الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب كفارة القتل
الكفارة مأخوذة من التكفير، وهو: الستر؛ فكأنها تغطي الذنب وتستره، وقد قدمت ذلك في باب كفارة اليمين.
والأصل في وجوبها بالقتل على الجملة قبل الإجماع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92].
والاستثناء هاهنا منقطع عند بعضهم؛ فيكون بمعنى: لكن، وعند بعضهم [تكون "إلا"]، بمعنى: ولا؛ فيكون كأنه تعالى قال: [{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً}: أن يقتل مؤمناً ولا خطأ؛ مثل قوله تعالى: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150].
قال البندنيجي: وهذا تأويل أبي عبيدة، وعند بعضهم: أن في الآية ضميراً محذوفاً، وتقديره]: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً، ومن قتل مؤمناً فهو آثم، إلَاّ أن يكون خطأ؛ فإنه لا يأثم. وحذف ذلك؛ لأن في الآية ما يدل عليه.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو الصحيح.
ومعنى قوله تعالى: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي: في قوم، كما قاله الشافعي رضي الله عنه وقد روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
وما روى وائلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صل الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل.
وروى: استوجب النار بالقتل - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقُوا عَنْهُ". وفي رواية:
"فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً يُعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ".
قال: إذا قتل، أي: من هو من أهل الضمان، مكلفاً كان أو غير مكلف، من يحرم قتله لحق الله – عز وجل – أي: حرًّا كان أو عبداً، مسلماً كان أو ذميًّا أو معاهداً.
قال: عمداً [كان] أو خطأ، أو فعل به شيئاً فمات به، أو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً [ميتاً]، أي: وما في معناه- وجبت عليه الكفارة:
أما في الخطأ، للآية والإجماع.
وأما في العمد؛ فللحديث السابق؛ فإن القاتل لا يستوجب النار إلا في قتل العمد.
وقد روي أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه – قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال:"أعتق عن كل موءودة رقبة".
وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تحفر تحت الحامل إذا ضربها الطلق حفرةً تسقط فيها ولدها إذا وضعته: فإن كان ذكراً أخرجوه وإن كان أنثى طموا عليه التراب حتى يموت، وهذا قتل عمد وقد أمر فيه بالكفارة، وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه قتل آدمي محقون الدم لحرمته، فوجب أن تجب به الكفارة كما إذا كان القتل خطأ.
وقولنا: "محقون الدم"، يحترز به عن الزاني المحصن والمرتد.
وقولنا: "لحرمته"، يحترز به عن نساء أهل الشرك وذراريهم قبل ملكهم، كما احترز الشيخ عنهم بقوله:"لحق الله تعالى"؛ فإن قتلهم محرم لا لحرمتهم، بل لصيانة حق المسلمين في تملكهم، وقتل المرتد والزاني المحصن إذا قتلهما غير الإمام، [وقتل نساء أهل الذمة وذراريهم] – وإن كان حراماً – فليس لحق الله – تعالى – وإنما لما فيه من الافتيات على الإمام [وتفويت
مال على المسلمين].
قال الشافعي – رضي الله عنه: ولأنه قتل تتعلق به الكفارة [إذا أخطأ؛ فوجب أن يتعلق به وجوب الكفارة] إذا كان عمداً، أصله: قتل الصيد.
وإذا ثبت وجوبها في قتل العمد، [وفي] الخطأ – ثبت في قتل [عمد] الخطا من طريق الأولى؛ ولهذا الأولوية لم يذكره الشيخ.
وأما إذا فعل به شيئاً [مات [به]، كما إذا شهد عليه بالزور، أو أكرهه على قتله، أو حفر بئراً فتردى فيها] فمات، أو رش الطريق، أو طرح فيه حجراً، أو قشر بطيخ، أو باقلاء، ونحو ذلك، فمات به – فلعموم الآية والخبر؛ فإنه ليس فيهما تفرقة بين القاتل بسبب وبغيرسبب، ولأنه حق مال يتعلق [بقتل المباشرة]، فتعلق بقتل السبب، أصله الدية، بل أولى؛ لأن الكفارة تجب في موضع لا تجب فيه الدية.
وأما في الجنين؛ فلما روي أن عمر – رضي الله عنه – قضى فيه بالدية والكفارة، ولا مخالف له من الصحابة فكان إجماعاً.
وقد قال ابن المنذر: ولا أعرف فيه خلافاً بين أهل العلم.
والمعنى فيه: أنه آدمي مضمون بالجناية، فوجب أن يكون مضموناً بالكفارة؛ كما لو وضعته حيًّا ثم مات.
ولا فرق في وجوب الكفارة على القاتل بين أن يستوفي منه القصاص، أَوْ لا ويعفي عنه. نعم إذا استوفى، حكى الماوردي عن رواية أبي إسحاق وابن ابي هريرة وجهاً: أنها تسقط؛ لأنه قد سلَّم نفسه ووفى الحق الذي وجب عليه.
وقد روي أنه عليه السلام قال: "الْقَتْلُ كَفَّارَةٌ"، وقد حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وقال: إنه غير معتد به.
والصحيح أن الكفارة تبقى على وجوبها؛ لأنها حق الله - تعالى- فلا تسقط بتأدية حق الآدمي، كما لا تسقط بأداء الدية، هذا هو المشهور.
وفي "تعليق" البندنيجي: أن المسلم إذا قتل مسلماً تترس المشركون به، ولم يكن من قتالهم بد - طريقة مجرية لقولين في وجوب الكفارة.
وحكى المراوزة وجهاً: أن الإنسان إذا قتل نفسه لا تجب عليه الكفارة، وادعى القاضي الحسين قبيل [باب عقل] الموالي: أنه الظاهر؛ لأنها [تجب] عقيب إزهاق الروح، وهو في تلك الحالة خرج عن أن يجب عليه شيء، وقضية ذلك: انه إذا حفر بئراً في حال حياته، فوقع فيها شخص بعد وفاته - أن يكون الظاهر امتناع وجوب الكفارة، وقد قال في الموضع المذكور: إن في وجوبها وجهين، والظاهر منهما الوجوب في تركته. والأصح عند الإمام: الوجوب في الحالين كما جزم به العراقيون.
وفي"ابن يونس"[حكاية] وجه عن الخراسانيين: أن الكفارة لا تجب عليه بقتل عبده، ولم أره فيما وقفت عليه، [نعم قدمت في باب الأطعمة مباحثة تتعلق بذلك، فلتطلب منه].
قال: وإن اشترك جماعة في قتل واحد، وجب على كل واحد منهم كفارة؛ لأنه حق يتعلق بالقتل لا يتبعض، بدليل امتناع قستمها على الأطراف؛ فوجب أن تكمل في حق كل واحد من القاتلين، أصله القصاص، ولأن في الكفارة معنى العبادة، والعبادة الواحدة لا تتوزع على الجماعة.
وقيل فيه قول آخر: أنه تجب عليهم كفارة واحدة؛ لأنها مال يجب بالقتل، فوجب ألا يكمل في حق كل واحد من القائلين، أصله [الدية، و] الكفارة في قتل الصيد. قال أبو الطيب وابن الصباغ: وهذا ما حكاه أبو علي الطبري عن نص الشافعي رضي الله عنه في كتاب الشاهد واليمين، وهو مذهب أبي ثور، وقال البندنيجي: إنه حكاه عن نص الشافعي رضي الله عنه في
الديات. وقال الماوردي: إن هذا غلط، ولا يعرف للشافعي –رضي الله عنه في شيء من ما كتبه، ولا نقله عنه أحد من أصحابه، ومنصوصه في جميع كتبه بخلافه. والفرق بين الكفارة وجزاء الصيد والدية – ما أشرنا إليه -: أن الكفارة لا تتبعض على الأعضاء، بخلاف الدية وجزءا الصيد، وأيضاً فإن الدية بدل النفس. وهي واحدة؛ فلم يلزم فيها إلا دية واحدة، والكفارة لتكفير القتل، وكل واحد منهم قاتل فلزم كلا منهم كفارة.
تنبيه: قول الشيخ: "إذا قتل من يحرم قتله وجبت عليه الكفارة"، دليل ظاهر على أن سبب وجوبها القتل، وهو خروج الروح، وأن الوجوب يكون على الفور، وحكى الرافعي في آخر كتاب الوصية عن المتولي: أنها ليست على الفور، لكن هل [يجوز] تعجيلها [قبل وجوبها؟ ينظر إن عجلها على الجرح لم يجز، وإن عجلها] بعد الجرح وقبل الموت فوجهان، أصحهما – كما حكاه المحاملي في كتاب الأيمان -: أنه يجوز.
وحكى الرافعي ثم عن أبي الطيب بن سلمة احتمالاً في جواز التعجيل قبل الجرح.
قال: والكفارة: عتق رقبة مؤمنة، أي: على من وجدها فاضلة عن كفايته على الدوام، كما قاله الماوردي والبندنيجي.
قال: فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ للآية، فإن لم يستطع ففيه قولان:
أحدهما: يطعم ستين مسكيناً، كل مسكين مدًّا من طعام؛ لأنها كفارة ينتقل فيها من العتق إلى الصيام؛ فوجب أن ينتقل من الصوم إلى الإطعام ككفارة الظهار، [ولأن الله – تعالى – نص على الإطعام في كفارة الظهار]، [[وأطلق ذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل مطلقه في كفارة القتل على تقييده في كفارة الظهار]؛ لأن المطلق محمول على المقيد في جنسه. وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن القديم، وقال الإمام: إنه غير معتد به.
والثاني: لا يطعم، أي: بل تكون باقية في ذمته كما قاله الماوردي هنا؛ لأن الأبدال في الكفارات موقوفة على النص دون القياس، ولا يجوز حمل مطلقها
على المقيد إلا في الأوصاف دون الأصل؛ كما حمل إطلاق "اليد" في التيمم على تقييدها بـ"المرافق" في الوضوء، ولم يحمل إغفال ذكر الرأس والرجلين في التيمم على ما قيد من ذكرهما في الوضوء. وهذا هو الأصح، وقال القاضي أبو الطيب: إنه الجديد. فعلى هذا: لو مات قبل التكفير، قال الغزالي وإمامه: يخرج من تركته لكل يوم مد، لا بطريق البدليةن بل كما تخرج الفدية إذا فات صوم رمضان. وأجرى الإمام ذلك فيما إذا انتهى الجاني في الهرم إلى حدِّ يجوز له الإطعام عن الصيام.
وقد حكى ابن الصباغ وغيره في كتاب الصيام قولاً: أن القاتل إذا عجز عن أداء ما وجب عليه سقط عنه الوجوب، كما حكاه الشيخ في كفارة الصوم إذا عجز عنها المباشر، وقال ابن الصباغ: إنه مطرد في كفارة اليمين والظهار.
[وحكى الإمام عن صاحب "التلخيص" أنه استثنى كفارة الظهار]، وقال: لا يستحل المظاهر الإقدام على الوطء ما لم يكفر. فعلى هذا: لا يطعم عنه إذا مات ولم يكفر.
ولا فرق فيما ذكرناه من الترتيب بين الكافر والمسلم؛ فيجب على الكافر العتق، ويتصور إجزاؤه منه بأن سلم في ملكه عبد، أو يشتري عبداً مسلماً – إذا صححنا شراء الكافر العبد المسلم -] أو يقول المسلم: أعتق عبدك المسلم عن كفارتي؛ فإنه يصح على الأصح. فإن لم يوجد شيء من ذلك قال القاضي الحسين: فلا يجوز له التكفير بالصوم؛ لأنه ليس من أهل الصيام شرعاً، ولا يجوز له الانتقال إلى الإطعام –أيضاً – إن أوجبناه، إلاّ إذا مرض وعجز عن الصوم بنفسه، فحينئذ يجوز له التكفير بالإطعام. وأحال الرافعي الكلام في ذلك على كتاب الظهار، وقد ذكرت أنا فيه ما فيه الكفاية وكذلك في كفارة اليمين.
وكذا لا فرق في الترتيب المذكور بين المكلف، والصبي والمجنون؛ فيجب على وليهما التكفير عنهما بالعتق من مالهما، كما يخرج الزكاة والفطرة منه، قاله القاضي الحسين في كتاب الوصية، وكذا [البندنيجي في كتاب الأيمان، [قاله]] الرافعي هاهنا، وقال حكاية عن البغوي: إن الولي لو أعتق [من مال
نفسه عنهما، فإن كان أباً او جدًّا جاز، وإن كان وصيًّا أو قيماً لم يجز، حتى يقبل القاضي التمليك، ثم يعتق عنهما القيم.
وقال في كتاب الصداق: لو وجب على صبي كفارة القتل لا يجوز لوليّه أن يعتق عنه من ماله، ولو تبرع الولي وأعتق عنه من مال نفسه لم يجز؛ لأنه لو صح لضمن دخوله في ملك الابن ثم يعتق عليه، وذلك لا يجوز.
وعلى هذا: فيظهر الفرق بينه وبين الزكاة والفطرة: أن إخراجهما على الفور، وهذا التكفير ليس على الفور؛ فلا ضرورة في التعجيل، ولو صام الصبي في حال صباه فهل يعتد به؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره من المراوزة؛ بناء على ما لو قضى الصبي الحج الذي أفسده في صغره وقلنا بوجوب القضاء عليه: هل يعتد به؟ وفيه وجهان أو قولان.
قال الرافعي: وإذا جعلنا الإطعام في هذه الكفارة مدخلاً، فيطعم الوي إن كان الصبي من أهل الإطعام، وينبغي أن يقال: إذا اعتددنا بصوم الصبي مع الصغر فلا يجوز العدول إلى الإطعام، أي: إذا كان قادراً عليه، وإلا فيجوز كما في المجنون، ولو أراد الولي أن يطعم عنه من مال نفسه، فهو كما لو أراد أن يعتق عنه إذا جوّزناه، وقد ذكرنا التفصيل فيه، [والله أعلم].