس سهم أمه صفية بنت عبد المطلب، ولأن ما استحق بالقرابة اشترك فيه الرجال والنساء كالميراث.

والثاني: التفاضل، ووجهه أنه مال مستحق بقرابة الأب بالشرع؛ ففضل فيه الذكر على الأنثى كميراث ولد الأب.

وقال المزني وأبو ثور: إنهما يستويان كما في الوصية للأقارب.

ص: 488

قيل: وهذا خطأ؛ لأن اعتبارهم بالميراث أولى من الوصية؛ لأن السهم والميراث عطيتنا من الله تعالى، والوصية عطية من آدمي تقف على اختياره، وإنما سوِّي بين جميع الذكور وبين جميع الإناث، ولم تفوض القسمة إلى رأي الإمام كما [في] حق الفقراء؛ لأن الفقراء يأخذون للحاجة التي قد تختلف فيهم؛ فجاز أن يفضل بينهم لأجلها، وهؤلاء يأخذون لأجل القرابة، وهي لا تختلف؛ فوجب التسوية بينهم لأجلها.

قال: ويدفع [إلى] القاضي، [أي]: البعيد، والداني منهم؛ لظاهر الآية.

وقد روي أن الزبير كان يعمم بالعطاء الغائب عن موضع حصول الفيء والحاضر فيه، ولأنه سهم مستحق بالقرابة؛ [فيستوي فيه] القاضي والداني كالميراث.

وقيل: يدفع ما يحصل في كل إقليم إلى من فيه منهم، أي: فالحاصل من كفار الروم [مثلا] يدفع سهم ذوي القربى منه إلى من في الشام والعراق من ذوي القربى، والحاصل من الترك يدفع إلى من بـ "خراسان"، لما في النقل من المشقة فالتحق بالزكاة. وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وضعف بأنه يفضي إلى إعطاء بعضهم دون بعض، وهو مخالف للآية، ويخالف سهم الفقراء في الزكاة؛ لأن ثم يجوز أن يعطي بعض فقراء البلد دون جميعهم؛ فجاز أن يخص به فقراء بلد دون غيرها وليس كذلك هاهنا، وما ذكره من المشقة مندفع؛ فإن الإمام يأمر أمناءه في كل إقليم بضبط من فيه من ذوي القربى، ويأمره بصرف حصة من فيه من جميع أسهم مما حصل فيه، فإن لم يتفق في بعضها شيء أو لم يف بمن فيه إذا وزع جميع السهم عليهم، فحينئذ ينفل بقدر الحاجة، وذلك مما لا تعظم فيه المشقة.

ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، أو الغني والفقير؛ لأن العباس

ص: 489

-رضي الله عنه – كان يأخذ منه وهو من أيسر قريش، اللهم إلا أن يكون القدر الحاصل لهم إذا وزع عليهم لا يسد مسدا؛ فحينئذ قال الإمام: يقدم الأحوج فالأحوج، ولا يستوعب؛ للضرورة، وتصير الحاجة مرجحة، وإن لم تكن معتبرة في استحقاق هذا السهم.

وكذا لا فرق في التساوي في القسم بين المدلي [بجهة واحدة أو بجهتين، وحكي في "الوسيط" عن القاضي الحسين: أن المدلي] بجهتين يفضل على المدلي بجهة [واحدة]؛ كما يقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، ثم قال: وهذا يدل على أن الإدلاء بالأم له أثر في الاستحقاق عند الاجتماع؛ فلا يبعد عن القياس أن يؤثر عند الانفراد مع شمول اسم القرابة. يعني بذلك: أن أولاد البنات لا يبعد أن يدخلنه في هذا السهم؛ للتعليل الذي ذكره القاضي، وهو باطل بأخوة الأم في الولاء؛ فإنه يرجح بها على الصحيح، ولا أثر لها عند الانفراد.

وكذا لا فرق في استحقاق ذلك بين من حضر الصف ومن لم يحضر. نعم، من حضر يستحق ذلك مع سهمه من الغنيمة.

فرع: لو أعرض ذوو القربى عن سهمهم فهل يسقط؟ قال الإمام: الأظهر أنه لا يسقط؛ لأنه منحة أثبتها الله لهم من غير معاناة وشهود وقعة؛ فليسوا كالغانمين الذين تحمل شهادتهم على إعلاء كلمة الله، تعالى.

ويمكن أن يقال: يسقط بالإعراض قبل القسمة كالغانمين؛ لأن ما يصرف إليهم ملك لا تراعي فيه الحاجة فكانوا كالغانمين.

آخر: إذا جاء الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبت، فإن كان نسبه مستفيضاً اكتفى به، وإلا لزمه إثباته بالبينة إن أراد طلب حقه من ذلك السهم، قاله الإمام.

وفي "الحاوي" في كتاب العاقلة: أن أبا إسحاق المروزوي وأبا على بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا قالوا: إن من ادعى أنه من قريش، وقريش تسمع دعواه ولا

ص: 490

تنكره، أو ادعى أنه من بني هاشم، وبنو هاشم يسمعونه ولا ينكرونه – أنا نحكم بنسبه منهم بإقرارهم [إياه] على دعوى نسبهم، وبمثل هذا يثبت أكثر أنساب [العامة]، فإن تجدد من أنكر نسبه ونفاه عنهم، فقال: لست منهم – لم يقبل نفيه، ولو شهد له بأنه ليس منهم؛ لأن الشهادة على مجرد النفي لا تصح.

قال: وسهم لليتامى الفقراء؛ لأنه مصروف في ذوي الحاجات فخرج منهم الأغنياء، ولأنه إرفاق لمن تتوجه إليه المعونة والرحمة، وهم الفقراء دون الأغنياء، وهذا مذهب الشافعي؛ كما قاله الماوردي وصححه غيره.

وقيل: يشترك فيه الأغنياء والفقراء؛ لإطلاق الآية، وبالقياس على ذوي القربى، ولأنه لو اعتبر فيهم الفقر لدخلوا في جملة المساكين، وهذا قول حكاه القاضي أبو الطيب في "السير"، وكذلك ابن القاص والقفال الشاشي حكياه، وقال القاضي الحسين: إنه مذهبنا ومذهب عامة أصحابنا.

قال: وليس بشيء؛ لأن غناه بالمال فوق غناه بالأب، ولو كان له أب لم يُعْطَ؛ فكذلك إذا كان له مال.

التفريع: إن قلنا بالأول، [قال الماوردي: فلا فرق فيهم بين من مات أبوه أو قتل، و] يجوز الاقتصار على الصرف لبعضهم دون بعض؛ كما في الفقراء، ويجوز أن يجتهد الإمام رأيه في التسوية بينهم والتفضيل.

وإن قلنا بالثاني اختص به من قتل أبوه في الجهاد دون غيره؛ [رعاية] لنصرة الآباء في الأبناء كذوي القربىن وقسم على جميعهم، ولا يخص به بعضهم.

ثم على قول الشافعي – رضي الله عنه – يفرق في أيتام جميع الأقاليم، وعلى قول أبي إسحاق: يفرق ما في كل إقليم إلى اليتامى بمن فيه، ويسوي فيه بين الذكر والأنثى؛ كما في الوقف، وكلام ابن الصباغ يقتضي أن قول أبي إسحاق ومقابله يجريان على القول الأول أيضاً.

ص: 491

وحكى القاضي الحسين وغيره عن القفال: أن المراد باليتامى: يتامى أهل الفيء الذين كتبوا أسماءهم في الديوان، فأما يتامى الأعراب الذين هم أهل الصدقات فلا يعطون من الفيء.

قلت: وبهذا يحصل فيمن المستحق من الأيتام ثلاثة أوجه:

أحدها: كل يتيم.

والثاني: كل يتيم قتل أبوه في الجهاد سواء كان من أهل الفيء أو من أهل الصدقة، كما سنذكرهم.

والثالث: يتامى المرتزقة من الفيء دون غيرهم.

واليتيم: اسم الصغير الذي لا أب له عند الأكثرين، وقيل: الذي لا أب له ولا جد.

قال الماوردي: وقيل: إن اعتبار الصِّغَر في اسم اليتيم جاء من جهة الشرع؛ لقوله – عليه السلام:"لا يتم بعد حُلُمٍ"، وإلا فهو يطلق على الصغير والكبير.

قال: وسهم للمساكين؛ للآية، ويندرج فيهم من لا يملك شيئاً ومن يملك بعض كفايته؛ لما تقدم في الزكاة والوصية [والوقف]: أن كل اسم من "الفقر"[و"المسكنة"] يطلق على الآخر عند الانفراد.

قال الماوردي: وقد اختلف أصحابنا فيمن يستحق هذا السهم على وجهين:

أحدهما: جميع المساكين من المسلمين؛ لدخول المسكنة في [جميعهم.

والثاني: أنه يختص به مساكين أهل الجهاد الذين قد عجزوا عنه بالمسكنة]، أو الزمانة، ولا حق فيه لغيرهم؛ لأن [مال] الغنيمة بأهل الجهاد أخص، فعلى هذا يجب أن يفرقه في جميعهم في جميع الأقاليم على المذهب، خلافاً لأبي إسحاق، ويجب أن يسوي بينهم من غير تفضيل بين كبير وصغير وذكر وأنثى، ولا يجوز أن يجمع لهم بين [سهمهم من] الخمس

ص: 492

وسهمهم من الزكاة، ويجوز أن يدفع إليهم من الكفارات، بخلاف ما إذا فرعنا على الوجه الأول؛ فإنه يجوز أن يخص به البعض ويجوز التفضيل فيه، ويجوز أن يجمع لهم [بين سهمهم من خمس] الخمس وسهمهم من الزكاة والكفارة. كذا قاله الماوردي، وفي "الرافعي": الجزم بمنع الاقتصار على ثلاثة منهم، وكذا في بني السبيل. وكلام ابن الصباغ مصرح بأن قول أبي إسحاق ومقابله يجريان إذا فرعنا على الوجه الأول الذي لم يذكر سواه.

فرع: إذا اجتمع في الشخص الواحد صفة المسكنة واليتم، قال الماوردي: أعطي من سهم اليتيم، لأنه صفة لازمة، والمسكنة صفة زائلة.

قال: وسهم لابن السبيل؛ للآية، وتفسيره مذكور في الزكاة.

قال: تصرف إليهم على قدر حجاتهم؛ كما في الزكاة، وقد أشعر هذا اللفظ بأنه لابد من الحاجة في الصرف إليهم، وهو الأصح، ولا فرق فيه بين أن يكون مع الحاجة غنيا، كما إذا كان مجتازاً وماله في بلده، أو فقيراً لا مال له وقد أنشأ السفر.

وحكى الإمام أن الشيخ أبا عليى ذكر وجهاً عن بعض الأصحاب؛ أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يهم بالسفر، وإن لم يكن به حاجة ماسة. ثم قال: وهذا بعيد جداً لا تعويل عليه.

وفي "الحاوي": أن لأصحابنا وجهين فيمن يستحق هذا السهم منهم:

أحدهما: أنه لبني السبيل من جميع المسلمين.

والثاني: انه لبني السبيل من المجاهدين خاصة.

ويتفرع على الوجهين الخلاف في الأمور السابقة في الفصل قبله، وعند اعتبار التوزيع هاهنا يقسط على مسافة أسفارهم.

قال: ولا يعطي الكافر [منه] شيئاً، يعني: لا يعطي الكافر من

ص: 493

الخمس شيئاً؛ لأنه عطية من الله – تعالى – فاختص بها أهل طاعته، كالزكاة، وهذا فيما عدا سهم المصالح، [فأما سهم] المصالح فيعطي الكافر منه عند وجود المصلحة.

فرع: إذا فقد بعض الأصناف وزع نصيبه على الباقين، كما في الزكاة، إلا سهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مصروف من بعده، كما ذكرناه.

قال: ويقسم الباقي – وهو أربعة أخماس [بين] الغانمين؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ

} [الآية]؛ فاقتضى أن يكون الباقي بعد الخمس لمن غنمه، كما قال تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]؛ فدل على أن الباقي للأب.

وطريق القسمة: أن يحضر أسماءهم، ويسوي بين قويهم وضعيفهم، ولا يفضل أحداً على أحد، إلا الفارس بفرسه، كما سنذكره، وله أن يعين سهم بعضهم في عين وآخر في أخرى وإن كرهوا ذلك، كما صرح به الأصحاب في كتاب الزكاة وغيرهن هذا هو المشهور.

وعن المسعودي والبغوي – وهو [أيضاً] في "الحاوي" -: أن من قاتل أكثر من غيره، فله أن يضخ له مع السهم، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنفل ابن مسعود سيف أبي جهل، ونفل سعد بن [أبي وقاص سيف سعيد بن العاص]، وكان يسمى ذا الكشفة.

وقيل: يزاد له من سهم المصالح ما يليق بالحال.

وعلى الأول قال الماوردي: فلا يبلغ بالرضخ سهم فارس ولا راجل.

ثم الغانمون: هم الذين حضروا الوقعة بنية القتال وهم من أهل الخطاب به، سواء منهم من قاتل ومن لم يقاتل، ومن حضر في أول القتال إلى آخره، ومن حضر في آخره إذا لم يحصل قبل حضوره حيازة [المال]؛ لما روي

ص: 494

أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ"، وقد روى الشافعي ذلك موقوفاً على أبي بكر – رضي الله عنه –ومنهم من يقول: إنه موقوف على أبي بكر وعثمان، أو أبي بكر وعمر، وأيَّاماً كان فهو دليل؛ لأنه لا مخالف لهما، كما قاله الماوردي.

أما إذا حصلت حيازة [المال] قبل حضوره فقد ذكرنا حكمها في أول الباب.

ولو حضر في أول القتال دون آخره: فإن كان سبب ذلك حدوث موت أو مرض فسيأتي في الكتاب، وإن كان سببه انهزامه لم يستحق، وإن كان سببه انحرافه للقتال أو تحيزه إلى فئة استحق، هكذا أورده الرافعي في هذا الباب، وقال في كتاب السير: إن النص في المتحيز إلى الفئة البعيدة، لا يشارك الغانمين في الغنيمة إن فارق قبل الاغتنام، وإن غُنم شيء دون شيء، لم يبطل حقه فيما غنم قبل مفارقته، ولا شيء له فيما غنم بعدها، وأن بمثله أجاب في المتحرف للقتال، وأطلق بعضهم القول: بأن المتحرف يشارك، وهو ما أورده الإمام. قال الرافعي: ولعله فيما إذا لم يبعد ولم يغب، ويكون النص فيما إذا تحرف للقتال ثم انقطع [عن القوم] قبل أن يغنموا.

ولو كان التحيز لفئة قريبة ففي مشاركته للغانمين فيما غنموه بعد مفارقته وجهان، أشبههما: الاستحقاق، وحكى الإمام الوجهين عن الأصحاب من غير تقييد بقرب ولا بعد، وأبدى لنسه القطع بالمنع عند بعد الفئة، وأنه لا يحل العمل بخلافه، ورد الوجهين إلى حالة القرب بحيث تحصل النجدة به.

ولو حضر في أوله، ثم انهزم، ثم حضر في آخره – ففي "التهذيب": أنه يستحق من المحوز بعد حضوره دون المحوز قبله، وهذا بناء على أن الملك يحصل بالحيازة، أما إذا قلنا:[إنه] يحصل بالقتال، فيستحق نصيبه من الجميع، كما حكيناه عن القاضي الحسين فيما إذا حضر بعد الحيازة وقبل انقضاء الحرب.

ص: 495

ولو هرب، ثم ادعى أنه كان متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، ففي "الوجيز": أنه يصدق بيمينه، وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أنه إن لم يعد إلا بعد انقضاء القتال لم يصدق؛ لأن الظاهر خلافه، وإن عاد قبله صدق بيمينه، فإن حلف استحق من الكل، وإن نكل لم يستحق إلا من المحوز بعد عوده، وهذا في صورة يكون الانحراف والتحيز المحقق لا يمنع المشاركة.

واعلم أن ظاهر إيراد الشيخ يقتضي أن أهل الخمس يفوزون بسهامهم قبل قسمة الأخماس [الأربعة] على الغانمين، وليس كذلك؛ بل المذكور في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"الحاوي" وغيرها: أن الذي يبدأ به إخراج الخمس بالقرعة كما ذكرناه، ثم يقسم الأخماس الأربعة بين الغانمين قبل أن يقسم على أهل الخمس؛ لمعان ثلاثة: لحضورهم، وغيبة أهل الخمس، وكون ما يأخذونه بسبب جهادهم، فصار كالمعاوضة، وأهل الخمس يأخذون مواساة، ولأن بهم ملك أهل الخمس خمسهم، وكانوا أقوى في الغنيمة منهم.

قال الأصحاب: ويستحب أن يعجل بالقسمة في دار الحرب، فإن أخرها كره إلا أن يكون ثم عذر يقتضي التأخير، صرح به الماوردي وغيره في كتاب السير، وابن الصباغ وغيره في كتاب الزكاة.

قال: ويعطي للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ لما روى ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ يَومَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ [سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ] ".

وفي رواية مسلم والترمذي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ فِي النَّفْلِ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمَا.

ولفظ البخاري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْماً. وفي لفظ آخر: قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ خَيْبَرَ لِلفَرَسِ سَهْمَينِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْماً،

ص: 496

قال: فسره نافع، قال: إذا كان مع الراجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن له فرس فله سهم.

والمراد بالفارس هاهنا: من حضر الوقعة وهو من أهل فرض القتال، بفرس يقاتل عليه مهيأ للقتال، سواء كان الفرس عتيقا: وهو الذي أبواه عربيان، أو برذونا: وهو الذي أبواه أعجميان، أو مقرفاً: وهو الذي أمه عربية وأبوه أعجمي، أو هجينا: وهو الذي أبوه عربي وأمه أعجمية. وسواء في ذلك قاتل عليه أو لم يقاتل لعدم الحاجة إليه، وكذا إن قاتل في الماء أسهم لفرسه؛ لأنه ربما انتقل إلى البر فقاتل عليه، وكذا لو قاتل في حصار حصن أسهم لفرسه؛ لأه عُدَّة يلحق أهل الحصن إن هربوا ويرهبهم إن حضروا، حكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم" وغيره.

وفي "الرافعي" أن ابن كج حمل النص في مسألة القتال في الماء على ما إذا كانوا بقرب الساحل، واحتمل أن يخرج ويركب، فأما إذا لم يحتمل الحال الركوب، فلا معنى لإعطاء سهم الفرس.

وقريب منه ما أورده الإمام فيما إذا نزلوا عن الخيل في مضيق؛ حيث قال: إن لم يبعدوا عن الخل [استحقوا سهامها] وإن درجوا موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل [يستحقون سهامها]؟ فيه وجهان.

وقد ألحق الماوردي بالمسألتين المنصوص عليهما في "الأم" ما إذا استخلف أمير الجيش قوماً في المعسكر على حفظه وحراسته؛ حذراً من هجوم العدو عليه، أو أفرد [كميناً] ليظفر من العدو ويغرَّهم، وقال: إنه يسهم لهم ولأفراسهم.

أما من حضر القتال بغير الأفراس، لمي ستحق سوى سهم راجل، سواء كان راكباً جملاً أو بغلاً أو حماراً؛ لانه لم ينقل أنه – عليه السلام – أسهم للإبل وقد كانوا يحضرون بالنجب، ولأن الفرس تنفرد بالكر والفر والطلب والهرب، بخلاف غيرها وقد ادعى ابن يونس في ذلك الإجماع، وفيه نظر؛ فإن في

ص: 497

"الشامل": أن الحسن البصري قال: إنه يسهم للإبل. وفي "الجيلي": أنه يرضخ لمركوبه ويسهم له، ويكون رضخ الإبل أكبر من رضخ البغل، ورضخ البغل أكبر من رضخ الحمار [ولا] يبلغ به سهمه. والمذكور في "النهاية" و"الإبانة": الأول؛ حيث قالا: لا يستحق راكب البغل والحمار والإبل والفيلة إلا ما يستحقه الراجل.

قال: ولا يسهم إلا لفرس واحد؛ لما روى أبو عاصم عن ابن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن الزبير بن العوام حضر بخيبر ومعه أفراس، فلم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد.

وروى أن [النبي] صلى الله عليه وسلم حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ: السَّكْبُ والظَّرِبُ والمُرتَجِزُ، فَلَمْ يُسْهِمْ إِلَاّ لِوَاحِدٍ.

ولأنه لا يقاتل إلا على واحد، ولو تحول عنه صار تاركاً له.

وفي "الرافعي": أن راوين قد رووا قولاً للشافعي – رضي الله عنه: أنه يسهم لفرسين.

وفي "النهاية" حكاية ذلك وجهاً عن رواية شيخه، وقال: إنه يقرب من قول من جعل الجَنيبة من السلب، والقاضي الحسين في كتاب السير جعل الوجهين كالوجهين في استحقاق الجنيبة.

فرع: لو ركب اثنان فرساً وحضرا الوقعة، فعن بعض الأصحاب: أنهما كفارسين يحصل لهما ستة أسهم، واستبعده ابن كج، وعن بعضهم: أنهما كراجلين؛ لتعذر الكر والفر.

قال ابن كج: وعندي أنه يجعل لهما أربعة [أسهم]، سهمان لهما، وسهمان للفرس.

ص: 498

ويقرب من ذلك إذا حضر اثنان بفرس مشترك بينهما؛ فإن فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: لا يسهم للفرس.

والثاني: يسهم لكل منهما سهم فرس.

والثالث: يعطيان سهم فرس واحد، حكاها أبو الفرج في "الأمالي".

قال: فإن دخل [إلى [دار] الحرب] راجلاً، ثم حصل له فرس، فحضر به الحرب إلى أن ينقضي، أسهم له؛ لأن المقصود من الفرس قد حصل بذلك، فأسهم له كما لو دخل والفرس معه؛ ولأن استحقاق المقاتل بالحضور؛ فكذا الاستحقاق بالفرس.

تنبيه: الفرس يقع على الذكر والأنثى باتفاقهم، فقوله: حضر به، كلام صحيح.

وأما الحرب: فالمشهور أنها مؤنثة، قال الله تعالى:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].

قال الجوهري: قال المبرد: وقد تذكر، فقول المصنف:[إلى أن] ينقضي، [صحيح على لغة التذكير، وأما على [لغة] التأنيث فيصح أن نقول تَقَضَّي] – بفتح التاء والقاف وتشديد الضاد – أي: تنقضي، فحذفت إحدى التاءين، أو نقول: تقضت، وإن كان قد نقل قول ضعيف أنه يقال: الشمس طلع.

قال: وإن عار فرسُه، أي: هرب، فلم يجده إلا بعد انقضاء الحرب – لم يسهم له؛ لأنه لم يحصل المقصود منه؛ فلم يملك سهمه، كما لو مات أو ضلَّ صاحبه عن حضور الوقعة حتى فاتته؛ فإنه لا يسهم له وإن كان معذوراً.

ص: 499

وقيل: يسهم له؛ لأنه خرج من يده [لا] باختياره، وكان يتوقع عوده حالة القتال، وهذا رواه الشيخ أبو حامد، وخطأ قائله الأصحاب.

وفي "الجيلي": أنه يجري فيما إذا مات الفرس أو باعه، ولم أره في غيره، ومحل الخلاف – كما قال الماوردي-: فيما إذا غاب الفرس عن الوقعة ومصاف القتال، أما إذا لم يغب عنها أسهم.

قال: وإن غصب فرساً فقاتل عليه أسهم [له] أي: سهم للفرس في أظهر القولين، ولصاحب الفرس في [القول] الآخر.

هذان القولان بناهما الشيخ أبو حامد – وتبعه الماوردي- على القولين فيما إذا غصب مالاً وربح فيه، فعلى الجديد: يكون الربح للغاصب؛ فكذلك هاهنا: يكون سهم الفرس [للغاصب، وعلى القديم: يكون الربح لرب المال؛ فكذلك هاهنا: يكون سهم الفرس] لمالكها، وهذا ما اختاره في "المرشد".

وقال ابن الصباغ: عندي أنه يكون السهم للغاصب قولاً واحداً. ويكون عليه أجرة مثل الفرس لصاحبه، ويخالف مسألة البضاعة؛ لأن جعل الربح فيها على القديم للمالك؛ خشية من أن يكثر الغصب والخيانات في الأمانات، وهذا مفقود هنا؛ [و] لأن أجرة الفرس تجب عليه، وربما كانت أكبر من سهمه؛ فلا يؤدي إلى ذلك.

وبنى القاضي الحسين القولين على ما إذا غصب فهذا اصطاد به، فلمن يكون الصيد؟ وفيه قولان.

ثم [على] مقابل الأظهر، قال الماوردي: يجب على الغاصب الأجرة،

ص: 500

وإن كان السهم لغيره؛ لوجوبها [بالغصب، وكذلك] هو في "تعليق" القاضي الحسين.

قلت: ولا يبعد تخريج وجوبها على الخلاف في وجوب أجرة [المثل] للفهد إذا اصطاد به، وقلنا: إن الصيد لمالك الفهد، إلا أن يقال: منفعة الفهد ليست إلا في الصيد، وقد حصلت لمالكه؛ فلا يأخذ بدلها، [ومنفعة الفرس لا تنحصر في تحصيل السهم؛ فلذلك ضمن بدلها].

وقد ظهر لك مما ذكرناه: [أن سهم] الفرس لابد منه، ولكن لمن يكون؟ وقد صرّح به القاضي الحسين والفوراني، وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب حكى في السهم للفرس وجهين، ورأيت في "تعليقه" [قبيل باب فتح] السواد: أنه إذا غصب فرساً فقاتل عليه، فإن كان صاحب الفرس قد حضر الوقعة أو حضر وقت القسمة، دفع إليه سهماً الفرس؛ لأنه يتعذر الانتفاع به لا يبطل حقهن ألا ترى أن الفارس إذا كان القتال في مضيق أو على رأس جبل ولا يمكنه أن يقاتل إلا راجلاً، فإنه يسهم له ولفرسه، وإن كان الانتفاع به قد تعذر؟! كذلك هاهنا مثله. ولم يحك سواه، وهكذا أورده الماوردي في أوائل باب جامع السير.

فرع: لو استأجر فرساً أو استعاره، حضر به، قال القاضيان الماوردي والحسين: إن استأجره أو استعاره للقتال ملك سهمهن وعن ابن كج [رواية وجه]: أنه يكون للمعير، وإن استأجره أو استعاره للركوب دون القتال كان كما لو غصبه.

قال: وإن حضر بفرس ضعيف أو أعجف، أي: مهزول، أسهم له في أحد القولين؛ لان اختلاف الجند في القوة والضعف لا يوجب اختلافهم في السهم؛ فكذلك الخيل [ولا يسهم له في] الآخر؛ لأن في البغال التي [لا سهم] لها ما هو أغنى منها، ولا يسهم له، فهذه أولى، وهذا أصح في "الرافعي" وغيره.

ص: 501

والقولان جاريان فيما إذا حضر بفرس حطم وهو الكسير، أو قَحْمٍ وهو الكبير، أو ضرع وهو الصغير، وهذه طريقة أبي علي بن خيران، أخذها من قول الشافعي –رضي الله عنه في "المختصر" و"الأم"، قيل: لا يسهم لها، وقيل: يسهم لها.

وطريقة أبي إسحاق المروزي: أن ذلك ليس على قولين، بل [على] اختلاف حالين، فقوله: يسهم لها، أراد: إذا أمكن القتال عليها [مع ضعفها، وقوله: يسهم لها، أراد: إذا لم يمكن القتال عليها]، وهذا ما اختاره في "المرشد".

قال الماوردي والقاضي الحسين والرافعي وغيرهم: ومحل ذلك إذا لم يناد الأمير: أن لا يدخل أحد من الجيش بواحد منها، أما إذا كان قد نادى فلا سهم لمن دخل بها. وهذا يشبه ما ذكرناه في المخذل في الباب قبله على رأي.

قال: ومن مات أو خرج عن أن يكون من أهل القتال بمرض، أي: مثل العمى والزمانة، أو غيره كالجراحة، قبل تقضي الحرب، أي: وحيازة المال – [لم] يسهم له؛ لأن المال يملك في أحد القولين بانقضاء الحرب، وفي الآخر بحيازة المال، ولم يوجد واحد منهما، وهو من أهل القتال، فأشبه المجنون إذا حضر والطفلن وهذا ما أورده القاضي ابن كج وابن الصباغ، وحكى الإمام عن الأصحاب القطع به في مسألة الموت، وحكى غيره فيها قولاً: أنه يستحق السهم ويصرف لوارثه، مخرجاً من نصه فيما إذا مات فرسه في أثناء القتال: أنه يستحق سهم الفارس؛ كما خرج من نصه في مسألة موته [إلى مسألة] موت الفرس قولٌ جزم به العراقيون: أنه لا يستحق سهم الفرس، والأظهر فيهما: تقرير النصين، وفرقوا بأن الفارس متبوع؛ فإذا مات فات الأصل، والفرس تابع؛ فإذا مات جاز أن يبقى سهمه للمتبوع.

وعن الشيخ أبي زيد: أنه إن حصلت حيازة المال بنصب قتال جديد، فلا استحقاق، لا في موت الفارس، ولا في موت الفرس، وعليه يحمل نصه في

ص: 502

موت الفارس، ولو أفضى ذلك القتال إلى الحيازة ثبت الاستحقاق في الصورتين، وعليه يحمل نصه في صورة الفرس.

وفي "الحاوي" وغيره من كتب المراوزة في مسألة المريض – وراء ما ذكره الشيخ – وجهان:

أحدهما: أنه يستحق السهم؛ عملاً [بظاهر قول الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر".

ولو دخل رجل يريد القتال، فمرض لوم يقاتل، أسهم له، بخلاف ما إذا مات، والفرق: أن الملك له متصور، والرأي والإرهاب به والتكثير حاصل، بخلاف الميت، وهذا أصح عند البغوي كما قاله الرافعي.

وحكى الإمام عن بعضهم القطع بعدم جريانه فيما إذا طرأ الجنون؛ نظراً إلى أن العلة في السهم للمريض: الانتفاع برأيه، وعن آخرين إجراء القول الآخر فيه، وقال: إن هذا المسلك أفقه.

وقد أجرى هذا القول البغوي والقاضي الحسين وغيرهما في الجريح الذي لا يرجى برؤه، وكذلك [ابن] الصباغ، وإن جزم في مسألة المريض بعدم السهم [له] كما ذكرناه، وفرق بأن ذلك مما لا يمكن الاحتراز منه في المحاربة ويكثر وجوده.

والثاني: أنه إن كان يرجى زوال المرض وعوده إلى الصحة: كالحمى الشديدة، ورمد العين، وانطلاق الجوف – يسهم له، وإن كان لا يرجى فلا يسهم له.

وهذا منه دليل على أن في حالة [رجاء البرء وجهين، وكذلك في حالة] عدم رجاء البرء، وقد جزم الإمام وغيره بأن الذي يرجى بره لا يمنع من استحقاق السهم، وأن الوجهين يختصان بالذي لا يرجى برؤه.

ثم ما المراد برجاء البرء؟ قال الرافعي: الأكثرون أطلقوا القول في رجاء البرء [و] عدمه، وحكى بعض [أصحاب الإمام] أن المعتبر رجاء البرء قبل انجلاء القتال. وهذا نم الرافعي دليل على أنه لم يطالع كلام الإمام في ذلك؛ فإنه

ص: 503

لو وقف عليه لم يسنده إلى بعض أصحابه بل كان يسنده إليه؛ لأنه صرح به [فقال: إن المرض الذي لا يرجى برؤه إلا بعد انفصال القتال، كالذي لا يرجى برؤه؛ فيجري فيه الوجهان، وإذا لم يستحق المريض السهم فيرضخ له]، صرح به الإمام والماوردي والحناطي.

قال: ويرضخ للعبد؛ لما روى أبو داود عن عمير مولى آبي اللحم قال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عيه وسلم فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفاً، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُن فَأُخْبِرَ أَنِّ] مَمْلُوكٌ؛ فَأَمَرَ لِي مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وأخرجه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح.

الخُرْثِي: متاع البيت وأثاثه، قال الجوهري: الخرثي: أثاث البيت وأسقاطه.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون السيد قد أذن له أو لا.

قال: والمرأة؛ لما روى أبو داود عن زيد بن هرمز، قال: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلَهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَهَلْ كَانَ يُضْرَبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟ فَأَنَا كَتَبُتُ كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى نَجْدَةَ: قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ. وأخرجه مسلم.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون ذات زوج و [قد] أذن لها زوجها، أو لا.

والخنثى المشكل في حكم المرأة، يرضخ له.

ص: 504

قال: والصبي؛ لأنه ليس من أهل فرض الجهاد، وقد حصل به تكثير السواد والنفع؛ فلم يسهم له؛ فأرضخ له كالمرأة، ولفظ الشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه البندنيجي دالٌّ على أنه – عليه السلام – أرضخ للصبي؛ حيث قال: شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيد ونساء وصبي، فرضخ لهم.

ولا فرق في ذلك بين أن يأذن له وليه أو لا.

وفي "الحاوي" إلحاق المجنون في الرضخ بالصبي، وادعى أنه عليه السلام أرضخ له. وبهذا يظهر لك أنه لا فرق في الصبي بين أن يكون فيه منفعة أو لا منفعة فيه كالمجنون.

وفي"النهاية" حكاية تردد عن الأصحاب في الصبي والمرأة إذا لم يكن فيهما منفعة: فمنهم من قال: لا يرضخ لهما، [وهو] ظاهر القياس، ومنه من قال: يرضخ لهما؛ لكونهما حضرا الوقعة، وعلى هذا ينبغي أن يتخرج الرضخ للمجنون.

[فرع: لو ادعى أنه حال القتال كان بالغاً، فإن حلف استحق، وإن نكل فلا، ومن أصحابنا من قال: يصدق ولا يحلف؛ لأنه إن كان بالغاً فلا حاجة إلى الحلف، وإن قدر صبياًّ فلا حكم لحلفه، قاله مجلي في كتاب الأقضية].

قال: والكافر إن حضر بإذن الإمام، أي: من غير استئجار ولا جعالة، كما نبهنا عليه من قبل.

[والدليل عليه]: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود [بني] قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم.

وعن بعض الشروح حكاية وجه: أنه لا شيء له، وعن أبي إسحاق: أنه إنما يستحق الرضخ إذا قاتل. وهو ظاهر النص في "المختصر"، كما حكاه القاضي أبو الطيب في كتاب "السير"، بخلاف مستحق الرضخ؛ لأن المدفوع إليه في معنى الأجرة فلابد من العمل.

والصحيح: الأول، وعلى هذا: فلو كان الكافر امرأة وقد حضرت بإذن الإمام، ففي استحقاقها الرضخ كالمسلمة وجهان في طريق المراوزة، وأصحهما: أنها تستحق.

ص: 505

أما إذا حضر الذمي بغير إذن الإمام، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه متهم بموالاة دينه، بل للإمام تعزيره إذا أدى اجتهاده إليهن وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه يستحق الرضخ، وهو ما أورده الإمام، ووجهه بأنهم في منصب الذب عنَّا، وهم من سكان ديارنا، ورد التردد إلى حالة منع الإمام لهم من الدخول، وفي "الحاوي" في كتاب السير: أنهم إن قاتلوا أرضخ لهم، وإلا [فلا].

وأما المخذل والمرجف، فقد ذكرنا حكمهما في الباب قبله.

ثم هذا الرضخ مستحق أو مستحب؟ فيه قولان عن رواية أبي الفرج الزاز، والمشهور: الأول؛ لأنه – عليه السلام – لم يترك الرضخ قط، ولنا فيه أسوة حسنة، صلى الله عليه وسلم.

فرع: لو انفرد مستحقو الرضخ بدخول دار الحرب والقتال وحيازة المال، نظر: فإن كانوا من العبيد أو الصبيان أو النسوان خمس، وفي الباقي ثلاثة أوجه في "الشامل" و"النهاية" و"الإبانة":

أحدها- عن أبي إسحاق، وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب -: أنه يقسم بينهم كما يقسم الرضخ، على ما يقتضيه الرأي من التسوية والتفضيل.

والثاني: يقسم كالغنيمة: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وهذا لم يحكه الإمام والفوراني، بل حكيا بدله: أن جميع المال يصرف إليهم من غير إخراج خمسه كالمسروق، [وإن كان الإمام قد ادعى في آخر "النهاية" أنه لا خلاف في تخميس ما انفرد به الصبيان].

والثالث: يرضخ لهم، ويجعل الباقي في بيت المال. قال الإمام: وهذا بعيد غير معقول.

وفي "التهذيب" تخصيص هذا الوجه بالصبيان والنسوان، ولم يذكر في العبيد إلا أنه لساداتهم، ولو كان معهم واحد من أهل الكمال رضخ لهم، والباقي بعد الخمس لذلك الواحد.

ولو كانوا من أهل الذمة وقد فعلوا ذلك: فإن كان بإذن الإمام فالحكم فيما يأخذونه على ما شرطه، وإن كان بغير إذنه ففي "الرافعي" وآخر "النهاية": أنه لا يخمس؛ لأن الخمس حق [يجب] على المسلمين كالزكاة، وحكى ابن الصباغ

ص: 506

عن أبي إسحاق احتمال وجهين:

أحدهما: يرضخ لهم، ويؤخذ الباقي لبيت المال.

والثاني: أنه يترك في أيديهم؛ كما لو غلب بعض المشركين بعضاً.

وحكى عن الداركي أنه حكى عن الشافعي – رضي الله عنه: أنه نص علىنه لا يخمس، ولا ينزع من أيديهم، قال: وهذا عين الوجه الثاني.

ولو كان الغانم مسلماً وذميًّا، فهل يخمس نصيب المسلم أو الجميع؟ حكى الإمام في آخر "النهاية" عن رواية الشيخ أبي علي وجهين، وقال الإمام:[إنا] إذا قلنا: إن الرشخ من سهم المصالح، فيخمس الجميع، ولا حق للذمي من الغنيمة.

آخر: لو زال نقصان أهل الرضخ، فعتق العبد، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل انقضاء الحرب – أسهم له، وإن كان بعد انقضائها فقد أطلق الماوردي: أنه ليس له إلا الرضخ.

قال الرافعي: وينبغي أن يجيء في الزوال بعد انقضاء الحرب، [وقبل حيازة المال الخلاف السابق في استحقاق من حضر بعد انقضاء الحرب] وقبل حيازة المال.

ولو ظهرت رجولة الخنثى، قال البندنيجي: يصرف له السهم من حين بان رجلاً.

قال: وفي الأجير، أي: للخدمة وسياسة الدواب ونحو ذلك مدة معينة – ثلاثة أقوال، أي: منصوصة في "المختصر":

أحدهما: يسهم له، ويستحق الأجرة؛ لأن استحقاق السهم بالحضور، واستحقاق الأجرة بالتمكين، وقد اجتمع الأمران.

قال الماوردي: وسواء في ذلك [ما إذا] قاتل أو لم يقاتل.

وقال البغوي والقاضي الحسين والإمام: إن محل استحقاق السهم إذا قاتل، فإن لم يقاتل فلا. وعلى ذلك جرى الغزالي وجماعة.

وأطلق المسعودي وآخرون استحقاقه من غير تفصيل بين أن يقاتل أو لا، وكذلك أطلق الشافعي –رضي الله عنه في "المختصر".

ص: 507

ثم استحقاق الأجرة على هذا إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً؛ بأن يقع القتال في فترة أعماله، وكان لا يحتاج إلى العمل فيها، فإن تعطل في مقدار الزمان [عمل]، استحق السهم، وسقط من الأجرة ما قابله من تعطيله، كذا قاله الإمام.

وفي "الحاوي": فيما إذا كان حضوره الوقعة يمنع من استيفاء منافع إجارته، [ينظر:] فإن دعاه المستأجر إلى خدمته، فتأبَّى ويغلبه على منافع نفسه رد ما قابل مدة حضورهن وإن لم يدعه إلى خدمته؛ ففي استحقاق الأجرة وجهان، وجه الاستحقاق: أن الأجرة في مقابلة التمكين من الخدمة، وهو موجود وإن لم يقترن به الاستيفاء، وهذا القول هو الأظهر في "الرافعي" والمختار للنووي، وإذا فرعنا عليه استحق السلب إذا قاتل.

والثاني: يرضخ له؛ لأن منفعته مستحقة لغيره؛ فأشبه العبد.

وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير" رواية خبر فيه، وعلى هذا يكون الحكم في الأجرة كما تقدم.

وفي "الحاوي": أن هذا [إذا] لم يقاتل، أما إذا قاتل، فإن قتل استحق السلب، وفي استحقاقه السهم-سواء قتل أو لا – وجهان:

أحدهما- وهو قول أكثر البصريين-: أنه يستحقه كالسلب.

والثاني – وهو ظاهر قول أبي إسحاق، والأصح عندي -: أنه لا يسهم له؛ لأن من لا يستحق السهم بالحضور إذا لم يقاتل، لم يستحقه إذا قاتل كأهل الرضخ.

وفي "الرافعي": أنه لا يستحق السهم، وفي السلب وجهان، وحكى عن ابن كج وجهاً: أنه لا يرضخ له؛ لأنه لم يسهم له وهو من أهله، قد حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي والعراقيين.

والثالث: يخبر؛ فإن اختار السهم فسخت الإجارة وسقطت الأجرة، وإن اختار الأجرةن سقط السهم، أي: ويرضخ له، كما صرح به القاضي الحسين؛ لأن

ص: 508

التسليم الواحد لا يوجب بدلين مختلفين، وأيهما اختار سقط الآخر؛ كما في القصاص والدية، وهذا ما اختاره في "المرشد".

ومحل الأقوال عند الماوردي: ما إذا كان الأجير يقدر على فسخ الإجارة، أما إذا لم يقدر فلا يأتي إلا القولان الأولان.

وقال صاحب "الإفصاح": إن محلها إذا استأجره الإمام لسقي الغزاة وحفظ دوابهم من سهم الصدقات، أما إذا استأجره واحد من الرعية فلا يكون فيها إلا القولان [الأولان]؛ لأن الإجارة لازمة في حق الأجير، ولا معنى لتوفير الأجرة على المستأجر ودفع السهم من نصيب الغانمين. وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وحكى الرافعي: أن صاحب "الإفصاح" قال: إن السهم يكون للمستأجر.

وفي "تعليق" القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال: محل الأقوال إذا كانت الإجارة على طريق الجعالة، بأن يقول: إن عملت لي شهراً فلك كذا، فأما إذا عقد عقد الإجارة على خدمة مدة؛ فلا يسهم له قولاً واحداً، وله الرضخ؛ لأنه يستحق الخدمة بعقد لازم. ثم قال: وعامة أصحابنا على التسوية بين الإجارتين.

وكذا في "الرافعي": أن الأكثرين أجروها فيما إذا كان المستأجر الإمام أو آحاد الرعية؛ كما أطلقه الشافعي، وقالوا: إن لزوم الإجارة لا يختلف في الصورتين.

وعلى هذا فوقت التخيير – كما ذكره ابن الصباغ – قبل القتال وبعده، فيقال له قبل القتال: إن أردت الجهاد فاطرح الأجرة، وإن أردت الأجرة فاطرح الجهاد، ويقال له بعده: إن كنت قصدت الأجرة فخذها ولا سهم لك، وإن كنت قصدت الجهاد فلا أجرة لكن والمراد: أن الغرض يحصل بكل واحد منهما، لا أنه مخير في الحالين.

والمراد على القول الثالث بسقوط الأجرة: أجرة وقت شهود الوقعة، دون ما قبل مدة خروجه من دار الإسلام أو مدة دخوله دار الحرب؛ لأن استحقاق

ص: 509

الغنيمة يتعلق به؛ فلا تجب معه الأجرة، وقبله لا يجتمع الحقان، وهذا ما جزم به ابن الصباغ، ورجحه الرافعي والقاضي الحسين في هذا الباب، ونسبه في كتاب "السير" إلى القفال، ووراءه وجهان حكاهما الإمام:

أحدهما: أنه تسقط الأجرة من حين دخوله دار الحرب إلى انقضاء القتال، وقال القاضي الحسين في كتاب "السير": إنه الذي قاله الأكثرون، وهو الأصح. وقال الإمام: إنه بعيد عن قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب.

والثاني: أنه تسقط الأجرة عنه من ابتداء الإجارة إلى حين انقضاء القتال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين في هذا الكتاب عن رواية القفال، معبراً عنه: بأنه يحتاج إلى طرح جميع الأجرة، وأن القفال اختاره.

أما إذا كانت الإجارة على عمل في الذمة فله السهم بلا خلاف، والعمل للمستأجر دين في ذمته.

ولو كانت الإجارة على الجهاد والأجير كافراً، فقد ذكرنا أنه لا يستحق [إلا] الأجرة، ولو كان مسلماً:

فإن صححنا فله الأجرة دون السهم والرضخ، قال الرافعي: وينبغي أن تجيء الأقوال الثلاثة فيه.

وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أن من أصحابنا من خرجها على الأقوال.

وإن لم نصححها فلا يستحق الأجرة، وفي استحقاق سهم الغنيمة وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": المنع، قاتل [أو لم يقاتل]؛ لأنه أعرض عنه بالإجارة ولم يحضر مجاهداً. والوجهان جاريان – كما قال الإمام- فيما إذا كان المستأجر للمسلم آحاد المسلمين ولم نصحح الإجارة، وهما – كما قال الشيخ أبو محمد والقاضي الحسين – مبنيان على القولين فيما إذا أحرم الأجير بالحج عن مستأجره، ثم صرف النية إلى نفسه:

فأحد القولين: أنه يستحق الأجرة في الحج؛ لان الحج حصل عن الغيرز

والثاني: لا؛ لأن كان عنده انه يحج عن نفسه.

ص: 510

والوجهان – هاهنا – على ضد ذلك.

وقال الإمام: لا شك أن هذا التردد مرتب على أن الإجارة للجهاد إذا صحت، هل يستحق المجاهد السهم والأجرة، أم لا؟ فإن قلنا: إنه يستحقهما؛ فهاهنا يستحق السهم، وإن قلنا: لا يستحق ثم السهم؛ فهاهنا، هل يستحقه؟ فيه الخلاف، والمذهب: أنه يستحقه.

قال: وفي تجار العسكر – [أي]: كالخبازين والبقالين والسراجين والصاغة، ونحو ذلك ممن جرت عادتهم باتباع العساكر – قولان:

أحدهما: يسهم لهم؛ لأنهم شهدوا الوقعة، وهم من أهل القتال؛ فاندرجوا في عموم الخبر، وهذا أصح في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب "السير"، وقيل: إنه كذلك في "حلية" القاضي الروياني.

والثاني: يرضخ لهم، أي: ولا يسهم؛ لان السهم إنما يستحقه المجاهدون، وهؤلاء ليس قصدهم الجهاد، وإنما قصدهم التجارة، وهذه طريقة أبي إسحاق وابن القطان، ولم يورد القاضي الروياني في "الحلية" سواها، ولا فرق فيها بين أن يكون ثَمَّ قتال أو لا؛ كما هو ظاهر [لفظ] "المختصر" حيث قال: ولو دخل تجار فقاتلوا أو لم يقاتلوا، لم أر بأساً أن يسهم لهم، وقيل: لا يسهم لهم.

وفي "النهاية" حكاية وجه عن رواية الشيخ أبي علي والعراقيين: أنه لا يرضخ لهم؛ بناء على أنه لا يسهم [لهم].

وقيل: إن قاتلوا أسهم لهم؛ لأن الجهاد – وهو القتال – قد تحقق منهم، وإن لم يقاتلوا، أي: وشهدوا الوقعة، فعلى قولين، ووجههما ما سبق، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، ولم يحك الماوردي في هذا الكتاب سواها، ووراء ذلك طريقان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وثالثة حكاها الماوردي في "السير":

أحدها: أنهم إن قاتلوا استحقوا السهم، وإلا فالرضخ، وهذه اختارها في "المرشد".

والثانية- حكاها ابن الصباغ أيضاً -: [أنهم] إن لم يقاتلوا لم يستحقوا، وإن

ص: 511

قاتلوا فعلى قولين، وهذه أصح في "الرافعي" و [في]"تعليق" القاضي الحسين في هذا الكتاب، وقال الرافعي: إن [هذا] ظاهر لفظ "المختصر".

والثالثة: إن قصد بخروجه الجهاد، وجعل التجارة تبعاً – استحق، قاتل أو لم يقاتل، وإن قصد التجارة وتخلف في المعسكر؛ فلا يستحق – قولاً واحداً، وإن قصد التجارة وحضر الوقعة فإن قاتل استحق، وإلا فقولان.

قال القاضي الحسين هنا وفي "السير": وأصل هذا الخلاف في التجار والإجراء: أن العزم على القتال هل يشترط في استحقاق السهم، أم لا؟ وفيه جوابان:[إن قلنا]: لا يعتبر، أسهم لهم، قاتلوا أو لم يقاتلوا، وإن قلنا: يعتبر، فلا يسهم لهم، [وهذا ما] حكاه الإمام عن الشيخ أبي بكر، يعني به: القفال.

قال: ومن أين يكون الرضخ؟ فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: من أصل الغنيمة كالسلب، ولأنه أجرة أعوان؛ فصار كأجرة حافظي الغنيمة وحامليها الذين [يُعْطَوْن] أجورهم من أصل الغنيمة.

والثاني: من أربعة أخماسها؛ لأنهم أضعف [من] الغانمين حكماً؛ فلم يجز أن يكونوا أقوى، ولأنه يستحق بالحضور فأشبه سهم الغزاة، وهذا أصح في "الرافعي" و"النهاية"، قبيل الكلام في استحقاق الأجير السهم.

والثالث: من سهم المصالح؛ لأنه مستحق ليس من أصحاب السهام ولا من أصحاب الخمس، فلم يكن الدفع إليه إلا على وجه المصلحة؛ فكان من سهم المصالح.

قال الماوردي: وهذا أضعفها، ذكره الشافعي – رضي الله عنه – في [بعض] منصوصاته، وهو الذي اختاره في "المرشد"، وهذه طريقة البندنيجي وأبي الطيب والفوراني، [وكذا] الماوردي في هذا الكتاب، وحكى في "السير": اختصاص القول الثالث بالكافر، ولم يحكه في المسلم.

وحكى ابن الصباغ الطريقين، وكذلك الرافعي، وصحح الأولى، وحكى طريقة

ص: 512

ثالثة جازمة بإجراء الأقوال في رضخ المسلم، والقطع في الذمي بأن رضخه من خمس الخمس.

واعلم أن أمير الجيش إذا أراد قسمة الرضخ، نظر إلى قدر عنائهم وأعمالهم: فيزيد المقاتل ومن قتاله أكثر على غيره، ويفضل المرأة التي تداوي الجرحى وتسقي العطشى، على التي تحفظ الرجال، بخلاف سهم الغنيمة؛ حيث يسوي فيه بين المقاتل وغيره، وفرق الأصحاب بينهما: بأن الغنيمة منصوص عليها، والرضخ مجتهد فيه؛ فجاز أنا يختلف كدية الحر؛ لما كانت منصوصاً عليها، لم تختلف، وقيمة العبد مجتهد فيها، فاختلفت.

ولا يبلغ بالرضخ سهم راجل إن كان مستحقه راجلاً، وإن كان فارساً فوجهان:

أحدهما – وهو قول ابن أبي هريرة -: أن الحكم كذلك.

والثاني- وهو الذي قال الماوردي في كتاب "السير": إنه عندي أظهر، [وبه أجاب الإمام-:] أنه يجوز أن يبلغ به سهم راجل، ولا يبلغ به سهم فارس؛ لأن الرضخ مشترك بينه وبين فرسه، وإن [كان] ملكها فهو [في] رضخ نفسه مقصر عن سهم الراجل.

وقال الرافعي: إن الوجهين ينبنيان على أن تعزير الحر [هل يجوز أن] يبلغ به حد العبد، أم لا؟ وقال: إن الظاهر الأول، [وهو] المفهوم من كلام الأصحاب، وبه أجاب في "الحاوي".

قال: وإن خرجت سريتان، أي: من الجيش، الذي خرج إلى العدو إلى جهة احدة، أي: في طريقين أو طريق واحدة، فغنمت إحداهما شيئاً – [اشتركوا فيه]، أي: السريتان والجيش؛ لأنه جيش واحد، وقد يشهد له ما روي أنه – عليه السلام – لما فتح هوازن، بعث سرية من الجيش قبل

ص: 513

أوطاس، فغنمت، فأشرك – عليه الصلاة والسلام – بينها وبين الجيش. كذا قاله القاضي الحسين، وكذا لو غنم الجيش شيئاً شاركه السريتان؛ لأنه – عليه السلام – كان في غزوة أوطاس، فبعث سرية إلى حنين، ثم أشركهم فيما أصاب بـ"أوطاس".

و [قد] روى أبو داود عن ابن عمر قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَيْشِ قِبَلَ نَجْدٍ وَابْتَعَثَ سَرَيَّةً مِنَ الْجَيْشِ، فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، وَنَفَّلَ أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيراً بَعِيراً، وَكَانَ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَة عَشَرَ [ثَلَاثَةَ عَشَرَ] ".

أما إذا لم يكن الجيش قد خرج إلى العدو، لم يشارك واحدة من السريتين، وإن كان بقربهما بحيث يلحقهما غوثه؛ لأن من فيه غير مجاهد ولا ردء لهم، وقد كانت السرايا تخرج من المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يشركهم المقيمون بها، وأما إحدى السريتين مع الأخرى: فإن كان الأمير عليهما واحداً، أو كانت إحداهما قريبة من الأخرى بحيث تكون عوناً لها اشتركا، وإن لم يكن كذلك فلا شركة.

وفي "الشامل" إشارة إلى خلاف في هذه الحالة؛ فإنه قال: إذا بعث سريتين وهو مقيم، فغنمت أحداهما؛ لم تشركها الأخرى على الصحيح من المذهب.

وفي "الحاوي": [الجزم] بالاشتراك، وقال فيما إذا بعثهما إلى جهتين مختلفتين: إنه لا مشاركة.

نعم، لو انضم من كل سرية طائفة إلى الأخرى، وقصدوا جهة واحدة- اشتركوا فيما أخذوا منها، وهل تشرك بقية كل سرية [الطائفة التي خرجت منها فيما حصل لها؟ فيه وجهان: إن قلنا بالمشاركة شاركتهم الطائفة] – أيضاً – فيما غنموه في حال انفرادهم، وإلا فلا.

ص: 514

[قال:] وإن بعث أمير الجيش – أي: بعد خروجه كما ذكرنا – سريتين إلى موضعين، فغنمت أحداهما [شيئاً]؛ اشتركوا فيه؛ لأنه جيش واحد، وهذا ما اختاره في "المرشد".

وقال القاضي الحسين: إنه مذهب الشافعي – رضي الله عنه – ولم يحك سواه، وحكى الإمام عن المراوزة القطع به.

وقيل: ما يغنمه الجيش مشترك بينه وبين السريتين؛ لاعتضاده بهما، وما تغنمه كل واحدة من السريتين يكون بين السرية الغانمة وبين الجيش، لاعتضادها به، ولا تشركها فيه السرية الأخرى؛ لأن أحداهما ليست بأصل للأخرى، بخلاف الجيش.

وذكر القاضي ابن كج – وكذا الإمام – أن شرط الشركة – فيما ذكرناه – أن يكونوا بالقرب مرتصدين للنصرة، وحد القرب: أن يبلغهم الغوث والمدد منهم إن احتاجوا.

قال الرافعي: ولم يتعرض أكثرهم لذلك، واكتفوا باجتماعهم في دار الحرب، وهذا حكاه الغزالي عن القفال واستبعده، وهو في "النهاية" معزي إلى رواية بعض المصنفين عنه.

وقال الإمام – أيضاً – فيما إذا كان المقصد قطراً واحداً بنواحيه: إنه لا يعتبر القرب، وهو مسلك المحققين. واستدل له بالخبر الذي ذكرناه في غنيمة أوطاس؛ فإن بينهما وبين حنين ليالي.

فعلى الأول: لو كانت أحداهما قريبة والأخرى بعيدة، اختصت القريبة بالمشاركة.

تنبيه: السرية، قال ابن السكيت: هي ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة.

وقال الخليل: هي نحو أربعمائة، ويعضده ما روى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ

ص: 515

أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ".

فرع: الجاسوس إذا بعثه الإمام لينظر عدد المشركين وينقل أخبارهم، فغنم الجيش قبل رجوعه إليهم، ثم رجع – ففيه وجهان في "الشامل" وغيره:

أحدهما: لا يشاركهم؛ [لأنه لم يحضر الوقعة.

والثاني: يشاركهم، وإليه ذهب الداركي؛ لأنه كان في مصلحتهم، وخاطر بنفسه بما هو أكثر من الثبات في الصف؛ فوجب أن يشاركهم]، وهذا ما اختاره في "المرشد".

قال: وأما الفيء فهو كل مال أخذ من الكفار من غير قتال: كالمال الذي تركوه فزعاً من المسلمين، والجزية، والخراج، والأموال التي يموت عنها [صاحبها و] لا وارث له من أهل [الذمة]، أي: وغير ذلك مما في معناه كمال المرتد إذا قتل أو مات كما تقدم في بابه، والعشر المأخوذ من تجارتهم، وقد تقدم بيان [ممَّ اشتُقَّ] ذلك.

قال: وفيها قولان:

أحدهما: أنها تخمس؛ فيصرف خمسها إلى أهل الخمس، أي: الذين تقدم ذكرهم على النعت السابق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أربعة أخماس الفيء [خاصة] يصرفها في نفقته ومؤنة عياله، وخمسه [يقسمه على ما] يقسم عليه الخمس،

ص: 516

[وهو الأصناف الخمسة السابق ذكرها، وفيها خمس له صلى الله عليه وسلم؛ فوجب أن يخمس] بعد وفاته أيضاً كما قلنا في الغنيمة. كذا قاله القاضي الحسين، ويشهد له قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية، ووجه الدليل منها: أن الله – تعالى- أضاف "الفيء" إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم استثنى من استثناه في سهم الغانمين، فوجب أن يكون إطلاق ما جعل لهم من الفيء محمولاً على المقدار المجعول لهم من الغنيمة، وهو الخمس، ويكون الباقي لمن أضاف المال إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما كان الباقي من الغنيمة لمن أضافها إليهم وهم الغانمون، وهذا هو الجديد.

والثاني: لا يخمس إلا ما هربوا عنه فزعا من المسلمين؛ أي: وما في معناه، وهو المبذول للكف عن قتالهم دون ما عدا ذلك؛ لأن الآية المذكورة – كما قال القاضي الحسين – نزلت في أموال بني النضير، وكان [النبي] صلى الله عليه وسلم قد صالحهم على أن يتركوا الدور والأراضي، ويحملوا كل صفراء وبيضاء، وما تحمله الركائب، فاختص الحكم بها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والعراقيون عن القديم، وعلى هذا يكون جميع ما سوى المذكور كالأخماس الأربعة من المذكور، كما قاله في "التهذيب".

وفي "الحاوي": أنه يكون مصروفاً في المصالح.

وفي "النهاية": أن ظاهر كلام صاحب "التقريب" يقتضي أن يكون مصروفاً إلى ما يصرف إليه خمس الفيء الحاصل بالإرعاب.

وقيل: المحكي في القديم محض إخراج مال المرتد عن أن يكون فيئاً دون إخراج غيره من الأموال المذكورة؛ لأن المرتد يستصحب فيه [حكم] دار الإسلام؛ ولذلك يؤمر بقضاء الصلوات، ومال المسلم إذا مات ولا وارث له لا يخمس.

وفي "النهاية": أنا إذا فرعنا على القديم، ففي الطرق تردد في الجزية؛ من جهة أن الكفار وإن كانوا يبذلونها على طوع، فسبب بذلهم لها استيلاء يد الإسلام عليهم، واستعلاء كلمة الله تعالى، فكانت حرية أن تلحق بالفيء الحاصل بالترعيب.

وفي "الرافعي": أن منهم من أطلق في مال الفيء قولين: الجديد: أنه

ص: 517

بخمس، والقديم: المنع؛ لأنه لم يقاتل عليه، ونسب هذه الطريقة إلى رواية صاحب "التهذيب"، والجديد هو الصحيح؛ لاستواء جميع الأموال المذكورة في الوصول إلينا بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، وعدم اختصاص بعض المسلمين بها.

وقد روى البراء بن عازب، قَالَ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةٍ ابنه أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ.

وما ذكره القاضي [الحسين][من سبب] النزول فيه نظر؛ لأن الماوردي ادعى أنه – عليه السلام – كان له في صدر الإسلام جميع الفيء؛ كما كان له جميع الغنيمة، واستدل له بما روي أنه – عليه السلام – ملك أموال بني النضير وكانت مما أفاء الله عليه، ولم يشاركه فيها أحد، ونسب ذلك إلى قول الشافعي – رضي الله عنه – أيضاً، وأنها صارت بعد وفاته من صدقاته التي تصدق بها مع نصف فدك، وثلث وادي القرى والحصون الثلاثة من خيبر: الكتيبة، والوطيح، والسلالم، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن أنزل الله في الفيء:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7]، وفي الغنيمة:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41].

قال: وفي أربعة أخماسها قولان:

أحدهما: أنها لأجناد الإسلام، أي: المقاتلة الخاصة الذين عينهم الإمام لجهاد العدو والذب عن البيضة والمنع من الحريم، وأثبت أسماءهم في الديوان، بعد استجماع البلوغ والعقل والإسلام والحرية والصحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستحقها في حياته لرعب العدو منه، قال – عليه الصلاة والسالم -:"نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"، ورعب العدو بعده من الجيش للمقاتلة؛ فكانت لهم.

ص: 518

ولا يشرك من ذكر أنهم أهل السهم من الزكاة، وهم الذين يجاهدون إذا نشطوا، وهم أرباب المعايش والصنائع، والأعراب الذين يتطوعون بالجهاد إن شاءوا، ويقصرون فيه إن أحبوا، ولم يثبتوا في الديوان بسهم ولا رضخٍ كما لا يشركهم أهل الفيء في سهم الزكاة، وقد أشار الشيخ إلى الفريقين بقوله في قسم الصدقات: والسابع: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وقد كان أهل الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعزل عن أهل الصدقات، كما حكاه القاضي الحسين عن قول ابن عباس.

وقال الماوردي: إن المطوعة كانوا يسمون أعراباً، ويسمى المقاتلة مهاجرين، وعلى ذلك يدل ما سنذكره من الحديث في أول عقد الذمة.

وهذا القول هو الأصح في "الرافعي" و"النهاية" وعند النواوي.

والثاني: أنها للمصالح؛ لأنها كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فصرفت بعده إلى المصالح كخمس الخمس من الفيء والغنيمة، وفي "الحاوي": أنه – عليه السلام – كان يصرفها فيها، وكذلك حكاه أبو العباس الروياني، وقال: إن ذلك هل كان واجباً عليه أو تفضلاً منه؟ فيه طريقان. وقد حكينا من قبل: أنها كانت له، وكان ينفق منها على نفسه وعياله، ويلزم من هذا خلاف في أنها كانت له أم لا؟ وكذا في أن نفقته من أي شيء كانت؟ فعلى قول من جعل الأخماس الأربعة ليست له، تنحصر في خمس خمس الفيء والغنيمة، وقد حكاه الروياني [أيضاً].

قال: فيعطون، أي: الأجناد، من ذلك قدر كفايتهم؛ لان إعانتهم من أهم المصالحن والباقي للمصالح، أي: الباقية بعد ذلك، وهذا ما اختاره في "المرشد"، فعلى هذا: ينبغي للإمام أن يثبت المقاتلة في جميع الثغور والبلدان في ديوانه، أي: دفتره؛ كما قاله في "الشامل" و"المرشد"، وما يحتاجون إليه في نفقاتهمومؤناتهم، وذلك يختلف بكثرة العيال وقلتهم، فيتعرفهم، ويقدر لكل منهم ما يكفيه لزوجاته، وإن كن أربعاً على الأصح.

وفي "النهاية" حكاية وجه: أنه لايزيد على كفاية زوجة واحدة.

وكذا نقدر له كفاية عبيد الخدمة الذين يحتاج إليهم في أمر الغزو، وكذا

ص: 519

من يعزو منهم معه، على الصحيح.

وفي "النهاية": أن بعضهم قال: لا يعطي مؤنة عبيده الذين أعدهم للقتال.

وكذا نقدر له كفاية من تلزمه نفقتهم من الأقارب، وعبداً واحداً للخدمة في حال عدم الغزو، كما قلنا في خادم الزوجة، ولا ندخل في تقديره زائداً على عبد واحد ولا نفقة العبيد الزَّمْنَى.

وعن رواية الحناطي وأبي الفرج الزاز حكاية وجه: أنه لا يقدر للأولاد شيئاً؛ لأنهم لا يقاتلون، وهو غريب.

ويلاحظ مع ذلك كونه من الفرسان أو الرجالة، وقربه من المغزى وبعده عنه؛ لأن البعد يوجب كرة الكلفة والقرب يقللها، وكذا يلاحظ خصب البلد الذي هو فيه وجدبه؛ فإن المؤن في بلاد الخصب أقل منها في بلاد الجدب، وغلاء السعر ورخصه.

وينظر بعد ذلك فيمن يتجدد له من الأولاد أو أكثر ويزيده ما يليق به، وإلى ذلك أشار الشافعي – رضي الله عنه – بقوله: ويعطي المنفوس شيئاً، وكلما كبر زاده.

[وكذا] ينظر فيمن نقص من عياله بطلاق أو موت أو بيع، وينقص مما قرره [له] بقدر كفاية ذلك.

ويلاحظ في الكفاية – أيضاً – ثمن السلاح والمركوب، إن لم يكن هناك سلاح ودواب معدة لها موقوفة أو مشتراة من سهم المصالح.

وقد حكى الإمام عن الأصحاب: إثبات قولين في أن ما يأخذه أحد المرتزقة للذرية الذكور هل يحكم له فيه بالملك أو للذرية؟ فإن قلنا بالثاني، فهل تملك بنات المرتزقة ما يأخذه لكفايتهن، أو يكون ملكاً للمرتزقة؟ فيه وجهان. ووجه الفرق: أن الغلمان يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم، فإن حكمنا بالملك للبنات، ففي الملك للزوجات خلاف، والذي مال إليه الأكثرون: أنهن لا يملكن، وحكى الفوراني: أن القولين في الجميع من غير ترتيب.

وفي "الرافعي": أن الإمام هل يدفع إلى الواحد من المرتزقة ما يتعهد به

ص: 520

الأولاد، أو يتولى الإمام تعهدهم بنفسه، أو بمن ينصبه لذلك؟ فيه قولان؛ أشبههما: أولهما.

وفي مسألة الكتاب قول ثالث حكاه المراوزة أن الأخماس الأربعة تقسم على الجهات كما يقسم الخمس؛ فعلى هذا: يقسم جملة الفيء على خمسة أقسام، قالوا: وعليه يدل ظاهر قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7]، ونسب الإمام هذا القول إلى القديم، ولاتفريع عليه.

تنبيه: في قول الشيخ تفريعاً على القول الثاني: فيعطون من ذلك قدر كفايتهم، والباقي للمصالح - ما يفهمك أنا على القول الأول [لا نفعل] كذلك، بل نقسمه بينهم، والأمر كما أفهمه كلامه على الصحيح، وبه جزم الماوردي في أول الكلام، وحكى في أواخر الباب وجهين أوردهما القاضي الحسين وابن الصباغ أيضاً:

أحدهما- وهو الذي صححه الرافعي -: أنه يصرف من الفاضل عن الكفاية ما يرى صرفه في السلاح والكراع وإصلاح ما تشعث من الحصون والثغور، ثم يرد الفاضل بعد ذلك عليهم.

والثاني: أن الفاضل عن الكفاية يصرف عليهم، وبهذا جزم في "الوسيط"؛ حيث قال معبراً عن القول الأول: الأظهر أن الأربعة أخماس للمرتزقة كأربعة أخماس الغنيمة، لكن هذا اللفظ قد يفهم: أنا نسوي بين الرجالة وكذا بين الفرسان، ونفاضل بين الفرسان والرجالة كما نفعل في أربعة أخماس الغنيمة، وليس كذلك؛ بل المراد التشبيه في نفس القسمة لا في صفتها.

وقد اختلف النقلة في كيفية القسمة:

فالذي أورده الإمام: أنَّا نوزع الفاضل بعد كفاية كل منهم على عدد رءوسهم بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية وكأنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم.

والذي أورده ابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين - في باب تفريق أربعة أخماس الفيء -: أن الفاضل يقسم على قدر الكفايات، فإذا كانت كفاية واحد ألفاً مثلاً، وكفاية ثان ألفين، وثالث ثلاثة آلاف، ورابع أربعة آلاف - فمجموع

ص: 521

كفاياتهم عشرة آلاف، فيفض [جميع] أربعة أخماس الفيء على عشرة أجزاء، ويعطي الأول: عشرها، والثاني: خمسها، والثالث: ثلاثة أعشارها، والرابع: خمسيها، وهكذا يفعل إذا زادوا.

ووراء ما ذكرناه فرعان:

أحدهما: لو عجز مال الفيء عن كفاية الجند، قال الماوردي: فعلى القول الأول: لا شيء لهم غيره في الحال [والمآل]، وعلى الثاني: يبقى ديناً لهم على بيت المال، قال القاضي الحسين: فإن كان فيه شيء من مال المواريث والوصايا التي فاضت على مصرفها، صرفها إليهم.

الثاني: لو فضل بعد الصرف للأجناد قدر كفاياتهم، والصرف في جهات المصالح في ذلك الوقت قدر حاجتها بحيث لم يبق مصرف فضل، وقلنا: إن الأخماس الأربعة للمصالح، فماذا يصنع به؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ والقاضي الحسين وكذا الماوردي وغيره:

أحدهما: يستبقي في بيت المال؛ لأنه قد تنفق مصلحة فيكون معداً لها.

والثاني: أن يرده إلى الجيش بقسطه على أرزاقهم.

وعلى هذا قال الماوردي: ففي كيفية الرد إليهم وجهان:

أحدهما: أنه معونة لهم لا تحسب عليهم.

والثاني: يرد إليهم سلفاً معجلا، يحتسب به عليهم من رزق العام الثاني.

وحكى الإمام: أن ظاهر نص الشافعي –رضي الله عنه – والمشهور في كتابه: أن الفاضل عن قدر الكفاية ووجوه المصالح يخرج ولا يدخر منه شيء ما وجد مصرفاً [له، فيبدأ ببناء] رابطات ومساجد على حسب الرائي فيها؛ تأسيا بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنة [قط]، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه.

وعلى هذا إن ألمت ملمة – والعياذ بالله تعالى – [وتعين] القيام بها، فإنه يخاطب [بها أهل] الثروة من المسلمين، وقال: إن الإمام إذا رأى أن يصرف من الفاضل عن كفاية المرتزقة شيئاً للمطوعة بالقتال، فلا معترض عليه.

ص: 522

واعلم أنه لا فرق في إعطاء الأجناد قدر الكفاية بين أن يكون بهم حاجة، أو لا، كما إذا كانوا موسرين من أهل الثروة؛ كما حكاه الإمام على القولين معاً، والله أعلم.

قال: ويبدأ فيه، أي: في العطاء للمرتزقة، بالمهاجرين؛ لأن الله – تعالى- شهد لهم بالصدق، وبنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم بطلب فضله ورضوانه، وقدمهم في الذكر على غيرهم في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ

} [الحشر: 8]، وقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ} [التوبة:100]، فكانوا جديرين بالتقديم فيما نحن فيه.

والمستحق لهذا الاسم – كما حكاه الشيخ زكي الدين في "حواشيه على مختصر السنن" له-: أهل مكة، الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم [قبل الفتح؛ لوجوب البقاء عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم]، والتحول معه حيث تحول، وادعى بعضهم الإجماع عليه، ولوجوب أصل الهجرة عليهم [والاختلاف في وجوبها على غيرهم، والمراد بالمقدمين هنا: أولادهم كما بينه الأصحاب في] كتاب الصلاة.

قال: ويقدم القرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه – عليه الصلاة والسلام – سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ؛ كما نطق به الخبر الصحيح، والقرب من الشريف تشريف؛ فاستحق به التقديم، وأيضاً ما سنذكره من فعل عمر، رضي الله عنه.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي – وهو الذي جدد بناء الكعبة بعد إبراهيم عليه [الصلاة و] السلام – ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

واختلف النسابون من علماء الشريعة فيمن هو قريش من أجداده صلى الله عليه وسلم على أقوال:

أصحها – وهو قول الشعبي -: أنه النضر بن كنانة.

قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول أكثر النسابين، وبه قال الشافعي وأصحابه.

ص: 523

فعلى هذا: من كان من ولد النضر فهو من قريش، ومن جاوز النضر بنسبه فليس من قريش.

والثاني: أنه فهر بن مالك بن النضر؛ لأن اسمه قريش؛ وعلى هذا من يفرق نسبه عن فهر فهو من قريش، ومن جاوز فهراً بنسبه فليس من قريش.

وهذان القولان لم يورد في "المهذب" و"الحاوي" سواهما.

والثالث: أنه إلياس بن مضر.

وذكر القاضي الحسين في "تعليقه" – في باب: قتال البغاة – أن اسم "قريش" يقع على من جمعهم وقرشهم قصي بن كلاب بن مرة بمكة، وسموا قريشاً؛ لأن قصيًّا قرشهم بمكة، أي: جمعهم.

فإذا عرفت ذلك، فهمت أن قريشاً يقدمون على غيرهم، وأن بني هاشم مقدمون على سائر قبائل قريش؛ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم أولاد جده؛ فكانوا أقرب من غيرهم، ولا يشاركهم في القرب أولاد [بني] عبد شمس ونوفل، وإن كان جد الجميع عبد مناف؛ لأنهم أولاد أخي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بنو هاشم أقرب منهم بجد، وقضية هذا: ألا يساوي بني هاشم – أيضاً – بنو عبد المطلب؛ لأنهم أولاد أخي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بينهم في سهم ذوي القربى، وعلله بما ذكرناه، ثَمَّ. واتبعه عمر –رضي الله عنه – فيما نحن فيه، ولم يخالفه فيه أحد؛ كما أنه لم يخالفه أحد في تقديم القبيلتين على غيرهما.

فلذلك قال الشيخ – رضي الله عنه: ويسوي بين بني هاشم وبني المطلب أي: يجعلهم كالقبيلة الواحدة

ثم يقدم بعد بني هاشم وبني المطلب بنو عبد شمس؛ لأن عبد شمس أخو هاشم والمطلب لأمهما أيضاً، كما نقله الإمام وغيره، فكان أقرب من نوفل؛ لأنه أخوهم لأبيهم خاصة، وكذلك فعل عمر، رضي الله عنه.

ومن هذا يؤخذ دليل ما جزم به الماوردي فيما إذا أوصى لأقرب الناس إليه،

ص: 524

وله أخ شقيق، وأخ لأب: أنها للشقيق.

ثم يقدَّم بعد بني عبد شمس بنو نوفل، [وبهم يكمل] أولاد عبد مناف، [ثم يقدم بعدهم بنو قصي، وهم بنو عبد العزي وبنو عبد الدار؛ لأن بعد العزي وعبد الار أخوا عبد مناف]، وهم أولاد كلاب؛ لان كلاباً ليس له عقب من غيرهمز ثم يقدم بنو مرة - وهم بنو تيم - وبنو مخزوم؛ لأن تيماً ومخزوماً أخوا كلاب، وأبو بكر رضي الله عنه من بني تيم. ثم يقدم بنو كعب - وهم بنو عدي وبنو سهم وبنو جمح - لأنهم إخوة مرة، وعمر رضي الله عنه من بني عدي، وهكذا يقدم بنو جد بعد جد؛ اقتداء بعمر رضي الله عنه فإنه كذا فعل لما رتبهم في ديوانه.

قال: فإن استوى بطنان في القرب [إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: كبني عبد العزى وبني عبد الدار، وكبني تيم وبني مخزوم.

[قال:] قدم من فيه أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: فيقدم بنو عبد العزى على بني عبد الدار، لأن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ومنهم - أيضاً - الزبير ابن العوام؛ [لأن العوام] أخو خديجة، ويقدم بنو تيم على بني مخزوم؛ لأن عائشة منهم، وهكذا فعل عمر رضي الله عنه وهكذا يقدم بنو

ص: 525

عدي على بني سهم وبني جمح؛ لأن حفصة منهم، وعمر – رضي الله عنه – لما قسم سامح بحقه، فأخرهم وقدم بني جمح، وسوى بين بني سهم وبني عدي، فلما ولي المهدي أمير المؤمنين قدم بني عدي على بني جمح وبني سهم؛ لما ذكرناه، ولسابقة عمر، رضي الله عنه.

قال: ثم بالأنصار، أي: من الأوس والخزرج؛ لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100]، ولأن لهم من الأثر في الإسلام ما ليس لغيرهم؛ فإنهم آووا ونصروا، وآثروا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أنفسهم بالأنفس والأموال، وقد روي أنه – عليه السلام – قال لهم حين وجدوا في أنفسهم –لما أعطي غيرهم من مال هوازن ولم يعطهم -:"ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، أما والله لو شئتم لقلتم – ولصدقتم -: "أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآمناك، وعائلاً فآسيناك، يا معشر الأنصار، وجدتم في أنفسكم للعاعة من الدنيا، تألفت بها قوماً أسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم، أفلا ترضون عنا يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَولَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ؛ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَو سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً [وَالأَنْصَارُ شِعْباً] لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ! " فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله قسماً وحظَّا.

واللعاعة: خسيس الثمر، وقيل: أوائل البقل عند طلوعه.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ دال على أن البدأة بالمهاجرين، ثم يقدم من

ص: 526

قبائلهم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي ذكرناه، ويسوي بين بني هاشم وبني المطلب من المهاجرين، وإذا استووا في القرب مع الهجرة، قدم من فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبدأ بعد المهاجرين بالأنصار، وهذا إذا تأملته اقتضى أمرين:

أحدهما: أن من هاجر ونسبه بعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلمن يقدم على من لم يهاجرن ونسبه قريب منه- عليه السلام بل إن من هاجر مقدم على الأنصاري، والأنصاري مقدم على من نسبه أقرب من نسب الأنصاري على رسول الله صلى الله ليه وسلم وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهم، ودلَّ عليه ظاهر لفظ الشافعي رضي الله عنه: أن الذين يبدأ بهم قريش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً [ولا تقدموها"].

ثم يقدم من قريش الأقرب فالأقرب -كما تقدم - إلى أن ينتهوا، فيقدم بعدهم الأنصار. واعتمدوا في ذلك فعل عمر- رضي الله عنه حين رتب الجيش على هذا النحو، وجعل العباس في أولهم، كما نقله الإمام، [مع] أنه لم يكن من المهاجرين، [بل] من المأسورين يوم بدر، ولم يخالفه أحد، وحينئذ فيتعين حمل كلام الشيخ على أحد أمرين:

إما أن يكون قد أطلق لفظ "المهاجرين" وأراد بهم قريشاً؛ لأن أكثر المهاجرين منهم، مع إرادة التنبيه على فضلهم بالهجرة منضمًّا إلى فضلهم بالنسب، كما عدل عن لفظ "الأوس والخزرج" إلى لفظ "الأنصار"، وليتبع في ذلك لفظ الكتاب العزيز.

وإما أن يكون في كلامه تقديم وتأخير، وهو شائع في كلام العرب، بل في الفصيح منه؛ قال الله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1][والتقدير: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجاً].

وقال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129]،

ص: 527

والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً، وغير ذلك من الآيات، وإذا كان كذلك، كان تقدير كلامه: ويقدم الأقرب فالأقرب- أي: من القبائل – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدأ منهم بالمهاجرين، أي: عند الاستواء في القرب، فإن استووا فيها قدم من فيه أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بالأنصار. فتكون الهجرة رجحة عند الاستواء في القرب، فإن عدمت الهجرة كان الترجيح بالنصرة.

وعلى التقديم بالهجرة ينطبق قول الشافعي – رضي الله عنه الذي حكاه أبو الطيب: ومن فرض له الوالي من قبائل العرب، رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب، فإذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة. وكذا قول الماوردي: أما ترتيب القبيلة الواحدة من قريش أو غيرهم، فينبغي أن [يقدم] منهم ذو السابقة، [ثم ذو السن]، ثم ذو الشجاعة.

وعلى التقديم بالنصرة ينطبق ما حكاه الرافعي عن أبي الفرج السرخسي: أنه حمل ظاهر لفظ الشافعي –رضي الله عنه – في تقديم الأنصار على غيرهم من قبائل العرب بعد قريش، على العرب الذين هم أبعد من الأنصار، فأما سائر العرب الذين هم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار فهم مقدمون على الأنصار.

وبهذا يبقى قول الشيخ: ثم بسائر الناس، على عمومه، كما سنذكره.

لكن في "المهذب" و"التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين و"الرافعي": أنا نقدم عند الاستواء في القرب بالسن؛ كما روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي بني هاشم وبني المطلب، فإذا كان السن في الهاشمي قدمه على المطلبي، وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي. وكذلك اعتمد عمر – رضي الله عنه – فإن استووا في السن قدم أقدمهما هجرة وأفضلهما سابقة، وأنه إذا فرغت قريش قدمت الأنصار.

[وعلى] كل حال، فما ذكرته أقرب من أن يكون ما قاله مخالفاً فيه كافة الأصحاب، على أن ما دل عليه ظاهر لفظ الشيخ من تقديم المهاجرين على

ص: 528

من هو أقرب منهم قد يقال: إنه مقتضى كلام الأصحاب، وإن خالفوه؛ لأنهم جزموا بتقديم الأنصار على من هو أقرب منهم، وإذا كان كذلك فالمهاجري مقدم على النصاري بالاتفاق؛ فاقتضى وصفه الذي يقدم به على الأنصاري، أن يتقدم به على من يقدم عليه الأنصاري، وجوابه: أن الأنصار ما قدموا على قريب، بل على قريب ليس [من] قريش، ولا يبعد أن يقولوا: إن المهاجرين من غير قريش مقدمون على من هو أقرب منهم من [غير] قريش، بل يجب القطع به؛ لما ذكرناه، [والله أعلم].

قال: ثم بسائر الناس.

هذا الكلام يجوز أن يكون المراد به سائر الناس من العجم؛ بناء على التقدير الذي سبق؛ لأنه إذا قدم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون العجم بعد جميع العرب؛ لأن العرب أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [من غيرهم]، وعند الانتهاء إلى العجم لا يمكن التقديم بالقرب؛ لأنه لا تنضبط معرفته، بل من بعد عدنان من العرب لا يمكن ضبط قبائلهم؛ للاختلاف في المقدم منها والمؤخر، وإنما قدمناهم على العجم للعلم بأن العرب أقربن وإذا كانوا كذلك كانوا كالقبيلة الواحدة؛ فيقع التقديم فيهم بالسن والفضائل والسابقة إن كانت لهم، كما صرح به الماوردي، وعليه ينطبق قوله في "المهذب" والبغوي: ولا يقدم بعض العجم على بعض بالنسب.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ثم بسائر الناس، أنه يبدأ بعد الأنصار بسائر الناس؛ بناء على أن مراده بالمهاجرين: قريش، وحينئذ فلا يمكن حمل الكلام على ظاهره؛ لأن الذين يبدأ بهم بعد الأنصار بالاتفاق بقية العرب ثم بالعجم، حتى قال الماوردي: إنه بعد الأنصار يعدل إلى مضر، ثم إلى ربيعة، ثم إلى جميع ولد عدنان، ثم إلى قحطان. فرتبهم على السابقة، [والله أعلم].

ص: 529

ثم ما ذكرناه من التقديم والترتيب، حكى الرافعي عن الأئمة: أنه مستحب لا مستحق، وعليه ينطبق قوله في "المهذب": ويستحب [أن يبدأ] بقريش.

ولا يظهر للشرف الذي ذكرناه أثر في التفضيل في المقدار، بل يستوي ذو النسب والعلم والورع والسابقة في الإسلام له أو لآبائه، وغيرهم فيه، أعني في قدر الحاجة إذا قلنا: إنهم يعطون من أربعة أخماس الفيء للمصلحة، وكذلك إذا قلنا: إن أربعة أخماس الفيء لهم وفضل شيء عن قدر كفايتهم. هكذا جزم به الماوردي وغيره، وعليه نص الشافعي – رضي الله عنه – اتباعاً لقضاء أبي بكر وعلي – رضي الله عنهما ولأنهم يعطون بسبب الجهاد وهم مستوون فيه؛ فلم يفضل بعضهم على بعض كما في الغنيمة.

وأشار القاضي الحسين إلى خلاف في ذلك [بقوله]: ولا يزاد بسبب مما ذكرناه على المذهب.

وحكى الرافعي عن رواية أبي الفرج السرخسي وجهاً: أنه يجوز التفضيل اتباعاً لقضاء عمر، رضي الله عنه.

وحكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" أنه قال: إن اتسع المال، ورأى الإمام أن يفعل ذلك كما فعله عمر – رضي الله عنه – كان [ذلك] محتملاً. وأن الشيخ أبا محمد – رحمه الله – كان يقول: التصرف في ذلك قريب من التصرف في حدِّ الشرب؛ فإنَّا قد نفوض الرأي إلى الإمام [فيه].

واعلم أن الأصحاب قالوا: الأولى للإمام أن يجعل الجيش كتائب، ويجعل لهم علامات يتعارفون بها فيما بينهم، ويعقد لهم ألوية، ويجعل على كل قبيلة نقيباً، كما فعله – عليه السلام – في طائفة الأنصار، ثم النقيب يعرف على كل طائفة من القبيلة عريفاً، روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف عام خيبر على كل عشرة عريفاً، وجعل يوم فتح مكة للمهاجرين شعاراً، [وللأوس شعاراً]،

ص: 530

و [للخزرج شعاراً].

والمعنى في ذلك: أن يسهل عليه الأمر إذا أراد أن يَرْزُقهم أو يدعوهم لغزو أو غيره.

والأولى [له]: [أن يرتب أسماءهم] في الديوان على حسب ما ذكرناه في العطاء؛ اقتداء بعمر – رضي الله عنه – فإنه هكذا فعل لما كثر الناس والمال في زمنه.

وينبغي أن يجعل للعطاء وقتاً معلوماً في السنة، والأولى أن يكون مرة واحدة، فإن رأى زيادة مصلحة فعله، ولا يجعله [في] كل أسبوع؛ كي لا يكون طريقاً لتعطيل الجهاد.

وقد ذكرنا أن الديوان: عبارة عن الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجند، وفي كلام الماوردي ما يدل على: أنه الموضع الذي يجلس فيه للكتابة؛ فإنه حكى اختلافاً في [أن] الديوان سمي بذلك لماذا؟.

فحكى عن قوم: أن سببه أن كسرى اطلع يوماً على كتابه وهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه، أي: مجنون؛ فسمي موضع جلوسهم ديواناً.

وعن آخرين: أنه سمي بذلك؛ لأن الديوان اسم للشيطان؛ فسمي الكتاب باسمهم؛ لوصولهم إلى غوامض الأمور وضبطهم الشاذ وجمعهم المتفرق، ثم سمي موضع جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان.

قال: ومن مات منهم، أي: من أجناد أهل الفيء، دفع إلى ورثته، أي: من الأولاد الذين كانت تلزمه نفقتهم، وزوجته – الكفاية، أي: من أربعة أخماس الفيء؛ اعتباراً بالمصلحة؛ فإنهم إذا علموا انه يفعل مع عيالهم كذلك، وفروا نفوسهم على الجهاد، ولم يتشاغلوا عنه بأسباب التحصيل للأموال ليخلفوها لهم، وقد روي أن عمر –رضي الله عنه – كان يفرض لأولاد المرتزقة.

ص: 531

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأولاد والزوجة فقراء أو أغنياء، كما ذكرنا في الصرف للأجناد. وهذا الذي ذكره الشيخ هو ما جعله الغزالي الأظهر، واختاره في "المرشد".

وانتهاء الدفع للزوجة بتزوجها، وفي الأولاد الذكور ببلوغهم على صفة يقدرون على التكسب والقتال معها، فإن بلغوا عاجزين عن ذلك استمروا على الرزق كما كانوا يرزقون قبل البلوغ، كذا ذكره ابن الصباغ وغيره.

وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أن بالبلوغ انقطع الاستحقاق، وحكاية الوجهين أيضاً فيما إذا بلغ واحد من أطفال المرتزقة في حياة أبيه كذلك؛ لأنه جمع بين المسألتين، وحكى فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يدفع للبالغ كذلك من أولاد الأجناد وأولاد الموتى. ثم قال: والأصح عندي أن ينظر:

فإن كان الذي أقعدهم عن القتال موجباً لنفقاتهم على الآباء بعد بلوغهم كوجوبها عليهم في صغرهم، كالجنون والزمانة المانعة من الاكتساب – بقوا على حكم الذراري في مال الفيء.

وإن كان ما أعجزهم عن القتال لا يوجب نفقاتهم بعد البلوغ؛ لقدرتهم على الاكتساب مع العجز عن القتال- خرجوا عن حكم الذرية في مال الفيء.

وإن كان ما أعجزهم عن القتال لا يوجب نفقاتهم بعد البلوغ؛ لقدرتهم على الاكتساب مع العجز عن القتال – خرجوا عن حكم الذرية في مال الفيء.

وأما الإناث، فقضية ما في "الوسيط": أنهن يرزقن إلى أن ينكحن.

ووراء ما ذكره الشيخ أمران:

أحدهما: حكى في "المهذب" وغيره من الكتب المشهورة قولاً آخر جعله الرافعي الأظهر: أن الذرية والزوجة لا يعطون شيئاً؛ لأن ما استحق به العطاء – وهو إرصاد النفس للجهاد – مفقود فيهم.

ص: 532

والثاني- حكاه الماوردي: أن القولين في الذرية محمولان على حالين:

فالأول: محمول على ما إذا كان في الذرية من يرجى أن يكون من أهل الفيء إذا بلغ فيعطي قدر الكفاية.

والثاني: محمول على ما إذا فقد ذلك.

قال: إن بلغ الصبي، أي: من الذرية، واختار أن يفرض له، أي: يقدر له قدر كفايته من مال الفيء، ويكون من المقاتلة – فرض له؛ كما لو جاء واحد من المتطوعة ورام ذلك، لكن بشرط أن يكون في المال متسع.

[قال: وإن لم يختر ترك، أي: ولا يعطي من مال الفيء ما كان يأخذه؛ لأنه صار من أهل التكسب والاستقلال].

قال: ومن خرج [عن] أن يكون من المقاتلة، أي: بمرض لا يرجى زواله، كالعمى والزمانة، أو بجرح في القتال وغيره – سقط حقه، أي: من مال الفيء في المستقبل؛ لزوال سبب استحقاقه، وهو إرصاد النفس للجهاد.

وفي "الشامل" و"الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين: أن في إعطائه قدر الكفاية من مال الفيء القولين في الذرية وعليهما ما تقدم.

أما إذا كان المرض مرجو الزوال؛ لم يسقط حقه وإن طال، قال الماوردي: وسواء فيه المخوف وغيره.

وأما حقه في الماضي فينبغي أن يكون الحكم فيه كالحكم فيما لو مات إذا قلنا بسقوطه في المستقبل، وقد قال الأصحاب: إنه إن مات بعد جمع المال وانقضاء الحول صرف نصيبه إلى ورثته بلا خلاف؛ لأنه حق لازم ثبت له؛ فانتقل لورثته كالجرة في الإجارة.

ولا يسقط هذا الحق بالإعراض عنه على الظاهر؛ كما قاله الإمام بعد أن حكى تردداً فيه عن الأصحاب.

ولو مات بعد جمع المال وقبل تمام الحول فقولان – ويقال: وجهان:

ص: 533

أظهرهما: أن قسط ما مضى يصرف إلى ورثته كالأجرة في الإجارة.

والثاني: المنع، كالجعل في الجعالة لا يستحق قبل تمام العمل.

وبنى القاضي الحسين والفوراني الخلاف على الخلاف في الذمي إذا مات في أثناء الحول هل يطلب منه حصة ما مضى، أم لا؟

قال الإمام: وهذا البناء غير مرضٍ عند المحققين؛ من جهة أن [مدة] الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا حدَّ لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل جاز، ولا معترض عليه.

قلت: وما قاله القاضي ظاهر في حصته من الجزية وما قاله الإمام ظاهر في حصته من غيرها.

ولو مات قبل جمع المال وبعد تمام الحول، فظاهر النص: أنه لا شيء للوارث، وبه أجاب القاضي أبو الطيب وآخرون، واقتصر في "التهذيب" عليه.

وقال الشيخ أبو حامد: إن عطاءه مصروف إلى ورثته. وادعى ثبوت الحق له بمضي المدة، وهذا ما أورده القاضي الحسين، وقال الماوردي: إنه خطأ.

ولو مات قبل حيازة المال في أثناء الحول، فالذي جزم به الماوردي والفوراني: عدم الاستحقاق، وفي "الرافعي": أنا إن قلنا: إنه لو مات بعد انقضائه لا يستحق، فهاهنا أولى، وإن قلنا: إنه يستحق ثم، ففي قسط ما مضى الخلاف المذكور فيما إذا مات بعد جمع المال وقبل تمام الحول، والمحكي في "الشامل" عن أبي حامد: المنع.

وهذا كله مبني على ما إذا كان الإمام يعطي في السنة مرة واحدة، أما إذا عين له وقتين أو أكثر، فالاعتبار بمضي المدة المضروبة.

فرع: على المرتزق من الفيء إذا أمره الإمام بالخروج إلى الغزو ألا يتخلف، فإن امتنع سقط حقه؛ كالزوجة يسقط حقها من النفقة ونحوها بالنشوز.

قال: وإن كان في مال الفيء أراضٍ، وقلنا: إنها، أي: الأخماس الأربعة، للمصالح- صارت وقفاً تصرف غلتها فيها؛ لما في ذلك من استدامة المصلحة

ص: 534

واستدراك الغلة في كل عام، وقضية هذا: أن نجزم بمثله في سهم المصالح من خمس الفيء، وكلام الرافعي مصرح بجريان الخلاف الآتي فيه.

قال: وإن قلنا: إنها للمقاتلة، قسمت بينهم؛ لأنها ملك لهم، فوجب قسمتها بينهم - كالمنقول وغيره - كأربعة أخماس الغنيمة. وهذا ما اختاره النواوي.

وقيل: تصير وقفاً وتقسم غلتها بينهم؛ لأن ملك الغلة في كل عام أمر وأنفع، ولأن أهل الفيء قاموا في تملكه مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وحقه من أراضي الفيء وقف؛ فكذلك ما ملكه الجيش بعده منها. ويخالف ما ينقل ويحول؛ فإنه لا تتأبد منفعته، ويفارق الغنيمة؛ لأن للاجتهاد مدخلاً هاهنا في التقدير، بخلاف الغنيمة، وهذا ما دل عليه ظاهر [لفظه في]"المختصر"، وقال به كثير من أصحابنا، كما حكاه الماوردي، وهو أصح في "الرافعي".

فعلى هذا: هل تصير وقفاً بنفس حصولها للفيء من غير لفظ؛ كما يصير الذراري والنسوان [بنفس الأسر أرقاء]، أم لا بد [من] أن يتلفظ الإمام بالوقف؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره، والذي رجحه الماوردي: الأول، كما دل عليه كلام الشيخ، ونسب الثاني إلى بعض البصريين، وقال: إنه خطأ، وهو الذي صححه الرافعي والنووي، وقالا: إن رأى الإمام أن يبيعها ويصرف ثمنها لهم، فعل، فإن رأى وقفها، فعل، وهذا وجه ثالث حكاه الإمام.

ص: 535

وحكى الرافعي وجهاً: أن المراد بالوقف – هاهنا – على التصرف، لا الوقف الذي يمنع البيع وغيره. وظاهر كلام الإمام يقتضي أنه الراجح عند الأصحاب.

وهذا حكم الأخماس الأربعة.

وأما الخميس الباقي، ففي "المهذب": أنه لأهل الخمس، وفي "الشامل" و"الحاوي": أنا إن قلنا: إن الأخماس الأربعة لا تصير وقفاً، فكذلك الخمس، وإن قلنا: إنها تصير وقفاً، فكذلك الخمس إلا سهم ذوي القربى [منه]؛ فإن فيه وجهين:

أحدهما – وهو الأصح في "الحاوي" -: أن الأمر كذلك.

ومقابله هو المختار في "المرشد"؛ لأن تملكهم له على سبيل الميراث، ولا مدخل للاجتهاد فيه.

وفي "الرافعي": أن في سهم ذوي القربى الخلاف المذكور في الأخماس الأربعة، إذا قلنا: إنها للمقاتلة.

وأما سهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فمترتب على سهم ذوي القربى، وأولى بكونها وقفاً، والله أعلم.

وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بما تقدم الوعد به من فروع أقوال الملك في الغنيمة:

فمنها: إذا وطئت جارية من الكفار، نظر:

إن كان ذلك قبل الحيازة واستقرار الظفر بهزيمة أهلها- فهي باقية كما كانت؛ فيكون الوطء زنى إن علم بالتحريم؛ فيجب به الحد – قاله الماوردي، وهذا محمول على ما إذا قصد فعل الزنى، أما إذا قصد اختداعها عن نفسها والاستيلاء عليها واسترقاقها، فقد قال القاضي الحسين عند الكلام فيما إذا فعل المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب ما يوجب الحد: إنه لا حد عليه.

ولو لم يقصد ذلك ولكنه جهل التحريم، فهو وطء شبهة يسقط الحد، قال

ص: 536

المتولي في باب قتل المرتد: ولا يجب المهر؛ لأن مالها غير مضمون بالإتلاف؛ فكذلك منفعة بضعها.

وإن كان الوطء بعد استقرار الظفر والحيازة لها: فإن كان بعد وقوع القسمة فلا يخفى حكم ذلك من القواعد، وإن كان قبلها، نظر:

فإن لم يكن للواطئ في الغنيمة سهم ولا رضخ ولا ولد له ولا والد يستحق ذلك، فحكمه – كما قال القاضي الحسين – حكم من وطئ جارية بيت المال: فإن كان ذميًّا وجب عليه الحد، وإن كان مسلماً فوجهان:

أظهرهما: أنه يحد، وعلى ذلك جرى صاحب "التهذيب" والروياني.

ومقابله هو الأقوى عند ابن كج، وقال الإمام في أواخر باب السرقة: إنه لا يجب أن يعتد به.

وإن كان ممن له في الغنيمة سهم أو رضخ، فلا حد عليه سواء علم بتحريم ذلك أو لا، وسواء قلنا: له ملك أو لا.

قال القاضي الحسين: ويخالف الجارية المشتركة إذا وطئها أحد الشريكين؛ حيث يجب عليه الحد على أحد الوجهين، كالوجهين في وجوبه بوطء الجارية المحرمة عليه برضاع أو نسب؛ لأن ملك الشريك هناك متأكد، بخلاف جارية المغنم.

وقال الإمام: إن القول القديم في إيجاب الحد على الشريك يجري فيه. وحكى في آخر الفصل أن القاضي حكى على قولنا: إن الشريك يجب عليه الحد، وجهين في وجوب الحد على من وطئ جارية من المغنم، وبإيجابه قال أبو ثور.

وإن كان ممن له في الغانمين ابن يستحق السهم أو الرضخ، فهكذا حكمه.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: إلحاق الوالد بالولد في ذلك.

وفي "النهاية": أنه لا أثر لذلك ويجب الحد؛ لأن من وطئ جارية أبيه، وجب عليه الحد، بخلاف من وطئ جارية ابنه. وهذا هو الصحيح.

والمهر واجب على الواطئ وإن كان من الغانمين، ومصرفه مصرف الغنائم، قال الماوردي: سواء حصلت في ملكه بعد ذلك بالقسمة أو لا، وسواء كان عدد الغانمين محصوراً أو لا، يعني: وفي الغنيمة غير الجارية

وحكى عن بعض الأصحاب فيما إذا كان عدد الغانمين محصوراً: أنه يسقط

ص: 537

من المهر بقدر حصته منها، سواء حصلت في ملكه أو لا؛ لأن ملكه موقوف عليهم، ولاحق لغيرهم فيها، وهذا هو ظاهر النص، وهو الذي أورده القاضي الحسين، والإمام والقاضي ابن كج جعلاه مبنيًّا على أن كل واحد من الغانمين قد ملك حصةً من الغنيمة قبل القسمة، وبنيا الأول على القول بعدم الملك، وهوا لذي جزم به العراقيون؛ بناء على الأصل المذكور، وقال الماوردي: إنه الأشبه. وجعل النص محمولاً على ما إذا كان قد تملكها بالقسمة مع جماعة محصورين قبل الوطء، ولو حمل على حالة كون الجارية كل الغنيمة لكان أولى؛ فإن قياس ما سنذكره عن "الحاوي" في هذه الصورة: الجزم بسقوط حصته من المهر.

وقال الإمام فيما إذا وقعت الجارية في حصة غيره: إن قضية الوجه الذي رواه صاحب "التقريب" – من أن نتبين بالقسمة أن ما حصل في يد كل واحد، قد ملكه بنفس الاغتنام – أن يجب جميع المهر لمن وقعت [في] قسمته، واستضعفه، وروى عن صاحب "التقريب" فيما إذا وقعت الجارية في حصة الواطئ: أنه لا يجب عليه شيء من المهر؛ بناء على الوجه المذكور، وقد حكاه ابن كج قولاً غريباً عن رواية أبي الحسين.

وقد ظهر بما ذكرناه أن محل الخلاف في وجوب جميع المهر أو بعضه فيما إذا كان عدد الغانمين محصوراً، أما إذا كان غير محصور، فيغرم جميع المهر، وتوضع في المغنم وتقسم؛ فإن حصته من المهر ليست نفساً، وبذلك صرح القاضي الحسين وغيره، وجعل الإمام محل الاتفاق على ذلك إذا طابت نفس الواطئ بأداء جميع المهر، وقال فيما إذا قال الواطئ: أسقطه قدر حصتي -: فلابد من إيجاب، فإن تيسر الضبط فذاك، وإلا أخذ المتحقق وحط المتيقن، وتوقف في المشكوك فيه.

وهكذا كله إذا خلا الوطء عن الإحبال، [أما] إذا أحبلها أحد الغانمين، فحكم الحد والمهر كما تقدم، فإذا لم يوجب الحد، فهل يثبت الاستيلاد؟

قال بعضهم: إن قلنا: لا ملك له، لم ينفذ في الحال، وفي نفوذه إذا ملكها يوماً ما القولان المذكوران في باب الاستيلاد، وهذا ما أورده العراقيون، وقال

ص: 538

القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب فيه. وإن قلنا: غنه قد ملكن ففي نفوذه في الحال في حصته إذا كان موسراً وجهان؛ كالوجهين في نفوذ الاستيلاد المشترى في زمن الخيار على قولنا: إن الملك له؛ لأنه ملك ضعيف، وهذه الطريقة رواها صاحب "التقريب".

وقيل: إن قلنا: إنه يملك نفذ، وألا فقولان كالقولين في استيلاد الأب جارية ابنه، وضعف الإمام هذه الطريقة.

ويخرجه من الطريقين عند الاختصار قولان أو وجهان:

أحدهما: نفوذه مطلقاً، وهو الذي أورده القاضي الحسين، سواء كان الغانمون محصورين أو لا، قال: لأنا نتيقن أن له شركاً فيها. وهذا بناه على الصحيح في أن السراية تحصل مع اليسار بنفس الاستيلاد لا بدفع القيمة.

وقد نسب المنع إلى ابن أبي هريرة، وهو المذكور في أكثر الكتب، وكذلك في "الحاوي" في حالة عدم انحصار الغنيمة، وقال فيما إذا كانوا محصورين: إنه ينظر: فإن لم يكن في الغنيمة سواها قطعنا بنفوذه، وإن كان ثمة غيرها ففي نفوذه وجهان؛ بناء على الوجهين في سقوط مهرها إذا انحصر عددهم، وفي المغنم غيرها.

وعلى وجه المنع، فالفرق بينه وبين ما إذا لم يكن ثم غيرها: أنه إذا كان ثم غيرها احتمل أن يجعل الإمام الجارية لغيره؛ فإنَّ له أن يقسم الغنيمة قسمةَ تحكمٍ لا قسمة مراضاة، بخلاف ما إذا لم يكن ثم غيرها.

وقد أشرنا إلى أن محل ما ذكرناه إذا كان الواطئ موسراً بقيمة ما يخص الغانمين من الجارية، فلو كان معسراً، فإن كان الجند محصورين فالحكم في نفوذه في حصته كما تقدم، ولا يسري الاستيلاد إن نفذناه إلى باقيها، وهكذا الحكم فيما إذا كانت حصته من باقي الغنيمة تفي بقيمة ما بقي من الجارية، ورُدَّ، قال الإمام: ولا نقول: إن حق السراية يلزمه اختيار التملك؛ فإن الاختيار بمثابة ابتداء الاكتساب.

ولو كان عدد الغانمين غير محصور، ففي "تعليق" القاضي الحسين: أنها لا تصير أم ولد؛ لأن نصيبه منها على قول الملك مجهول، والحكم بانعقاد أمومة غير معلومة لا معنى له.

ص: 539

وقال الرافعي: إن أفرزها الإمام لطائفة قبل الوطء وهو منهم، فالحكم كما إذا كانوا محصورين، وإلا فلا نحكم بالاستيلاد في الحال، فإن وقعت في الآخرة في حصة الواطئ ثبت الاستيلاد حينئذ، أي: إن أثبتناه في حصة الموسر، وإن صار بعضها له، ثبت في ذلك البعض، ونسبه إلى "التهذيب" وغيره.

التفريع:

إن قلنا بنفوذ استيلاد الموسر في حصته، ففي "الحاوي" أنه هل يسقط خيار الإمام في قسمتها لمن شاء، ويلزمه دفعها إليه، أو يكون على خياره؟ فيه وجهان محتملان. قلت: والثاني لا وجه له أصلاً.

وإن قلنا بعدم النفوذ، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت، فعن ابن كج: أن الجارية تجعل في المغنم، وتدخل في القسمة، وإن دخلها نقص بالولادة لزمه الأرش. وقبل الوضع هي حامل بحُرٍّ كما سنذكره، ولا يجوز بيعها على الصحيح، وبه جزم العراقيون، وكذلك قسمتها إن قلنا:[إن] القسمة بيع.

وعلى هذا، فعن صاحب "التقريب": أنه يحتمل أن تسلم له في حصته إن كانت حصته قدر قيمتها أو أكثر، ويأخذ الفاضل، وإن كانت أقلن أخذ منه الفاضل، وهذا ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق، وضعفه الأصحاب.

وقيل: تؤخذ منه قيمتها، وتلقى في الغنيمة؛ لأنه بالإحبال حال بينها وبين الغانمين.

وفي "الحاوي" حكاية وجهين مع الأول:

أحدهما: أنها لا تقوم عليه.

والثاني: أنها تقوم عليه إن قلنا: إنه إذا ملكها صارت أم ولد لهن وإلا فلا تقوم عليه، وهذا [قد] حكاه أبو الطيب أيضاً، وللإمام احتمالان:

أحدهما: أنها توقف إلى أن تلد، ثم تلقى في الغنيمة.

والثاني: جواز قسمتها في هذه الحالة، وأنه يقوى إذا قلنا: إن القسمة إقرار.

ولا شك في أن الولد ينسب – إذا لم نوجب الحد – وينعقد في حال يسار

ص: 540

الواطئ حُرًّا إن ثبت الاستيلاد في جميع الجارية؛ لان له شبهة ملك، وهل تجب قيمته؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الجارية هل تقوم عليه أم لا؟ فإن [قلنا:] نعم، لم يلزمه؛ لأنها في ملكه حين وضعت الولد، وإن قلنا: لا، لزمته؛ لأنه منع رقه بوطئه، كذا حكاه الرافعي، وظاهره: أن محل الخلاف إذا حكمنا بالاستيلاد، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، لكنه بناه على أن السراية تحصل بنفس الإحبال، أم لابد من دفع القيمة؟ فعلى الأول: لا يجب، وعلى الثاني: يجب عليه [منها قدر] حصة أصحابه، وفي "تعليق" أبي الطيب والبندنيجي الجزم بعدم الاستيلاد.

وحكاية الوجهين في قيمة الولد مبنيان على الخلاف في أنها تقوم عليه، أم لا؟ كما بناهما الرافعي.

وقد شبه مشبهون – ومنهم الإمام – الخلاف بالخلاف في وجوب قيمة الولد إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة وهو موسر، ثم منهم من بنى الخلاف فيهما على أن الملك يحصل للمستولد قبل العلوق أو مع العلوق أو بعده؟

ثم حكم قيمة الولد حكم المهر، وقيمة الجايرة.

ولو كان الواطئ معسراً، وثبت الاستيلاد في حصته من الجارية، أو لم يثبت كما حكاه العراقيون، فيخلق الولد كله حرًّا؟ أو الحر منه قدر حصته والباقي رقيق؟ فيه وجهان – أو قولان – حكاهما الفريقان.

فإن قلنا بالثاني، فلو ملك باقي الجارية أو جميعها [من بعد] بقي الرق في الباقي دون حصته إن حكمنا بنفوذ الاستيلاد [في الحال]؛ لأنها علقت برقيق في غير الملك.

وإن قلنا بالأول، وهو ما دل كلام الإمام على ترجيحه، ففي نفوذ الاستيلاد في الباقي أو في الجميع على قول من [لم] ينفذه ابتداء – القولان.

ومحل الوجهين في انعقاد جميع الولد على الحرية أو بعضه – كما قاله

ص: 541

القاضي الحسين – إذا انحصر الغانمون، فإن كانوا غير محصورين، ففي "تعليق" القاضي و"التهذيب": أنا إن قلنا عند الانحصار: كل الولد حر؛ فتؤخذ منه قيمته، وتوضع في المغنم، وتقسم على الكل، وإن قلنا: إن هناك الحر قدر حصته، فهاهنا يكون الكل رقيقاً – قالا: ثم الإمام عند القسمة يجتهد حتى تقع الأم والولد في حصة الواطئ، فإن وقعا في حصته، قال القاضي: فتصير أمَّ ولد له، والولد في قول: خلق رقيقاً كله، وهذا – على مذهبنا – غريب.

وقال في "التهذيب": إن الجارية تصير أم ولد، [كما تقدم، والولد حر، وإن وقع البعض في ملكه صار بقدره من الجارية أم ولد]، وعتق من الولد بقدر ما ملك.

ومنها: إذا وقع في الأسر من يعتق على بعض الغانمين، ورق: إما بنفس الأسر، أو بإرقاق الإمام – فالنص: أنه لا يعتق قبل القسمة واختيار التملك، وهوا لذي أورده العراقيون، والنص فيما إذا استولد بعض الغانمين جارية من المغنم: أنه يثبت الاستيلاد كما مر، فمن الأصحاب من جعلهما على قولين؛ بناء على أن الغنيمة تملك بالاستيلاد أم لا. ومنهم من أقر النصين، وهو الذي صححه القاضي الحين، وقالوا: الفرق: أن الاستيلاد أقوى؛ بدليل نفوذ إحبال المجنون دون إعتاقه.

وعن الشيخ أبي محمد في "المنهاج": أنه فرق بان الوطء اختيار التملك، وكذلك جعل وطء البائع في مدة الخيار فسخاً، وليس في مسألة القريب ما يدل على الاختيار، وأنه بنى [على ذلك] ما لو قال مشيراً إلى حريته قبل القسم: قد أعتقت هذه، نحكم بثبوت العتق.

قال الرافعي: والظاهر أنه لا يثبت العتق في الحال وإن قدرنا الخلاف، فإذا استقر ملكه فيه بأن وقع في نصيبه واختار تملكه، أو وقع بعضه في نصيبه واختاره – عتق عليه، وينظر لتقويم الباقي عليه إلى يساره وإعساره.

وفي "الحاوي": أن الغانمين إذا كانوا محصورين ولم يكن في الغنيمة إلا

ص: 542

قريبه – فيملك حصته، وإن لم يَجْرِ التملك، ويعتق عليه، ولا يقوم عليه الباقي؛ لأنه ملكه بغير اختياره. وإن كان في الغنيمة غيره، ففي نفوذ العتق في حصته وجهان كما قلنا في الاستيلاد، فإن قلنا بالعتق لم يقوم عليه الباقي – أيضاً- بخلاف ما لو وقع قريبه في حصة أقوام هو أحدهم مع كون الغانمين غير محصورين؛ فإن الحصة تعتق عليه إذا اختار التملك، ويقوم الباقي عليه؛ لأنه ملكه باختياره.

ومنها: لو أعتق واحد من الغانمين عبداً من الغنيمة، قال الرافعي: ففي ثبوت العتق في الحال ما ذكرناه في عتق القريب، كذا نقله صاحب "التهذيب" وغيره.

وفي "الحاوي": أنه لا يعتق بحال، والفرق: قوةُ عتق القريب؛ فإنه يثبت بلا اختيار، وضَعْفُ غيره المتوقف على الاختيار.

وكذلك يعتق على المحجور عليه قريبه إذا ملكه، ولو أعتق مملوكه لم ينفذ [عتقه]، والله – عز وجل – أعلم.

ص: 543