المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[باب الديات] "الديات" جمع: دية. وهي اسم للمال الواجب بالجناية على الحر - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌[باب الديات] "الديات" جمع: دية. وهي اسم للمال الواجب بالجناية على الحر

[باب الديات]

"الديات" جمع: دية.

وهي اسم للمال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو طرف. ومصدر، وأصلها: ودية، مشتقة من "الودي"، وهو دفع الدية؛ كـ"العِدَة" من "الوعد"، و"الزنة" من "الوزن"، و"الشية" من "الوشي"، ونظائرها، تقول: وديت القتيل أديه ودياً، ودية: أعطيت ديته، واتديت: أخذت الدية، وتقول في الأمر: دِ فلاناً، وللاثنين: دِيَا، وللجمع: دُوا فلاناً.

قال - رحمه الله تعالى -: ودية الحر المسلم: مائة من الإبل؛ لما روى النسائي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن الديات، وقرئ على أهل اليمن:"أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ"، وقد ادعى ابن يونس الإجماع على ذلك.

قال: فإن كان القتل عمداً، أي: يجب به القصاص أو لا، أو شبه عمد - وجبت أثلاثاً؛ أي: ثلاثة أقسام: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها.

ووجهه في الأولى: ما روى محمد بن راشد، عن سليمان، عن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّداً دُفِعَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ

ص: 62

حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً" كذا أورده الماوردي، وخرجه الترمذي وقال: إنه حسن غريب. وروي عن عبادة: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الدِّيَةِ العُظْمَى بِثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَزْعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً حَوَامِلَ"، كذا أورده القاضي أبو الطيب.

ووجهه في الثانية ما روى الدارقطني [في "سننه"]، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ الْعَمْدِ وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ".

وقد امتنع بعضهم من الاستدلال بما ذكرناه من الأحاديث؛ لما في [رواية] عمرو بن شعيب من المقال، واستدل على إيجاب الخلفات في قتل شبه العمد بما روى الشافعي بسنده، عن ابن عمر – رضي الله عنهم – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أَلا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً؛ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا".

وعلى إيجاب الجذاع والحقاق؛ بأمرين:

أحدهما: قول عمر، وعثمان، وعليِّ، وزيد، وابن عباس، والمغيرة – رضي الله عنهم – بذلك.

والثاني: أن الإجماع منعقد على أنه لا يجب سن واحد، ولا سنان، ولما نص على الخلفات – لتغليظها – علم أن الباقي دونها؛ فجعلناه من سنين متواليين.

ص: 63

وعلى إيجاب ذلك في قتل العمد؛ بالقياس على عمد الخطأ.

وحكى عن أبي ثور [أن] الدية في هذين الحالين تجب مخمسة كالخطأ.

والخلفة – بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام -: هي الحامل، وقيل: هي الحامل من ابتداء إلقاحها إلى عشرة أشهر، ثم هي عشراء؛ كذا حكاه البندنيجي عن أبي عبيد، وحينئذ يكون قوله:"في بطونها اولاها" تاكيداًوبياناً، قال القاضي أبو الطب: كما تقول العرب: بنت مخاض أنثى، وابن لبون ذكر.

قال جمهور أهل اللغة: وليس لها جمع من لفظها، بل جمعها: ماخض؛ كما يقال: امرأة، ونساء. [و] قال الجوهري: خَلفِ؛ بفتح الخاء، وكسر اللام.

ثم هل يشترط في إجزاء الخَلفِة أن تكون ثنية فصاعداً، أم الإجزاء منوط بكونها حاملاً كيف كانت من ثنيّة فما دونها؟ فيه قولان:

وقد استدل للأول، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين، والمشهور؛ كما قال البندنيجي، وأن المزني نقله – برواية الشافعي، رحمه الله.

و [استدل] للثاني- وهو ظاهر قوله في "الأم" – برواية عقبة بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، مَابَينَ الثَّنِيّةِ إِلَى بَازِلِ عَامٍ". و"بازل عام" – كما قال القاضي أبو الطيب -: هي التي تسع سنين، ودخلت في العاشرة.

قال: وإن كان خطأ، وجبت أخماساً: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.

أما وجه اعتبار التخميس فيها – وهو ما صار إليه جمهور الصحابة، رضي الله عنهم – فما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دِيَّةُ الخَطَأِ أَخْمَاسٌ".

ص: 64

وأما وجه اعتبار الأسنان المذكورة فيه فما روى عن ابن مسعود أيضاً أنه قال: "دية الخطأ أخماس: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون بنت مخاض"، وهو وإن كان موقوفاً عليه فقد روى عنه إسماعيل بن عياش، عن الحجاج بن أرطاة، عن زيد بن جبير، عن جنيف بن مالك، عن ابن مسعود أن النبي – صلى الله عيه وسلم-:"قَضَى فِي دِيَةِ الْخَطَأِ أَخْمَاساً: خُمساً جِذَاعاً، وَخُمساً حِقَاقاً، وَخُمساً بَنَاتِ لَبُونٍ [وَخُمساً بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَخُمساً بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ] ذكر".

ثم يؤيده ما حكاه الشافعي – رحمه الله – عن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الإبل. وذكر ما ذكرناه، وسليمان تابعي، وإشارته إلى من تقدمه محمول على الصحابة – رضي الله عنهم – قال الماوردي: فصار ذلك إجماعاً نقله عنهم.

قال: وإن قتل في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، أو في الحرم، أي: حرم مكة، [شرفه الله تعالى]، أو قتل ذا رحم محرم – وجبت الدية مغلظة، خطأ كان أو عمداً، ووجهه: ما روى عن الصحابة- رضي الله عنهم – أنهم غلظوا في هذه المواضع الثلاث، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ:

روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ – فَعَلَيهِ دِيةٌ وَثُلُثٌ".

وروي أن "عثمان قضى في امرأة وطئت في الطواف بديتها ستة آلاف درهم، وألفين؛ تغليظاً للحرم".

ص: 65

وعن ابن عباس أن رجلاً قتل رجلاً في الشهر الحرام، في البلد الحرام؛ فقال:"دِيَتُهُ اثنا عشر أَلْفَ درهمٍ، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف".

قال القاضي أبو الطيب: والاستدلال من هذه الأخبار بوجهين:

أحدهما: أن هذا كان بمحضر من الصحابة عند اجتماع الناس بالموسم، ولم ينكره منكر، ولا رده راد؛ فدل على أنه إجماع منهم.

والثاني: أن هذا لا يدرك [اجتهاداً أو قياساً، وإنما يدرك] بالتوقيف؛ فدل على أنهم لم يفعلوه إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً: فإن قتل شبه العمد يوجب التغليظ، وذلك لأجل ما اقترن بالقتل الخطأ [من عمد الضرب وقصده، وإذا كان ذلك سبباً للتغليظ، فاقتران هذه الأسباب بالقتل الخطأ] أولى بالتغليظ؛ لأن لكل واحد منهما تأثيراً في حقن الدم، وحفظ حرمته، نطق بذلك الشرع.

أما الأشهر الحرم؛ فلقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وقال –عز من قائل-:{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217].

وأما الحرم؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ"، فجعل القاتل [فيه] أعتي الناس.

وأما الرحم فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى أبا حذيفة أن يقتل أباه، وقال: دعه يقتله غيرك"، "ونهى أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – أن يخرج إلى أبيه في القتال".

وهذا يدل على تغليظ قتل ذي الرحم المحرم.

ص: 66

ولا يثبت لحرم المدينة هذا الحكم، على أصح الوجهين، قال القاضي أبو الطيب وغيره: بناء على قول الشافعي – رضي الله عنه – في الجديد: إنها ليست بحرم.

ويثبت؛ بناء على قوله في القديم: إنها حرم، ومن قتل منها صيداً يسلب ما عليه من الثياب.

قال الرافعي: ومنهم من حكى التردد إذا قلنا بهذا القول.

وهل يثبت هذا الحكم في قتل المحرم الحلال؟ فيه وجهان:

وجه الثبوت – وهو المحكي عن أبي الفياض البصري، وابن أبي هريرة -: أن الإحرام لما أوجب ضمان الصيد كما أوجبه الحرم، كذلك يوجب التغليظ كما أوجبه.

وأصحهما: المنع.

والفرق: أن حرمة المكان لازمة، بخلاف حرمة الإحرام.

وحكى القاضي الحسين الوجهين، فيما إذا قتل حلال محرماً.

وقتل ذي الرحم إذا لم يكن محرماً هل تتغلظ فيه الدية؟ فيه وجهان:

اختيار الشيخ أبي محمد والقاضي الروياني: أنها تتغلظ؛ لما فيه من قطيعة الرحم [وتأكيد الحرمة، وعلى هذا يدل ظاهر النص؛ فإنه قال: وذي الرحم].

والأكثرون على المنع؛ كما لا تتغلظ بحرمة الرضاع والمصاهرة، وادعى القاضي الحسين إجماع الأصحاب على أن المحرمية شرط.

واعلم أن التغليظ في الدية يكون من ثلاثة أوجه: التخصيص بالجاني، وكونها حالة، وكونها مثلثة، وذلك يختص بجناية العمد.

وتخفيفها يكون من ثلاثة أوجه: كونها على العاقلة، وتأجيلها، وتخميسها، وذلك يختص بجناية الخطأ.

وتخفيفها من وجهين: وهو كونها مؤجلة على العاقلة [على الأصح – كما سنذكره من بعد] وتغليظها من وجه، وهو كونها مثلثة، ويختص ذلك بجناية عمد الخطأ وبالقتل خطأ في الأشهر الحرم، أو في الحَرَم، أو ذا رحم [محرم]، كما ذكرناه، وقد صرح بذلك البندنيجي.

وبذلك يظهر لك مراد الشيخ بقوله: وجبت مغلظة، عمداً كان أو خطأ.

ص: 67

ثم ما ذكره من جريان التغليظ يجري في دية من عداه.

قال: وفي عمد الصبي والمجنون [- أي اللذين لهما تمييز -] قولان:

أحدهما: أنه عمد؛ لأنهما قد ميزا مضارهما من منافعهما؛ فوجب أن يصح منها العمد كالبالغ العاقل، ولأنه يجوز تأديبهما على القتل؛ فكان عمدهما عمداً؛ كالمكلف، وهذا هو الأصح في "الرافعي"، واختاره [القاضي] أبو الطيب.

قال: فتجب فيه دية مغلظة – أي: بالأنواع الثلاثة – كما تجب كذلك في مال المكلف [إذا تعمد القتل].

قال: والثاني: أنه خطأ؛ لما روي عن علي – كرم الله وجهه – أنه قال: "عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأُ"، ولقوله – عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ

" الخبر المشهور.

قال القاضي أبو الطيب: وفيه دليلان:

أحدهما: أنه أخبر أن القلم رفع عنهما، ومن رفع عنه القلم لا يصح عمده.

والثاني: أنه قرنهما بالنائم، وقد ثبت أن النائم لو انقلب على صبي؛ فقتله – لم يجب عليه القصاص؛ لأن عمده لا يصح؛ كذلك الصبي والمجنون.

والقائل بالأول أجاب عن أثر عليّ بأنه لم يصح، وعن الخبر بوجهين:

أحدهما: أنا كذا نقول: إن القلم رفع عنه فيما يتعلق بعبادة الأبدان؛ ولهذا لا نوجب القصاص عليه.

والثاني: أن الاستدلال بالقرين لا يجوز؛ لأن اللفظ قد يتفق ويختلف المعنى، يدل عليه قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وإيتاء الحق واجب، والأكل ليس بواجب. وكذا قول صفوان بن عسال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلَاّ نَنْزِعَ خِفَافَنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ، أضوْ سَفَراً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، ِإلَاّ مِنْ جَنَابَةٍ، َلكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَولٍ وَنَومٍ قرن بين الغائط والبول والنوم، وإن كان النوم لا ينقض الوضوء على جميع الصفات، [والغائط والبول

ص: 68

ينقضان الوضوء على جميع الصفات].

قال الماوردي: ولو جعل عمد الصبي عمداً، وعمد المجنون خطأ، لكان الفرق بينهما أشبه؛ لأن العبادات تصح من الصبي، ولا تصح من المجنون، لكن القولين في الجميع بينهما مطلقاً؛ فأطلقناه مع الفرق الذي أراه.

[ثم] على القول الثاني لا يكون لهما [عمد] خطأ، قال الإمام - عند اصطدام الصبيين -: لأن شبه العمد إنما يتصور فيمن يتصور منه العمد المحض؛ فعلى هذا تجب الدية مخففة من كل وجه إذا لم تقع في الأشهر الحُرُم، [أو في الحَرَم]، [أو] في رحم محرم.

أما إذا وجد مع واحد مما ذكرناه، فلم أر فيه نقلاً، ويجوز أن يقال [بتغليظها بالتثليث؛ أخذاً من قول الشيخ: عمداً كان أو خطأ، ويجوز أن يقال] بعدمه؛ لأن التثليث وجب في قتل الخطأ عند وقوعه في الأشهر الحُرُم وما في معناها؛ [إلحاقاً لذلك بعمد الخطأ]، وقد ذكرنا أنه لا عمد خطأ للصبي والمجنون، وإذا امتنع في حقهما المشبه به، فالمشبه أولى.

أما إذا لم يكن لهما تمييز، فقد قال القاضي الحسين في "التعليق"، والإمام، وغيرهما: إنه لا عمد لهما قولاً واحداً.

وفي "الحاوي"، في آخر كتاب الديات: أنا على القول الأول نسوي بين الصبي والمجنون، سواء كان مميزاً أو غير مميز، وهل يتعلق بقتل من لا تمييز له منهما ضمان؛ وكذا إذا أتلفا مالاً هل يتعلق [الضمان بمالهما]؟ فيه وجهان خرجهما الشيخ أبو محمد من الخلاف الذي ذكرناه فيما إذا أمر السيد عبده الذي لا تمييز له بقتل شخص، هل يتعلق الضمان برقبته، أم لا؟

وجه المنع: أنه شبيه بإتلاف البهيمة العادية.

والذي يقتضيه إيراد الجمهور: إيجابه؛ لأنهم ادعوا أنه خطأ، وادعى المتولي أنه خطأ بلا خلاف.

ص: 69

قال: وإن كان للقاتل أو للعاقلة إبل، وجبت الدية منها.

يعني: إذا كان للقاتل إبل حيث تجب الدية عليه؛ بأن كان القتل عمداً، أو خطأ ثبت بإقراره – كما ذكر الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ – أو للعاقلة إبل حيث تتحمل الدية؛ [بأن كنا الفعل خطأ، وقد ثبت بالبينة أو بإقرار العاقلة – وجبت الدية] من نوعها؛ كما تجب الزكاة من النوع الذي يملكه من تجب عليه الزكاة.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون إبل البلد مثلها أو دونها أو فوقها.

وحكى الإمام وجهاً عن محققي المراوزة – ورجحه -: أن الاعتبار بغالب إبل البلد؛ لأن الدية عوض متلف، واعتباره بملك من عليه بعيد.

فعلى هذا: إن كانت إبل البلد نوعين فأكثر، ولا غالب فيها – فالخيرة إلى المعطي.

وعلى الأول –وهو الذي نص عليه في "المختصر" في مسألة العاقلة-: لو كانت إبل الجاني مختلفة الأنواع؛ فأخرج من كل نوع بحصته – جاز، وهذا ما أوجبه ابن الصباغ عليه.

والماوردي قال: إذا أراد أن يعطي من أحد الأنواع، فإن أخرج من الأعلى جاز، [وإن كان أرذلها، وإن لم يكن فيها غالب، فإن أخرج من الأعلى جاز]، وإن أخرج من الأدنى لم يجز، إلا أن يرضى به [الولي، وهذا بخلاف الزكاة؛ حيث لا يجوز له إخراج نوع دون ما وجب عليه، وإن رضي به] الفقراء؛ لما في ذلك من إبطال حق الله تعالى.

ولو كانت إبل العاقلة مختلفة، نظر: فإن كان لكل منهم نوع واحد؛ فيؤخذ من كل واحد منهم من النوع الذي يملكه. وإن كان لكل منهم انواع، فحكمه حكم القاتل، إلا في عدم إجزاء الأدنى؛ فإنه يجوز هاهنا.

قال الماوردي: لأنها تؤخذ من العاقلة؛ مواساة، ومن الجاني استحقاقاً.

وحكى الرافعي وصاحب "الحلية" فيما يجب على الواحد عند اختلاف الأنواع عنده – وجهين:

أحدهما: غالب إبله؛ فإن استووا يُخَيَّر.

والثاني: يجب من كل نوع بقسطه؛ فإن أخرج الجميع من نوع واحد، وكان أجودها – جاز، وهذا ما حكاه الأصحاب، وعليه إشكال سأذكره في آخر باب

ص: 70

العاقلة، إن شاء الله تعالى.

قال: وإن لم يكن لهما إبل وجبت من غالب إبل البلد، فإن لم يكن فمن غالب إبل أقرب البلاد إليهم؛ كما قلنا بذلك في زكاة الفطر، وهذا في حكم أهل البلدان.

فإن كانوا من أهل القبائل اعتبر غالب إبل القبيلة؛ فإن لم يكن فمن غالب إبل أقرب القبائل إليهم.

قال: ولا يؤخذ فيها معيب ولا مريض؛ لأنها بدل متلف؛ فكان من شرطه الصحة والسلامة من العيب؛ قياساً على سائر أبدال المتلفات.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون إبل القاتل والعاقلة صحاحاً أو مراضاً، سليمات أو معيبات، بخلاف الزكاة؛ بخلاف الزكاة؛ حيث تؤخذ المراض من المراض، ومن المعبات معيبة؛ لأن الزكاة استحقاق جزء من عين المال؛ فكانت معتبرة بصفة المال، والدية تجب في الذمة؛ فكان من شرطها الصحة والسلامة.

وأيضاً: فإنا لو أوجبنا في الزكاة صحيحة من مراض لأدى إلى أن يأتي على أكثر من ربع العشر، والشرع إنما أوجبه، وليس كذلك الدية؛ فإنه يجب الجزء اليسير منها، ولا يؤدي إلى الإجحاف؛ لأن الموسر تجب عليه في ثلاث سنين دينار ونصف – على رأي – ونصف دينار على آخر، وإذا تقرر ذلك وجب على القاتل أو العاقلة في هذه الحالة: الإخراج من نوع إبلهما، سواء كانت إبل البلد أو القبيلة أعلى منها أو دونها أو مساوية لها.

قال: فإن تراضيا على أخذ العوض عن الإبل، جاز؛ لأنها حق مستقر في الذمة؛ فجاز أخذ البدل عنه؛ كسائر أبدال المتلفات.

قال صاحب "البيان": هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنيًّا على أنه يجوز الصلح عن إبل الدية. وهذا منه إشارة إلى حالة الجهل بالصفات، ومعرفة القدر، والسن؛ إذ ذلك محل الخلاف في جواز الصلح عيها والاعتياض؛ كما صرح به القاضي الحسين في باب عفو المجني عليه ثم يموت.

أما إذا كانت معلومة القدر والسن والصفات فلا نزاع في جواز الصلح عليها،

ص: 71

وقد صرح به في "الوسيط" في كتاب الصلح.

قال: وإن أعوزت الإبل وجبت قيمتها بالغة ما بلغت في أصح القولين؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَانَ يُقَوِّمُ الإِبِلَ عَلَى أَهْلِ القُرَى؛ فَإِذَا غَلَتْ رَفَعَ فِي قِيمَتِهَا، وَإِذَا هَانَتْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا".

وروي عنه – أيضاً – قال: "كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِمَائَةَ دِينَارٍ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ – رضي الله عنه – فَغَلَتِ الإِبِلُ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ خَطِيباً؛ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ الإِبِلَ قَدْ غَلَتْ"؛ فَقَضَى عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الوَرِقِ بِاثْنَى عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ".

وفيه دليلان:

أحدهما: أنه أخبر أن عمر – رضي الله عنه – زاد في قيمتها لما غلت؛ فدل على أنه ينتقل إلى قيمتها إذا أعوزت، وأن الذهب والفضة بدلان من الإبل، وليسا بأصلين.

والثاني: أن قوله: "كانت قيمة الدية كذا"، يدل على أن الواجب هي الإبل أصلاً؛ ولأن الإبل بدل متلف لا يجوز العدول عنه إلى غيره مع وجوده؛ فوجب الرجوع إلى قيمته عند إعوازه، أصله: إذا أتلف ما لَه مِثْلٌ، وهذا ما اختاره المزني، وهو الجديد.

فعلى هذا: تقوم بغالب نقد البلد، وتراعى صفتها في التغليظ إن كانت مغلظة.

قال الإمام والقاضي [الحسين]: فإن غلب النقدان في البلد يخير الجاني، وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة لوجب تسليمها، فلو وجبت في بلد، والإبل موجودة في بلد – يجب النقل من مثلها، كما سنذكره؛ فهل الاعتبار بقيمة مواضع الوجود، أو بلد الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها؟ فيه وجهان في "التهذيب"، والأشبه: الثاني.

ص: 72

والاعتبار في الوقت بيوم وجوب الدفع إن كانت مفقودة إذ ذاك، وإن وجب وهي موجودة، فلم يتفق الأداء حتى أعوزت – تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق يومئذ تحول إلى القيمة، كذا قاله الروياني.

وقد وقع في لفظ الشافعي – رضي الله عنه – أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب.

والمراد- كما صرح به الأصحاب في باب العاقلة- يوم وجوب التسليم؛ كما ذكرناه.

قال: وفيه قول آخر- أي: قديم – أنه يجب ألف دينار – أي: أصلاً – على أهل الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم – أي: أصلاً – على أهل الورق؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والجمهور.

ووجهه: ما روى [الزهري] عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم [عن أبيه عن جده عمرو بن حزم] أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَ [عَلَي] أَهْلِ الوَرِقِ اثْنَا عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ". ولأن ما استحق في الدية كان أصلاً مقدراً؛ كالإبل، وهذا ما ادعى الجيلي أن الروياني وجماعة من أصحابنا اختاروه، خصوصاً في موضع لا تعرف الإبل وقيمتها.

وقد حكى القاضي ابن كج وجهاً عن رواية [أبي] الحسين أنه قدر الدراهم.

قال: ويزاد للتغليظ قدر الثلث، أي: على القديم؛ لما روي عن عمر – رضي الله عنه أنه قال: "مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَم، أَوْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ، أَوْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- فَعَلَيهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ".

ص: 73

وعن عثمان رضي الله عنه أنه "قَضَى فِي امْرَأَةٍ وُطِئَتْ [فِي الطَّوَافِ] بِالأَقْدَامِ بِثَمَانِيَةِ آَلَافِ دِرْهَمٍ"، وهي دية وثلث.

وعلى هذا: لو تعدد سبب التغليظ؛ بأن قتل مُحْرِماً في الحرم، فهل يتعدد؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا؛ كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم لا يلزمه إلا جزاء واحد.

والثاني: نعم؛ فيزاد لكل سبب ثلث الدية؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ رَجُلاً فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي البَلَدِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ: دِيَّتُهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفِ [دِرْهَمٍ]، ولِلشَّهْرِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلِلبَلَدِ الْحَرَامِ أَرْبَعَةُ آَلَافٍ".

وعلى هذا لو انضم إلى ذلك كون القتل شبه عمد، وجب أربعة وعشرون ألفاً، أو ألفا دينار.

وإن انضاف إلى ذلك وقعه في [ذي الرحم]؛ فثمانية وعشرون ألفاً، أو ألفا دينار، وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث.

وقيل: لا يزاد للتغليظ على القديم شيء؛ لأن التغليظ في الإبل إنما ورد بالسن والصفة. لا بزيادة العدد، وهذا ما صححه الرافعي، وقال: إنه أخذ مما احتج به على فساد القول القديم.

وقيل: إن المصير إليه يُسْقِطُ أثر التغليظ.

ولو وجد بعض الإبل، وعدم بعضها - أخذ الموجود، والكلام في المفقود كما تقدم؛ هكذا أطلقه ابن الصباغ، وصرح المتولي بذلك؛ تفريعاً على الجديد.

[أما إذا قلنا بالقديم]، قال: لا يجبر الولي على قبول ذلك من جنسين؛ حتى لا يختلف عليه حقه.

فرع: إذا قلنا بالجديد، فلو قال المستحق عند إعواز الإبل: لا أطالب الآن بشيء، وأصبر إلى أن توجد قال الإمام: فالأظهر أن الأمر إليه؛ لأن الأصل هو الإبل.

ص: 74

ويحتمل أن يقال: لمن [عليه] الدية أن يكلفه قبض ما عليه؛ لتبرأ ذمته.

ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنه لو أخذ الدراهم، ثم وجدت الإبل – يرد الدراهم، ويرجع إلى الإبل؛ بخلاف ما إذا غرم قيمة المثل في الغصب والقرض – لإعوازه – ثم وجده؛ فإن في الرجوع إلى المثل خلافاً.

تنبيه: الإعواز [حقيقة: عدم] الوجود [في تلك الناحية، ويقوم مقامه الامتناع من البيع مع وجودها] إلا بأكثر من ثمن المثل.

ولو كانت في غير البلد والقبيلة، فينظر: إن قربت المسافة وسهل تحصيلها، فهي كالموجودة، فإن بعدت بحيث تعظم المشقة الكلفة فهي كالمعدومة.

وبم يضبط القرب والبعد؟

أشار بعضهم إلى رعاية مسافة القصر؛ فجعلها فما فوقها من حد البعد.

وقال الإمام: لو زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع العِزَّة لم يلزمه إحضارها، وإلا لزم.

وقال في "التتمة": إن حد القرب والبعد ما ذكرناه في كتاب السلم.

قال: ودية اليهودي والنصراني: ثلث دية المسلم؛ لما روى أبو إسحاق المروزي في "الشرح" بإسناده، عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دَِيةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرانِيِّ ثُلُثُ دِيَّةِ الْمُسْلِمِ".

ولأنه أقل ما قيل، والأصل براءة الذمة مما زاد.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون قد عقدت له الذمة، أو دخل معاهدا، ً أو مستأمناً في ساعة من نهار.

والسامرة والصابئة، قال الماوردي: إن أجروا مجرى اليهود والنصارى في إقرارهم بالجزية، وأكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم – كانت ديتهم ثلث دية المسلم، وإن لم يقروا بالجزية؛ لمخالفتهم اليهود والنصارى في أصل معتقدهم؛ فديتهم – إذا كان لهم أمان – دية المجوسي.

ص: 75

قال: ودية المجوسي – أي: إذا دخل بأمان-ثلثا عشر دية المسلم، أي: وهي ستة أبعرة وثلثان، أو ثمانمائة درهم، أو ستة وستون ديناراً وثلثان.

ووجهه: ما روى ربيعة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهم:"أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمَائَةَ دِرْهَمٍ".

وكذلك روي عن عثمان وابن مسعود – رضي الله عنهما – فكان هذا القول منهم، والقضاء به مع انتشاره في الصحابة – إجماعاً لا يسوغ خلافه.

ولأن مثل هذه التقديرات لا تفعل إلا توقيفاً.

قال الماوردي: ولأن حكم المجوس في إقرارهم وأخذ جزيتهم منقول عن عمر، ومعمول به إجماعاً؛ فكذلك حكمه فيهم بالدية.

واستأنس الشارح لـ "مختصر" الجويني لذلك؛ بأن قال: "اليهود والنصارى لهم كتاب ودين كان حقًّا بالإجماع، وتحل مناكحتهم، وذبائحهم، ويقرون بالجزية، [وليس للمجوس من هذه الأمور الخمسة إلا التقرير بالجزية؛] فكانت ديتهم خمس ديتهم، وهي ثلثا عشر دية المسلم، أو كما قال: الحساب ثلث خمس دية المسلم، أو خمس ثلثها.

والوثني كالمجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، وعلى هذا يدل قول الشيخ من بعد: وهكذا الحكم في عبدة الشمس والقمر والبقر والشجر.

قال: ومن لم تبلغه الدعوة، أي: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وعبادة الله تعالى وهي بفتح الدال وبلغه دعوة غيره.

قال: فالمنصوص أنه إن كان يهوديٍّا أو نصرانيًّا وجب فيه ثلث الدية، وإن كان مجوسيًّا أو وثنيًّا وجب فيه ثلثا عشر الدية؛ لأنه ثبت له بجهله نوع عصمة؛ فألحق بالمستأمن من أهله دينه.

فعلى هذا: إن لم يعرف دينه فوجهان:

أحدهما: دية مسلم، قال البندنيجي: وليس بشيء.

ص: 76

والمذهب: وجوب دية مجوسي؛ لأنه اليقين.

قال: وقيل: إن كان متمسكاً بكتاب لم يبدل وجب فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة، ولم يظهر منه عناد.

وحكم النسخ لا يثبت قبل بلوغ الخبر، وإن كان متمسكاً بكتاب تبدَّل ففيه ثلث الدية، أي: إذا كان يهوديًّا أو نصرانيًّا.

قال ابن الخل جمعاً بين الحقين: وهذا قول أبي إسحاق، واختاره القفال؛ كما حكاه القاضي الحسين عنه.

وقال القاضي أبو الطيب في كتاب السير: إنه خطأ. وعلى هذا: يجب في المجوسي ثلثا عشر الدية.

والذي أفهم أن مراد الشيخ: ما ذكرناه من [اليهودي والنصراني]، دون من عداهما ممن ذكره – قوله:"كتاب"؛ لأن الوثني لا كتاب له؛ وكذا المجوسي؛ على رأي، وإن كان قد رفع؛ فصار كأن لا كتاب.

ووراء ما ذكره الشيخ وجهان، ولم يحك الماوردي سواهما:

أحدهما: أن الواجب فيه دية مسلم مطلقاً.

والثاني: [أن] الواجب فيه دية مجوسي أبداً؛ لأنها يقين، والأصل براءة الذمة.

وحكى الإمام وجهاً في الذي تمسك بدين مبدل: أنه لا يجب بقتله شيء؛ لأنه ليس على دين حق، ولا عهد له، ولا ذمة، وامتناعنا عن قتله كامتناعنا عن قتل النساء، والذراري، وهذا ما جزم به المتولي.

وامتنع الرافعي من إجراء الوجه الصائر إلى إيجاب تمام الدية فيما إذا كان متمسكاً بكتاب مبدل.

أما من لم تبلغه دعوة نبي أصلاً فقد حكى المعتمدون – كما حكاه الإمام عن القفال- أنه يجب القصاص بقتله؛ لأنه لم يوجد منه عناد وإنكار، وهو على الفطرة الأصلية، وعلى هذا تجب فيه دية مسلم.

والظاهر: أنه لا قصاص؛ لعدم التكافؤ، قال القاضي الحسين: وهذا يوهن كلام الشافعي –رحمه الله – في "المختصر"؛ في كتاب "السير"؛ فإنه قال: ومن كان

ص: 77

مشركاً، يستحيل إثبات القود وكمال الدية بقتله ونقل نصان في أنه تجب الدية الكاملة، أو أخس الديات، [فأقامهما بعض الأصحاب قولين، وقطع آخرون بوجوب أخس الديات]، وحمل النص الآخر على ما إذا كان متمسكاً بدين لم يبدل، ولم يبلغه ما يخالفه.

فرع: إذا قتل من لا يعلم هل بلغته الدعوة أم لا، قال الماوردي في كتاب "السير": ففي ضمان ديته وجهان؛ بناء على الوجهين في أنه هل كان الناس قبل ورود الشرع على أصل الإيمان حتى [كفروا بالرسل، أو كانوا على أصل الكفر حتى] آمنوا بالرسل.

آخر: الزنديق إذا دخل إلينا بأمان، هل يجب بقتله شيء أم لا؟ تردد فيه الشيخ أبو محمد: ففي حالة ألحقه بالمرتد من جهة أنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ فيجعل إظهاره الإسلام كإسلام المرتد من قبل، وفي حالة يلحقه بالوثني، قال الرافعي: وهو الأصح؛ لأنه لم يسبق منه التزام الإسلام.

قال: وإن قطع يد نصراني، أي: محقون الدم، فأسلم، ثم مات – وجب عليه دية مسلم؛ لأن القطع مضمون، وحدوث الزيادة يا لمضمون يلزم؛ كزيادة المغصوب.

ولأنه لما اعتبر استقرار الدية فيما زاد من الموضحة إذا صارت نفساً في إيجاب الدية الكاملة، بعد أن وجب نصف عشرها، وفيما إذا نقص بقطع اليدين والرجلين إذا سرت إلى النفس في إيجاب دية واحدة، بعد وجوب ديتين- وجب أن يكون بمثابتهما ما حدث من زيادة الدية بالإسلام. وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه لم يقصد الجناية على المكافئ؛ فكان ذلك شبهة في إسقاطه.

ولأنه لما صح- في هذه الحالة – إسقاط بالكفر عند الجناية، وإيجاب بالإسلام عند السراية – وجب أن يغلب حكم الإسقاط على حكم الإيجاب؛ لأنه يصح فيه إسقاط ما وجب، ولا يصح فيه إيجاب ما سقط، وهكذا الحكم فيما إذا جرح عبداً لغيره، فعتق، ثم مات – يجب فيه دية حر، دون القصاص.

فرع: لو قطع أصبع ذمي، ثم أسلم، ثم سرى القطع إلى الكف واندمل –

ص: 78

فعلى القاطع أرش الأصبع، وهي عشر دية الذمي، وأرش الكف يجب معتبراً بدية المسلم، وهو أربعة أخماس دية [يد] المسلم.

وكذا في العبد لو قطع أصبعه، ثم أعتقه السيد، ثم سرى إلى الكف – يجب على القاطع عشر قيمته للسيد، وأرش الكف للعتيق؛ قاله القاضي الحسين.

قال: وإن قطع يد حربي، ثم أسلم ومات –فلا شيء عليه؛ لأنه سراية قطع غير مضمون؛ فأشبه ما لو مات من قطع السرقة أو القصاص، وهذا ما جزم به البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، والشيخ أبو علي، والفوراني، والقاضي الحسين، وطرده فيما إذا جرح قاتل أبيه، ثم عفا، فسرى إلى النفس، [وفيما إذا جرح عبد نفسه]، ثم أعتقه، فسرى الجرح إلى النفس،] وهو في هذه الحالة محكي عن النص؛ لأن الجرح غير مضمون؛ فسرايته كذلك.

وخرج في مسألة العبد قول: أنه تجب الدية من نصه في "عيون المسائل" فيما إذا ضرب بطن جارية مشتركة بينه وبين غيره، وهي حامل بولد رقيق لهما، ثم أعتق نصيبه، وسرى العتق إلى الباقي، ثم أجهضت جنيناً ميتاً – أنه جب للجنين غرة كاملة.

[كما] خرج من مسألتنا إلى مسألة الجنين قول: أنه لا يجب إلا نصف غرة؛ نظراً إلى حالة الجناية، دون حالة الاستقرار.

وحكى الشيخ أبو علي عن بعضهم تقرير النصين.

والفرق: أن الجراحة صادفت مملوكه حقيقة، [ثم طرأ العتق]، وفي الضرب إنما يتحقق إصابة الجناية على الولد عند الانفصال؛ [فجعلت حالة الانفصال كحالة إصابة السهم، وما قبلها كالرمي، والولد عند الانفصال] حر.

قال: وإن قطع يد مرتد؛ فأسلم، ومات – لم يلزمه شيء؛ لما ذكرناه.

قال الإمام قبل كتاب الجزية بورقة: وعلى هذا إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فقطع يده – لم يضمن [يده]؛قياساً على قطع يد المرتد.

وقيل: يلزمه، أي: تمام الدية، كما حكاه البندنيجي، عن تخريج الربيع

ص: 79

في كتاب المرتد، وكذا المصنف هنا؛ لأنه مسلم في حال سراية الجناية، القاطع متعدٍّ؛ لأنه ليس له قتل المرتد، فضلاً عن قطع يده الذي لايجوز للإمام فعله، وبهذا خالفت المسألة مسألة الحربي؛ لأن الإقدام على قتله مباح لكل أحد.

قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه من العلة.

وقد حكى الغزالي والمصنف والمحاملي هذا الوجه في الحربي أيضاً، ونسبه الرافعي فيهما إلى أبي إسحاق، وحكاه القاضي ابن كج عن أبي محمد الفارسي.

وعلى هذا: فالذي رأى الإمام القطع به في مسألة الحربي والمعتق: أن الدية تكون مخففة مضروبة على العاقلة، [وأن] تكون الجناية ملحقة بالخطأ المحض؛ كاعتراض الذمي في مرور السهم إلى الصيد.

وحكى الرافعي عنه في الديات أنه ألحق المرتد في هذا المعنى بالحربي.

وفي "الحاوي" في كتاب المرتد: أنه إذا جرح، ثم أسلم، ثم مات – قال الربيع: فيه قول أنه يجب علىلجارح نصف ديته؛ [لأنه مرتد في حال الجناية، ومسلم في حال السراية فقط]، ووجب نصفها.

ثم قال: وهذا من تخريج الربيع، وليس بمحكي عن الشافعي – رضي الله عنه – ولا تقتضيه أصول مذهبه.

ولو جرح حربي مسلماً، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح – فلا شيء عليه؛ كذا جزم به في "التهذيب".

وحكى الرافعي عن بعضهم أنه يلزمه الضامن؛ لأن المجني عليه مضمون في الحالين.

قال: وإن أرسل سهماً على ذميّ، فأسلم، ثم وقع به السهم؛ فقتله – لزمه دية مسلم؛ لما ذكرناه فيما إذا أرسله على حربي، فأسلم، ثم وقع به؛ فمات.

قال: ودية المرأة على النصف من دية الرجل؛ لما روي عن عمرو بن حزم – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ" ويروي ذلك عن عمر وعثمان وعليّ، والعبادلة: ابن مسعود، وابن عباس،

ص: 80

وابن عمر – رضي الله عنهم – ولم يخالفهم أحد، مع اشتهاره؛ فصار إجماعاً.

ويجب في الخنثى المشكل دية المرأة؛ لأن الزيادة مشكوك فيها، ذكره في "البيان" وغيره.

وكما أن دية المرأة على النصف، فدية أطرافها وجراحاتها على النصف من دية أطراف الرجل وجراحاته، على الجديد.

وفي القديم قول: أن المرأة تغادل الرجل إلى تمام ثلث الدية؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، [أي: تساويه] في العقل؛ فإذا زاد الواجب على الثلث صارت على النصف. وتمسك فيه بما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا"، وقد قيل: إن هذا مرجوع عنه.

وبعضهم قال: إن الشافعي – رضي الله عنه حكاه عن غيره، ولم يثبته قولاً له أصلاً، قاله الماوردي.

قال: ودية الجنين، أي: الحر المسلم، إذا انفصل ميتاً بالجناية: غرةٌ: عبدٌ أو أمةٌ؛ لما روى أبو داود "أَنّ عُمَرَ – رضي الله عنه – اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَضَى فِيهَا "بِغُرَّةٍ عَبْدٍ، أَوْ وَلِيدَةٍ؛ فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَأَتَاهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ

ص: 81

مَسْلَمَةَ؛ فَشَهِدَ لَهُ" وأخرجه مسلم.

قال أبو داود: بلغني عن أبي عبيد: إنما سمي إملاصاً؛ لأن المرأة تزلقه قبل الولادة، وكذلك كل ما زلق من اليد وغيره فقد ملص.

وقد قيل: إن عمر – رضي الله عنه – لما جاءه خلاف ما يعلم في الديات أراد التثبت، لا أنه يرد خبر الواحد.

وقيل: كان [مراده: أنهم] إذا رأوه يفعل ذلك مع الصحابة بالغ غيرهم في التثبت فيما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي الحسين: والحكمة في إيجاب الغرة في الجنين أنه شخص يرجى له حال الحياة، وكمال الحال بالحياة، والجاني فوته [عليه] بجنايته، وقطع عليه طريق الكمال بالحياة، فجاءت الشريعة فأوجبت عليه شخصاً كامل الحال بالحياة في مقابلة ما فوت بجنايته.

ولا فرق في ذلك بأن يكون الجنين ذكراً أو أنثى؛ لإطلاق الخبر.

قال القاضي أبو الطيب: والحكمة في ذلك: أن ديتهما لو اختلفت لكثر التشاجر والتخاصم في كونه ذكراً أو أنثى؛ فحسم الشرع مادة ذلك بالتسوية؛ كما فعل في إيجاب الصاع في المصراة في قليل اللبن وكثيره؛ حسماً للمنازعة والمخاصمة.

قال: قيمته نصف عشر دية الأب أو عشر دية الأم، [أي:] وذلك خمس من الإبل، ووجهه: ما روي أَنَّ "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – أَقَامَ الغُرَّةَ خَمْسِينَ دِينَاراً"، ومعنى "أقام":قوم.

وروي ذلك عن زيد بن ثابت، وعليّ – رضي الله عنهما – كما حكاه الماوردي، ولامخالف لهم من الصحابة.

ومن المعنى: أنها دية؛ فوجب أن تكون مقدرة كسائر الديات.

ص: 82

وأيضاً: فإنه جعل مقدراً، وأقل أرش ورد به الشرع مقدراً دية الموضحة والسن؛ فألحقت هذه الجناية بهما، ولا ترد الأنملة؛ فإن التقدير فيها بالاجتهاد، والذي [ورد] من الشرع فيها تقدير الأصبع.

ثم القيمة تختلف باختلاف الخطأ وعمد الخطأ؛ فإن كانت الجناية خطأ فالغرة مخمسة في حق العاقلة، وإن كانت عمد خطأ فتكون مثلثة: حقة ونصف، وجذعة ونصف، وخلفتان، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والبندنيجي أيضاً، وقال: إنه مفرع على الجديد.

أما إذا قلنا: قيمة الإبل – عند الإعواز- مقدرة؛ فيعتبر هنا أن تكون قيمة الغرة خمسين ديناراً، أو ستمائة درهم، يعني في الخطأ، وتزاد للتغليظ قدر الثلث؛ عملاً بما ذكرناه من قبل، وهذا ما صرح به الماوردي عن جمهور البغداديين، ونسب الأول إلى قول البصريين، وقال: إنا عليه نقوِّم الإبل الخمس، فما انتهت [إليه] قيمتها، اعتبرنا أن تكون قيمة الغرة ذلك القدر؛ لأن الإبل ليست من جنس القيمة.

وفي "تعليق" القاضي الحسين، في أوائل باب الديات: أنا إن قلنا: إن الواجب عند إعواز الغرة –قيمتها؛ فلا تغلظ، وإن قلنا [عند] إعوازها: تنتقل إلى خمس من الإبل، فهل تغلظ، أم لا؟

فالمذهب: أنها لا تغلظ.

وحكى عن الشيخ أبي طاهر الزيادي أنه قال: تغلظ؛ كما في الأطراف. وهذا يفهم أحد أمرين:

أحدهما: أن ذلك راجع إلى الغرة نفسها مع وجودها.

والثاني: أن ذلك مفروض عند عدمها وإيجاب غيرها، وهو الذي فهمه الرافعي، وقال: إن الأئمة [لم] يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة، إلا أن الزيادي قال:

ص: 83

ينبغي أن يقال: تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية المغلظة، وإن هذا حسن.

وفي المسألة وجه آخر حكاه المراوزة: أن الغرة إذا كانت سلمية بالسن الذي سنذكره، لا تعتبر قيمتها بشيء، وادعى الإمام أنه الذي دل عليه كلام معظم نقلة المذهب.

ولا خلاف [في] أنه لا يعتبر في الغرة نوع، سواء كان غالباً في البلد أو لا، وسواء كان في يد من وجبت عليه أم لا؛ لإطلاق الخبر، صرح به الإمام.

أما إذا ماتت الأم، ولم ينفصل جنين بعد الجناية [عليها]، وكان يظن حملها؛ لانتفاخ بطنها، أو حركة فيه – لم يجب بسببه شيء؛ لأنا لا نتيقن وجود جنين.

نعم، لو انكشف الحال عن جنين في بطنها ميتاً، ولم ينفصل؛ بأن قُدَّت بنصفين؛ فظهر في بطنها ولم يخرج، أو خرج رأسه، ثم ماتت، ولم يتم خروجه – فهل تجب فيه الغرة، أم لا؟ فيه وجهان:

أصحهما- وبه جزم القاضي أبو الطيب -: نعم.

والثاني: لا، ما لم ينفصل بكماله، وهذا ما يحكي عن القفال؛ لأنه قبل الانفصال كالعضو من أمه، واستشهد له بأن انقضاء العدة ووقوع الطلاق المعلق بالولادة وسائر الأحكام لا تتعلق بخروج بعض الولد، بل بالانفصال التام؛ فكذلك هاهنا.

قلت: سأذكر عن رواية الإمام عن القفال ما يقتضي خلاف ذلك.

ص: 84

ولا خلاف عندنا أنه لو انفصل بعد موتها بالجناية عليها، وهي حية: أن الغرة تجب، ولو ضرب بطن ميتة؛ فانفصل منها جنين ميت – لم تجب الغرة؛ لأن الظاهر أن هلاكه بهلاك الأم، قاله في "التهذيب"،وادعى الماوردي الإجماع فيه.

وعن "جمع الجوامع" للروياني: أن القاضي الطبري قال: يجب ضمان الجنين؛ لأن الجنين [قد] يبقى حيًّا في بطن أمه، والأصل بقاء حياته.

قال: تدفع إلى ورثته أي: لو انفصل حيًّا، ثم مات؛ لأنها دية نفس.

واحترز الشيخ بذلك عن مذهب من قال: إنها تصرف للأم، هو الليث بن سعد؛ لأنه بمنزلة أعضائها؛ بدليل انه تابع لها في الرق والحرية.

وعن مذهب من قال: إنها للعصبة خاصة، وهو علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه!

وعن مذهب من قال: إنها للأبوين خاصة، وهو ربيعة؛ لخلقه من مائها.

ورثته الأم إن كانت حرة حية عند انفصاله، والعصبة، وقدرنا حياة الجنين؛ تغليظاً على الجاني، ولم نقدرها عند إنفاق مال الجنين؛ لأن الأصل عدمهما.

واعلم أنه لا يجب للأم شيء بسبب ما حصل لها من ألم الجناية والضرب، إذا لم يبن له أثر في بدنها كاللطمة والرفسة، فأما إجهاضها عند إلقائه ففيه قولان حكاهما القاضي أبو حامد في "جامعه":

أحدهما: لا شيء لها فيه أيضاً.

والثاني: لها فيه حكومة؛ لأنه كالجرح في الفرج عند خروج الجنين منه؛ فلو اقترن بذلك أثر الضرب في بدنها، ضمن حكومة للضرب، وحكومة للإجهاض.

تنبيه: سمي الجنين جنيناً؛ لاستتاره، ومنه: الجن، وجن عليه [الليل]، والمجن: بكسر الميم، وهو الترس.

ص: 85

والغرة، قال أهل اللغة والغريب، والفقهاء: هي النسمة من الرقيق، ذكراً كان أو أنثى، وسميا بذلك؛ لأنهما غرة ما يملكه الإنسان، أي: أفضله وأشهره، وغرة كل شيء خياره.

وفي "حواشي" الشيخ زكي الدين –رحمه الله أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: الغرة: عبد أبيض، أو أمة بيضاء، وإنما سميت غرة؛ لبياضها.

وقيل: إطلاقه صلى الله عليه وسلم الغرة على العبد والأمة، على طريق التوسع والمجاز؛ فإن الغرة اسم الوجه؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء؛ فسمي الخيار من المماليك: غرة؛ لأنه في المماليك كالوجه في الأعضاء.

وقوله – عليه السلام: "غرة: عبد، أو أمة" حمله غير واحد من العلماء على التفسير، لا على الشك.

قال الشيخ زكي الدين – رحمه الله: والرواية فيه بالتنوين، وما بعده بدل منه، ورواه بعضهم بالإضافة، والأول أوجه؛ لأنه بين الغرة ما هي. انتهى.

وهذا الترديد يأتي في قول الشيخ أيضاً.

قال الشيخ زكي الدين – رحمه الله: والرواية فيه بالتنوين، وما بعده بدل منه، ورواه بعضهم بالإضافة، والأول أوجه؛ لأنه بين الغرة ما هي. انتهى.

وهذا الترديد يأتي في قول الشيخ أيضاً.

فرع: إذا ضرب بطن امرأة، فأجهضت جنينين أو ثلاثة – وجب لكل منهم غرة.

ولو اشترك اثنان في ضربها؛ فألقت جنيناً، وجب على عاقلتهما غرة واحدة.

قال: وإن كان أحد أبويه مسلماً، [والآخر كافراً، أو أحدهما مجوسيًّا والآخر كتابيا – اعتبر أكثرهما بدلاً.

أما في الأولى؛ فلأنه محكوم بإسلامه؛ فكان كما لو كان أبواه مسلمين.

وأما في الثانية؛ فلأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الإسقاط والإيجاب [غلب الإيجاب]؛ كما قلنا في السمع – المتولد بين الضبع والذئب – إذا قتله المحرم، وهذا ما نص عليه في "المختصر".

وعلى هذا: إن كان الأب كتابيًّا، والأم مجوسية – وجبت غرة قيمتها قيمة بعير وثلثين، أو مائتا درهم، أو ستة عشر ديناراً وثلثان – على الخلاف الذي سبق؛ لأن عشر دية الأم ثلث بعير، أو ثلاثة دنانير وثلث، أو أربعون درهماً؛ فكان ما

ص: 86

ذكرناه أكثر بدلاً.

ولو كانت الأم كتابية، والأب مجوسيًّا – وجبت غرة قيمتها قيمة بعير وثلث، أو ما ذكرناه؛ لأن ذلك عشر دية الأم، ونصف عشر دية الأب في هذه الحالة ثلثا بعير، أو ستة دنانير وثلثان، أو ثمانون درهما.

ولأجل هاتين المسألتين قال الشيخ في الفصل قبله: "قيمة نصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم".

وحكى الإمام أن من يوثق به نقل عن القاضي الحسين: أن الجنين إذا كان كافراً، وجب فيه جزء من الغرة، نسبته من الغرة نسبة دية أهل الجنين من الدية الكاملة، فإن كان الجنين نصرانياً فدية النصراني ثلث دية المسلم؛ ففي الجنين النصراني ثلث الغرة، وفي الجنين المجوسي خمس ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا [تجري] نسبتها، وهو هكذا في "تعليقه".

ثم قال الإمام: وهذه الطريقة منقاسة؛ فإن الغرة من الجنين بمثابة الدية من الشخص التام، ولكني لم أر هذا لأحد من الأصحاب.

وجه الخلل فيه: أنه هجوم على القياس في أول المرتبة من غير ثبت من طريق التعبد، والأصل في الباب التعبد.

ثم حكى عن العراقيين ما ذكرناه، وقال: إن هذا يقتضي أن ما حكاه عن القاضي مغاير له، وقد صرح به من بعد؛ حيث حكى ذلك وجهين؛ ولأجل ذلك حكى الغزالي وجهاً: أنه يجب في الجنين الكافر ثلث الغرة، يعني إذا كان يهودياً أو نصرانياً.

وادعى الرافعي أن هذا لم يذكره أحد، وإنما هو محمول على إيجاب غرة قيمتها ثلث الغرة الكاملة، وهذا كلام من لم يقف على كلام الإمام، والله أعلم.

وعن بعض الأصحاب أنه يؤخذ هذا القدر من الدية، ويدفع إلى المستحق، من غير أن يصرف إلى الغرة، وحكاه في "البيان" عن المسعودي.

قال الرافعي: وإيراد آخرين يشعر بأنه يدفع إليه هذا القدر، [أو غرة بقيمة هذا القدر].

ص: 87

والأصح: تعين الثاني، إلا ألا توجد غرة بهذه القيمة؛ فيكون الحكم كما سنذكره.

وقيل في المسألة قول مخرج: أن الاعتبار بالأب، وهو ما حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب".

وحكى القاضي الحسين وغيره عن أبي الطيب بن سلمة: أن الاعتبار بأخف الأبوين ضماناً؛ لأن الأصل براءة الذمة عن الزيادة، وهذا ما اختاره الماوردي من عند نفسه.

والقول والوجه مأخوذان من الخلاف في أن المسلم هل ينكح المتولدة من أبوين كتابي ومجوسية، وهذا كله تفريع على الصحيح في أن الغرة يعتبر فيها القيمة، أما إذا قلنا: لا تعتبر – كما حكاه الإمام عن المراوزة – فهاهنا ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الواجب غرة كاملة، ولا يبالي بالتسوية بينه وبين الجنين المسلم؛ لأنه لا سبيل إلى الإهدار، ولا إلى تجزئة الغرة.

قال الرافعي: وقد يحتج له بظاهر ما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَنِينِ بِالغُرَّةِ".

والثاني: أنه لا يجب في جنين الكافر- كيف قدر – عبد ولا جزء من عبد؛ لأنه لا يمكن التسوية بينه وبين الجنين المسلم؛ كما لا يسوَّى بين المسلم والكافر في الدية، والتجزئة ممتنعة، وهذا ما قطع به الشيخ أبو محمد والصيدلاني، وصاحب "التقريب"، وبعض المصنفين؛ كما حكاه الإمام، وقال في موضع آخر: إن هذه الطريقة [هي] التي تعرفها المراوزة.

والثالث: الوجه الذي حكيناه عن القاضي من قبل.

فرع: إذا جنى على مرتدة حبلى؛ فأجهضت – نظر:

إن ارتدت بعد الحبل وجبت غرة كاملة؛ لأن الجنين محكوم [له بالإسلام]، وإن حبلت بعد الارتداد من مرتد، فيبني على أن المتولد من مرتدين مسلم أم كافر؟ إن قلنا: مسلم، وجبت [فيه غرة] كاملة، وإن قلنا: كافر،

ص: 88

فهو كجنين الحربيين لا يجب فيه شيء على الجاني؛ كذا حكى عن الشيخ أبي عليّ وغيره، وكلام القاضي الحسين منطبق عليه.

وفي "التهذيب": أن من لم يجعل المتولد بين المرتدين مسلماً يوجب فيه ما يجب في جنين المجوسيين؛ فإن من يذهب إليه يثبت له حرمة؛ لبقاء علقة الإسلام.

[فرع آخر]: إذا جنى على ذمية حبلى تحت ذمي، فأسلمت، أو أسلم الذمي، ثم أجهضت – وجبت غرة كاملة؛ لأن الاعتبار في قدر الضمان بالمال.

قال: وإن ألقته حيًّا، ثم مات، أي: عقيبه، أو بقي متألماً إلى أن مات – وجبت فيه دية كاملة، أي: سواء كان [لستة أشهر فما دونها] أو فما فقها، أو كانت حياته بعد الانفصال كحياة من انتهى إلى حركة المذبوحين أولا؛ لتحقق الجناية على حي.

وعلى المزني: أنها إذا وضعته قبل ستة أشهر- أنها لا تجب؛ لأن الجناية – والصورة هذه – منع من الحياة، لا قطع لها.

وفي "التتمة" حكاية مثله عند انتهائه إلى حركة المذبوحين.

فرع: لو انفصل بعض الولد، وصرخ واستهل، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن – فالواجب: الغرة على الصحيح عند الإمام، وهو اختيار القفال كما حكاه القاضي الحسين، وبه جزم الماوردي؛ فلا يجب القصاص به، ولو أعتقه عن الكفارة لم يجزئه، وإن باع الأم أو وهبها دخل في البيع.

وعلى الجملة: فهو في جميع القضايا والأحكام بمنزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء.

وقال بعض أصحابنا: إذا قتله قاتل استوجب القصاص، وإذا آل الأمر إلى المال وجبت الدية بكاملها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق وكل ما كنا [لا] نثبته لعدم الاستيقان في الوجود.

قال الإمام في كتاب العدد: وهذا وإن كان منقاساً، وقد عزي إلى القفال – فهو ضعيف في الحكاية؛ فما أراه ملتحقاً بالمذهب، وهذا ما حكاه القاضي أبو

ص: 89

الطيب في وجوب الدية خاصة.

قال: فإن اختلفا في حياته، أي: حال الوضع، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل يشهد له، فلو أقام الوارث بينة على حياته أو على استهلاله، عمل بها.

ويكفيه [في إثبات الاستهلال] شهادة النسوة؛ لأن الاستهلال حينئذ لايطلع عليه - غالباً - إلا النساء؛ كالولادة.

وعن حكاية الربيع: أنه لا يقبل إلا من رجلين، أو رجل وامرأتين.

وحكى القاضي أبو الطيب بعد حكاية ذلك عنه أن القاضي أبا حامد غلطه؛ لأن هذه الشهادة هي مستندة إلى سببها، وهي الولادة، وشهادة النساء مسموعة فيها على الانفراد.

وفي "أدب القاضي" لابن أبي الدم: أن صاحب "التهذيب" قال: وقيل: لا يثبت إلا برجلين.

والذي رأيته فيه: أن الربيع قال: و [قيل] فيه قول آخر: أنه لا يقبل إلا من رجلين عدلين، وقد حكينا عن غيره أنه حكى عن الربيع ما ذكرناه، ولعل صاحب "التهذيب" اقتصر على بعض كلامه.

فلو أقام كل منهما بينة قدمت بينة الوارث؛ لاشتمالها على زيادة علم.

ولو اتفقا على أنه انفصل حيًّا، لكن ادعى الجاني أن سببه غير جنايته، وادعى الوارث أن انفصاله بسبب الجناية -[فإن كان الانفصال عقيب الجناية] فالمصدق الوارث باليمين، وإن انفصل بعد مدة من وقت الجناية فالمصدق الجاني باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن يقيم الوارث بينة أنها لم تزل متألمة حتى أجهضت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين.

وضبط المتولي المدة المتخللة بما يزول فيها ألم الجناية وأثرها غالباً.

وهكذا الحكم فيما لو اتفقا على أن الجنين سقط حيًّا بجنايته، وادعى الجاني أنه مات بسبب آخر، وقال الوارث: بل بالجناية، فإن لم يمتد الزمان فالمصدق الوارث، وإلا فالجاني، إلا أن يقيم الوارث بينة على أنه لم يزل متألماً حتى الموت.

ص: 90

فرع: إذا أقر الجاني بانفصال الجنين حيًّا، وأنه مات من جنايته – فإن صدقته العاقلة تحملوا الدية، وإن كذبه في حياته وحلفوا، وجب عليهم قدر الغرة من جنايته، والباقي على الجاني قاله البندنيجي، والقاضي الحسين وغيرهما.

قال: وإن ألقته مضغة، وشهد القوابل أنه خلق آدمي، أي: شهدن أنه لو بقي لتخطط – ففيه قولان:

أحدهما: تجب فيه الغرة.

الثاني: لا تجب، وقد بينا ذلك في كتاب العدد.

فروع:

لو ضربها؛ فألقت يداً، أو رجلاً، أو عضواً [آخر] – فعليه الغرة؛ لأن ذلك يدل على وجود الجنين، وهذا مجزوم به في الطرق.

وقد ذكرنا من قبل فيما إذا تحقق وجود الجنين، ولم ينفصل – وجهين في وجوب الغرة، وعللنا وجه المنع بأن الأحكام المتعلقة بالولادة لا تتعلق بخروج بعض الولد، بل بالانفصال التام، وهذا يقتضي أن يجري الوجه المذكور هاهنا، إلا أن يقال: انفصال البعض يقام مقام انفصال الجميع مع تحقق وجوده.

ولو ألقت يدين، أو ثلاثة، أو أربعة – لم تجب إلا غرة [واحدة]؛ لأن الشخص الواحد قد يكون له ذلك.

ولو ألقت راسين، فكذلك؛ لأن الشخص الواحد قد يكون له رأسان، يحكي أنه كان لواحد رأسان؛ فكان إذا ضحك بأحدهما أو بكى ضحك الآخر أو بكى.

ولو ألقت جسدين، قال في "الحاوي": فالحكم كذلك؛ لجواز أن يكون عليهما رأس واحد.

وقال القاضي الحسين: يجب غرتان؛ لأن الشخص الواحد لا يكون له بدنان منفصلان.

ومن هذا يؤخذ أن كلام الماوردي محمول على الجسدين المتصلين.

ولو ألقت يداً، ثم ألقت الباقي، ومات – فعليه دية النفس، وتدخل دية اليد فيها.

ص: 91

ولو ألقت الباقي وعاش فعليه نصف الدية؛ كذا قاله [القاضي] الحسين.

وقال الماوردي: إن دلت شواهد حال اليد على انفصالها بعد استقرار الحياة، ففيه نصف الدية. وإن دلت على انفصالها قبل استقرار الحياة، ففيه نصف الغرة.

وكذا حكاه القاضي أبو الطيب، وقال: لو اشتبه الحال على القوابل كان الواجب نصف الغرة.

قال: ولا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار، ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله، ويخالف الكفارة؛ حيث يجزئ مثل هذا فيها.

قال القاضي الحسين: لأن المقصود من الإعتاق فيها تكميل شخص بالحرية، وتسليطه على القيام بكفايته عاجلاً أو آجلاً، والصغير وإن كان لا يقوم بكفايته في الحال فيقوم بها في المآل، والمقصود من الغرة جبر الخلل الواقع للأبوين بإتلاف ولدهما عليهما، ولا ينجبر الخلل بمن هو أقل من سبع سنين؛ لأنه يكون كلاًّ عليهما.

قال: ولا كبير ضعيف، أي: عن العمل؛ لما ذكرناه.

وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه يقبل منه من له سبع سنين وأكثر، [ولكن لا] إلى أن ينتهي إلى حد الهرم المؤثر في حل القوى وتضعيف المُنَّة، وهو ما صرح به الإمام وابن الصباغ [عن قول الشيخ أبي حامد، وقال ابن الصباغ:] إنه قال: وليس للشافعي رضي الله عنه نص في ذلك، وقد وافقه على ذلك جماهير الأصحاب؛ كما [حكاه] الإمام والقاضي الحسين والقاضي أبو الطيب البندنيجي؛ تمسكاً بقول الشافعي رضي الله عنه -في "الأم": وليس له أن يؤديها هرمة؛ فدل على أنها ما لم تكن هرمة تجزئ، وهو الذي صححه في "التهذيب" والقاضي الحسين، وادعى الماوردي أنه لا يقبل منه من سنة زائداً على عشرين سنة؛ لأن الغرة معتبرة بشرطين:

أحدهما: أكمل مايكون نفعاً.

[والثاني: أزيد ما يكون ثمناً.

ص: 92

وهي قبل العشرين أزيد ثمناً وأقل نفعاً]، وبعد العشرين أكمل نفعاً وأقل ثمناً؛ فاقتضى أن يكون العشرون حدًّا لغاية؛ لأنها أقرب سن إلى [الجمع] بين زيادة الثمن وكمال المنفعة.

ولا فرق في ذلك بين الغلام والجارية، وهذا ما حكاه صاحب "البيان" والإمام والقاضي الحسين عن بعض الأصحاب.

قال: وقيل: لا تقبل الجارية بعد عشرين سنة، ولا الغلام بعد خمسة عشر سنة؛ لأن ثمن الجارية إلى عشرين يزيد، وثمن الغلام بعد البلوغ ينقص؛ بسبب امتناعه عن خدمة النساء.

وهذا ما نسبه القاضي أبو الطيب إلى ابن أبي هريرة، ورجحه أبو الفرج الزاز والقاضي الروياني وجماعة؛ كما قال الرافعي.

وإيراد المصنف في "المهذب" وصاحب "الوجيز" يقتضيه، وقال الماوردي: إنه فاسد؛ لوجهين:

أحدهما: [أنه] لما لم يختلفا في أول السن وجب ألا يختلفا في آخره.

والثاني: أن نقصان ثمنه مقابل لزيادة نفعه؛ فتعارضا، وتساويا فيها الغلام والجارية.

قال: ولا يقبل خصي؛ لأن الغرة - كما ذكرنا - الخيار، وليس الخصي من الخيار، ولأنه ناقص عضو من أصل الخلقة؛ فلم يجزئ في الغرة، أصله: إذا كان مقطوع الأنف. ولا نظر إلى زيادة قيمته؛ بسبب الخِصاء؛ كما لا أثر لذلك في امتناع الرد بالعيب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الذكر والأنثيين، أو أحدهما.

وفي معنى الخصي: الخنثى.

قال ولا معيب، [أي] وإن كان العيب يسيراً لا يضر بالعمل؛ لأن

ص: 93

المعيب ليس بخيار، ولأن هذه دية؛ فوجب ألا تكون معيبة، أصله دية الكبير.

ويخالف هذا المعتق في الكفارة؛ حيث يجزئ فيه المعيب بعيب لا يضر بالعمل؛ لأن صاحب الشرع هنا أوجب الغرة، والغرة: الخيار، وهناك أوجب رقبة، والمعيبة تسمى: رقبة.

وأيضاً: فإن حقوق الله – تعالى – مبنية على المسامحة، بخلاف حقوق العباد.

ولأن الغرة وجبت على سبيل العوض؛ إذ هي بدل من المتلف، وضمان المتلفات نازع إلى الأعواض على اشتراط السلامة.

وقد عد الرافعي من أنواع العيب: انتهاء الصبي إلى سن التمييز، ولا تمييز له.

وليس عدم الصنعة في الغلام، أو الجارية مانعاً من قبولها.

ولو رضي مستحق الغرة بقبولها معيبة جاز؛ إذ الحق له.

ولو تراضيا على أخذ العوض عن الغرة مع وجودها، فهو كالاعتياض عن إبل الدية.

قال: فإن عدمت الغرة- أي: أو لم توجد بما ذكرناه من القيمة – [وجب خمس][من] الإبل، أي: في الحر المسلم – في أصح القولين – وقيمة الغرة في [القول] الآخر.

هذه المسألة بناها الماوردي على الخلاف السابق في أن الغرة عند الوجود بماذا تقوم، وحكينا أن الجديد: تقويمها [بقيمة خمس من الإبل، والقديم: تقويمها] بخمسين ديناراً، أو ستمائة درهم، فالأول مبني على الأول، وبه قال البصريون، والثاني [مبني] على الثاني، وبه قال البغداديون، وعلى ذلك ينطبق ما حكاه الفوراني عن بعض مشايخنا – وعليه جرى الغزالي – أن وجوب الخمس من الإبل هو الجديد، ووجوب القيمة هو القديم.

لكن الفوراني والبغوي حكيا بعد تصدير كلامهما بالقول الأول: أن الثاني مخرج من تقويم الإبل في الدية إذا فقدت، وذلك يقتضي أن يكون من

ص: 94

الجديد أيضاً.

وعن الشيخ أبي حامد: أن القول الأول هو القديم، والثاني هوا لجديد.

قال ابن يونس: وأكثر الأصحاب على ذلك.

فإن صح ذلك؛ فيكون هذا مما الفتوى فيه على القديم.

وقد وجه الأول – وهو الذي جزم به في "المهذب" و"الشامل"، وقطع به بعض الأصحاب، وحكاه الفوراني والمتولي عن النص – بأنها عند الوجود مقدرة بالخمس؛ فإذا فقدت أخذنا ما هي مقدرة به، ويروي ذلك عن زيد بن ثابت، وإليه أشار في "الوسيط" بقوله: ولا يمكن أن يعرف هذا إلا بتوقيف، ولعله ورد.

ووجه الثاني: [بأنه القياس]؛ كما لو غصب عبداً فأبق أو تلف.

التفريع: إن قلنا بالأول؛ فإن كان الفعل خطأ وجبت مخمسة، وإن كان عمداً، وجبت مثلثة، حكاه البندنيجي، والماوردي، وفيه ما ذكرناه عن القاضي الحسين من قبل.

فلو عدمت الإبل، ففيما يجب الخلاف السابق فيما إذا عدمت إبل الدية.

وإن قلنا بالثاني وجب خمسون ديناراً أو ستمائة درهم، صرح به البندنيجي والماوردي، وقال: إن ذلك فيما إذا كان الفعل خطأ، أما إذا كان عمداً فيزاد قدر الثلث، وهذا الذي ذكرناه تفريع على أن الغرة تقوم عند الوجود.

أما إذا قلنا: لا تقوم – كما حكيناه عن المراوزة – فيكون الواجب هاهنا على قول اعتبار القيمة: قيمتها بالغة ما بلغت، وعليه يحسن تعليل الرافعي القول الأول بأنا لو أوجبنا قيمة الغرة لم نأمن أن تبلغ دية كاملة، أو تزيد عليها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين قولاً مع القول الثاني في الكتاب، ولم يتعرض لإيجاب خمس من الإبل هنا، وإن كان قد أشار إليه في أوائل الديات؛ كما حكينا عنه من قبل.

قال: [والشجاج] في الرأس [عشر].

[الشجاج] – بتشديد الجيم -: جمع شجة.

وهي: الجراحة في الرأس والوجه.

ص: 95

وفي غيرهما تسمى جراحة لا غير.

ويقال: شجَّه يشُجه، ويشِجه – بضم الشين وكسرها – شجًّا؛ فهو مشجوج وشجيج، والجارح: شاج.

قال: الحارصة، والدامية، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، أي بالغين المعجمة، وهذا ما ادعى المحاملي أنه الصحيح، وحكاه البندنيجي عن الشافعي – رضي الله عنه – وأهل اللغة.

وحكى الماوردي أن في كتاب ابن سريج جعل الدامغة والمأمومة سواء، وأنه أثبت بدل "الدامغة": الدامعة-[بعين مهملة] – وجعلها بين الدامية والباضعة، وأن الأكثرين عدوها إحدى عشرة؛ فأثبتوا الدامغة – بالغين المعجمة – وأدخلوا بين الدامية والباضعة: الدامعة، بالعين المهملة. ثم قال: ويحتمل أن يكون بين الباضعة والمتلاحمة: البازلة؛ فتكون اثنتي عشرة، وحكى ذلك عن بعضهم في باب الديات.

وحكى عن بعضهم انه جعل بين المتلاحمة والسمحاق: الملطاة؛ فتكون ثلاث عشرة.

ومنهم من جعل بين الموضحة والهاشمة شجة أخرى تسمى: المفرشة؛ فتكون أربع عشرة.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب أن المنقول عن أهل اللغة – وذكره القتبي -: أنها ثمانية، وأسقط في العد مما في الكتاب: الدامية، والدامغة، بالغين المعجمة.

قال: فالحارصة: ما تشق الجلد، [أي]: قليلاً، ولا تدمي، وهكذا فسرها صاحب "المحكم"، وهي مأخوذة – كما قال الماوردي والقاضي الحسين –من قولهم: حرص القصار الثوب: إذا شقه وخدشه قليلاً بالدق.

وقال في "المهذب": إن الحارصة ما تكشط الجلد. وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، والبندنيجي، و"مجموع" المحاملي، وأنه مأخوذ من قولهم:

ص: 96

حرص القصار الثوب: إذا كشط عنه الوسخ، وهذا هو المحكي عن الأزهري، وهي بالحاء والصاد المهملتين، وتسمى: الحريصة، ويقال: حرص رأسه –بفتح الراء – يحرصه: بكسرها، حرصاً: بإسكانها.

قال: والدامية ما تشق الجلد، وتدمي، أي من غير سيلان؛ كما قاله الماوردي والقاضي الحسني في موضع من كتابه، وحكاه المحاملي عن ابن سريج، والرافعي عن الشافعي – رضي الله عنه – وأهل اللغة.

ويليها عند الأكثرين – ومنهم: ابن سريج، كما قلناه – الدامعة، بالعين المهملة، وهي التي يخرج دمها كالدموع.

وقد فسر بعضهم الدامية بالتي يسيل منها الدم، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين في موضع من كتابه، وكذا الغزالي وإمامه.

و [فسروا] الدامغة بالتي يقطر منها الدم، وكذلك جعلها هذا القائل بين الحارصة والدامية.

قال: والباضعة: ما تقطع اللحم؛ لأن بضع الشيء: شقه، وتليها الشجة التي سماها الماوردي: البازلة، وهي التي يتبزل الدم فيها؛ فتكون أقوى من الدامغة؛ لأن دم البازلة ما اتصل ودام، ودم الدامغة ما انقطع، وقال: إن هذا أشبه بالمعنى [والاشتقاق].

قال: والمتلاحمة: ما تنزل في اللحم، وقد تسمى: اللاحمة وأهل المدينة يسمونها – كما قال الماوردي -: البازلة؛ لأنها تبزل؛ أي: يشق فيها اللحم.

وعن الإمام تقديم المتلاحمة على الباضعة، وتفسير كل واحدة بما سبق في الأخرى، والمعنى لا يختلف.

قال: والسمحاق: ما يبقى بينه وبين العظم جلدة رقيقة، سميت بذلك؛ لأن الجلد [الذي] وصلت إليه يسمى: سمحاق الرأس، مأخوذ من سمحايق البطن، وهو الشحم الرقيق، وغيم سمحايق: إذا كان رقيقاً، ويسميها أهل المدينة – كما قال الماوردي -: الملطاة.

ص: 97

والسمحاق بكسر السين، وبالحاء، المهملتين.

قال: ويجب في هذه الخمسة الحكومة؛ لأن التقدير يعتمد التوقيف، ولم يرد فيه توقيف، روي عن مكحول مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم:"جَعَلَ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْساً مِنَ الإِبِلِ، وَلَمْ [يُوقِفْ] فِيمَا دُونَ ذَلِكَ شَيئاً".

وروى عبد الحق في "الأحكام"، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ" وإذا كان كذلك تعينت الحكومة.

قال: ولا تبلغ بحكومتها أرش الموضحة؛ لأنها دونها، قال الماوردي: وهذا هو الظاهر من منصوص الشافعي – رضي الله عنه – وقول جمهور أصحابه، ووراءه أمران حكاهما الماوردي أيضاً، وثالث عن غيره.

فأحد الأمرين: حكى أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة، عن الشافعي –رضي الله عنه أن الحكم كذلك، إذا لم يمكن معرفة قدر الشجة من الموضحة؛ فإن أمكن ذلك اعتبر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة؛ فإن أمكن ذلك اعتبر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم، فإذا عرف مقداره من نصف أو ثلث أو ربع، كان فيه بقدر ذلك من أرش الموضحة؛ فإن لم أنه النصف، وشك في الزائد- اعتبر شكه بتقويم الحكومة؛ فإن زاد على النصف، وبلغ الثلثين – زال حكم الشك في الزيادة بإثباتها، وحكم [بها، ولزم ثلثا دية الموضحة. وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها، وحكم] بنصف دية الموضحة، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة، وثبت حكم النصف. وهذا ما نسبه الرافعي إلى الأكثرين، وعليه اقتصر في "المهذب".

وقال ابن الصباغ: إنه الذي قاله أصحابنا.

ص: 98

وحكى القاضي أبو الطيب قبل الكلام في دية [اليهودي والنصراني]: أنا إذا عرفنا نسبة المجروح من الموضحة نوجب أكثر الأمرين مما اقتضاه التوزيع أو حكومة لا يبلغ بها أرش موضحة.

والفرق بين هذا وبين ما حكيناه عن أبي إسحاق وغيره: أنا على هذا نوجب المحكومة إذا زاد قدرها على قدر ما اقتضاه التوزيع، مع تحقق قدر النسبة، وعلى رأي أبي إسحاق:؛ إذا تحققنا نسبة الجرح من الموضحة من غير شك في زيادة عليه، لانوجب إلا قدر النسبة من دية الموضحة، وإن كان قدر الحكومة أزيد منه، وهذا هو الأمر الثالث الذي أشرت إليه، وأدخلته بين كلام الماوردي؛ لقربه مما قبله.

والثاني مما حكاه الماوردي: أن ابن سريج رأى أن أروشها مقدرة بالاجتهاد،

ص: 99

كما قدرت الموضحة وما فوقها بالنص؛ فجعل في الحارصة بعيراً واحداً، وفي الدامية والدامغة بعيرين، وفي الباضعة والبازلة والمتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي الملطاة والسمحاق أربعة أبعرة.

قال: والموضحة: ما توضح العظم، أي: تكشفه بحيث يقرع بالمرود، وإن كان العظم غير مشاهد بالدم الذي ستره.

قال: في الرأس أو الوجه، وفيها خمس من الإبل؛ لما روى عمرو بن حزم في مسنده - كما ذكره أبو إسحاق - أن النبي صلى الله عليه وسلم:"كَتَبَ كِتَاباً إِلَى اليَمَنِ، وَفِيهِ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ".

قال الإمام: وهذا الحديث الذي اعتمد عليه الشافعي رضي الله عنه في تقدير أروش الأطراف.

وقد روى ما ذكرناه في الموضحة معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لفظاً سمعت منه".

وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فِي الْمُوَضِّحِ خَمْسٌ" أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: إنه حسن.

وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: "الْمُوَضِّحَةُ فِي الرَّاسِ وَالوْجْهِ سَوْاءٌ".

ونقل مكحول، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: "الْمُوَضِّحَةُ فِي

ص: 100

الرَّاسِ وَالوَجْهِ وَالْحَاجِبِ سَوَاءٌ"، ولا يعرف لهم مخالف.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون صغيرة كالمخيط – كما قال الماوردي – أو أكبر؛ لأنها على الأسماء؛ فاستوى حكم صغيرها وكبيرها كالأطراف.

وأبدى الإمام تخريج وجهين فيما إذا غرز إبرة في رأس إنسان، وتحققنا وصول رأس الإبرة إلى العظم، ثم استلها: في أن ذلك هل يكون إيضاحاً – مما سنذكره فيما إذا أوضح موضحتين، وأدخل بينهما مروداً في الباطن.

وكذا لا فرق بين أن يسترها الشعر أو لا، ولا بين أن يحصل بها شين، أو لا يحصل، وإذا حصل بين القليل والكثير.

قال الماوردي: وقد حكى عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال في موضع آخر: "إن موضحة [الجبهة إذا كثر] شينها في الوجه أن فيها أكثر الأمرين من ديتها أو أرش شينها؛ فاختلف أصحابنا على وجهين:

أن [خرجوا] زيادة الشين في الرأس والوجه على قولين:

والوجه الثاني: أنه لا يلزمه في شين الرأس إلا ديتها، ويلزمه في شين الوجه أكثر الأمرين؛ لأن شينها في الوجه أقبَح.

وقد نسب الرافعي الأخر إلى الإصطخري وابن أبي محمد الفارسي، وأنه لا تفريع على هذا.

ثم ما ذكره الشيخ مفروض في الموضحة على الحر المسلم الذكر، ونسبة قدر أرش الموضحة عيه من ديته: نصف عشرها؛ فراعى هذه النسبة في حق غيره، حتى يجب في موضحة المرأة بعيران ونصف، وفي موضحة اليهودي والنصراني بعير وثلثان، وفي موضحة النمجوسي ثلث بعير؛ لأن ذلك نصف عشر ديتهم، وقد ذكرنا تقدير أبدالها بالدراهم [من] قبل.

تنبيه: قول الشيخ: "والشجاج في الرأس عشر" ثم قوله: "والموضحة: ما

ص: 101

توضح العظم في الرأس أو الوجه"، يفهم أن باقي الشجاج لا يجري في الوجه، وليس الأمر كذلك؛ بل ما ذكره في الرأس، قال الأصحاب: إنه يجري في الجبهة من الوجه.

وكذلك يتصور ماسوى المأمومة والدامغة في الخد وقصبة الأنف واللحى الأسفل، على أن في بعضه خلافاً سيأتي.

قال: فإن عمت الرأس، ونزلت إلى الوجه - فقد قيل: يلزمه خمس من الإبل؛ لأن الجبهة والرأس كلاهما محل الإيضاح؛ فأشبه ما إذا أوضح رأسه في موضعين وجرح ما بينهما.

وقيل: عشر؛ لأن الرأس والوجه عضوان مختلفان، فرتب على الجناية على كل منهما عند الاجتماع ما يترتب عند الانفراد، كما لو أوضحه، وأمرَّ السكين إلى قفاه؛ فإنه يجب عليه في الموضحة خمس من الإبل، ويجب في الجراحة في القفا حكومة.

ويخالف ما إذا أوضحه في موضعين، ثم خرق ما بينهما؛ لأن الرأس كلها محل واحد؛ بدليل أن قدر الموضحة من الشجوج [لو استوعب جميع رأس] الشاج - استوفى، ولو زاد عليه لم يستوف من الوجه، وهذا ما صححه الرافعي وغيره.

وعلى هذا فرعان:

أحدهما: لو شملت الموضحة الجبهة والوجه، قال الإمام: في الاتحاد تردد، والأظهر الاتحاد؛ تنزيلاً لأجزاء الوجه منزلة أجزاء الرأس.

الثاني: لو كانت الجراحة الواصلة إلى الوجه من الرأس مختلفة؛ بأن كانت في الرأس موضحة، وفي الوجه متلاحمة - وجب عليه خمس من الإبل وحكومة المتلاحمة، كما ذكرنا في جراحة القفا.

وعلى الأول: لا شيء عليه سوى خمس من الإبل في الفرعين.

ص: 102

قال: إن أوضح موضحتين بينهما حاجز، فعليه عشر من الإبل؛ لعموم أخبار المواضح، ولا فرق في ذلك بين أن يَرفع الحديدة عن موضحة، ثم يضعها على موضحة أخرى، وبين أن يجريها على الرأس من موضع الإيضاح الأول إلى أن يتحامل عليها في موضع آخر؛ فيوضحه، واللحم والجلد سليمان.

وحكى الإمام في الحالة الثانية وجهاً ضعيفاً: أن الحاصل موضحة واحدة؛ لاتحاد الفعل وتواصل الحركات.

وفي تعليق القاضي الحسين الجزم به نقلاً وتفقهاً.

وهذا الحكم فيما لو كثرت المواضح؛ يجب في كل واحدة خمس من الإبل.

وفيه وجه: أنها إذا كثرت، بحيث تزيد أروشها على دية النفس –لا يجب فيها أكثر من دية النفس؛ كما سيأتي مثله في قلع الأسنان.

والصحيح، وبه قطع ابن كج: الأول.

وفرق بين ذلك وبين الأسنان؛ بأن الأسنان معلومة مضبوطة؛ كالأصابع؛ فجاز إلا تزاد على دية النفس؛ كالأصابع؛ والموضحات ليست مضبوطة قدراً ولا عدداً؛ فيجب أرشها بحسب وجودها.

قال: وإن خرق بينهما –أي: قبل الاندمال – رجعت إلى خمس؛ لأن فعل الإنسان مبني على فعله فيجعل كالشيء الواحد؛ بدليل ما لو قطع يده، ثم حز رقبته قبل الاندمال؛ فإنا نجعل الجنايتين واحدة، وإذا كان كذلك لم يجب عليه سوى خمس.

وهكذا الحكم فيما لو تآكل ما بينهما، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والمراوزة، وادعى أنه لا خلاف فيه.

وأبدى الرافعي تخريج وجه في مسألة الكتاب: أنه يجب عليه أرش ثلاث موضحات من قول ابن سريج فيما إذا قطع يديه ورجليه، ثم حز رقبته: إنه يجب عليه ديات.

وحكى ابن كج وجهاً آخر فيها: أنه لا يجب عليه بسبب رفع الحاجز شيء، ولكن

ص: 103

لا يسقطه به شيء من الأرشين؛ لأن زيادة الجناية تبعد أن تكون مسقطة لما وجب.

قال: وإن خرق بينهما غيره، وجب على الأول عشر، وعلى الثاني خمس؛ لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره؛ بدليل: ما لو قطع يد إنسان، وحز آخر رقبته؛ فإنه يجب على [كل] منهما موجب جنايته.

ولو خرق بينهما المجني عيه كان فعله هدراً، واستمر وجوب العشر على الأول.

فرع: لو أوضحه رجلان كل واحد موضحة، تم تآكل الحاجز بينهما- عادت إلى واحدة، ووجب على كل منهما نصف أرشها.

ولو اشتركا في موضحتين، ثم رفع أحدهما الحاجز – فعلى الذي رفع نصف أرش موضحة، وعلى الآخر أرش موضحة كاملة.

قال: وإن أوضح موضحتين، ثم خرق بينهما في الباطن، أي: وبقي الجلد الظاهر – [فقد قيل: يجب عليه أرش موضحتين؛ نظراً للظاهر]، وهذا ما صححه الجيلي.

وقيل: أرش موضحة؛ [نظراً] للباطن، وهذا هو الأصح، وبه جزم القاضي الحسين.

وذكا الخلاف جارٍ – كما حكاه الإمام – فيما إذا أدخل حديدة من الموضحة إلى الموضحة في الباطن، ثم استلها، وعاد اللحم وانطبق.

وفيما إذا أوضح موضحتين ابتداء، بينهما حاجز الجلد دون اللحم، أو اللحم دون الجلد.

وقيل: اللحم يصلح حاجزاً دون الجلد؛ لان اللحم هو الساتر للعظم المنطبق عليه؛ فيكون الاعتبار به.

وقيل العكس؛ لأن الجلد هو الذي يظهر للناظرين؛ فإذا بقي [على] اتصاله لم يكن العظم واضجاً.

ص: 104

قال الإمام: وهذا ليس بشيء: [وبه جزم الماوردي، وكلامه يوهم أن الشافعي – رضي الله عنه – نص عليه].

قال: وإن شج في جميع رأسه شجة دون الموضحة، وأوضح في بعضها، ولم ينفصل بعضها عن بعض – وجب عليه أرش موضحة؛ إذ الكل لو كان موضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، فإذا كان بعضه موضحة وبعضه دونها كان أولى ألا يلزمه زيادة على أرشها.

وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه يجب عليه مع ذلك حكومة، والمشهور: الأول، وهو المحكي عن نصه في "الأم".

نعم، لو اقتص في الموضحة، فهل له أخذ الحكومة لما دونه من المتلاحمة والسمحاق؟ قال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يكون على وجهين؛ كما لو قطع يده من نصف الكف؛ فاقتص المجني عليه من الأصابع، هل له حكومة نصف الكف؟ فيه وجهان.

فروع:

[الفرع الأول:] لو وسع الجاني الموضحة لم يجب عليه سوى أرش موضحة واحدة، على الصحيح.

وفيه وجه: أنه يجب عليه أرش أخرى؛ كما لو وسعها غيره.

قال الرافعي: وهذا الخلاف كالخلاف المذكور فيما لو رفع الحاجز بين موضحتيه.

[الفرع الثاني:] إذا أوضح موضحة بعضها عمد، وبعضها خطأ، أو هو في بعضها محق، وفي بعضها متعدٍّ – فهل الحاصل واحدة، أو اثنتان؟ فيه وجهان:

أظهرهما – في "الرافعي" -: الثاني.

[الفرع الثالث:] إذا قال الجاني: رفعت الحاجز قبل الاندمال؛ فعادت الموضحتان واحدة، وقال الولي: بل بعده؛ فعليك أرش ثلاث موضحات – قال الأئمة: إن قصر الزمان صدق الجاني بيمينه، وإن طال صدق المجني عله بيمينه، فإذا حلف [ثبت] له أرشان، وهل يثبت الثالث؟ فيه وجهان:

ص: 105

أحدهما: نعم؛ لأنه ثبت رفع الحاجز باعتراف الجاني، وثبت الاندمال بيمين المجني عليه؛ فقد حصلت موضحة ثالثة.

وأصحهما: لا، ويصدق الجاني.

وسنذكر عن الأصحاب في مسألة الاختلاف في موت المجني عيه بجنايات توجب ديات بالسراية أو بغيرها [كلاماً] يظهر مجيء مثله هاهنا؛ ليطلب من ثَمَّ.

ولو وجدنا الحاجز بينهما مرتفعاً، فقال الجاني: رفعته أنا، أو: ارتفع بالسراية، وقال المجني عليه: بل رفعه آخر، أو رفعته أنا – فالظاهر تصديق المجني عليه؛ لأن الموضحتين توجبان أرشين؛ فالظاهر: ثبوتهما، واستقرارهما، وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب.

قال: الهاشمة: ما تهشم العظم، أي: تكسره بعد الإيضاح.

[قال]: ويجب فيها عشر من الإبل؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب: "أن زيد ابن ثابت – رضي الله عنه – قدر فيها عشراً من الإبل".

والظاهر: أنه لا يقوله إلا توقيفاً؛ [فإن كان توقيفاً] كما ذكر القاضي الحسين والإمام أن بعض أصحابنا روى أن زيد بن ثابت روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه واجب، وإن لم يكن توقيفاً فهو قول صحابي، وليس له مخالف؛ فكان إجماعاً.

ولأن كسر العظم بالهشم ملحق بكسر ما تقدرت ديته من السن، وفيه خمس من الإبل؛ وكذلك في الهشم؛ فصار مع [أرش] الموضحة عشراً.

وعن "أمالي" أبي الفرج السرخسي نقل قول عن القديم: أن الواجب أرش موضحة وحكومة.

قال: وإن ضربه بمثقل؛ فهشم العظم، ولم يجرح – لزمه خمس من الإبل؛ لأن العشر إذا كانت في مقابلة الجرح والهشم، وأرش الجرح كما قلنا خمس – تعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم؛ فوجبت عند انفراده، وهذا

ص: 106

قول أبي إسحاق.

وعن "المنهاج": أن الشافعي رضي الله عنه نص عليه، وهذا هو الصحيح في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"المهذب" وغيرهما.

وقيل: تلزمه حكومة؛ كهشم أعضاء البدن، وهذا قول ابن أبي هريرة، كما قاله في "المهذب".

قال الإمام: وعلى هذا هل يبلغ بحكومته خمساً من الإبل؟ تردد فيه جواب القاضي.

وقد أفسد الماوردي قول ابن أبي هريرة: بأنه لما لم تتقدر موضحة الجسد وهاشمته، لم يتقدر انفراد هشمه، ولما تقدرت موضحة الرأس وهاشمته، تقدر انفراد هشمه.

ثم هذا المعنى ليس مما نرى؛ فلا يثبت [حكمه] إلا بإقرار الجاني، أو بشهادة عدلين من أهل الخبرة.

فروع:

[الفرع الأول:] إذا أوضح في مواضع متفرقة، وهشم في كل واحد منها- فهي هاشمات، وعن ابن كج حكاية وجه عن ابن القطان غير موجه بأنها تجعل موضحات وهاشمة واحدة، ولا تفريع عليه.

[الفرع الثاني:] إذا شجه هاشمتين عليهما موضحة واحدة - كانتا هاشمتين، وعليه دياتهما؛ لأنه زاد إيضاح مالا هشم تحته.

ولو أوضحه موضحتين تحتهما هاشمة واحدة، كان ذلك هاشمتين.

قال البندنيجي: قولاً واحداً؛ لأنه قد زاده هشماً بلا إيضاح عليه.

قال الماوردي: فإن قيل: فهذا هشم في الباطن دون الظاهر.

قيل: الفرق: امتزاج اللحم بالجلد في الموضحة، وانفصال العظم عن الجلد واللحم في الهاشمة.

وفرق ابن الصباغ بأن الهاشمة تابعة للموضحة، وهما موضحتان، وليست الموضحة تابعة لغيرها.

وحكى الرافعي وجهاً: أن الحاصل هاشمة واحدة؛ لاتصال الكسر، فعلى هذا

ص: 107

لا فرق.

[الفرع الثالث:] إذا شجه؛ فهشم مقدم رأسه وأعلى جبهته، كان على وجهين كما قلنا في الموضحة.

ولو شجه؛ فأوضح رأسه، وهشم جبهته - كان مأخوذاً بدية موضحة في أحدهما، وبهاشمة في الأخرى، قالهما الماوردي.

وقد ذكرنا أن بين الهاشمة والمأمومة شجة؛ تسمى: المفرشة، وهي الموضحة إذا اقترن بها صداع في الرأس من غير هشم، قال الماوردي: فينظر في الصداع الحادث عنها:

فإن انقطع ولم يدم، فلا شيء فيه غير دية الموضحة.

وإن استدام الصداع على الأبد ولم يسكن، كان فيه مع أرش الموضحة حكومة لا تبلغ دية هاشمة.

وإن كان يضرب في زمان، ويسكن في آخر؛ فإن علم أن عود الصداع سببه الموضحة، كان فيه حكومة، وإن علم أنه من غيرها، فلا حكومة فيه، ولا فيما تقدمه؛ لأنه لم يدم.

وإن شك فيه، فلا حكومة أيضاً؛ لأنها لا تجب بالشك.

قال: والمنقلة: ما لا تبرأ إلا بنقل العظم.

هذا الكلام يحتمل أمرين:

أحدهما: ألا تبرأ إلا بنقل العظم - الذي انتقل من محله إلى محل [آخر]؛ بالجناية إلى محله.

والثاني: ألا تبرأ إلا بنقل العظم أصلاً ورأساً، وعليه ينطبق قول الماوردي في الديات حكاية عن "المختصر": وهي التي تكسر عظم الرأس حتى يتشظَّى فينقل من عظامه؛ ليلتئم، وقد سمي الشافعي رحمه الله هذه الشجة في "الأم":المنقولة.

ص: 108

وقد قيل: إن المنقولة: [هي] التي تنقل فراش العظم، أي: ما دق منها من موضع إلى موضع.

قال: ويجب فيها خمسة عشر من الإبل: لانعقاد الإجماع عليه؛ كما حكاه الماوردي؛ لرواية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى [أهل] اليمن، وفيه:"وَفِي الْمُنْقِلَةِ خَمْسَةَ عَشْرَ مِنَ الإِبِلِ" خرجه النسائي.

فرع: لو شجه منقلة لا إيضاح عليها لزمه كمال أرشها؛ قاله الماوردي، بخلاف الهاشمة إذا لم يكن عليها إيضاح؛ لأن المنقلة لابد من إيضاحها؛ لتنقل العظم الذي فيها؛ فصار الإيضاح عائداً إلى جانيها؛ فلزمه جميع ديتها، والهاشمة لا تفتقر إلى إيضاح؛ فلم يلزمه غلا قدر ما جنى فيها.

وفي "الرافعي" حكاية [وجهين] فيما إذا نقل العظم من غير إيضاح:

أحدهما: أن الواجب الحكومة.

والثاني: أن الواجب عشر من الإبل.

"وأن في الرقم" وغيره [أي في الأصل -:]؛ أن موضعهما إذا لم يحوج الهشم إلى البط والشق لإخراج العظم أو تقويمهن فإن أحوج إليه فالذي أتى به هاشمة، يجب فيها ما يجب في الهاشمة، [كذا وقفت عليه في نسختين].

قال: والمأمومة: ما تصل إلى الجلدة التي تلي الدماغ، سميت بذلك؛ لوصولها إلى أم الرأس، وهي الجلدة المحيطة بمخ الدماغ، وتسمى: الآمَّة – أيضاً – بالمد وتشديد الميم.

قال: وفيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى اليمن فيه: "وَفِي الْمَامُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ" خرجه النسائي.

وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيهن عن جده في حديث طويل:

ص: 109

"وَفِي الْمَامُومَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الإِبِلِ وَثُلُثٌ".

فرع: لو شجه رجل موضحة، وهشمه ثانٍ بعد [الإيضاح، ونقله ثالث بعد الهشم، وأمّه رابع] بعد التنقيل- وجب على الأول دية موضحة، وعلى الثاني ما زاد عليها من دية الهاشمة – وهو خمس من الإبل – [وعلى الثالث ما زاد عليهما من دية المنقلة – وهو خمس من الإبل] – وعلى الرابع ما زاد عليها من دية المأمومة، وهي ثمانية عشر بعيراً وثلث، وهذا ما حكي عن ابن سريج، وهو الصحيح، عن كتاب ابن كج وغيره حكاية وجه آخر: أنهم يجعلون شركاء في المأمومة؛ فيكون أرشها عليهم أرباعاً.

فلو جاء خامس، وخرق خريطة الدماغ – ففي "التهذيب": أن عليه تمام دية النفس، وهذا على طريقة من جعل أرش الدامغة دية النفس، كما سنذكره.

وعلى طريقة ابن سريج يظهر أن يجب نصف أرش المأمومة.

قال: والدامغة: ما وصلت إلى الدماغ، ويجب فيها ما يجب في المأمومة؛ يعني: ثلث الدية؛ لأنها واصلة إلى جوف؛ فأشبهت الجائفة، وهذا ما نص عليه الشافعي، رحمه الله.

قال الماوردي: والذي أراه: أنه يجب تفضيلها على المأمومة بزيادة حكومة؛ لخرق غشاوة الدماغ، لكنه لم يُحْكَ عن الشافعي، رحمه الله.

وفي "الجيلي": أن الروياني استحسنه، وحكى الفوراني وجماعة أن الواجب فيها تمام الدية؛ لأنها تُذَفَّف، وعلى هذا جرى الإمام؛ حيث قال: وليست الدامغة من الجراح، وإنما توحي، تذفف تذفيفَ حزَّ الرقبة.

قال الراعي: والأولون يمنعون كونها مذففة.

قال: وفي الجائفة ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في الكتاب الذي كتبه إلى اليمن: "وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ"، خرجه النسائي.

وقد روى [عن] عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال::"وَفِي الْجَائِفَة ثُلُثُ الدِّيَةِ".

ص: 110

قال: وهي الجناية التي تصل إلى جوف البدن من ظهر أو بطن أو صدر أو ثغرة نحر.

ثغرة النحر: خسفة اللبة.

وألحق الإمام بذلك الوصول بالمثانة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون بمحدد أو غيره، ولا بين الصغير [منها] والكبير؛ لأنها متعلقة بالاسم؛ كما في الموضحة.

وكذا لا فرق بين أن تندمل أو يحز آخر رقبته قبل الاندمال على المذهب؛ كما صار إليه الأصحاب في الموضحة، وادعى الإمام فيها الاتفاق.

وفي "تعليق" القاضي الحسين أن بعض أصحابنا قال فيما إذا اندملت: لا يجب أرش جائفة، وعليه حكومة.

وعزاه في "التتمة" إلى رواية صاحب "الإيضاح" تخريجاً من قول الشافعي إذا أفضى امرأة فالتحم الموضع: إن عليه الحكومة.

وابن الصباغ نسبه إلى تخريج صاحب "الإيضاح" نفسه.

وطرده المتولي في الموضحة تخريجاً لنفسه، وهذا قد حكيناه عن رواية الإمام من قبل.

وفي "التهذيب": أن بعضهم خرج مسألة الجائفة على القولين في سقوط الأرش، عند عود السن، وإدخال خشبة أو حديدة في حلقه إلى أن تنتهي إلى جوفه – لا يجب بها شيء، إلا أن تخدش شيئاً في الجوف؛ فتجب حكومته، ويعزر في الحال؛ أدباً. ولو خرق بوصول الخشبة إلى الجوف حاجزاً من غشاوة المعدة، أو الحشوة – ففي إجراء حكم الجائفة عليها وجهان.

قال الماوردي: بناء على اختلاف الوجهين في الحاجز بين الموضحتين إذا انخرق باطنه من اللحم، وبقى ظاهره من الجلد، كذلك حكاهما المصنف فيما إذا حصل ذلك بإدخال خشبة في دبره.

ص: 111

واحترز الشيخ بجوف البدن عن الوصول إلى جوف غيره؛ كما إذا جرح الذكر، فوصلت الجراحة إلى جوفه؛ فإنه لا يجب فيها أرش جائفة عند العراقيين؛ لأنه لا يخاف من الوصول إلى جوفه التلف، وقد حكى الإمام فيه وجهين.

وعما إذا وصلت إلى جوف الفم؛ فإن فيها خلافاً، كما سنذكره.

ومحل الاقتصار في الجائفة على ثلث الدية إذا وقعت الجراحة موازية للبطن، ولم تلدغ الآلة كبده ولا طحاله، أما إذا وقعت في الجسد غير موازية للجوف، وجرها إليه، أو لدغت الآلة الكبد أو الطحال – وجب ثلث الدية وحكومة، ولو كسر ضلعه من الجائفة؛ فإن نفذت الجائفة من غير الضلع لزمته حكومة للضلع، وإن لم تنفذ إلا بكسر الضلع دخلت حكومته في دية الجائفة.

قال: فإن طعنه في بطنه؛ فخرجت الطعنة من ظهره – فهما جائفتان؛ لما رواه الجمهور، عن أبي بكر – رضي الله عنه – "أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلاً بِسَهْمٍ فَأَنْفَذَهُ، بِثُلُثِي الدِّيَةِ".

وقد روى في "المهذب" عن عمر – رضي الله عنه – نحوه، ولم يظهر لهما مخالف؛ فكان إجماعاً.

ولأن ما خرق حجاب الجوف كان جائفة؛ كالداخلة من الظاهر إلى الباطن.

قال: وقيل: هي جائفة؛ لأن الجائفة: ما وصلت إلى الجوف، والنافذة خارجة فكانت أقل من الجائفة؛ فعلى هذا يجب عليه مع أرش الجائفة حكومة؛ كذا حكاه القاضي الحسين، غيره، وهو الأظهر في "الرافعي".

وفي "النهاية": أن الشيخ أبا بكر أبدى ذلك احتمالاً لنفسه؛ لأن هذه الجراحة زائدة على الواصلة إلى الجوف؛ فاقتضى ذلك زيادة حكومة.

ثم قال الإمام: وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن تلك الزيادة التي تخيلها حقيقتها أنها جائفة أخرى، فإن مال إلى حقيقة هذا فالوجه إيجاب ثلثي دية، وإلا فلا

ص: 112

وجه مع [اعتقاد] اتحاد الجائفة؛ لإيجاب الزيادة، وهذا بمثابة ما لو أجاف بطن إنسان، ثم زاد فوسع تلك الجائفة.

وما ذكره الإمام قد حكاه الرافعي وجهاً لبعض الأصحاب، وهو ظاهر كلام الشيخ.

قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه.

قال الماوردي: وهو مذهب الشافعي، وعليه جمهور أصحابه.

وعلى هذا: إن كان ما حصل به الطعن قد قطع بنفوذه في الجوف بعض خُشْوةٍ، كان عليه مع دية الجائفتين حكومة فيما قطع.

ولو جرحه بخنجر له طرفان؛ فأجافه في موضعين، وبينهما حاجز – كانت جائفتين؛ فإن خرقه الجاني، أو تآكل، أو خرقه غير الجاني، أو المجني عليه – فالحكم فيه كما ذكرنا في الموضحة.

قال: وإن أجاف جائفة، فجاء آخر ووسعها-أي: في الظاهر والباطن – وجب على الثاني أرش جائفة؛ لأنه لو انفرد هذا القدر لكان جائفة؛ فكذا عند الاشتراك؛ كما قلنا في الموضحة، ولو اتسعت في الباطن دون الظاهر، أو بالعكس، أو زاد في [غورها] – قال الماوردي: فعليه حكومة؛ لأنه جرح لم يكمل جائفة.

ولو قطع من جانب بعض [الظاهر ومن جانب بعض] الباطن، ففي التتمة: أنه ينظر في ثخانة الجلد واللحم، ويقسط أرش الجائفة على المقطوع من الجانبين، وقد يقتضي التقسيط تمام الأرش؛ بأن قطع نصف الظاهر من جانب، ونصف الباطن من جانب.

أما إذا لم يؤثر فعل الثاني في سعتها شيئاً، لم يجب عليه سوى التعزير. قال: وإن طعن وجنته، فهشم العظم، ووصلت الجراحة إلى الفم – ففيه قولان:

أحدهما: أنها جائفة؛ أي: يجب فيها ما يجب في الجائفة؛ لأنها جراحة واصلة [من الظاهر إلى جوف، فأشبهت الواصلة] إلى الباطن، وهذا أصح في الجيلي.

ص: 113

والثاني: يلزمه أرش هاشمة؛ ولا يجب عليه أرش جائفة؛ لأنه لا يطلق عليها جائفة، ولا يخاف منها كالخوف من الجائفة؛ فلا تلحق بها في الحكم.

وأيضاً: فإنه لو خرق شدقه لم يكن جائفة كما حكاه ابن الصباغ؛ فكذا هاهنا، وهذا أصح عند النواوي، والمختار في "المرشد".

فعلى هذا: يجب [عليه] مع أرش الهاشمة حكومة لما زاد، صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما.

والوجنة: اللحم المرتفع من الخدين، وفيها أربع لغات: فتح الواو، وكسرها، وضمها، وأجنة – بالألف – والجمع: الوجنات، بفتحها، ومن كسر المفرد، أسكن الجيم، وفتحها، وكسرها، ومن ضمه ضم الجيم وفتحها وأسكنها، ويقال: رجل مُوَجَّن، وأوجن: عظيم الوجنة.

وفي "عدة" الطبري حكاية القولين فيما إذا خرق شدقه؛ فوصل إلى داخل الفم: في أنه هل يجب [عليه] أرش جائفة أم لا؟

وحكى الماوردي نظير القولين في الأصل عن حكاية القاضي أبي حامد فيما إذا طعن وجنته؛ فهشمت العظم، وتنقل إلى أن وصل إلى الفم، أو كانت [في] إحدى اللحيين؛ فخرقت كذلك حتى وصلت إلى الفم:

أحدهما: يجب فيها أرش مأمومة.

والثاني: تجب فيها دية منقلة، وزيادة حكومة.

وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، عن أبي علي الطبري أنه خرج ما إذا جرح قصبة أنفه، وأنفذ الجراحة إلى باطنه – على القولين في مسألة الكتاب؛ لأن باطن الأنف كباطن الفم.

وحكى الماوردي عن رواية القاضي أبي حامد في "الجامع" حكاية قول: أنه يلزمه دية مأمومة، وتلزمه حكومة هي أكثر من دية منقلة.

فرع: إذا خاط المجروح جائفته؛ ففتقها آخر حتى عادت جائفة- نظر:

ص: 114

فإن كان ذلك بعد التحامها ظاهراً وباطناً [فعليه دية جائفة وقيمة الخيط لا غير إن كان تالفاً.

وإن كان قبل التحامها ظاهراً وباطناً] فلا شيء عليه في الجائفة، ويعزر أدباً، ويغرم قيمة الخيط إن كان تالفاً، وأجرة مثل الخياطة؛ لأنه ما ألزم في محله غرما سواه، وإن كان بعد التحامها ظاهراً دون الباطن فعليه حكومة، ويغرم قيمة الخيط؛ ولا يغرم أجرة الخياطة؛ لدخوله في حكومة محله، قاله الماوردي.

وأطلق في "الرافعي" أنا إذا أوجبنا الحكومة في صور هذه المسألة، لا تجب أجرة الخياطة، ويجب ضمان المخيط إن تلف.

قال: ويجب في الأذنين إذا قطعهما من أصلها الدية؛ لأنه روي عن عمر وعلي – رضي الله عنهما – أنهما قالا: "وَفِي الأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ"، ولا يعرف لهما مخالف.

قال الماوردي: ولرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الأُذُنَيْنِ الدِّيةُ".

وروى الدارقطني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم [أنه كان في كتاب عمرو بن حزم] حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران:"وَفِي الأُذُنِ خَمْسُونَ".

وفي "النهاية": أنه لم يرج لها ذكر في كتاب عمرو بن حزم، وقد رواه بعضهم –يعني القاضي الحسين- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مجازفة في الرواية، ولم يصح

ص: 115

-عندنا – في ذلك خبر في كتب الحديث.

ولأنها عضوان يجتمع منهما جمال ومنفعة؛ فوجب أن تكمل فيها الدية؛ كاليدين والرجلين.

قال: وفي أحداهما نصفها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي الأُذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ".

وبعضهم يروي ذلك عن كتاب (عمرو] بن حزم.

قال: وفي بعضها بقسطه؛ لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه؛ كالأصابع.

وحكى الإمام أن بعض الأصحاب خرج وجهاً آخر: أن في الأذنين الحكومة، وقال: إنه متجه إن لم يثبت فيهما خبر؛ فإن إيجاب بدل الكل في الطرف ليس منقاساً في الأصل، والأصل المعتمد في تكميل بدل الجملة [في] الجزء توقيف الشارع.

ولا فرق على المذهب بين ذات الثقب والخرم إذا لم يذهب منها شيء، ولا بين أذن الأصم والسميع؛ لأن محل السمع في الصماخ لا في الأذن؛ لبقائه بعد قطعها.

وخالف حلول البصر في العين، وحلول حركة الكلام في اللسان.

قال: وإن ضرب الأذن؛ فشلت، أي: يبست – وجبت الدية في أحد القولين – أي: في "الأم" –كما يلزمه ذلك في شلل اليدين، وهذا أصح في "التهذيب" وعند النواوي".

والحكومة في الآخر؛ لبقاء منافعها بعد الشلل: من جمع الصوت، ومنع دخول الهوام والماء إذا اغتسل، وعدم منافع اليد بالشلل.

وبعضهم بنى الخلاف على خلاف في أن منفعة الأذن منع دبيب الهوام وهو يزول بالشلل، أو جمع الصوت وهو باق مع الشلل.

قال: وإن قطع أذناً شلاء، ففيه قولان:

أحدهما: تجب الدية.

والثاني: الحكومة.

ص: 116

هذان القولان ينبنيان –كما قال الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي – على القولين في الفصل قبله، فمن قال: تجب ثم الدية، أوجب هاهنا الحكومة؛ كما في قطع اليد الشلاء، ومن قال: تجب ثم الحكومة، أوجب هاهنا الدية.

وعن الشيخ أبي حامد: أن إيجاب الدية غلط لا يحكي، بل عليه حكومة قولاً واحداً؛ كما قلنا فيمن قلع عيناً قائمة.

قال البندنيجي: وهو غلط.

وهذا القول أشار إليه الماوردي بقوله: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب في الحالين إلا حكومتان:

أحداهما: بالاستحشاف، والأخرى: بالقطع، يستوفي بالحكومتين جميع الدية، لا يجوز نقصانها، ويجوز زيادتها.

وعن ابن كج وجه آخر: انه لا يشترط بلوغهما قدر الدية.

ثم قال الماوردي: وما ذكره هذا القائل- يعني: في الأصل – فاسد؛ لأنه لا بد أن يجري في إحدى الحكومتين حكم الجناية على الصحة، وذلك موجب لكمال الدية.

وقد عكس الإمام البناء؛ فجعل الخلاف في الأولى مبنيًّا على الخلاف في المسألة الثانية، والمعنى لا يختلف.

فرع: إذا جنى على أذنه؛ فاسودت، ففيها حكومة؛ كما لو جنى على يده؛ فاسودت، وإن كانت المنفعة باقية.

فرع آخر: إذا استأصل قطع الأذن حتى أوضح العظم، قال الرافعي: لم يجعل أرش الموضحة تبعاً لدية الأذن؛ لأنه لا يتبع مقدَّرٌ مقدَّراً.

قال: ويجب في السمع الدية؛ لما روى معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ"، روي: "أَنَّ رَجُلاً رَمَى رَاسَ رَجُلٍ بِحَجَرٍ فِي زَمَانِ

ص: 117

عُمَرَ – رضي الله عنه – فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ؛ فَقَضَى عَلَيهِ عُمَرُ – رضي الله عنه – بِأَرْبَعِ دِياتٍ، وَهُوَ حَيٍّ"، ولا مخالف له من الصحابة.

ولأن السمع من أشرف الحواس؛ فأشبه حاسة البصر.

ولا فرق في إيجاب الدية بين أن يذهب السمع، أو يحكم أهل البصائر بأنه باقٍ في مقره، ولكنه ارتتق بالجناية داخل الأذن ارتتاقاً لا وصول إلى زواله؛ كما صرح به الإمام.

وحكى الغزالي والرافعي في الحالة الثانية وجهين، ثانيهما – وهو الأظهر في "الرافعي"، وبه أجاب في "التتمة" -: إيجاب الحكومة.

واعلم أن لطيفة السمع ليست [متعلقة بجزء من الأذن، وإنما في مقرها من الرأس، وقد قال العلماء: السمع] شيء واحد، وليس من المثاني، بخلاف البصر.

قال الإمام: وذهب بعض أصحابنا إلى إلحاقه بالمثاني، وكأنه يتخيل لطيفتين لكل واحدة نفوذ في مصرف الأذن؛ كما يتحقق ذلك في البصر، وهذا مزيف عند جماهير الأصحاب.

قال: فإن قطع الأذنين وذهب السمع – وجبت ديتان؛ لقطعه عضواً وإذهابه منفعة حالَّة في غيره؛ فلم يدخل أرش المنفعة في دية العضو؛ كما لو أوضح رأسه؛ فأذهب ضوء عينه.

قال: فإن اختلفا في ذهاب السمع، أي: والجناية مما يحتمل ذهاب السمع بها – تتبع في أوقات الغفلة: فإن ظهر منه انزعاج سقطت دعواه؛ لظهور كذبه.

وهذا من الشيخ يقتضي أنا لا نحلف الجاني في هذه الحالة.

وفي "الحاوي": أنه لابد من تحليفه: إن سمعه باق؛ لجواز أن يكون انزعاج المجني عليه عند الصوت بالاتفاق، [وأنه لا يكفيه] أن يحلف: إن سمعه لم يذهب بجنايته.

ص: 118

قال: وإن لم يظهر فالقول قوله؛ لأن الظاهر صدقه مع يمينه؛ لاحتمال أن يكون متحفظاً في تلك الحالة.

ثم صورة امتحانه: أن يُتَغَفَّلَ، ثم يصاح [به] بأزعج صوت وأهوله، يتضمن إنذاراً أو تحذيراً أو بأن يطرح في موضع [جلوسه شيء له صوت من موضع] عالٍ، ويكرر ذلك في أوقات الخلوات، ومن جهات؛ حتى يتحقق زوال اسمع بها؛ فإن الطبع يظهر منها ما يزول معه التصنيع.

وإذا ثبت زوال سمعه – إما بإقرار الجاني، أو بالطريق المذكور – قال الماوردي: فيراجع عدول أهل الطب في أنه هل يجوز أن يعود، أم لا؟ فإن نفوا قدروها، وجب الانتظار بالدية إلى انقضاء تلك المدة: فإن عاد السمع فيها سقطت، وألا ثبتت.

قال: وإن ادعى نقصان السمع – أي: من الأذنين جميعاً – فالقول قوله مع يمينه؛ إذ لا يعرف ذلك إلا من جهته.

قال: ويجب فيما نقص بقدره –أي: من الدية – إذا عرف قدر نقصانه؛ لما مضى من نظائره.

وطريق معرفة ذلك: أن يوقف له من يحدثه حتى يقول له: لا أسمع، ثم يغير الصوت عليه بالارتفاع قليلاً؛ فإن قال: أسمع، فقد صدق، ثم يتباعد عنه إلى أن يبلغ قدر المسافة التي كان يسمع منها قبل الجناية، ثم تذرع المسافة التي سمع فيها، ثم يدار الذي يحدثه إلى الجانب الآخر، ويفعل مثل ذلك؛ فإن اتفقت المسافتان – فقد ظهر صدقه؛ فيحلف، ويجب له بنسبة ما ذهب من السمع.

وإن لم يعلم حد سماعه في حال الصحة، فلا سبيل إلى تحقيق المستحق من الدية؛ فيعطي في الذاهب منه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده؛ كما قاله الماوردي والبغوي.

ص: 119

فإن قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي، وهو النصف مثلاً، قال الماوردي: أحلف على دعواه، وحكم بقوله؛ [لأنه] لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهته؛ فقيل قوله فيه مع يمينه؛ كما يقبل قول المرأة في حيضها.

وقال الإمام وغيره: إنه يقدر الاعتبار بسمع رجل سليم السمع في مثل سنه وصحته؛ بأن يجلس بجنب المجني عليه، ويؤمر من يرفع الصوت ويناديهما من مسافة بعيدة، لا يسمع منها واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئاً فشيئاً، إلى أن يقول السليم: سمعت؛ [فيعلم على الموضع، ثم يديم المنادي ذلك الحد من رفع الصوت، ويقرب إلى أن يقول المجني عليه: سمعت]، فيضبط ما بينهما من التفاوت.

أما إذا ادعى نقصان السمع في إحدى الأذنين – جرب بعد تصميم الأذن السليمة، وفعلنا معه ما تقدم؛ فإن انضبط الذاهب، وجب بقسطه، وإلا وجبت الحكومة.

فرع: إذا أصمت الجناية إحدى الأذنين، وجب نصف الدية.

[قال الإمام: وكان شيخي أبو محمد يمنع القول بإيجاب نصف الدية،]

ويصير إلى أن يعتبر ما نقص من السمع بحالة الكمال. وهذا الذي ذكره إن كان قياس قولنا: إن السمع ليس من المثاني؛ فاعتبار النظر إلى إحدى الأذنين أقرب من معرفة جزئية النقصان بذرع المسافات، وحكى الغزالي وجهاًك أن الواجب الحكومة.

قال: وفي العقل الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ".

وروى جابر بن عبد الله [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ".

ص: 120

وقضى عمر - رضي الله] عنه- في المشجوج رأسه، حين ذهب عقله بها وسمعه، ولسانه وذكره، بأربع ديات.

ولأن العقل أشرف من حواس الجسد كلها؛ لامتيازه به من الحيوان البهيم، وفَرْقِه به بين الخير والشر، وتوصله به إلى [اجتلاب المنافع]، ودفع المضار، وتعلق التكليف به؛ فكان أحق بكمال الدية من جميع الحواس، ولا يجب فيه القصاص؛ لأمرين:

أحدهما: اختلاف الناس في محله؛ فطائفة تقول: محله الدماغ، وأخرى تقول: القلب، وأخرى تقول: مشترك بينهما، وإن كان الأصح من أقوالهم- كما قال الماوردي وأبو الطيب - الثاني؛ لقوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] وقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي: عقل.

والثاني: تعذر استيفائه؛ لأنه يذهب بيسير الجناية، ولا يذهب بكثيرها، وهذا هو المشهور. وقد ذكرنا من قبل أن الإمام حكى تردداً للأصحاب في وجوبه.

ثم المراد بالعقل الذي تجب به الدية: العقل الغريزي الذي يتعلق به التكليف، وهو العلم بالمدركات الضرورية. فأما العقل المكتسب الذي هو حسن التقدير، وإصابة التدبير، ومعرفة حقائق الأمور - فلا دية فيه مع بقاء الغريزي، وفيه حكومة.

ومحل إيجاب الدية في العقل - عند المتولي - إذا قال أهل الخبرة: إن العارض الذي حدث لا يزول، أما إذا توقعوا الزوال فيتوقف: فإن مات قبل الاستقامة ففي الدية وجهان؛ كما إذا قلع سن مثغور، فمات قبل أن يعود، [والله أعلم].

قال: فإن نقص ما يعرف قدره؛ بأن يجن يوماً، ويفيق يوماً - وجب بقسطه، أي: من الدية؛ لإمكان ذلك.

ص: 121

قال الرافعي: وقد يتأتى معرفة التفاوت بغير الزمان؛ بأن يقابل [صواب فعله، ومنظوم قوله] بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما؛ فيجب قسط الزائل، وهكذا ما ذكره في التهذيب.

قال: وإن لم يعرف، أي: مثل أن صار إذا سمع صيحة زال عقله، ثم يعود؛ كما قال في "المهذب"، أو يفزع مما لا يفزع منه العاقل، ويستوحش إذا خلا؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره.

قال: وجبت حكومة؛ لتعذر الأرش المقدر.

واعلم أن قول الشيخ: "فإن نقص ما يعرف قدره" فيه منازعة؛ فإن الماوردي قال: إن العقل الغريزي لا يتبعض في ذاته؛ لأنه محدود بما لا يتجزأ؛ فلا يصح أن يذهب بعضه، ويبقى بعضه، ولكن قد يتبعض زمانه؛ فيعقل يوماً، ويجن يوماً؛ فتوزع الدية عليها.

قال: فإن ذهب العقل بجناية [لا أرش] لها مقدر، أي: كالحارصة والدامية [والباضعة] والمتلاحمة والسمحاق.

قال: دخل أرش الجناية في دية العقل؛ لأن عمر – رضي الله عنه – أوجب للمشجوج رأسه أربع ديات، ولم يوجب له أرش الشجة؛ فلو وجب لقضى به.

قال: وإن ذهب بجناية لها أرش مقدر: كالموضحة، وقطع اليد والرجل – ففيه قولان:

أصحهما: أنه لا يدخل أرش الجناية في دية العقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"في الموضحة خمس من الإبل، وفي اليد خمسون من الإبل، [وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ]، وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ"، فنص على هذه التقديرات؛ فلم يجز إسقاطها.

ص: 122

ولأن العقل عرض يختص بمحل مخصوص؛ فلم تتداخل فيه أروش الجنايات كالسمع والبصر، وهذا هو الجديد.

ومقابله: أن أرش الجناية إن كان أقل، اندرج في دية العقل، وإن كان أكثر كما إذا قطع يديه وأنفه فذهب عقله –دخلت دية العقل في أرش الجناية، ووجبت ديتان؛ و [هذا] هو القديم؛ لأن ذهاب العقل يعطل المنافع من سائر أعضائه؛ لأن المجنون لا ينتفع بنفسه وإن كانت سائر أعضائه سليمة؛ فجرى ذلك مجرى خروج الروح، وقد أفسد هذا بأمور، ومنها: أن قضية تشبيهه بالروح: أن تندرج أروش الجنايات في دية العقل وإن كانت أكثر منه؛ كما تندرج أروش الجراحات في دية النفس وإن كانت أكثر منها، وأيضاً: فإنه لو قطع يد ميت [فإنه] لا قصاص عليه ولا دية، ولو قطع يد مجنون وجب.

واحترز المتولي عن هذا في توجيه هذا القول، فقال: العقل يشبه الروح؛ من حيث إن زواله يشبه زوال الروح [في زوال التكليف]. ويشبه فوات منفعة البصر؛ من حيث إنه يبقى الجمال في صورة الأعضاء مع زواله؛ كما يبقى الجمال في الحدقة بعد زوال الضوء؛ فلشبهه بالروح يدخل أرش الجناية في ديته إذا كان الأرش أقل، ولشبهه بالضوء لا يجمع بين بدله وبين أرش الجناية على الجزم؛ كما لا يجمع بين دية البصر وأرش العين القائمة، وإن كان تفويت العين القائمة يوجب حكومة، بل يدخل الأقل في الأكثر.

واعلم أن جزم الشيخ باندراج الأرش الذي ليس بمقدر دية في العقل، وحكاية الخلاف في الأرش المقدر – لم يوافقه عليه أحد من المصنفين فيما وقفت عليه، إلا القاضي الحسين في "تعليقه"، وقد حكاه الإمام عنه أيضاً، وقال: إنه ليس بشيء. والجمهور – كالقاضي أبي الطيب، والماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، والمتولي، [والبغوي]، وغيرهم – حكوا القولين الجديد والقديم في الصورتين، وحينئذ يكون قول الشيخ:"دخل أرش الجناية في دية العقل"، اختياراً

ص: 123

منه للقديم، ويؤيده قضاء عمر رضي الله عنه كما ذكرناه.

نعم، الموضع الذي لا يجب فيه سوى دية العقل جزماً: إذا زال [عقله] بمال لا أرش له، كاللطمة، واللكمة، والضرب بالحجر والعصا على الرأس أو حول القلب، وفي هذه الحالة هل يجب التعزير مع الدية؟

الذي أطلقه الجمهور: الوجوب.

وحكى الماوردي فيه وجهين، ووجه المنع: أن دية العقل أغلظ من التعزير؛ فاندرج فيها.

وسلك في "المهذب" طريقاً آخر – قال الرافعي: إنه في غيره أيضا ً- وهو: أن أرش الجناية إن كان مثل الدية أو أكثر، لم تدخل فيه دية العقل، ولا [تدخل] دية العقل فيه، وحكاية القولين فيما إذا كان أرش الجناية أقل من دية العقل: هل يدخل في دية العقل، أم لا؟

وهو خلاف نص الشافعي رضي الله عنه؛ فإنه قال: إذا قطع يديه؛ فزال عقله؛ فهل الواجب دية، أو ديتان؟ [فعلى قولين].

فرع: لو أنكر الجاني زوال العقل، ونَسَبَهُ إلى التجانن – راقبناه في الخلوات وأوقات الغفلة:

فإن لم تنتظم أقواله وأفعاله وجبت الدية من غير يمين؛ لأن تحليفه يثبت جنونه، والمجنون لا يحلف. نعم، لو كان الاختلاف فيمن يجن وقتاً، ويفيق وقتاً – حلفناه في زمن إفاقته.

وإن وجدناها منظومة، فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لجواز أنها صدرت من اتفاقاً، أو جرياً على ما اعتاده.

قال: ويجب في العينين الدية؛ لما روى النسائي [أن] في كتاب [عمرو] بن حزم: "وَفِي العَيْنَيْنِ دِيَةٌ"، وروى على بن أبي طالب رضي الله عنه

ص: 124

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِي الَعيْنَيْنِ الدِّيةُ".

ولأنهما من أعظم الجوارح نفعاً، وأجلِّ الحواس قدراً، فكان إيجاب الدية فيهما أحرى.

وسواء في ذلك الصغيرة والكبيرة، والحادِّة والكليلة، والصحيحة والعليلة، والعشواء والعمشاء والحولاء؛ إذا كان النظر سليماً؛ قاله الماوردي.

وألحق الغزالي الأخفش بالأعمش، وسنذكر ما قيل فيه في الفروع.

قال: وفي أحداهما نصفها؛ لأن في كتاب عمرو بن حزم [أن النبي صلى الله عليه وسلم] قال:"فِي العَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ".

قال الشافعي: أراد به العين الواحدة. ويؤيده ما روى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [: "وفِي إِحْدَى العَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيِةِ" ولأن كل دية وجبت في عضوين وجب نصفها في أحدهما؛ كاليدين.

قال: وإن جنى عليه جناية، فادعى منها ذهاب البصر، أي: حالاً ومآلاً، وكذبه الجاني، وشهد بذلك شاهدان من أهل المعرفة- وجبت الدية؛ لما روى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال] "وَفِي البَصَرِ الدِّيةُ"، ولأن منفعة العين بناظرها؛ فإذا سلبها كملت عليه ديتها كالشلل في اليدين، ولا يحتاج مع إقامة البينة إلى يمين.

وقد خالفت هذه المسألة مسألة دعوى زوال السمع؛ حيث لا يُرَدُّ ثَمَّ إلى أهل

ص: 125

الخبرة؛ لأنه لا اطلاع لهم عليه؛ بخلاف ضوء البصر؛ فإنه يمكن الاطلاع عليه في ضوء الشمس.

ويقوم مقام الشاهدين في جناية الخطأ رجل وامرأتان؛ كما قاله البندنيجي.

فرع: لو عاد بصر المجني عليه بعد أن قضى له بالقود أو الدية، قال في "الحاوي": فالمذهب: أنه لا درك عليه بعوده فيما قضى له به من قود أو دية.

وللشافعي –رضي الله عنه – في سن المثغور إذا قلعت؛ فاقتص منها، أو أخذ ديتها، ثم عادت قولان، أحدهما: يلزمه رد ديتها؛ فعلى هذا اختلفت الأصحاب في تخريجه في العين إذا عاد بصرها على وجهين:

فعلى وجه: يرد، وهذا ما ذكره مجلي والمصنف؛ استدلالاً بأن الضوء لو زال، لم يعد.

وعلى وجه: لا يرد شيئاً، والفرق: أن عود السن معهود في جنسه، وعود البصر غير معهود في جنسه.

وعلى هذا: لو اقتص من الجاني، ثم عاد بصره – لم يؤخذ بذهابه ثانياً على الصحيح من المذهب، وهل يؤخذ على القول المخرج من السن؟ فيه وجهان.

فرع آخر: لو جنى على بصر صبي، أو مجنون؛ فذهب ضوء عينه، وقال أهل الخبرة: إنه لا يعود؛ ففي "المهذب" وغيره حكاية قولين:

أحدهما: لا يجب عليه شيء في الحال؛ لجواز ألا يكون البصر زائلاً.

والثاني: يجب عليه القصاص أو الدية.

قال: وإن قالا: ذهب ولكن يرجى عوده إلى مدة معلومة – انتظر إليها حتى لا يبقى ارتياب، فعلى هذا: إن لم يعد في تلك المدة وجبت الدية، وكذا القصاص، [قاله البندنيجي والماوردي.

وادعى الجيلي أنه لا يجب القصاص] بلا خلاف، وهو ما أورده المصنف والرافعي والبغوي ومجلي؛ لأن قول أهل الخبرة يورث شبهة.

وإن عاد لم يجب عليه قصاص ولا دية، ووجبت [عليه] حكومة الجناية إن أثرت؛ وإن لم تؤثر عزر.

ص: 126

ولو جنى على المجني عليه [آخر] في مدة الانتظار ففقأ عينه – فالدية على الأول دون الثاني، [وكذا القود]، قاله الماوردي والبندنيجي، وعلى الثاني الحكومة.

وقضية ما حكيناه عن "المهذب" وغيره في المسألة السابقة: ألا يجب القود على الأول، وتجب عليه الدية خاصة؛ للشبهة.

قال: فإن مات قبل انقضائها وجبت الدية؛ لتحقق الجناية، والتردد في عود الضوء، مع كونه غير معهود، بخلاف عود السن؛ حيث جرى في إيجاب أرشه في مثل هذه الحالة قولان؛ فإنه معهود فيمن لم يثغر، وهذا ما جزم به البندنيجي وابن الصباغ.

وقد قيل بطرد القولين المذكورين [في السن] هاهنا أيضاً.

فعلى قول: لا يجب سوى الحكومة؛ كما حكاه الماوردي والمصنف وغيرهما، وهو بعيد؛ لما ذكرناه.

أما إذا لم يقدراه بمدة معلومة، لم ينظر؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط [موجب] الجناية.

قال البندنيجي: فيؤخذ منه القود، أو الدية في الحال.

ولو قال أهل المعرفة: لا يعرف حال العين، ويجوز أن يكون بصرها ذاهباً؛ فإن كنا المجني عليه بالغاً، عاقلاً امتحن في أوقات غفلاته بما يزعج البصر رؤيته، ويشار إلى عينه بما توقاه البصر بإغماضها، ويؤمر بالمشي في طريق الحفائر والآبار، ومعه من يحوله عنها وهو لا يشعر؛ فإن دلت أحواله على صدقه؛ [جعل القول] قوله، ويحلف؛ لجواز تصنعه [فيه] ويقضي له بعد يمينه بالقود أو الدية، وإن دلت أحواله على كذبه؛ بأن كان يطبق طرفه عند الإشارة، ويتوقى بئراً إن كانت، ويعدل عن حائط إن لقيه – كان القول قول

ص: 127

الجاني، مع يمينه على أن بصره لباقٍ؛ لجواز أن يكون قد جرى ذلك اتفاقاً.

وإن كان المجني عليه صغيراً، أو مجنوناً، انتظر بلوغه وإفاقته، بعد حبس الجاني: إن مات قام وليهما مقامهما فيما يدعيانه من ذهاب البصر، [واختلافهما] عليه إن كان] معهما ظاهر يدل على صدقهما؛ قاله الماوردي.

واعتبر الإمام الامتحان بما ذكرناه [في ابتداء] الأمر من غير عرض على أهل الخبرة.

وفي "التتمة": أن الحاكم بالخيار: إن شاء راجع أهل الخبرة، وإن شاء امتحنه.

قال: وإن نقص الضوء، أي: في العينين، ولم يكن قد عرف مدى بصره قبل الجناية – وجبت حكومة؛ لتعذر إيجاب قسط من الأرش المقدر.

وفي "الرافعي": أن ذلك على الطريقين المذكورين في السمع: فمنهم من اعتبره بمثله في السن والصحة، والأكثرون على ما ذكره الشيخ؛ لاختلاف الناس في الإدراك. ويروي عن الماسرجسي أنه قال: رأيت صياداً كان يرى الصيد على فرسخين.

أما إذا كان قد عرف مدى بصره قبل الجناية، اعتبر مدى بصره بعدها، ولزمه من الدية بقد رما بين المسافتين، قاله الماوردي.

وحكى عن الشافعي – رحمه الله – فيما إذا نقص ضوء أحداهما عن الأخرى: أن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، وينصب له شخص من بعد على نشز من الأرض أو مستويها؛ فإذا رأى الشخص – بوعد منه حتى ينتهي إلى مدى لا يراه بعده، ويختبر صدقه؛ بأن يعاد الشخص من جهات شتى، ويغير ما عليه؛ كما قاله القاضي أبو الطيب؛ فإذا وثق بما قاله من هذا الاختبار الذي لم يختلف مدى البصر فيه باختلاف الجهات – مسح قدر المسافة؛ فذا كانت ألف ذراع – مثلاً – علم أنه قدر مدى بصره مع الصحيحة، وإن اختلف عمل بالأقل؛ احتياطاً، ثم أطلقت العليلة، وعصبت الصحيحة؛ فإن رأى الشخص

ص: 128

من مداه علم أنه لم يذهب من بصره العليلة شيء، وإن لم يره قرب منه حتى ينتهي إلى حد يراه، ويختبر ذلك بالجهات، ويحسب بأكثر ما قاله من مدى بصره بالعليلة، ويمسح؛ فإن كان خمسمائة ذراع – مثلاً – كان الذاهب النصف؛ فيؤخذ بربع الدية؛ لأنه نصف دية إحدى العينين، وعلى هذه النسبة فقس.

وقد حكى ابن الصباغ أن الشافعي رضي الله عنه قال في "الأم": لو زعم اهل العلم بالطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة، ويكثر إذا قربت، وأمكن هذا في المذارعة [عملت عليه].

ولفظ البندنيجي: أوجبت الحصة.

قال ابن الصباغ: وبيان هذا: أنهم إذا قالوا: الرجل إذا كان ينظر إلى مائة ذراع؛ فإذا أراد أن ينظر إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما تحتاج إليه الأولى من البصر؛ فحينئذ إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتي ذراع، وبالعليلة إلى مائة- علمنا أن نقص من ضوئه ثلثاه.

قال الشافعي – رحمه الله: "ولا أظن أن هذا يضبط"، ومن هذا اللفظ أخذ الأصحاب – كما حكاه مجلي عن الشيخ أبي حامد عنهم – أن هذا لا يمكن معرفته ولا العمل عليه.

قال: فإن ادعى نقصانه فالقول قوله – أي: مع يمينه – لأنه لا يعرف إلا من جهته.

قال: وفي العين القائمة الحكومة.

العين القائمة: هي التي بياضها وسوادها صافيان، ولا يبصر بها شيئاً، وإنما وجبت الحكومة؛ لأن في إذهابها إتلاف إجمال من غير منفعة؛ فأشبه قطع اللسان الأخرس؛ وهكذا الحكم في العين التي ركبها بياض امتنع النظر بسببه، وإن كان باقياً تحت البياض؛ لأنه لا يبصر به؛ كما لا يبصر بالذاهب من أصله.

قال الماوردي: ولا فرق في ذلك بين أن يرجى زوال البياض بالعلاج؛ فيعود البصر، أو لا.

[نعم]، لو كان البياض قد أذهب بعض البصر وبقي البعض؛ فهو على ضربين:

ص: 129

أحدهما: أن يكون قد غشي جميع النظار وهو رقيق؛ فصار يبصر أقل من بصره قبل البياض، فإن أمكن معرفة ما ذهب بالبياض وجب في الباقي قسطه من الدية، وإن لم يمكن ففيه حكومة.

والضرب الثاني: أن يكون البياض قد غشي بعض الناظر؛ فلا يبصر بما غشيه، ويبصر بما عداه؛ فيلزم الجاني عليها إذا أذهب بصرها ما كان باقياً منها من نصف أو ثلث، أو ربع، إذا عرف ذلك وخبر من أهل بالبصر.

وقد ذكرنا فيما [إذا] حصل بالجناية ارتتاق منفذ السمع، مع بقاء السمع في مقره وجهاً رجحه الرافعي: أنه لا تجب الحكومة، ولا يبعد مجيئه في نظيره هاهنا، وألا فيعسر الفرق.

فروع:

الأول: إذا ضرب عينه؛ فأشخصها، وذهب بعض بصرها – لزمه أكثر الأمرين من: دية الذاهب من بصرها، أو حكومة إشخاصها، ولا يجع عليه بينهما؛ لاجتماع محلهما، ويكون أقلهما داخلاً في الأكثر؛ قاله الماوردي.

الثاني: إذا ضربه؛ فصار أعشى، وهو الذي لا يبصر لليل – قال في التهذيب: يجب عليه نصف الدية.

الثالث: ولو عشى إحدى عينيه، فربع الدية.

وقضية ما حكيناه عن الماوردي من إيجاب الدية كاملة في قلع عين الأعشى: ألا يجب عند حصول العشى بالجناية إلا الحكومة؛ عملاً بما نقلناه عن الأصحاب في الأذن الشلاء.

وأبدى الرافعي تخريج وجه: أنه يجب فيه كمال الدية من قول الغزالي: إن إزالة بصر الأخفش يوجب كمال الدية؛ لأن الأخفش –كما فسر -: هو الذي يبصر بالليل دون النهار، وإذا وجب في ذلك كمال الدية وجب أن يجب في الذي يبصر في النهار دون الليل ذلك.

ص: 130

قال: وفي الأجفان الدية؛ لما روى بعض أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو ابن حزم: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية"، لكنه ليس بمشهور عند أصحاب الحديث؛ فنقول: لأنها من تمام الخلقة فيها منفعة وجمال يؤلم قطعها، ويخاف على النفس من سراية الجناية عليها؛ فكملت فيها الدية؛ كسائر الأعضاء.

ولا فرق في ذلك بين أجفان الصغير والكبير، والبصير والضرير.

قال الماوردي: وأما القود، فإن أمكن فيها، ولم يتعد ضرره إلى العينين- وجب، وإلا سقط.

قال: وفي كل أحد ربعها؛ لأن كل ذي عدد من الأعضاء تكمل فيه الدية، يقسط على عدده؛ كاليدين والرجلين في تقسيط ديتهما عليهما، وعلى الأصابع، وتقسط دية الأصابع على الأنامل، وسواء في ذلك الجفن الأعلى والأسفل.

قال: وفي الأهداب الحكومة؛ لأن فيها جمالاً ومنفعة، لكن منفعتها – وهي ذبها عن البصر – منفعة ضعيفة؛ فلم تجب لأجل ذلك بها الدية؛ كما في الأظفار.

وأيضاً: فإن الدية إنما تجب في قطع ما يخاف من سرايته، [ويؤلم في إبانته]، وهذا معدوم في الأهداب.

ومحل إيجاب الحكومة إذا نتفها، ولم تعد، أو عادت دون الأولى، لكن في الحالة الثانية تكون أقل من الأولى.

أما إذا عادت بعد النتف كما كانت، فوجهان:

أحدهما: تجب الحكومة أيضاً.

والثاني: لا شيء له؛ لعدم التأثير، ويعزر الفاعل؛ لأجل الأذى.

قال: فإن قلع الأهداب مع الأجفان، لزمه دية؛ لأن الشعر إذا كان نابتاً على العضو كان تابعاً له في الضمان؛ كشعر الوجه.

وقيل: يلزمه دية، أي للأجفان، وحكومة، أي: للأهداب؛ لأن في الأهداب جمالاً منفرداً ومنفعة منفردة؛ فوجب لها أرش منفرد.

قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن الجفون محل الأهداب؛ فلم تنفرد بالحكومة عنها؛ كالأصابع مع الكف.

ص: 131

قال: وفي المارن الدية؛ لما روى ابن طاوس، عن أبيه أنه كان عنده كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:"فِي الأَنْفِ أَوْعَى مَارِنِهِ جَدْعاً الدِّيَةُ".

وقد أورد الشافعي – رحمه الله – لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك في المختصر.

قال الماوردي: وكثيراً ما يفعل الشافعي مثل هذا إذا أمكن؛ فإن لم يمكن فبألفاظ الصحابة؛ فإن لم يجد فبألفاظ أئمة التابعين، وكثيراً ما يوردها بلفظ عطاء بن أبي رباح.

وروى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ" خرجه النسائي.

ومارن الأنف: هو ما لان من الأنف؛ كما ذكرناه من قبل، وعليه ينطبق قول الشيخ هاهنا.

وقال الماوردي: هو ما لان من الحاجز بني [المنخرين] المتصل بعضه بقصبة الأنف، وإن الدية إنما تكمل باستيعاب المارن مع المنخرين، وسواء في ذلك الأنف الأقنى والأفطس والأجحر والأخنس، وأنف الأشم والأخشم.

قال: وفي بعضه بحسابه من الدية إن أمكن؛ لما مضى؛ فيقدر بالثلث والربع، ونحوه.

وإن لم يمكن فالواجب الحكومة.

وحكى الإمام وجهاً: أنا نعتبر النسبة إلى جميع الأنف بقصبته.

قال: وإن قطع المارن وبعض القصبة، لزمه [دية وحكومة؛ لأن القصبة]

مع المارن كالذراع مع الكف، ولا يبلغ [مع الحكومة] دية الأنف؛ لأنها تبع له، ولا تنقص عن دية منقلة، بل تزيد عليها؛ كما حكينا ذلك عن الماوردي في باب: ما يجب به القصاص، وحكاه الرافعي عن رواية القاضي ابن كج عن النص، وقال: إنه لم يجد لغيره [تعرضاً لذلك].

ويجيء على قياس قول حكيناه من قبل فيما إذا خرق القصبة خاصة أنه تجب دية

ص: 132

مأمومة، وحكومة هي أكثر من دية منقلة – ألا تنقص عن ذلك على قول أيضاًز

وعن أبي عليّ بن أبي هريرة تخريج قول آخر: أنه لا يجب سوى دية المارن؛ بناء على اختلاف قول الشافعي – رحمه الله – في قطع الحلمة مع الثديين، وقطع الحشفة مع بعض الذكر.

قال الماوردي: وليس هذا التخريج صحيحاً؛ لأمرين:

أحدهما: أن محل الحلمة في الثدي، ومحل الحشفة على الذكر، وليس محل المارن على القصبة، وإن اتصل بها؛ فاختلفا.

والثاني: أنه لما وجب في إيضاح القصبة مع قطع المارن الدية، ودية موضحة – كان إلزام الغرم في قطع أصلها أحق.

قال: فإن ضرب الأنف؛ فشل المارن – ففيه قولان؛ كالأذن، وقد تقدم توجيههما، [وعليهما يخرج] ما لو جدع أنفاً مستحشفاً، كان فيما يلزمه قولان؛ كما قلنا في الأذن الشلاء، صرح بهما الماوردي.

قال: وإن عوجه، أي: بالجناية عليه، لزمه حكومة؛ لإزالة الجمال، فإن جبر حتى عاد مستقيماً كانت حكومته أقل.

قال: وفي إحدى المنخرين نصف الدية؛ لأنه أذهب نصف المال ونصف المنفعة، وهذا ما حكاه في "المهذب"، وهو المحكي عن النص، وحكاه الماوردي عن رواية الشيخ أبي حامد، عن أبي إسحاق.

وفي الرافعي نستبه إلى ابن سريج أيضاً، وصححه البغوي وشيخه القاضي الحين، فعلى هذا يجب في الحاجز حكومة.

وقيل: [يلزمه] ثلث الدية [تقسيطاً للدية] على المنخرين، والحاجز الذي اشتمل الأنف عليها، وهذا قول أبي عليِّ الطبريّ، وإيراد الغزالي في "الوجيز" يقتضي ترجيحه، وإليه ذهب القاضيان: الطبري والروياني، وعلى هذا يجب في الحاجز خاصة ثلث الدية.

وفي الرافعي أنه يخرج مما ذكره الإمام نقلاً وتلخيصاً: أنه لا يجب في أحد

ص: 133

الطرفين النصف ولا الثلث، ولكن ينسب ما بقي ويوزع الواجب عليهما؛ فيجب ما يقتضيه التقسيط، وأنه أقام هذا وجهاً آخر، لكنه لا يستغني عن النظر في أن الدية تجب في مقابلة الطرفين، أو الطبقات الثلاث.

ثم إذا جعلنا الدية [في] مقابلة الطرفين، فلا يكاد يهر تفاوت بينهما، ولا يكون الواجب إلا النصف.

وإن جعلناه في مقابلة الطبقات الثلاث، فيظهر تفاوت الطرفين على الواسطة، ويكون الواجب فوق الثلث ودون النصف.

وعلى الوجهين المذكورين في الكتاب يخرّج ما إذا ذهب من بعض المنخرين شيء، ولم يمكن معرفته – في أن الواجب من الحكومة ينقص عن نصف الدية أو ثلثها؛ كما صرح به الماوردي.

[قال: وفي الشم الدية؛ لما روي] عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الشَّمِّ" يعني الدية؛ لأن الشم من الحواس النافعة؛ فأشبه حاسة السمع والبصر.

وقيل: فيه حكومة؛ لأن الشم ضعيف النفع، وهذا ما حكاه صاحب التقريب وجهاً، و [حكاه] منصور اليمني قولاً.

وعلى الأول – هو الصحيح -: لو جنى عليه؛ فذهب الشم من إحدى المنخرين- لزمه نصف الدية.

قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه الوجه المذكور في إبطال السمع من إحدى الأذنين.

وإن نقص الشم، وأمكن معرفة النقص – وجب بقسطه من الدية، وإلا فالحكومة.

قال: وإن قطع الأنف، [أي: مارن الأنف]، فذهب الشم – لزمه ديتان؛ لأن الشم في غير الأنف؛ فكان كالسمع مع الأذن.

ص: 134

قال: فإن ادعى ذهاب الشم، تتبع في حال الغفلة بالروائح الطيبة والكريهة، أي: مرة بعد أخرى؛ لعدم إمكان إقامة البينة على الذهاب.

قال: فإن لم يظهر منه إحساس؛ أي: بأن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة، ولا يظهر منه كراهة الروائح – المنتنة – حلف؛ لأن الظاهر معه، وإمكان تصنعه قائم.

وإن وجد منه الارتياح والكراهة، كان القول قول الجاني، لكن مع اليمين على بقاء شمه؛ لاحتمال حصول ذلك اتفاقاً.

ثم إذا حلفنا المجني عليه، ثم غطى أنفه عند شم رائحة منتنة، فادعى الجاني أنه غطاه؛ لبقاء شمه، وقال المجني عليه: غطيته؛ لحاجة أوعادة – فالقول قوله، ويحكم له بالدية، قاله الماوردي.

فرعان:

أحدهما: إذا قضينا بالدية، ثم عاد شمه- لزمه رد الدية؛ لعلمنا بأن ذهاب شمه كان لحائل، ولا شيء له، إلا أن يكون بعد عوده أضعف منه قبل ذهابه؛ [بأن كان] يشم من قريب وبعيد؛ فصار يشم من القريب ولا يشم من البعيد، أو كان يشم الروائح القوية والضعيفة؛ فصار يشم القوية دون الضعيفة؛ فحينئذ ينظر: فإن علم فدر الذاهب منه – قال الشافعي: ولا أحسبه يعلم – كان فيه من الدية بقسطه، وإلا ففيه الحكومة.

الثاني: لو كان في أصل الخلقة يشم شمًّا ضعيفاً؛ بأن [كان] يشم من القرب دون البعد، أو القوي من الروائح دون الضعيف، فجنى عليه؛ فصار لا يشم شيئاً – قال الماوردي: ففيه وجهان محتملان:

أحدهما: فيه الدية الكاملة؛ كالأعضاء الضعيفة.

والثاني: أن الموجود كان فيه بعض الشم؛ [فلم يلزم فيه إلا بعض الدية]، بخلاف ضعف الأعضاء التي يوجد جنس المنافع فيها.

ص: 135

فعلى هذا: إن عُلم ما كان ذاهباً من شمه، ففيه من الدية بقسطه، وإن لم يعلم فالحكومة يجتهد فيها الحاكم.

قال: وفي الشفتين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي، ولأنهما عضوان من أصل الخلقة فيهما منفعة وجمال يألم بقطعهما، ويخاف من سرايته؛ فأشبهتا اليدين.

قال: وفي أحداهما نصفها، وفي بعضها بقسطه؛ لما مر.

قال: وإن جنى عليها؛ فشلت، أي: صارتا يابستين لا تتقلصان، ولا تسترخيان – وجبت الدية؛ كما لو جنى على اليدين؛ فشلتا.

وهكذا الحكم فيما لو جنى عليهما؛ فتقلصتا، ولم تنبسطا بالمد، أو استرختا بحيث لم تتقلصا عن الأسنان إذا كشر أو ضحك؛ كما نص عليه الشافعي، رحمه الله.

قال الماوردي: وفيه عندي نظر؛ لبقاء منفعتهما بحفظ الأسنان، وما يدخل الفم من طعام وشراب؛ فاقتضى لأجل ذلك أن تجب حكومة؛ بخلاف تقلصهما المذهب لجميع منافعهما، وهذا ما أورده في "المهذب"؛ حيث قال: ون تقلصتا وجبت عليه الحكومة؛ لأن منفعتهما لم تبطل، وإنما حصل بهما نقص.

فرع: لو قطع شفة مشقوقة، ففي "التهذيب" و"التتمة": أن فيها دية ناقصة بقدر حكومة الشق، وفي "الحاوي":[أنه يجب جميع ديتها]؛ إن لم يذهب الشق شيئاً من منافعها، وبقسطه إن أذهب معلوم القدر من منافعها، وحكومة إن لم يعلم قدر الذاهب.

فرع آخر: هل تتبع حكومة الشارب دية الشفة؟ نقل عن القاضي ابن كج فيه وجهان.

ص: 136

قال: وفي اللسان الدية، أي: إذا كان ناطقاً سليم الذوق؛ لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي.

ولأنه قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم – ولا مخالف لهم.

ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة، يألم بقطعه، ويخاف [من سرايته]؛ فكملت فيه الدية كسائر الأعضاء.

[أما جمال] اللسان، فقد روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِيمَ الْجَمَالُ؟ قَالَ: فِي اللِّسَانِ"، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ".

وأما منفعة اللسان فالمعتمد فيها ثلاثة أشياء:

أحدها: الكلام الذي يعبر به عما في النفس، ويتوصل به إلى أربه.

والثاني: حاسة الذوق التي يدرك بها ملاذ طعامه وشرابه، ويعرف بها فرق [ما] بين الحلو والحامض، والمر والعذب، وهذا هو المشهور.

وفي "التتمة": أن الذوق في طرف الحلق، وعلى ذلك ينبني ما لو ضربه ضربة أزال بها نطقه وذوقه؛ فقال: عليه ديتان؛ لأن محلهما مختلف، ووافقه في "التهذيب" في الحكم.

والثالث: الاعتماد عليه في أكل الطعام ومضغه وإدارته في لهواته، حتى يستكمل طحنه في الأضراس، وتندفع بقاياه من الأشداق.

ولا فرق – فيما ذكرناه – بين لسان الصغير والكبير، والمتكلم بالعربية والأعجمية، والفصيح والألكن، والثقيل والعجل، والأرت والألثع؛ كضعف البطش في اليد.

ص: 137

قال الروياني: ويحتمل أن يقال بخلافه.

أما إذا كان ناطقاً مفقود الذوق. قال الماوردي: لم تكمل في الدية، وكان فيه حكومة؛ كالأخرس.

فروع:

[الفرع الأول] لسان الصغير الذي يعجز عن الكلام إذا قطع، هل تجب فيه الدية؟ ينظر: فإن عرفت سلامته بنطقه بحروف الحلق، وهي أول ما يظهر من الصغير في البكاء، [أو بحروف الشفة في "بابا" و"ماما"، وهي الحالة الثانية للصغير]، أو بحروف اللسان؛ فإذا عرف [منه] أحد هذه الثلاثة في زمانه كملت فيه الدية.

قال القاضي الحسين: وضمن بالقود- أيضاً – وإن لم يستكمل الكلام؛ لأنه يكمل في غالب العرف إذا بلغ زمان الكلام.

وإن لم يظهر منه في أوقات هذه [الحروف] ما يدل على سلامة لسانه، كان ظاهره دليلاً على خرسه؛ فيلزم فيه حكومة.

ولو قطعه ساعة ولادته قال الماوردي: صار لسانه – وإن كان من الأعضاء الظاهرة من الكبير – جارياً مجرى الأعضاء الباطنة؛ فيكون على قولين:

أحدهما: يحمل على الصحة، وتكمل فيه الدية، وهذا ما حكاه في "المهذب" وغيره، ونسبه ابن كج إلى قول أبي إسحاق.

والثاني: يحمل على عدمه؛ فتجب فيه حكومة، وهذا ما حكاه الغزالي، وحكى الإمام قطع الأصحاب به، مع وقفة لشيخه فيه.

ولو تعذر النطق في اللسان لا لخلل فيه، ولكنه ولد أصم، أو أزيل سمعه قبل أن يبلغ مظنة النطق، فلم يحسن الكلام؛ لأنه لا يسمع شيئاً – فالواجب فيه الدية، أو الحكومة؟ فيه وجهان.

قال: وإن جنى عليه؛ فخرس – فعليه الدية؛ لأنه سلبه أعظم منافعه؛ فحلَّ ذهابها من اللسان محل ذهاب البصر من العين، وهذا فيما إذا لم

ص: 138

يقدر على النطق بشيء من الحروف اللسانية والحلقية والشفهية.

أما إذا قدر على النطق بالشفهية والحلقية، فقد ذكر في "الوسيط" والوجيز:[أن] الحكم كذلك، وعلله بأن الذي بطل حرفُ مقصود برأسه.

قال الرافعي: وهذا لم [أجد] أحداً من الأصحاب تعرض له، وهو مناقض لما ذكره من بعد، وهو أنه يجب في بعض الكلام بعض الدية، وتوزع على جميع الحروف من الشفهية وغيرها، وإنما يستمر ذلك على طريقة الإصطخري على ما يتبين.

قال: فإن ذهب بعض الكلام وجب بقسطه؛ لما تقدم، [ويقسم على حروف لغته:

فإن] كان أعجمي اللسان اعتبر من عدد حروف كلامه؛ فإن حروف اللغات مختلفة الأعداد والأنواع؛ فالضاد مختصة بالعربية، وبعضها مختص بالأعجمية، وبعضها مشترك بني اللغات كلها، وبعض اللغات تكون حروف [الكلام] فيها أحداً وعشرين حرفاً، وبعضها ستة وعشرين حرفاً، وبعضها أحداً وثلاثين حرفاً.

وإن كان عربي اللسان قسط على حروف المعجم التي عليها بناء جميع الكلام، وهي تسعة وعشرون حرفاً؛ كما قال الماوردي، ومنهم من عدها ثمانية وعشرين حرفاً، وأسقط حرف "لا"؛ [لدخوله] في الألف واللام، وعلى ذلك جرى في "المهذب"، وقبله القاضيان: أبو الطيب، والحسين، وكذا ابن الصباغ.

وسواء في ذلك حروف الشفة واللسان والحلق في ظاهر قول الشافعي، وجمهور أصحابه – رضي الله عنهم أجمعين – وعلى هذا يكون في مقابلة كل

ص: 139

حرف ثلاثة أبعرة ونصف، [وجزء من] أربعة عشر جزءاً من بعير.

وقال أبو علي بن أبي هريرة والإصطخري: يقسط على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر كما قال في "المهذب"، وأربعة عشر؛ كما حكاه القاضي الحسين عن الإصطخري دون حروف الحلق والشفة، وهي عشرة: ستة منها للحلق، وهي: الهمزة، والحاء، والخاء، والعين، والغين، و [الهاء]، وأربعة للشفة، وهي: الباء، والفاء، والميم، والواو.

قال الماوردي: وهذا فاسد؛ لأن هذه وإن كانت مخارجها في الحلق والشفة، فاللسان معبر عنها وناطق بها؛ ولذلك لم يتلفظ الأخرس بها؛ فعلى هذا: لو ضرب ضارب شفته؛ فأذهب الحروف الشفوية، أو رقبته؛ فأذهب الحروف الحلقية – لا يجب إلا الحكومة.

وعن كتاب ابن كج: أنه لو قطع شفته؛ فأذهب الباء والميم، فعن الإصطخري: أنه يجب مع دية الشفتين أرش الحرفين، وأن ابن الوكيل سئل عنه؛ فقال: لا يجب إلا الدية؛ كما أنه لو قطع لسانه، وذهب كلامه، لا يجب الدية.

وإن كان يحسن العربية غيرها، قسط على حروف المعجم.

[وقيل: يوزع على أكثرهما حروفاً، وقيل: على أقلهما.

ومحل التوزيع على حروف المعجم] إذا كان قبل الجناية تحقق الكلام بجميعها، فإن كان ألثغ لا يحسن الكلام إلا بعشرين منها، قال القاضي الحسين: فتوزع الدية على العشرين، وعلى ذلك جرى في "التهذيب".

وحكى غيره من المراوزة وجهاً آخر: أن التوزيع على جميع الحروف، دون ما يحسنه، وهذا ما أورده المتولي.

وكذا الخلاف فيما إذا تعطل عليه بعض الحروف؛ بسبب جناية، لكنه مرتب، وأولى بالتوزيع على الجميع، وهذا ما أورده الإمام.

ص: 140

ثم إذا قلنا بالتوزيع على الجميع في الأولى؛ فلو كان الشخص ممن يقدر على التعبير عن جميع مقاصده؛ لفطنته، استحداده من اللغة، وتهديه إلى مناط الكلام، فهل تكمل فيه الدية؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا.

واعلم أنا في اعتبار الذاهب من الحروف لا نأمره بأن ينطق بكل حرف على حياله؛ لأن الحرف الواحد يجمع في الهجاء حروفاً، بل نأمره بكلمة يكون الحرف الذي نمتحنه فيه من جملتها: إما في أولها، أو في وسطها، [أو في آخرها]؛ فإذا أردت اعتباره في أول الكلمة، وكان المعتبر هو الألف – فَامره أن يقول: أحمد، وأسهل، وأنصر، وأبعد؛ ليكون بعد الألف حروف متغايرة يزول بها الاشتباه؛ فإن لم تسلم له الألف في هذه الأسماء والأفعال كانت ذاهبة وإن سلمت كانت باقية.

وإن أردت اعتبار الباء، فَامره أن يقول: بركة، وباب، وبعد.

ثم على هذه العبرة تفعل في جميع الحروف؛ فإن ثقل عليه الحرف، ثم أتى به سليماً عد في السليم دون الذاهب، وإن قلبه بلثغة صارت في لسانه عد في الذاهب؛ وكذلك لو صار أرتَّ؛ لأن الأرت يأتي من الكلمة ببعضها ويسقط بعضها.

قال: وإن حصلت به تمتمة، أي: صار يردد التاء – ثالثة الحروف – مراراً، أو عجلة – وجبت الحكومة؛ لحصول النقص والشَّيْن بجنايته.

وهكذا الحكم لو صار أرد، وهو الذي يردد الكلمة مراراً، أو فأفاء، وهو الذي يكرر الفاء مراراً.

فرع: لو كان الباقي من حروف كلامه بعد الذاهب منه لا يفهم معناه، لم يضمنه الجاني، للعلم بأن [بعض] الحروف لا يقوم مقام جميعها؛ فلم يلزمه إلا ضمان الذاهب منها، وهذا ما حكاه الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وغيرهما، وقال في "التتمة": إنه المشهور من المذهب، والمنصوص في "الأم".

وفي "التهذيب": أنه يجب كمال الدية؛ لأن منفعة الكلام قد فاتت، ويحكي

ص: 141

هذا عن أبي إسحاق وعن القفال، وفيما روى عن الروياني أنه المذهب.

قال الرافعي: ويمكن أن يقال: صورة النص في البعض إذا لم يمكنه أن يأتي بالكلمة التي فيها الحرف الذاهب، ولكن بقي له كلام مفهوم.

[والذي صار إليه القفال صورته ما إذا لم يبق له كلام مفهوم].

فرع آخر: إذا جنى على اللسان؛ [فأبدل صورته]، واللسان على اعتداله وتمكينه من التقطيع والترديد- فعليه الدية؛ لأنه من المنافع المقصودة؛ فلو أبطل مع ذلك حركة اللسان حتى عجز عن الترديد والتقطيع، فوجهان

أرجحهما: انه تلزمه ديتان.

والثاني: دية واحدة؛ لأن المقصود: الكلام، وفواته بأحد طريقين: انقطاع الصوت، وعجز اللسان عن الحركة، وقد يجتمع الطريقان، وقد يوجد أحدهما خاصة.

فإن قلنا بالأول وكانت حركة اللسان باقية؛ فقد تعذر النطق؛ بسبب فوات الصوت، قال الرافعي: فيجيء الخلاف المذكور في أن تعطيل المنفعة هل هو كزوالها؟ فإن جعلناه كزوالها وجب ديتان، وإلا فدية واحدة.

قال: وإن قطع نصف اللسان، وذهب نصف الكلام- وجب [نصف] الدية؛ لأن ما ذهب من اللسان ومن الكلام تساويا فأيهما اعتبر، كان الواجب هذا.

قال: وإن قطع ربع اللسان، وذهب نصف الكلام –وجب نصف الدية وإن قطع النصف، فذهب ربع الكلام –وجب نصف الدية؛ لأن منفعة العضو إذا ضمنت بديته، اعتبر فيه الأكثر من ذهاب العضو والمنفعة.

دليله ما لو قطع الخنصر من أصابع اليد، فشلت، فإنه يلزمه جميع ديتها، لذهاب جميع منفعتها، ولو لم يشل [باقيها] لزمه دية الإصبع، وهو خمس دية اليد، لأنه أخذ خمس اليد، وإن كان الذاهب بها أقل من خمس المنفعة كذلك فيما ذهب

ص: 142

من اللسان والكلام، وهذا تعليل أبي كثير، وظاهر تعليل الشافعي.

وقال أبو إسحاق: الاعتبار باللسان؛ لأن الجناية عليه مباشرة، إلا أنه إذا قطع الربع، فذهب نصف الكلام –دل على شلل ربع آخر.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا غلط؛ لأنه ظن أن الكلام يقابل أبعاض اللسان، فيخص كل بعض من الكلام بعضاً من اللسان، وليس بصحيح؛ لأنه قد يذهببعض الكلام واللسان باق بحاله [لم يذهب منه شيء، وقد يذهب بعض اللسان، ويكون الكلام باق بحاله] لم ينقص؛ فلم يصح ما اعتبره.

وتظهر ثمرة الخلاف في فروع:

منها: إذا قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه، ثم جاء آخر، وقطع الباقي – فعلى المذهب: يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية؛ [لأنه قطع ثلاثة أرباع اللسان]، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه نصف الدية، وحكومة [في ربع اللسان]؛ لان [نصف اللسان] سلم وربعه أشل.

ومنها: إذا قطع نصف لسانهن فذهب ربع كلامه، ثم جاء آخر، فقطع الباقي، فعلى الأول: يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه نصف الدية؛ لأنه قطع نصف لسانه.

ومنها: إذا جنى على لسانه، فذهب بعض كلامه، فقطعه آخر – فعلى المذهب: على الثاني دية كاملة، وعلى قول أبي إسحاق: عليه نصف دية اللسان وحكومة.

ومنها: إذا قطع فلقة من لسانه، ولم يبطل بذلك شيء من كلامه – قال الإمام: من راعى الكلام لم يوجب على القاطع إلا الحكومة، ومن راعى الجزم أوجب قسطاً بالنسبة إلى اللسان، ولكن هذا إيجاب المقدر من غير تفويت الكلام، ولو صح ذلك لزم إيجاب الدية الكاملة في لسان الأخرس، وموجبه الحكومة، وبه أجاب في "الوسيط".

قال: وإن قطع اللسان، وأخذ الدية، ثم نبت – رد الدية في أحد

ص: 143

القولين؛ لعود مثل ما قطع، دون الآخر، لأن هذه نعمة جديدة من الله تعالى.

وهذان القولان كالقولين فيما إذا عاد سن المثغور بعد قلعه، كما سنذكرهما.

وهذه طريقة أبي إسحاق، وظاهر التنبيه، وكلام الشيخ يقتضي أنا على القول الأول لا نبقى من المأخوذ قدر الحكومة.

وقد ادعى الماوردي أن ذلك يبقى منها قولاً واحداً وإن جرى خلاف في مسألة السن، كما سنذكره.

وقيل هاهنا: لا يرد شيئاً [مما أخذ] قولاً واحداً؛ لأن عود السن معهود في الجملة، بخلاف عود اللسان، وهذه طريق ابن أبي هريرة.

ولو جنى على لسانه، فخرس، وغرم الدية، ثم عاد فنطق – رد ما أخذه من الدية.

قال الماوردي: قولاً واحداً، بخلاف اللسان إذا نبت.

والفرق: أن ذهاب اللسان محقق، والنابت غيره، وذهاب الكلام مظنون؛ فدل النطق على بقائه.

وما قاله من الفرق يرد عليه ما حكيناه عنه في عود ضوء العين بعد زواله.

وقد صور القاضي الحسين صورة عود اللسان: بان يقطع بعضه من العرض، فتزول منفعته، فينبت ثانياً وتعود منفعته.

وصوره غيره بأن يقطعه بجملته.

قال ابن أبي هريرة: وقد كنا ننكر على المزني حتى وجدنا في زماننا رجلاً من أولاد الخلفاء قطع لسانه، فنبت؛ فعلمنا أن مثله قد يكون.

قال: وفي الذوق الدية.

صورة المسألة – كما حكاه الجمهور -: أن يجني على لسانه، فيذهب حاسة ذوقه، ولذة طعامه حتى صار لا يفرق بين الحلو والحامض، والمر والمالح والعذب – فتجب فيه الدية؛ لأن الذوق إحدى الحواس المختصة بعضو خاص؛ فأشبه حاسة الشم والسمع، وبل أولى؛ لأن الذوق أنفع من الشم وآكد، وهذا ما نص عليه الشافعي – رحمه الله – كما حكاه ابن الصباغ، عن رواية القاضي أبي الطيب، وقال الماوردي: ليس للشافعي – رحمه الله فيه نص، وإنما ذلك

ص: 144

هو الذي يقتضيه مذهبه، وكلام البندنيجي مشير إلى ذلك.

وقد وافقهم القاضي الحسين على إيجاب الدية الكاملة فيه.

ثم قال ابن الصباغ: قد نص الشافعي رضي الله عنه -على أن في لسان الأخرس الحكومة، مع أن الذوق يذهب بذهابه؛ فدل على أن في الذوق الحكومة. وما ذكره حسن، ولا يندفع بما قاله الرافعي وحكاه الشيخ في المهذب: أن محل إيجاب الحكومة بقطع اللسان الأخرس، إذا لم يذهب ذوقه، أو كان قد ذهب قبل قطه، دون ما إذا ذهب بالقطع؛ فنه يجب فيه الدية الكاملة، لإتلاف حاسة الذوق، لأن الماوردي حكى نص الشافعي رحمه الله على إيجاب الحكومة بقطع اللسان الأخرس، ثم قال: وإنما لم تجب الدية، لأنه قد سلب الكلام الذي هو الأخص الأغلب من [منافع اللسان]، ولو بقى بالخرس بعض منافعه - وهو الذوق، وتصرفه في مضغ الطعام - فلم تبلغ ديته دية لسان كامل المنافع.

نعم، لو صح ما قاله المتولي: أن محل الذوق طرف الحلق - لا ندْفعَ سؤال ابن الصباغ.

وعن أبي الطيب بن سلمة أنه يمكن تخريج قول: أن الواجب في لسان الأخرس الدية، فلعله أخذه من هنا

فرع: لو نقص من اللسان بالجناية عليه بعض الذوق، قال في المهذب: نظر: فإن كان نقصاناً لا يتقدر، بأن يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كمالها - وجبت عليه حكومة، وإن لم يدرك إحدى المذاق الخمس، ويدرك الباقي - وجب عيه خمس الدية، فإن لم يدرك اثنتين، وجب خمسان، وهكذا؛ لأنه تعدد المتلف، فتقدر الأرش.

قال: وفي كل سن، [أي] إذا أثغر خمس من الإبل؛ لرواية عمرو بن حزم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتابه إلى اليمن:"وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبلِ"، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [قال]: "وَفِي

ص: 145

الأَسْنَانِ خَمْسٌ [خمس] "، وسواء في ذلك البيضاء المليحة والسوداء القبيحة إذا كان ذلك من أصل الخلقة، أو طارئاً عليها ولم ينقص منفعتها، كذا قاله الماوردي.

وقال ابن الصباغ والقاضي الحسين: إن الحكم كذلك إن نبتت قبل الإثغار وبعده سوداء، أما إذا كانت قبل أن يثغر بيضاء، ثم نبتت بعده سوداء - سئل أهل الخبرة:

فإن قالوا: إن ذلك لعلة، وجبت فيها حكومة.

وإن قالوا: إنه لغير علة، وجبت الدية.

وكذا لا فرق بين السن الكبيرة والصغيرة، والضرس وغيره؛ لاشتراكهما في الاسم، ولأنه جاء في خبر عمرو بن شعيب أنه عليه السلام[قَضَى فِي الأَسْنَانِ وَ] الأَصَابعُ سَوَاءٌ.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال: "الأَصَابعُ [سَوَاءٌ]، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ" أخرجه أبو داود.

نعم، اختلف أصحابنا فيما لو كانت ثنايا إنسان مثل رباعياته، أو أقل منها: فحكى الإمام والقاضي أبو الطيب أنه لا يجب فيه تمام الأرش، ولكن [ينقص منه] بحسب نقصانها.

وطرده القاضي الحسين فيما إذا كانت الوسطى من الأصابع مثل التي تليها أو البنصر، لا تكمل فيها الدية، وهو الذي أوره الروياني في السن، ثم قال: ويخالف هذا ما إذا كانت أسنان الصف الواحد قصيرة بأسرها؛ فإن الغالب أن ذلك يكون لمعنّى في الخلقة، وتفاوت الأسنان في الصف الواحد يشعر بأنه قد

ص: 146

أصاب المنبت خلل، وأن النقصان كان لذلك.

وقال قائلون: يكمل فيها الأرش، وهو الذي أورده في "التهذيب".

ولا نزاع في أن صغر السن إذا انتهى إلى ألا يصلح للمضغ لا يجب فيه إلا الحكومة، وعلى هذه الحالة يحمل قول الفوراني:[إن في] الضرس إذا كان أصغر من الرباعيات حكومة عن بعض أصحابنا؛ لأنه عيب. لكن يمنع من ذلك استشكاله للحكم.

قال: فإن كسر ما ظهر، وجب عليه خمس من الإبل؛ لأن المنفعة الجمال فيما ظهر؛ فكملت ديته.

وادعى القاضي أبو الطيب أن الظاهر هوا لذي يسمى سنا، وأما الداخل فليس يسن، وكذلك قال الرافعي، وحينئذٍ يكون هذا الكلام من الشيخ كالتفسير لما أطلقه من لفظ السن.

قال: وفي بعضه بقسطه؛ لإمكان معرفة الحصة، ولا فرق في البعض بين أن يكون من الطول أو من العرض، ولا بين أن يكون قد أزاله [من] سن سليم أو من سن [قد] ذهب بعضه بالنقب والتآكل.

ولو ذهب منه حده الذي [كان] يكسر به، وبقي كالا، فكسره إنسان – وجب عليه تمام ديته.

ثم البعضية تنسب إلى ما ظهر من السن في الغالب، حتى لو تقلص عمور اللثة حتى ظهر من السنخ المغيب في اللثة ما لم يكن ظاهراً – لا يدخل ذلك القدر في التقسيط.

وقيل: البعضية تنسب إلى الظاهر، والسنخ على وجه؛ بناء على الظاهر من المذهب في دخول السنخ في السن، حكاه الإمام والمتولي.

والقاضي الحسن خصه بما لم يكن النقص في الطول، وجعله كالوجه الآتي فيما إذا قطع [بعض الحشفة: هل يحسب من جميع الذكر، أو من الحشفة فقط؟

وقال فيما إذا قطع] بعض ما ظهر طولا: إنه يوزع على ما ظهر وجهاً واحداً.

ص: 147

فإن قيل: قياس هذا الوهج ألا يجب تمام الأرش عند قطع جميع الظاهر.

قيل: إذا قطع الجميع لم يبق للسنخ منفعة بها مبالاة؛ فإن منفعته المقصودة: حمل الظاهر وحفظه؛ فلذلك أتممنا الأرش، إذا بقى من الظاهر بعضه - بقيى في السنخ منفعة حمله، فوزعنا الأرش على ما ذهب، وعلى جميع ما بقي منتفعاً به.

قال: وفي السنخ - أي أصل السن المغيب في اللحم، حكومة؛ لأنه تابع؛ فأشبه قطع الكف بعد قطع الأصابع، وسواء صدر ذلك من كاسر الظاهر بعد الكسر والاندمال، أو من غيره.

ولو صدر من الجاني قبل الاندمال، فوجهان عن القاضي الحسين:

الذي يوافق إطلاق الجمهور منهما: الوجوب أيضاً:

والثاني: أنها تدخل في أرش السن.

وطرد هذا الخلاف في قطع الكف بعد قطع الأصابع وقبل الاندمال، والذي رأيته في "تعليقه" فيهما: وجه الوجوب، كما ذكره غيره.

وفرق بينه وبين ما إذا أوضح موضحتين، ثم أزال الحاجز بينهما؛ حيث تعود الجنايات واحدة: بأن ثم اسم المزال واحد، وهاهنا اختلف اسم المزال.

قال: فإن قلع السن مع السنخ، دخل السنخ في السن؛ لأن السنخ تابع لما ظهر؛ فاندرج في الظاهر؛ كما لو قطع الكف مع الأصابع، وهذا ما حكاه الجمهور.

وحكى الإمام وجهاً آخر: أنه تجب حكومة مع الأرش؛ لزيادة الجناية بقلع السنخ.

وعن بعضهم القطع به، تعليلاً بأن السنخ باطن، فيفرد بالحكم.

ولو قلع بعض السن مع السنخ، كما إذا كسر إنسان نصف الظاهر، فجاء آخر وقلع الباقي مع السنخ - فهل يدخل السنخ في أرش الباقي؟ فيه ثلاثة أوجه.

ص: 148

أحدهما: نعم؛ [كما لو قلعه مع جميع السن.

والثاني: لا، وتجب حكومة، وهو الظاهر من منصوص الشافعي، كما] قاله البندنيجي والماوردي، ونسبه الرافعي إلى "الأم"؛ لأنه تابع لجميع السن؛ فلا يتبع بعضه.

والثالث – وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن الألو إن كان قد كسر نصفه عرضاً لزم الثاني في سنخه حكومة؛ للزيادة على سنخ ما قلعه، وإن كان الأول قد كسره طولاً لم يلزم الثاني حكومة السنخ؛ لأنه سنخ للبقية التي كسرها هذا ما أورده ابن الصباغ وصاحب "التهذيب" وغيرهما، كما قال الرافعي.

وقال القاضي الحسين: إن كان الأول قد كسر نصف الظاهر عرضاً، فإن أوجبنا عليه ثلث الدية فنوجب على الثاني الثلثين، وإن أوجبنا على الأول نصف الدية [فماذا نوجب على الثاني؟ فيه وجهان:

أحدهما – وهو الأظهر-: نصف الدية] دون الحكومة؛ كما لو جاء واحد وقطع أنملة، ثم جاء آخر وقطع يده من الكوع؛ فالكف كما يتبع جميع الأصابع مع الأنامل يتبع بعض الأنامل؛ فكذلك السنخ.

والثاني: عليه نصف الدية وحكومة.

وإن كان الأول قد قلع نصف ما ظهر طولا، فعليه نصف الدية، وحكومة السنخ؛ كما لو قطع ثلاثة أصابع من يده، ثم جاء آخر، وقطع يده من الكوع – يجب عليه أرش إصبعين وثلاثة أخماس حكومة الكف؛ لأجل الأصابع المفقودة، كذلك هاهنا.

ومحل الاتفاق على وجوب أرش السن إذا انفصلت ولم تبق متعلقة بشيء، أما إذا قلعت وبقيت متعلقة بعروق، ثم عادت إلى ما كانت، فعن "جمع الجوامع" للروياني: أنه لا دية، لأن الدية إنما تجب بالإبانة، ولم توجد، وعليه حكومة.

ص: 149

ولو جنى على السن، أبطل منفعته – وهي المضغ – وجب عليه أرشه، فلو ذهب [منه] نص المنفعة، قال الماوردي: ففيه قولان:

أحدهما: عليه ديتها تامة؛ لأنه قد يكون المسلوب من منفعتها مساوياً لمنفعة غيرها.

والقول الثاني: فيها حكومة.

ثم قال: ولو قيل بوجه ثالث: أنه إن ذهب أكثر منافعها كملت ديتها، وإن ذهب أقلها ففيها حكومة؛ اعتباراً بالأغلب- كان له وجه.

والقولان جاريان – كما حكاه الماوردي عن نصه في "الأم" –فيما إذا قلع سناً ذهب بعض منافعه وبقى البعض، وفيما إذا قلع سنًّا قد تحرك لكبر أو مرض، مع بقاء المنفعة، كما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والقاضي الحسين.

وقال الإمام: إن كان الظاهر والغالب على الظن ثباتها، وجب الأرش الكامل بلا خلاف، كما نوجب الأرش في الأعضاء الناقصة بالأمراض العارضة، وإن كان الغالب على الظن سقوطها، فهو موضع القولين، وأصحهما الوجوب.

قال: وإن جنى على سنه اثنان، [ثم اختلفا] – أي الجاني ثانياً، والمجني عليه – فقال: الجاني الأول [قد] كسر منه ثلثيه، وكسرت [أنا] ثلثه؛ فعلى ثلث الأرش، وقال المجني عليه: بل الأول كسر النصف، وأنت النصف؛ فعليك نصف الأرش.

قال: فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل بقاء السن.

أما لو اختلف الجاني الأول والمجني عليه في قدر ما ذهب بجنايته من السن، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته عما زاد على ما أقر به، مع إمكان إقامة البينة عليه.

وهذا بخلاف ما لو وقع الاختلاف في الذاهب من منفعة السن، فإن القول قول المجني عليه، كما لو اختلفا في أصل ذهاب المنفعة، لأنه لا يطلع على ذلك إلا من جهته.

ص: 150

وصورة الاختلاف: أن يدعي الجاني أن الذي ظهر من السن قدر كبير، ونسبة ما كسر منه نصف، ويدعي المجني عليه أن الذي ظهر من السن دون ذلك [القدر، وأن الذي كسر ثلثاه].

[قال:] وإن قلع سن كبير، فضمن، ثم نبت –ففيه قولان:

أحدهما: يرد ما أخذ كالصغير إذا عادت سنه، وهذا ما يقتضي [كلام] الماوردي ترجيحه، وهو الأصح في "الجيلي".

فعلى هذا: هل يبقى منه شيء؛ للألم وسيلان الدم، أم لا؟ فيه وجهان، حكاهما الماوردي عن ابن أبي هريرة، وظاهرهما: الثاني.

والثاني: لا يرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ"، ولم يفصل بين أن تعود أو لا تعود.

ولأن العادة في سن [من] أثغر ألا تعود، فإن عادت فهي هبة [مجددة] من الله – تعالى- فلم يسقط بها ضمان ما أتلف عيه.

وهذا القول اختاره المزني، وصححه القاضي أبو الطيب والنواوي.

فرع: إذا انقلع سنه، فأدخل مكانه سنًّا طاهراً من حيوان مذكري – فالتزق، ثم جاء آخر، فقلعه – ففيه قولان:

أحدهما: يجب عليه الأرش؛ لأنه أذهب منفعة [له] مباحة.

والثاني: لا يجب [الأرش]؛ لأنه ليس من أصل الخلقة، وإنما هو موصول به، وزائد فيه؛ [فحل] محل الشعر الموصول بشعره، قاله [القاضي] أبو الطيب، وكذلك البندنيجي وابن الصباغ، لكنهما قالا – على قول الوجوب-: إن الواجب الحكومة، وهو الأشبه، وطرده فيما إذا كان المغروز من حديد أو خشب أو ذهب، وعلى ذلك جرى الرافعي، وقال الإمام: لا يتصور أن يلتحم على الذهب اللحم.

ص: 151

قال: وإن قلع سن صغير لم يثغر، انتظر: فإن وقع الإياس من نباتها، أي: بأن قال أهل الخبرة: قد تجاوزت مدة نباتها – وجب أرشها؛ لأنها سن لم تعد بعد القلع، فكانت كسن المثغر.

ولو مات قبل الانتهاء إلى ذلك السن، فقولان كما قال الماوردي والبندنيجي، ووجهان كما قال أبو الطيب:

أحدهما: تجب الدية؛ لأنه قلع سنا لم تعد.

والثاني: [تجب] حكومة.

وكذا القولان- أو الوجهان – جاريان فيما لو طلع بعضها، ثم مات قبل استكماله، لكنا – على القول الأول – نوجب من ديتها بالقسط.

وإطلاق الماوردي وغيره – على القول الثاني- إيجاب الحكومة، يظهر أنه مفرع على قولنا بوجوبها إذا عاد السن، أما إذا قلنا بالمنع عند العود، فيظهر عدم إيجابها هاهنا أيضاً، كما قال المتولي، وعليه يحمل قول البندنيجي، والثاني: لا شيء عليه.

والقاضي أبو الطيب اقتصر في حكاية الوجه الثاني في الصورتين على عدم إيجاب الدية، وهو الذي جعله ابن كج أقوى الوجهين.

وإنما لم نوجب الدية قبل الإياس من النبات؛ لأن المعهود من أسنان اللبن أنها تعود بعد السقوط، ولو عادت، فإن كانت مساوية لأخواتها في المقدار والمكان، فلا دية.

وأما الحكومة، فإن كان قد جرح محل المقلوعة حتى أدماه، لزمه حكومة جرحه. وإن لم يجرحه، ففي حكومة المقلوعة وجهان:

أحدهما: لا؛ لأنها تسقط لو لم تقلع

والثاني: فيها حكومة؛ لأنه قد أفقده منفعتها.

قال الماوردي: ولو قيل بوجه ثالث: أنه إن قلعها في زمان سقوطها فلا حكومة فيها، وإن قلعها قبل زمانه ففيها حكومة – كان مذهباً، لأنها قبل زمان السقوط نافعة، وفي زمانه مسلوبة المنفعة.

وما ذكره هنا مع ما ذكره في سن من قد أثغر، يحتاج إلى نظر، فليتأمل.

ص: 152

ولو عادت مخالفة لأخواتها:

فإن كانت المخالفة، لطولها على مثلها، فلا شيء عليه وإن شان أو ضر؛ لأن الزيادة لا تكون من جنايته؛ لأن الجناية نقص، لا زيادة.

وكذلك لو نبت معها سن زائدة، صرح به الماوردي، وغيره من العراقيين والمراوزة.

وقال في "المهذب": يحتمل – عندي – أن تلزمه الحكومة للشين الذي [قد] حصل بها.

وإن كانت المخالفة قصرها عن مثلها، فعليه من أرشها بقدر ما نقص.

وإن كانت المخالفة دخولها أو خروجها عن أخواتها، ولم تبطل بذلك منفعتها – فالواجب الحكمة.

ولو بطلت منفعتها بذلك وجبت الدية.

ولو كانت المخالفة في اللون، بأن نبتت صفراء أو خضراء أو سوداء، وأخواتها بيض – فتجب الحكومة.

وقيل بتخريج قول في إيجاب كل الدية إذا نبتت سوداء.

ولو كان الاختلاف في قدر المنفعة، فقولان:

أحدهما: تجب الدية كاملة.

والثاني: حكومة.

قال الماوردي: ولو قيل بكمال ديتها إن ذهب أكثر منافعها، وحكومة إن ذهب أقلها، كان مذهباً.

فرع: إذا قلع قالع سن صغير، وجاء آخر، فجنى على المنبت، فأفسده – قال الإمام: لا وجه لإيجاب الأرش عليهما، ولا على الثاني، وأما الأول [فيجوز أن يقال بوجوبه عليه، ويجوز أن تجب الحكومة.

ولو سقطت سنه بنفسه، ثم جنى جان، فأفسد المنبت] فيجوز أن يقال بوجوب الأرش عليه؛ لأنه قد أفسد المنبت، ولم تسبق جناية يحال الفساد عليها.

قال: وإن جنى على سن، فتغيرت، أي: بإصفرار أو اخضرار، أو اسوداد.

ص: 153

قال: أو اضطربت، أي: مع بقاء منفعتها – وجبت عليه حكومة؛ لما حصل بها من شين، كما لو ضرب يده فتغيرت أو ضعفت منفعتها.

وهكذا لحكم فيما لو برزت بجنايته عما جاورها.

وقيل: يجب في اسوداد السن بالجناية أرش كامل؛ لذهاب جمالها بالسواد، وهذا خرجه المزني والمتقدمون من الأصحاب – كما قال الماوردي- من قول الشافعي في كتاب العقل، كما حكاه البندنيجي:"فيها تمام عقلها"، والذي ذهب إليه جمهور أصحابنا ومتأخروهم: ما ذكره الشيخ، وحملوا نصه عل ما إذا ذهبت منافعها، وهوا لأِبه عند الماوردي، وبه جزم القاضي أبو الطيب وكذلك النبدنيجي.

قال: وإن قلع جميع الأسنان في دفعة، أي: بأن ضربه ضربة واحدة، أو سقاه دواء يسقطها؛ فسقطت كذلك.

قال: أو متواليا، أي: بحيث لم يتخلل الجنايتين اندمال – فقد قيل: تجب دية نفس؛ لأنه جنس ذو عدد، فلا يضمن بأكثر من دية النفس، كالأصابع.

والمذهب – أي: الذي نص عليه في كتبه، كما قاله البندنيجي – أنه يجب في كل سن خمس من الإبل؛ لقوله عليه السلام:"وَفِي الأَسْنَانِ [خَمْسٌ] "، وهذا ما قطع به ابن الوكيل وغيره.

والفرق بين الأسنان والأصابع: أن الأصابع لا تزيد على عشرين مع سلامة الحال، بخلاف الأسنان، فعلى هذا: يجب عليه إذا كان المجني [عليه] كامل الأسنان مائة وستون من الإبل؛ [لأن] جملة الأسنان اثنان وثلاثون سناً: أربع ثنايا: ثنتان من أسفل، وثنتان من فوق، [وأربع رباعيات كذلك]، وأربعة أنياب كذلك، وأربع ضواحك كذلك، واثنا عشر ضرساً: ستة من فوق، وستة من أسفل، وهي الطواحن، وأربع نواجذ، وهي آخر أسنان الفم.

فلو كانت زائدة على ذلك، قال الرافعي: ففي كتاب ابن كج ما يخرج منه وجهان:

ص: 154

أحدهما: يجب لكل سن مما زاد – أيضاً – أرش؛ لظاهر الخبر.

والثاني – عن رواية أبي الحسين -: أن الواجب لما زاد الحكومة؛ لأن الغالب في الأسنان العدد الذي ذكرناه، فالزائد عليه كالإصبع الزائدة.

والقولان جاريان فيما لو قلع زائداً على عشرين سناً.

وقيل: إذا قلعها واحدة بعد واحدة تعين القول الثاني، ولم يذكر في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تعليق" البندنيجي غيره، وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن أصحابه، وقال: إن الحكم في الاصفرار والاخضرار حكم السواد. لكن الطريق الأول هو الصحيح في الرافعي.

قال: وفي أللحيين الدية؛ لما فيهما من الجمال، عِظم المنفعة، وذهابهما أخوف على النفس وأسلب للمنافع من الأذنين؛ فكانا بإيجاب الدية أولى.

قال: وفي أحداهما نصفها؛ لأنها لما كملت فيهما – تنصفت في إحداهما؛ كاليدين.

واللحيان – بفتح اللام هما: العظمان اللذان عليهما الأسنان السفلى، يجتمع مقدمهما في الذقن، ومؤخرهما في الأذن.

والمسألة مصورة بما إذا لم يكن عليهما أسنان، إما لكون المجني عليه صغيراً، أو كبيراً سقطت أسنانه، وهذا حكم الدية.

وأما القود: فإن أمكن فيهما أو أحدهما وجب، وإلا فلا.

وقد استشكل المتولي إيجاب الدية في اللحيين؛ لأنه [لم يرد] فيهما خبر، والقياس لا يقتضيه، بل اللحيُ من العظام الداخلة؛ فيشبه الترقوة والضلع.

وأيضاً فإنه لا دية في الساعد، والعضد، والساق والفخذ، وهي أيضاً عظام فيها جمال ومنفعة.

قال: وإن قلع اللحيين مع الأسنان، وجبت دية كل واحد منهما؛ لأنهما عضوان أصليان في الجمال والمنفعة يجب في كل واحد منهما دية

ص: 155

مقدرة، فكانا كالشفتين مع الأسنان، [وحكى الخراسانيون وجهاً: أنه تجب دية واحدة، أي دية اللحيين، وتدخل دية الأسنان فيها] لحلولها فيها، مع كونها أكثر كما دخلت دية الكف في دية الأصابع، لكثرتها.

والقائلون بالأول فرقوا بينها من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن اسم "اليد" ينطلق على الكف والأصابع، ولا ينطلق اسم "اللحيين" على الأسنان، ولا اسم الأسنان على اللحيين.

والثاني: أن اللحيين قد يتكامل خلقهما مع عدم الأسنان في الصغر، ويبقيان على كمالهما بعد ذهاب الأسنان من الكبر، ولا يكمل خلق اليد إلا بالأصابع، ولا تكون كاملة بعد ذهابها.

والثالث: أن للحيين منافع غير حفظ الأسنان، وللأسنان منافع غير منافع اللحيين؛ فانفرد كل منهما بحكم، وليس كذلك في منافع الكف، فإنه لا نفع له بعد ذهاب الأصابع.

فرع: لو جنى على اللحيين، فيبسا، حتى لم ينفتحا، ولم ينطبقا ضمنهما بالدية؛ لذهاب منفعة المضغ منهما، كما لو قاله الفوراني والطبري في العدة وغيرهما، فألحق ذلك باليد إذا شلت، ولاتضمن دية الأسنان، وإن ذهبت منافعها، لأنه لم يجن عليها، وإنما وقف نفعها بذهاب منافع غيرها، كذا نص عليه الشافعي في "الأم"، كما حكاه الماوردي.

وقال الرافعي معترضاً على ذلك: [إن] في إبطال المضغ الدية، وإنه قد يحتج له بأن المنفعة العظمى للأسنان المضغ، والأسنان مضمونة بالدية؛ فكذلك منافعها، كالبصر مع العين.

وإن الغزالي ذكر – لتفويت المضغ – طريقين:

أحدهما: إن تصلب مغرس اللحيين حتى يمنع حركتهما ذهاباً ومجيئاً.

والثاني: أن يجني على الأسنان، فيصيبها خدر، فتبطل صلاحيتها

ص: 156

للمضغ، وأن على ذلك جرى الإمام.

قال: وفي كل إصبع عشر من الإبل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: "فِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ"، وروى أبو داود عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الأَصَابعُ سَوَاءٌ عَشْرٌ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ".

ولا فرق في ذلك بين الإبهام والخنصر وغيرهما؛ لما ذكرناه، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ" يعني الإبهام والخنصر. خرجه أبو داود والبخاري وغيرهما.

قال: وفي كل أنملة ثلاثة أبعرة وثلث، وإلا الإبهام؛ فإنه يجب في كل أنملة منهما خمس من الإبل؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لما قسط دية اليد على أصابعها وجب أن يقسط دية الإصبع على أعداد أناملها، وفي كل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل، فيكون في كل أنملة ما ذكره، وفي الإبهام أنملتان؛ فيكون في كل واحدة خمسة.

نعم، لو كان لرجل في إبهامه ثلاث أنامل وجب في كل واحدة منها ثلاثة أبعرة وثلث، ولو خلق في غيرها أربع أنامل وجب في كل أنملة بعيران ونصف، ولو كان لغير الإبهام أنملتان وجب في كل واحدة خمس؛ نظراً للتقسيط، وهكذا يفعل في الزيادة والنقصان، ويخالف ما لو زادت الأصابع على العدد المعتاد، حيث لا تقسط دية اليد عليها؛ لأن الأنامل لما اختلفت في أصل الخلقة الغالبة بالزيادة والنقصان كان كذلك في الخلقة النادرة، ولما لم تختلف الأصابع في الخلقة المعهود فارقها حم الخلقة النادرة، وأيضاً فإن الزيادة في الأصابع متميزة، وفي [الأنامل غير متميزة]؛ فلذلك اشتركت الأنامل وتفرقت الأصابع.

ص: 157

قال: وفي الكفين مع الأصابع الدية؛ لما روى معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي اليدين الدية". ولرواية عمرو بن حزم، أنه – [عليه السلام]- قال في كتابه إلى اليمن:"وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ".

[وإذا وجب في الواحدة خمسون وجب] في الاثنتين مائة.

ولأنهما من أعظم الأعضاء نفعاً في البطش والعمل.

وإنما حملنا في "اليد" الخبر على الكف؛ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفصل الكف، فدل على أنها هي اليد لغة وشرعاً. ولأن الدية تكمل في الرجل إذا قطعت من مفصل القدم، لأنها تقطع منه في السرقة، كذلك اليد، لما قطعت من الكف في السرقة، وجب أن تختص بكمال الدية.

قال: فإن قطع ما زاد على الكف، أي: مع الكف بأصابعه – وجبت الدية في الكف، لما ذكرناه، والحكومة فيما زاد، لأنه ليس بتابع، وليس له أرش مقدر، فتعينت الحكمة، بخلاف الكف مع الأصابع، لأنهما كالعضو الواحد، لأن بهما جميعاً يتم البطش.

وعن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا: أنه لو قطع [اليد] إلى المنكب، لم يجب سوى دية؛ لأن عمار بن ياسر تيمم حين أطلق ذكر التيمم إلى المناكب، تعويلاً على مطلق الاسم، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما يكفيك ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك".

قال الماوردي: وهو خطأ؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فلما جعل المرفق غاية، دل على أن حد اليد ما دون الغاية، مع ما ذكرناه من آية السرقة، وما فعله عمار وغيره من الصحابة لما نزلت آية التيمم، فلم يكن لكونه واجباً عليهم، كما قاله أبو الطب – بل ليسبغوا تيممهم، كما روى أن: "أبا هريرة كان يغسل ذراعيه إلى الآباط في الوضوء، ليسبغ وضوءه، ويقول: أفعل ذلك؛

ص: 158

لأطيل غرتي"؛ فلم يكن فيه حجة.

ثم قضية قول أبي عبيد: ألا يجب في الكف بأصابعه كمال الدية، وقد صرح به عنه القاضي الحسين، وهو ظاهر الفساد؛ لأن الأصابع لو انفردت بالقطع لوجبت الدية كاملة بالنص، فمن طريق الأولى إذا قطع معها غيرها.

ومحل ما ذكرناه في الكف والأصابع: إذا قطعهما معاً، فلو قطع الأصابع، ثم الكف، وجبت دية الأصابع، وحكومة الكف، إن كان بعد الاندمال، وكذا إن كان قبله على الصحيح، كما قلناه في كسر السن، وقلع السنخ بعدها.

قال: وإن جنى عليها، فشلت، وجبت الدية، لأنه فات المقصود منها، فأشبه ما لو قطعها، وبالقياس على ما لو جنى على عينه، فذهب ضوءها، ولا فرق في ذلك بين اليد والإصبع.

قال: وفي اليد الشلاء الحكومة؛ لإزالة الجمال دون المنفعة.

قال: وفي [اليد] الزائدة والإصبع الزائدة الحكومة؛ لأن كل عضو لا نوجب ديته تجب فيه حكومة، كالكف، وإنما لم تجب فيه الدية؛ لعدم نفعه.

وقيل: إن لم يحصل بها شين لم يجب في الزائدة شيء؛ لأنها جناية لم يحصل بها نقص، فلم يجب بها أرش، كما لو لطم وجهه، فلم يؤثر.

وتعرف الزائدة من الأصلية بقوة البطش، سواء كانت الباطشة في استواء الذراع، أو منحرفة عنه، فلو تساويا في البطش، نظر إلى استوائهما في القدر: فإن اختلفا، فالأصلية هي الكبرى، وإن استويا في القدر فالأصلية التي في استواء الذراع، فإن استويا، فكاملة الأصابع هي الأصلية دون الناقصة، فلو كانت أحداهما كاملة الأصابع، والأخرى زائدة الأصابع – ففي "تعليق" القاضي الحسين أن الكاملة هي الأصلية، والأكثرون على أنه لا يكون ذلك.

فإن عدمت الأمارات، قال الماوردي: فهما يدان زائدتان، فإن قطعهما قاطع كان عليه القود وحكومة، خلافاً للمزني؛ فإنه قال: لا قصاص بقطعهما، لنقصانهما.

ص: 159

ولو قطع أحداهما فلا قود اتفاقاً، وعليه نصف دية يد، وزيادة حكومة، وعن كتاب ابن كج حكاية وجه، عن رواية أبي الحسين: أنه لا تجب الحكومة مع نصف [دية] اليد.

وفي "الوسيط": أن جعل إحدى اليدين نصفاً، مع احتمال كونها زائدة مشكلٌ، وأشار بذلك أن أحداهما أصلية، والأخرى زائدة، والأحكام يتبع فيها اليقين.

ولو قطع إصبعاً من أحداهما فعليه نصف دية إصبع، وزيادة حكومة على المذهب، ولو قطع أنملة إصبع من أحداهما فعليه نصف دية أنملة، وزيادة حكومة على المذهب، ولا يجب القود، إلا أن يقطع إصبعين متماثلين من الكفين، ويؤخذ منه مع القصاص حكومة.

فلو قطع إبهام إحدى اليدين، فأخذ المجني عليه أرشها والحكومة، ثم عاد الجاني، فقطع إبهام اليد الأخرى، فأراد المجني عليه رد الأرش، واستيفاء القصاص، فهل له ذلك؟ فيه وجهان أصلهما في "النهاية".

فرع: لو قطع اليد الباطشة، فحكم فيها بقود، أو دية، ثم صارت غير الباطشة باطشة – وجب فيها كمال الدية لو قطعت، لأنها يد باطشة.

قال الماوردي: ويجيء في رد ما أخذه من كمال الدية وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في عود السن المثغور.

ففي أحدهما: لا يرد شيئاً، وهو الأظهر في الرافعي.

وفي الثاني: يرد ما زاد على قدر الحكومة.

وحكى القاضي الحسين الوجهين في مسألتنا من غير تخريج من مسألة السن.

وفرق بعضهم بين ما نحن فيه وبين السن: بأن عود السن في محل الجناية، والبطش هاهنا حصل في غير محل الجناية.

قال: وفي الرجلين الدية؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ"، ولأنه – عليه السلام – قال في كتاب

ص: 160

عمرو بن حزم: "وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ" كما خرجه النسائي، [و] إذا وجب في واحدة نصف دية ففيهما دية.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرجلُ عرجاء أو سليمة؛ لأن العيب ليس في نفس العضو، وإنما العرج يكون لقصر في الفخذ، أو في الساق، أو تشنج أعضاء الركبة.

ولو تعطل مشي الرِّجل، مع سلامتها، لكسر الصلب – فعلى وجه: يجب فيها حكومة، لأن تعطل المنفعة كزوالها في تعذر الانتفاع، والأظهر: وجوب الدية، لسلامتها، وخلل غيرها لا يوجب نقصان ديتها.

قال: وفي كل إصبع عشر من الإبل؛ لما روى الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دِيةُ أَصَابعِ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ لِكُلِّ إِصْبَعٍ" وقال: إنه [حديث] حسن صحيح غريب.

وعنه قال: "جَعَلَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أصَابعَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً" خرجه أبو داود.

قال: وفي الأليتين الدية.

الأليتان: ما أشرف على الظهر والفخذين، وإن لم ينته ذلك إلى العظم.

وإنما وجبت الدية فيهما؛ لأنهما عضوان فيهما جمال ظاهر، ومنفعة؛ لأنهما رباط المفصل والورك، وبهما يستقر الجلوس، فكملت فيهما الدية كاليدين والرجلين، وسواء في ذلك الصغير والكبير، ومن كان أرسح الآلية معروقها، أو لَجِيم الآلية غليظها. ويجب فيهما القصاص إذا استوعبهما، خلافاً للمزني

ص: 161

وبعض أصحابنا، كما قاله القاضي أبو الطيب.

قال: وفي أحداهما نصفها، كقطع إحدى اليدين.

ولو قطع بعض أحداهما، فإن علم قدر المقطوع منها ففيه من الدية بحسابه، وإن جهل ففيه الحكومة.

وإن قطعهما حتى أبقاهما على جلد لم ينفصل، وأعيدا، فالتحما - كان فيهما حكومة كالجرح المندمل.

ولو نبتت الأليتان بعد قطعهما، لم يرد المأخوذ من ديتها، على ظاهر المذهب في "التهذيب".

قال الماوردي: وقد خرج في ردها قول آخر كاللسان إذا نبت.

قال: وإن كسر صلبه، فلم يطق المشي، أي: لأجل كسر الصب، لا لشلل حصل في الرجلين - لزمته الدية؛ لما روى [النسائي] أنه صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم:"وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ"، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولا مخالف له من الصحابة، والمعنى فيه أنه أذهب جماله بكسر صلبه، وأبطل تصرفه بذهاب مشيه؛ فكملت فيه الدية؛ كما لو ضربه فأعدم شمه أو ذوقه.

أما لو اقترن بكسر الصلب، وبطلان المشي شلل في الرجلين؛ وجبت ديتان، كما حكاه القاضي أبو الطيب عند الكلام في اللسان والماوردي هنا.

وقال البندنيجي: تجب الدية لأجل شلل الرجلين، وحكومة لكسر الصلب، وهو ما أورده المتولي.

ويرجع حاصل ما ذكروه إلى وجهين كالوجهين اللذين ذكرناهما فيما إذا جنى على لسانه، فأبطل صوته وحركة اللسان، حتى عجز عن الترديد والتقطيع.

فرع: إذا اختلفا في ذهاب المشي، امتحن بأن يقصد بالسيف في وقت غفلته،

ص: 162

فإن تحرك ومشى؟ ظهر كذبه، وإلا حَلَف، وأخذ الدية.

قال: وإن نقص مشيه، أو احتاج إلى عصا- لزمته الحكومة؛ للنقص الحاصل.

وهكذا لو صار يمشي منحنياً؛ يلزم الجاني الحكومة؛ لذهاب الجمال مع بقاء المنفعة.

قال: وإن كسر صلبه، فعجز عن الوطء – لزمته الدية؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر وعمر [وعلي] – رضي الله عنهم – ولا مخالف لهم من الصحابة.

ثمّ المسألة مصورة عند الماوردي بما إذا حصل بالكسر ذهاب مَنِيِّهِ، وعدم انتشار ذكره، لا لشلل فيه.

وقال فيما إذا كان عجزه عن الوطء؛ لضعف حركته، مع بقاء منيه، وانتشار ذكره:[إن عليه الحكومة، لأنه قد يقدر على الإنزال باستدخال ذكره]، وكلام الرافعي مصرح عن الأصحاب بأنهم صرحوا بتصوير ذهاب جماعه بما إذا لم ينقطع ماؤه، وبقي الذكر سليماً، وأن كلامهم يشعر بأنهم أرادوا بذهاب الجماع: بطلان الالتذاذ [به] والرغبة فيه، وكذلك صوره الإمام ومن تبعه.

على أن الإمام استبعد زوال الشهوة مع بقاء المنى، ثم قال: إن أمكن ذلك فيجب أن يقال: إذا ذهب بالجناية شهوة الطعام تجب الدية بطريق الأولى، إن صح تصويره وإدراك تأثير الجناية فيه.

والقاضي أبو الطيب قال: إذا ضربه على صلبه، فأورثه ذلك الضرب الامتناع من الجماع؛ فلا يرجع يقدر عليه بحال – فإنه يراجع أهل الخبرة: فإن قالوا: إن مثل ذلك لا يكون، [فيأخذ منه كمال الدية. وإن قالوا: إن مثل ذلك لا يكون]، كان فيه حكومة. وقال بعد ذلك في فرع آخر: ولو كسر صلبه فأورثه ذلك عدم نزول الماء، قال الأصحاب: لا نص للشافعي في هذه المسألة إلا أنه روى عن مجاهد أنه قال: يجب في ذلك دية [كاملة] ثانية. ثم قال

ص: 163

أصحابنا: هذا هو المذهب؛ لأن هذا يؤدي إلى انقطاع النسل، وهذا فيه أعظم المضرة عليه، ويكون القول قوله مع يمينه.

وهذا من القاضي يقتضي أن تكون هذه الصورة عند غيره الصورة التي ذكرها [أولا].

ولو أبطل من المرأة قوة الإحبال، وجب عليه ديتها، قاله الرافعي.

ثم قال الأصحاب: إذا كان قد كسر صلبه، وشل ذكره - وجبت دية وحكومة: فالدية في مقابلة شلل اذكر، والحكومة في مقابلة كسر الظهر. كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي وغيرهم.

وقد يقال: إن هذا يظهر أن إيجاب الدية في الصورتين السابقتين كان لأجل ذهاب منفعة المشي أو الوطء، واندرج فيها حكومة كسر الصلب، وبهذا يقوى قول الشيخ: إن العقل إذا ذهب بجناية لا أرش لها مقدر، دخل أرش الجناية في دية العقل.

لكن المتولي علل إيجاب الحكومة عند شلل الرِّجل مع بطلان المشي؛ بأن المشي منفعة في الرّجل، فإذا شلت ففوات المنفعة لشلل الرّجل؛ فافرد كسر الظهر بالحكومة، وإذا كانت سليمة ففوات المشي لخلل في الصلب؛ فلا يفرد بحكومة.

قال: فإن اختلفا في ذلك، فالقول قول المجني عليه -[أي: مع اليمين]- لأنه لا يطلع عليه إلا من جهته.

قال الماوردي والبندنيجي: وهذا إذا اقترن بقوله علامة تدل على صدقه، وقال أهل الخبرة: إنه [يجوز أن يذهب جماعه بذلك، أما إذا لم يقترن بقوله علامة، أو قال أهل الخبرة: إنه] لا يذهب من مثل ذلك الجماع - فالقول قول الجاني.

قال: [فإن أبطل] المشي والوطء - أي بكَسْرهِ الصلب -[لزمه ديتان

ص: 164

على ظاهر النص]؛ كما لو ضرب رأسه؛ فازال سمعه وبصره، وقيل: دية؛ لأنهما منفعة عضو واحد، وهذا حكاه الشيخ أبو حامد. والصحيح الأول؛ لأنهما منفعتان في محلين.

وهكذا الخلاف فيما إذا كسر صلبه؛ فذهب مشيه وماؤه؛ كما حكاه القاضي الحسين.

قال: وإن قطع اللحم الناتئ على الظهر؛ أي: من جانبي السلسلة – لزمته الدية؛ لأن فيه جمالاً ومنفعة، وفي أحدهما نصفها، وفي بعضها بحسابه؛ لما سبق في الأذنين وغيرهما.

وهذه المسألة غير مذكورة في الكتب المشهورة. نعم، فيها إن قلع جميع الجلد الدية إذا لم يستخلف وإن كان قد قيل: إن مثل هذا الشخص لا يبقى.

لكن أثر ذلك يظهر فيما لو حز آخر رقبته وفيه حياة مستقرة.

وحكى الإمام عن الشيخ أبي عليٍّ أنه لو قطعت يداه بعد سلخ الجلد، توزع مساحة الجلد على جميع البدن، فما يخص اليدين يحط من [دية اليدين]، ويجب الباقي.

وعلى هذا القياس: لو قطع يد إنسان، ثم جاء آخر وسلخ جلده- فتجب على من سلخ دية الجلد محطوطاً منها قسط اليدين من الجلد.

وفي "الحاوي": أن في سلخ الجلد الحكومة، ولا يبلغ بها دية النفس، وأنها تجب في حال عوده أقل مما تجب فيما إذا لم يعد.

قال: وفي حلمتي المرأة الدية.

"حلمتي المرأة": رأس الثديين اللذين يلتقمهما الصبي.

ويقال: المجتمع ناتئاً على رأس الثدي. وهذه العبارة أحسن؛ لتناولها حلمة الرجل، وفيهما ديتهما؛ كما قال الشافعي؛ لأن فيهما جمالاً، ومنفعة الثدي لا

ص: 165

تستوفي إلا بهما، وتتعطل بفقدهما.

قال: وفي أحداهما نصفها بطريق التقسيط، وهكذا الحكم فيما لو شلتا أو إحداهما.

قال: إن جنى على الثديين؛ فشلا – وجبت الدية؛ لأن إبطال المنفعة بمنزلة القطع.

وشللهما: ألا يألما؛ ما قال الماوردي.

وهذا من الشيخ يفهم أن في قطع الثديين الدية من طريق الأولى، وقد صرح بذلك الأصحاب إذا كانت الحلمتان فيهما، وأن في أحداهما نصفها؛ فيكونان كالكفين مع الأصابع.

وفيه وجه: أنه تجب دية وحكومة إذا قطع الثديين بجملتهما.

وعن الماسرجسي نقله قولاً.

أما إذا قطعهما، ولا حلمة لهما – ففيهما الحكومة؛ كما في قطع الكف الخالي عن الأصابع.

وقالوا: لا فرق في ذلك بين أن يكونا من كبيرة أو صغيرة، نزل فيهما اللبن أو لم ينزل.

فرع: لو قطع بعض الحلمة، كان فيه من الدية بقسطه، وهل يعتبر القسط من الحلمة، أو من جميع الثدي؟ على قولين من اختلاف قوليه في قطع بعض الحشفة، كما سنذكرهما، قاله الماوردي.

قال: وإن انقطع لبنهما لزمته الحكومة؛ لأن اللبن وإن لم يكن حالاً في الثدي فإنه منزل في منفذ إليه؛ فإذا انقطع تبينا انسداد ذلك بالجناية؛ فأوجبنا لأجله الحكومة ولم نوجب الدية؛ لاحتمال عوده بخلاف انقطاع المني.

وقيل: تجب الدية، وهو احتمال أبداه الإمام، ولم يذكر في "التتمة" غيره، وقد خطئ فيه؛ لما ذكرناه.

ص: 166

ومحل الكلام في ذلك إذا قال أهل الخبرة: إن ذلك حصل من الضرب؛ فإن قالوا: إنه من غره، فلا دية ولا حكومة.

قال: وفي حلمتي الرجل حكومة؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، وهذا ما نص عليه هنا.

قال: [وقيل] فيه قول آخر: أنه يجب فيهما الدية؛ لأن كل ما يجب فيه الدية من المرأة وجب فيه الدية من الرجل؛ كاليدين، وهذا [ما] حكاه ابن الصباغ عن نصه في آخر الباب، والماوردي عن نصه في الديات، وبعضهم جعله مخرجاً.

والأول أصح؛ لما ذكرناه، وبه قطع بعضهم، وحمل ما نص عليه في كتاب الديات من إيجاب الدية فيهما على الحكاية عن الغير.

وعلى القولين يخرج ما لو قطع ثديي الرجل، أو أشلهما إذا لم يُجِفْ محلهما، فإن أجافه وجب عليه مع أرشهما دية جائفتين.

فرع: يجري القصاص في حلمة الرجل [بحلمة الرجل]؛ إن أوجبنا فيهما الدية أو الحكومة، وكذلك يجري في حلمة [المرأة بالرج] وبالعكس إذا أوجبنا في حلمة الرجل الدية، وإن لم نوجبها، قطعت حلمة الرجل بالمرأة؛ إن رضيت، دون العكس، وتقطع حلمة المرأة بحلمة بالمرأة.

وفي التتمة وجه: أنه إن لم يتدل الثدي، لا يجب القصاص؛ لاتصالهما بلحم الصدر، وتعذر التمييز.

ولا يجب القصاص في الثدي؛ [كما] قاله في "التذهيب"؛ لأنه لا يمكن رعاية المماثلة فيه، وللمجني عليه أن يقطع الحلمة ويأخذ حكومة الثدي.

ص: 167

قال: وفي جميع الذكر الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ" خرجه النسائي، وروي أنه صلى الله عليه وسلم:"قَضَى فِي الوَدِيفِ بِالدِّيَةِ".

قال قطرب: الوديف: الذكر.

ولأنه من آلة التناسل، وذلك من أعظم المنافع، ولأنه أحد منافذ الجسد؛ فأشبه الأنف.

ولا فرق بني ذكر الرجل والشيخ الهِم والصبي، والعنين، الذي لا يأتي النساء؛ لأن العنة عيب في غير الذكر؛ لأن الشهوة في القلب، والمني في الصلب.

قال: فإن قطع بعض الحشفة، وجب [من الدية] بقسطه من الحشفة [في أصح القولين]؛ لأن الدية تكمل بقطعها؛ فقسطت على أبعاضها؛ فعلى هذا يلزمه في نصف الحشفة أو ثلثها، [نصف الدية أو ثلثها].

[قال:] وبقسطه من جميع الذكر في [القول] الآخر؛ لأنه الأصل المقصود بكمال الدية؛ فكانت أبعاضه مقسطة عليه.

فعلى هذا: إن كان المقطوع نصف الحشفة، وهو سدس الذكر- وجب سدس الدية.

قال المتولي والبندنيجي: وهذا إذا لم يختل مجرى البول بالقطع، [أما إذا]

ص: 168

اختل، وجب أكثر الأمرين من حكومة الخلل أو ما يخص ذلك من الدية باعتبار التقسيط.

قال الجيلي: والقولان ينبنيان على أن مقطوع الحشفة إذا أولج الباقي من ذكره في الفرج، هل تتعلق أحكام الوطء بمقدار الحشفة منه، أو لا تتعلق إلا باستيعابه؟

فرع: إذا قطع جزءاً من الذكر مما تحت الحشفة، [فقد مر] الخلاف في [أنها هل تكون] جائفة، أم لا.؟

وإن لم يبنه: فإن قلنا في قطع بعض الحشفة: إن التقسيط على الحشفة لا غير؛ فعليه هاهنا الحكومة، وإلا فالقسط، والوجه الأخير هو الذي أورده البندنيجي.

قال: وإن جني عليه؛ فشل - وجبت عليه الدية؛ لأنه عضو وجب بقطعه الدية؛ فوجبت بشلله الدية كسائر الأعضاء.

قال في التتمة: وهكذا لو [شقه] طولاً، ولم يبن منه [شيئاً]، وزالت منفعته به - تجب فيه الدية؛ كما في الشلل.

قال: وإن قطع ذكراً [أشل] وجبت عليه الحكومة.

[شلل الذكر: أن ينقبض فلا ينبسط، أو ينبسط فلا ينقبض كما ذكرناه، وإنما وجبت فيه الحكومة]؛ لأن شلله [قد] أبطل [منافعه] وبقي جماله؛ فكان كاليد الشلاء.

فإن قيل: منافعه باقية؛ لأنه مخرج البول، وخروجه [من الأشل كخروجه] من غيره؛ فوجبت أن تكمل فيه الدية.

قيل: مخرج البول منه أقل منافعه؛ لأنه يخرج مع قطعه، وقد فات بقطعه أكثر منافعه، والحكم [يتبع] الأكثر.

ولو جني على ذكره؛ فصار لا يمكنه الجماع به؛ لعدم انتشاره، لا لشلله - لم يجب سوى الحكومة؛ قاله ابن الصباغ والبغوي، وغيرهما؛ لأن العضو ومنفعته باقيان، والخلل في غيرهما.

ص: 169

وعلى هذا: فلو قطعه قاطع بعد ذلك فعليه القصاص، أو كمال الدية.

قال: وفي الأنثيين الدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: "وَفِي الأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ"، ويروى:"فِي البَيْضَتَيْنِ" كما خرجه النسائي.

ولأنهما من تمام الخلقة، وهما محل التناسل؛ لانعقاد مني الصلب في يسراهما إذا نزل إليهما؛ فصار لقاحاً فيها.

ولأن الحياة محلهما؛ ولذلك كان عصرهما مفضياً إلى التلف.

ولا فرق بين أن تكونا لصغير أو لكبير، عنين أو غيره، باقي الذكر أو مجبوبه؛ لأن جب الذكر نقص في غيرهما.

قال: وفي إحداهما نصفها، سواء كانت يمنى أو يسرى؛ لأنه روي عن عليِّ – كرم الله وجهه – أنه قال: "في الخصية نصف الدية؛، وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهم.

ولأن كل عضوين كملت فيهما الدية تنصفت في كل واحد منهما على السواء، وإن اختلفت منافعهما؛ كاليدين.

وقد حكي عن عمرو بن شعيب أنه قال: عجبت ممن يفضل البيضة اليسرى على اليمنى؛ لأن النسل منها؛ فإنه كان لنا غنم، فخصيناها من الجانب الأيسر؛ فكن يلقحن.

وهكذا الحكم فيما لو جني عليهما؛ فشلتا، أو أحداهما.

فرع: لو قطع أنثييه؛ فذهب ماؤه – لزمه مع دية الأنثيين دية؛ لذهاب الماء.

قال: وفي إسكتي المرأةالدية.

الإسكتان – بكسر الهمزة، وفتح الكاف – عند أهل اللغة: حرفا شق فرجها.

ص: 170

قال الأزهري: ويفترق الشفران والإسكتان: في أن الإسكتين ناحيتا الفرج، والشفران: طرفا الناحيتين.

وعند الفقهاء: هما الشفران؛ كما قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وكذا الماوردي، وحدهما بأنهما المغطيان للفرج المنضمان عليه من جانبيه؛ كالشفتين في غطاء الفم، والجفون في غطاء العين، ووافقه في هذه الحكاية الرافعي؛ حيث قال:[عبر الشافعي عن] الشفرين كالإسكتين، وهو نص المزني في "المختصر".

وإنما وجبت الدية فيهما؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة فكانتا كالشفرين.

وسواء في ذلك المخفوضة- وهي المختونة-وغيرها، والبكر والثيب، والكبيرة والصغيرة، التي يطاق جماعها أو لا يطاق من رتق أو قرن.

قال: وفي أحداهما نصفها؛ لما تقدم.

وإن جنى [عليهما؛ فشلتا]، وجبت الدية؛ لأن شللهما قد أذهب منافعهما.

فرع: لو قطع مع الشفرين الركب - وهو عانة المرأة- فعليه الحكومة مع ديتها. وكذلك لو قطع شيئاً من [عانة الرجل مع ذكره].

ولو قطع شفري بكر، وأزال بالجناية جلدة البكارة - فعليه مع دية الشفرين أرش البكارة.

قال: وفي الإفضاء الدية؛ لأن في ذلك إذهاب جمال ومنفعة مقصودة، وقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال:"فِي الإِفْضَاءِ الدِّيَةُ".

قال: وهو أن يجعل سبيل الحيض والغائط واحداً؛ إذ به تفوت المنفعة بالكلية.

وأصل الإفضاء:؛ الفضاء، وهي البرية الواسعة؛ فكأنه لما رفع الحاجز اتسعت فصارت كالفضاء.

ص: 171

وسبيل الحيض: مدخل الذكر، وهو في أسفل الفرج، وهذا قول ابن أبي هريرة؛ كما حكاه الماوردي.

وقال القاضي أبو الطيب: إنه قال به عامة أصحابنا. واختاره، وهو المحكي –أيضاً – عن الشيخ أبي محمد، والشريف ناصر، والمجزوم به في "حلية الروياني".

وقيل: أن يجعل سبيل البول والحيض واحداً؛ لأن ما بين القبل والدبر فيه قوة لا يرفعه الذكر، فلا يحمل الإفضاء عليه؛ لأنهم فرضوا الإفضاء بالذكر، وسبيل البول: ثقبة في أعلى الفرج، وهذا قول [الشيخ] أبي حامد وجمهور البغداديين، ورجحه القاضي الحسين والبغوي.

قال الماوردي: والأول أظهر؛ لأن خرق الحاجز الذي في القبل بين مدخل الذكر ومخرج البول هو استهلاك لبعض منافعه، وليس في أعضاء الجسد ما تكمل الدية في بعض منافعه. نعم، في خرق ما ذكره [الشيخ] أبو حامد حكومة، ولو قيل بوجوب الدية فيه، فوجوبها في خرق ما بين السبيلين أولى.

وقال المتولي: الصحيح أن خرق كل واحد منهما إفضاء يضمن بالدية؛ لوجود الإخلال في الاستمتاع بإزالته، وإفضائه إلى زوال إمساك الخارج من القبل؛ فلو جمع بينهما بجناية واحدة وجبت ديتان.

ولا فرق في وجوب الدية بالإفضاء بين أن يحصل بآلة الجماع أو غيرها، ولا بين أن تكون المرأة ثيباً أو بكراً، ولا بين أن يكون الفاعل له زوجها أو واطئاً بشبهة، أو زانياً مكرهاً أو غير مكره.

ومحل إيجاب الدية والاقتصار عليها. إذا لم يندمل الجرح، ولم يحصل معه استرسال البول؛ فلو اندملت لم يجب سوى الحكومة إن بقي شين؛ كما جزم به الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وهو الأصح.

وعن السرخسي وغيره وجه: أن الدية تجب؛ كما في الجائفة.

والقائلون بالأول فرقوا بأن أرش الجائفة يتعلق باسمها، وقد أجافه، وإن كان الموضع قد التحم؛ فلهذا لم تتغير الدية فيها، وفي مسألتنا الدية تجب؛ لأجل زوال الحاجز، وقد رجع إلى ما كان.

ص: 172

ولو حصل مع الإفضاء استرسال في البول، فالمذهب – وهو المذكور في "الحاوي" وغيره -: إيجاب حكومة مع دية الإفضاء.

وفي تعليق القاضي الحسين وغيره حكاية وجه: أن الواجب دية لا غير؛ لأن زوال الحاجز يتضمن الاسترسال غالباً؛ فلا يفرد بحكومة.

واعلم أن الإفضاء تارة يكون عمداً محضاً بأن تكون المرأة ضعيفة [أو نحيفة]، والواطئ كبيراً يعلم أن وطأه يفضيها أو يغلب على ظنه؛ فتلزمه دية حالة مغلظة في ماله، وإن أفضى الإفضاء إلى تلفها كان عليه القود.

وتارة يكون عمد خطأ؛ بأن يكون وطء مثله لمثلها يجوز أن يفضيها ويجوز ألا يفضيها.

وتارة يكون خطأ؛ بأن يكون مثله مفضياً للصغيرة [وغير مفض للكبيرة]؛ [فيطأ الصغيرة، وهو [يظن أنها] الكبيرة]؛ فيفضيها؛ فتجب الدية في الصورتين على عاقلته: مغلظة في الأولى، مخففة في الثانية.

قال: وفي إذهاب العذرة الحكومة؛ لأنه قطع جلد حصل به شين، وليس فيه أرش مقدر، ويجب مع ذلك دية الإفضاء إن حصل [من الجناية] إفضاء، جزم به الماوردي.

وهذا إذا أذهبها غير الزوج بغير وطء، أما إذا أذهبها بوطء، نظر: فإن كان بزنى فهي مطاوعة فيه؛ فلا أرش لها. وإن كانت مكرهة، أو كان الوطء بشبهة- فالمهر واجب، وهل هو مهر بكر أم ثيب؟ فيه وجهان تقدم ذكرهما في الصداق، وفي كتاب الغصب، وفي كتاب الغصب، وفي البيع الفاسد.

فإن أوجبنا مهر ثيب – وهو محكي في طريق المراوزة، ونسبوه إلى النص، وأظهر عند الرافعي – وجب أرش البكارة جزماً.

وإن أوجبنا مهر بكر، فهل يجب معه أرش البكارة، أم يدخل في المهر؟ فيه وجهان، [و] حكاهما القاضي أبو الطيب قولين كالقولين فيما إذا ذهب العقل بجناية هي موضحة.

ص: 173

وقضية هذا البناء: أن يكون القديم: الاندراج، والجديد: عدمه؛ كما ذكرناه من قبل.

وفي "تعليق" البندنيجي: أن المذهب: الاندراج، وحكى القاضي – أيضاً- عن بعضهم القطع به، وعليه جرى في "المهذب"؛ فإنه فرق بينه وبين الموضحة: بأن هاهنا لا يمكن الوطء إلا بذهاب هذه العذرة، وليس كذلك ثمّ؛ فإن العقل قد يجني عليه بما لا يجني على الموضحة، والجناية بالموضحة قد [لا] تكون جناية على العقل؛ فأحدهما غير الآخر.

والطريقان جاريان – كما حكاه القاضي أبو الطيب – فيما إذا حصل [من الوطء] المذكور إقضاء؛ فأزال البكارة.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن أرش البكارة يدخل في دية الإفضاء، وإن لم يدخل في المهر عند تجرد الوطء عن الإفضاء، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن النص فيهما، واقتصر ابن يونس على إيراده، وفرق بأن الدية بدل عن العضو الذي فيه البكارة؛ فاندرج فيه أرشها، والمهر ليس بدلاً عن العضو، بل عوض عن الاستمتاع بالبضع؛ فلم يندرج فيه الأرش.

أما إذا أذهبها الزوج: فإن كان بالوطء فلا شيء عليه، وكذا إن كان بغيره؛ كما حكاه القاضي الحسين والماوردي. ثم قال القاضي: ويحتمل أن يجب أرشها؛ لأنه استحقه على وجه يكون استيفاء، وهذه جناية. وقد صرح غيره بحكايته وجهاً.

ثم إذا أوجبنا أرش البكارة حيث يجب؛ فهل يكون من الإبل، أو من نقد البلد؟ فيه وجهان في "التهذيب"، وأصحهما في "الرافعي" – وهو المذكور في "تعليق" القاضي أبو الطيب -: الأول، على ما هو قاعدة الجناية على الأحرار.

فرع: لو أزالت بكر بكارة أخرى، اقتص منها، قاله الرافعي.

وفي "الشامل": أن المجني عليها إن كانت حرة وجب لها حكومة، ولم يتعرض لذكر القصاص.

ولو عادت البكارة، لم تسترد الأرش.

ص: 174

فرع آخر: إذا قتلت البكر عمداً؛ فأزال ولي القتيل بكارتها وعفا عنها – قال في "التتمة": إِنْ أزالها بإصبع أو خشبة، فلا شيء عليه بسببها، وإن أزالها بالوطء، فكذلك إن أوجبنا مهر ثيب وأرش البكارة، أو قلنا: إِنَّ أرش البكارة ينفرد عن المهر.

وإن قلنا: لا يجب سوى مهر بكر، وجب هاهنا مهرها كاملاً.

قال: وفي الشعور كلها الحكومة، يعني: الشعور التي [في] نباتها جمال في الجملة: كشعر الرأس، واللحية، والحاجب؛ لأنه أتلف جمالاً من غير منفعة؛ فلم يضمن ذلك بكمال الدية، وضمنه بالحكومة؛ كإتلاف العين القائمة، واليد الشلاء، وهذا بشرط ألا يعود؛ لفساد المنبت، أو يعود ناقصاً.

وأما لو عاد كما كان، فلا شيء على المشهور.

وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أن فيه حكومةً دون حكومته إذا لم يَعُدْ، وادعى أن الشافعي – رحمه الله – لوح إلى الوجهين، فلو خرج على قولين كان محتملاً، وفي "تعليق" القاضي الحسين تخصيص الوجهين بما إذا حصل له ألم عند الإزالة، والجزم بالمنع عند عدمه.

وأما ما لا جمال في بقائه، ويجمل بذهابه؛ كشعر الإبط [والعانة]- فلا حكومة فيه.

قال الماوردي: وقد خرج بعض أصحابنا فيه وجهاً ثانياً: أن فيه إذا لم يعد الحكومة، وإن كان ذهابه أجمل؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قد أوجب في لحية المرأة إذا نتفت ولم تعد حكومة، وإن كان ذهابها أجمل بالمرأة من نباتها، وهما في المعنى واحد.

وعلى هذا يحسن أن يحمل كلام الشيخ على عمومه.

وفي "الحاوي" – أيضاً – حكاية وجه فيما إذا أخذ شعر الرأس والشارب ممن لا يشينه ذلك، وهو من جرت عادته بحلقه، ولم يعد -: أنه لا يجب فيه حكومة، والجزم بأنه إذا عاد: لا تجب.

فرع: إذا قلع حاجبه، وأوضح العظم، وجب عليه أكثر الأمرين من الموضحة،

ص: 175

وأرش الموضحة، قاله القاضي أبو الطيب عند الكلام في الشجاج.

قال: وفي جميع الجراحات سوى [ما ذكرنا]، أي: من الموضحة والجائفة – الحكومة؛ لأنه لا تقدير للشرع فيها، ولم ينته حصول الشين فيها إلى المنصوص عليه؛ فتعينت الحكومة.

قال القاضي أبو الطيب: ولأنه – عليه السلام – قدر الأروش في الشجاج في الرأس والوجه؛ فلو كان الأرش مقدراً في الجراحات فيما عداهما لكان أولى بالبيان؛ لأنها أكثر من الشجاج الموجبة للأروش المقدرة.

قال الأصحاب: وهكذا الحكم في كسر العظام، وينقلها يجب فيها – فيما عدا الوجه والرأس – الحكومة.

والفرق بين الرأس والوجه، وبين سائر أعضاء البدن في ذلك من أوجه:

أحدها: أن الجناية على الرأس والوجه أخوف؛ وهكذا الجائفة، بخلاف غيرهما.

والثاني: أن شينها في ذلك أقبح.

والثالث: أن الرأس أشرف؛ لاشتماله على حواس السمع والبصر والشم، والذوق.

والرابع: أنا لو أوجبنا في الموضحة على سائر البدن خمساً من الإبل، لأدى إلى أن نوجب في الموضحة على العضو أكثر مما يجب بقطعه؛ فإن الأنملة فيها ثلاثة أبعرة وثلث، بخلاف الإيضاح في الرأس والوجه.

وقد حكى عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال في القديم: إذا كسر ترقوته ففيه جمل، وفي الضلع جمل؛ لأن عمر – رضي الله عنه – حكم فيهما بالجمل.

قال الماوردي: ومذهب الشافعي: أن قول الصحابي إذا انتشر، ولم يظهر له مخالف – وجب العمل به، وإذا لم ينتشر فعلى قولين، وهذا قول قد انتشر؛ فكان العمل به واجبا.

والجديد ما ذكرناه: أن الواجب في ذلك الحكومة.

وذهب أبو إسحاق المروزي، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وأكثر المتأخرين إلى

ص: 176

أن المسألة ليست على قولين، ومذهب الشافعي في ذلك وجوب الحكومة، وما حكى عن عمر – رضي الله عنه – فهو تنبيه على قدر الحكومة؛ لأنه تقدير مستقر.

قال: وفي تعويج الرقبة، وتصغير الوجه، وتسويده –الحكومة؛ لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، وفي بعض النسخ:"تصعير الوجه" أي تعويجه، والذي وقفت عليه في نسخة عليها خط المصنف: الأول.

فلو أخذ الحكومة ثم زال الشين – لزمه رد الحكومة.

وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه آخر: أنه لا يسترد؛ لأجل الألم. وذكر فيما إذا زال قبل الأخذ: أن له الأخذ.

فرع: لو لوى عنقه؛ فامتنع عليه بسبب ذلك الطعام والشراب وجبت عليه الدية؛ كما صرح به الإمام والفوراني؛ لأنه سد [منفذ الطعام والشراب] وإن كان من هذا حاله لا يعيش.

فرع: لو لوى عنقه؛ فامتنع عليه بسبب ذلك الطعام والشراب وجبت عليه الدية؛ كما صرح به الإمام والفوراني؛ لأنه سد [منفذ الطعام والشراب] وإن كان من هذا حاله لا يعيش.

لكن أثر ما ذكرناه يظهر فيما لو حز آخر رقبته.

قال الإمام: فلو مات بسبب امتناع الطعام والشراب، إن قلنا: إن من قطع يدي شخص أو رجليه، ثم حز رقبته – لايجب عليه إلا دية واحدة، فكذلك هاهنا. وإن قلنا ثم: تجب عليه ديتان، فهاهنا يجوز أن يجعل موته بسبب الجوع والعطش بمنزلة السراية؛ حتى تجب دية واحدة، ويجوز ألا يعد من قبيل السراية، بل يجعل كالحز؛ فتجب ديتان.

قال: والحكومة: أن يُقوَّم بلا جناية، أي: لو كان عبداً، ويقوم بعد الاندمال مع الجناية، فما نقص من ذلك وجب بقسطه من الدية.

أما تعين هذا الطريق فوجهه: أن ما تجب فيه الحكومة من الجنايات ليس في أرشه نص، فوجب التقدير [فيه] بالاجتهاد، ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم؛ فاعتمدناه.

ص: 177

وأما إيجاب نسبة النقصان في التقويم من الدية، أي: دية النفس، لا دية العضو المجني عليه – لأن الدية مضمونة بالدية؛ فوجب القدر الناقص منها، كما يقوم المبيع [عند الرجوع بأرش العيب، ثم نوجب القدر الناقص من الثمن حين كان المبيع] مضموناً بالثمن.

ومثال ذلك: إذا كان المجني عليه لو كان عبداً سليماً من الجناية يساوي مائة، وبعد اندمال الجناية يساوي تسعين – عرفنا أن الفائت بالجناية عشر القيمة؛ فنوجب على الجاني عشر دية المجني عليه، لكن بشرط أن ينقص عشر الدية عن دية العضو المجني عليه [إن كان له أرش مقدر؛ فلو لم ينقص، نقص [عنه] ما يراه الحاكم، وأقله: ما يجوز أن يكون ثمناً، أو صداقاً لامرأة].

قال الإمام: ولو قال قائل في هذه الحالة: تضبط نسبة النقصان الحاصل بالجناية على العضو، مع بقاء العضو، ثم يقدر النقصان بفوات العضو، ثم يدرك ما بين النقصانين، ويحط مثل تلك النسبة؛ فإن نعتبر نقصان الجزء بنقصان الكل غير الكل؛ فهذا وجه من الرأي جيد.

وفرَّ بعض أصحابنا من ذلك؛ فجعل نقص الجناية معتبراً من دية العضو المجني عليه، لا من دية النفس:

فإن كانت الجناية على يده، والنقص – كما ذكرنا- العشر وجب عشر دية اليد.

وإن كانت على إصبع وجب [عشر دية الإصبع.

وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة أوجب عشر دية الموضحة.

وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة أوجب] عشر دية الجائفة، ولم نعتبره من دية النفس؛ حذاراً من ان يبلغ أرش الحكومة دية ذلك [العضو]، أو زيادة عليه.

قال الماوردي: وهو فاسد؛ لوجهين، حكاهما في المهذب أيضاً:

ص: 178

أحدهما: أنه لما كان التقويم للنفس، دون العضو، وجب أن يكون النقص معتبراً من دية النفس دون العضو.

والثاني: أنه قد يقارب جناية الحكومة جناية المقدر؛ كالسمحاق مع الموضحة، فلو اعتبر النقص من دية الموضحة لبعد ما بين الأرشين، مع قرب ما بين الجنايتين.

والوجهان متفقان على أن الجناية إذا كانت على عضو ليس له أرش مقدر – من كتف، أو فخذ، أو ساق، أو عضد، أو ذراع – أن المعتبر فيها نقصانها عن دية النفس، وإن زادت على دية يد أو عضو آخر، وقد صرح بهذا الجواب في "التهذيب".

وشبه الأئمة تنقيص الحكومة عن أرش الموضحة، والأرش المقدر في العضو، أو عن دية النفس بالتعزير؛ حيث لا يبلغ به أدنى الحدود، وكذلك الرضخ لا يبلغ به السهم، والمتعة لا يبلغ بها نصف المهر.

فرع: الجناية [على الكف] يعتبر ألا تبلغ حكومتها دية إصبع واحد على الأصح، وبه جزم العراقيون.

وفي "الإبانة" وغيرها حكاية وجه سبقت حكايته: أنه يجوز أن تزيد عليه، لكن ينقص من دية [الأصابع] الخمس.

فرع آخر: الجناية على البدن – كالظهر والبطن والصدر – فيها الوجهان السابقان في صدر المسألة، فعلى وجه: تنقص عن دية الجائفة؛ كما ينقص ما دون الموضحة [عن أرش الموضحة].

قال الماوردي: ويمكن أن يفصل بين الموضحة مع ما دونها، وبين الجائفة مع غيرها: أن ما تقدم الموضحة بعض الموضحة؛ فلم يبلغ ديتها، وغير الجائفة قد لا يكون بعضها؛ لما فيه من كسر عظم وإتلاف لحم؛ فجاز أن تزيد يد حكومتها على دية الجائفة، وهو الأصح.

ص: 179

[قال]: وإن كانت الجناية مما لا ينقص بها شيء بعد الاندمال، ويخاف منها التلف حين الجناية: كالإصبع الزائد، وذكر العبد، أي: إذا كان أصل، أو فرعنا على القديم في أن الواجب يه ما نقص من القيمة؛ كما سنذكره.

قال: قوم حال الجناية، فما نقص [من ذلك] وجب؛ لأنه [لما] تعذر تقويمه في حال الاندمال؛ لانتفاء النقص – قوم في الحالة التي يظهر فهيا، وهي حالة الجناية؛ كما قلنا في ولد المغرور: لما تعذر تقويمه حالة العلوق قوم [في حال] إمكان تقويمه، وهو عند الوضع.

وهذا إذا لم يظهر بسبب الجناية نقص في التقويم إلا عند الجناية، أما إذا ظهر بعد الجناية، وقبل الاندمال- اعتبرنا النقص الحاصل في أقرب الأحوال إلى الاندمال، ثم الحالة التي تليها، إلى أن نرجع إلى حالة الجناية- كما قال الشيخ – إن لم يكن نقص إلا فيها.

وقيل: المرجع في تقدير الحكومة في هذه الحالة إلى اجتهاد الحاكم، حكاه الطبري في "العدة"، وكذا الفوراني، مع ما ذكره الشيخ، وهذا تفريع على إيجاب الحكومة فيها، وهو قول أبي إسحاق المروزي، والمذهب في "تعليق" البندنيجي.

وقد ذهب ابن سريج إلى أن الجناية إذا لم تنقص شيئاً بعد الاندمال، لا يجب فيها شيء، وبه جزم بعضهم في ذَكَرِ العبد، ورجحه الرافعي، وقال:[إن الإمام قال]: إن قول ابن سريج هو ظاهر القياس؛ فإن المعتمد في الحكومات اعتبار النقصان، وبناء النسبة عليه، فإذا لم يكن نقص أصلاً فلا معنى لإيجاب شيء مع انعدام الموجب.

وأيد ذلك – أيضاً – بأن الذي صار إلى أن المرجع في تقدير الحكومة إلى اختيار القاضي، إن قال: إنه يوجب ما شاء، فهذا في غاية البعد، وإن كان بسبب نظره إلى رأي، فهو المطلوب؛ فليبحث عنه؛ فهو مرادنا.

ص: 180

والقائل بالوجه الآخر، وهو اعتبار النظر إلى حالة الجناية، فإما أن يقومه لو كان عبداً، والألم لا يزول، أو يقومه مع تقدير الزوال: فإن قال بالأول فهو باب من الظلم ولا ينبغي أن يقدر الشيء إلا على ما هو عليه. وإن قال بالثاني فيسقول المقومون: إذا كانت الآلام تزول، والشين ينتفي، فالقيمة بحالها. وإذا تعطل الوجهان تعين المصير إلى أنه لا يجب شيء أصلاً، وصحة المذهب وفساده تمتحن بالتقديقات.

وقد تعرض الرافعي لجوابه، فقال: ولناصر الوجه الأول أن يقول: يسند الحاكم اجتهادَه إلى كيفية الجناية، خفة وفحشاً، وإلى قبحها في النظر سعةً، أو عرضاً، وإلى قدر الآلام المتولدة منها، المختلفة بسرعة البرء وبطئه.

وأن يجبوا عن الآخر بأن هاهنا قسماً آخر، وهو أن يقول: ما قيمته، وبه هذه الجناية التي لايدري أيحصل الاندمال فيها ويزول ألمها، أو يسري، ولا يدري – على التقدير الأول – أيبقى شين وأثر، أم لا؟

ولا شك أن الجراحة التي حالها ما ذكرنا توجب نقصان القيمة.

ثم قال: وقد تعرض الإمام في خلال الفصل لهذا الجواب، إلا أن نفسه لم تسكن إليه.

ثم الوجهان جاريان في كل جناية هي جرح أو كسر عظم؛ كما حكاهما القاضي أبو الطيب، وكذا فيما [إذا] كان ضرباً على الوجه؛ فأثر اسوداداً ونحوه، كما حكيناه عن رواية القاضي الحسين من قبل.

وفي "الرافعي" و"التهذيب" الجزم في الضرب بعدم الإيجاب.

وقد طرد القاضي الحسين الوجهين – أيضاً – فيما إذا ضرب بطن امرأة؛ فأجهضت الجنين، وحصل لها ألم بسبب الضرب، ولم يحصل شين؛ فعلى وجه: يجب حكومة في وقت الألم، وعلى وجه: لا يجب شيء، وادعى أنه المنصوص عليه في باب "دية الجنين".

أما إذا قطع ذكر العبد، وفرعنا على الجديد في أن جراح العبد من قيمته

ص: 181

كجراح الحرِّ من ديته، فالواجب القيمة؛ وإن زادت بسبب ذلك، صرح به المتولي وكذا الغزالي في كتاب الديات، وإن كان قد قال عند الكلام في معنى الحكومة: إن القياس: ألا يجب شيء.

وفيه وجه: أنه يجب كمال القيمة.

قال: وإن كان مما لا يخاف [منه]، كحلية المرأة –أي إذا أتلفها، وأفسد منبتها؛ كما ذكرنا في الشعور – قُومَ لو كان عبدا وله لحية، وقوم ولا لحية له – فيجب ما بينهما، أي: من الدية؛ كما ذكرناه؛ لأن هذا هو الممكن.

والوجه السابق في أن قدرها موكول إلى اجتهاد الحاكم جارٍ هاهنا، وقد جزم به الفوراني وصاحب "العدة"، وهو تفريع على قول أبي إسحاق: إن الحكومة تجب في لحية المرأة، وهو ظاهر النص.

وطرد ابن سريج مذهبه، ولم يوجب فيها شيئاً.

ص: 182

وادعى الغزالي أنه القياس، وجزم في"الوسيط" به فيما إذا كانت الجناية خفيفة لا تؤثر نقصاً في حالة وجودها، وإن كان في "التتمة" [قال]: إن الحاكم يوجب فيها شيئاً بالاجتهاد.

تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين:

أحدهما: اعتبار سنه في التقويم.

والثاني: أنه لا تنقص حكومة لحية المرأة عن حكومة لحية الرجل، [وكذا هما في "التهذيب"]، وفي كلام الأئمة ما ينازع فيهما.

أما الأول: فقد قال ابن الصباغ يعتبر بعبد يشينه ذهاب اللحية، كابن الأربعين والخمسين.

وعن الشيخ أبي حامد أنه يعتبر أن يكون كابن الثلاثين والأربعين؛ لأن اللحية لمثل هذا فيها جمال.

وقال الغزالي: يعتبر بعبد بلغ أوان اللحية. يعني طلوعها، والعبارة متقاربة.

وفي كلام الإمام إشارة إلى أن بعضهم رأى أنا نعتبر زوال لحية الغلام في حال كونه أمرد؛ فإنه قال: ولا حاصل لقول من يقول: الالتحاء ينقص قيمة المرد من الغلمان. ثم رد عليه بأن ما ذكرناه في لحية نبتت في أوانها، وعدم اللحية في الرجال في أوان نباتها نقص بَيِّنْ وشيْنٌ.

وأما الثاني فظاهر نص الشافعي – كما ذكره ابن الصباغ وغيره – صريحٌ في تنقيص حكومتها عن حكومة الرجل؛ حيث قال: إذا نتف لحية امرأة أو شاربها، فعليه حكومة دون حكومة لحية الرجل، وإن لم يحدث من نتفها شينٌ.

وفي كلام الإمام ما يحصل به جواب هذا، فإنه قال: ولست أعرف ضبطا في مقدار الحط، وليس إلا الرجوع إلى بوادر خاطر المجتهد؛ ولعسر هذا لم يعتبره الأصحاب- يعني: النقص عن حكومة الرجل- ونزلوا لحية المرأة منزلة [لحية] الرجل.

ص: 183

وقد أوضح الماوردي طريق معرفة ذلك، فقال: نتف اللحية يُحْدِث في المرأة زيادةً وفي الرجل نقصاناً؛ فتسقط الزيادة الحادثة في المرأة من النقصان الحادث في الرجل، وينظر الباقي بعده؛ فيعتبر من ديتها، فإن لم يبق بعد إسقاط الزيادة شيء من النقصان أوجبنا حينئذ أقل ما يجوز أن يكون ثمناً، أو صداقاً.

مثاله: إذا قدرنا أمة، وقيمتها مع وجود اللحية أربعون، وبدون اللحية خمسون فالزائد الخمس؛ فإذا قدرناها غلاماً، وله لحية وقيمته بلحيته مائة، وبدونها بعد قلعها وفساد منبتها تسعون – فالفائت العشر؛ فينقص من الزائد في المرأة عشر قيمتها، وهو خمسة؛ فيبقى من الزيادة عشر قيمتها؛ فيجب عشر ديتها.

ولو كانت قيمة الغلام [والحالة هذه]، بعد قلع لحيته وفساد المنبت؛ ثمانين فالفائت خمس قيمته؛ ففي هذه الحالة استوعب النقص الزيادة؛ فيجب من الدية أقل ما يكون ثمناً.

فرع: إذا قلع سنًّا زائدة، وأوجبنا الحكومة فيها؛ كما هو مذهب أبي إسحاق، والأصح في "التهذيب" وغيره، خلافاً لابن سريج – فقد اختلفت الطرق في [كيفية] معرفة حكومتها:

فقال ابن الصباغ: [يقال]: إذا قلعت هذه السن الزائدة، وليس خلفها سن أصلية كم قيمته؟ فيقال مثلاً: ثمانية وتسعون، [ويقال: وكم] قيمته إذا لم تكن مقلوعة؟ فيقال: مائة- فقد نقص خُمُسُ عُشْرِ القيمة؛ فنوجب خمس عُشْرِ الدية. وهذا ما أورده في "المهذب".

وحكي أن الشيخ أبا حامد قال في "التعليق": يقال: هذا السن الزائد إذا لم يكن وراءها سن كم قيمة هذا العبد؟ فإن قيل: مائة، فيقال: ولو كان وراءه سن آخر كم قيمته؟ فإذا قيل: تسعون، عرفنا أن الناقص عشر القيمة؛ فنوجب عشر ديته؛ لأنه إذا لم يكن وراءه سن، [يكون] فيه جمال؛ فتكون قيمته أكثر، وإذا كان وراءه سن، لم يكن فيه جمال، فتقل قيمته.

وفي "تعليق" البندنيجي أنه يقال: إذا قلع سنًّا زائدة، وخلفها سن أصلية، كم يساوي؟ فإذا قيل: مائة، قلنا:[ولو] لم يكن هناك سن أصلية كم يساوي؟ فإذا

ص: 184

قيل تسعون، قلنا: ففيها عشر الدية وعلى هذا أبداً.

واللفظان متقاربان، وليس مراد الشيخ أبي حامد وغيره أنا نوجب في السن عشر الدية؛ للعلم بأن السن الأصلية لا يجب فيها ذلك، وإنما مرادهم بذلك: المثال لا حقيقة الأمر؛ ولذلك كان ما مثل به ابن الصباغ أحسنَ؛ لسلامته عن الطعن.

وقد حكى المراوزة وجهاً: أن المرجع في حكومته إلى اجتهاد الحاكم؛ كما في نظائر ذلك.

فرع آخر: إذا قطع أنملة لها طرفان.

أحدهما: زائد.

والآخر: أصلي – فيجب [في] الأصلي أرشه، وأما الزائد فلا يمكن اعتباره بشيء.

قال ابن الصباغ والبندنيجي: فيقدرها الحاكم باختياره، ولا يبلغ بذلك أرشَ الأصلي.

قال الرافعي: وكان يجوز أن يقوم – وله الزائدُ – بلا أصلية كما اعتبرت لحية المرأة بلحية الرجل، ولحيتها كأعضاء زائدة، ولحيته كالأعضاء الأصلية.

قال: وما اختلف فيه العمد والخطأ في النفس -: بسبب التغليظ – اختلف فيما دون النفس بالقياس على النفس.

قال: ويجب في قتل العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت؛ لأنهما مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه؛ فضمن بقيمته بالغة ما بلغت؛ كسائر الأموال، وهذا متفق عليه.

[فرع: لو كانت الأمة حال القتل مزوجة.

قال الإمام في أول فصل مذكور في نكاح الغرور: إن الواجب قيمتها خلية عن الزوج، وإن تقدير ذلك فيها ممكن لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت

ص: 185

الجارية عليها حالة الإتلاف].

قال: وما ضمن من الحر بالدية – أي: كاليدين والرجلين ونحوهما – ضمن [من العبد] والأمة بالقيمة؛ لأنه روي ذلك عن عمر وعليّ – رضي الله عنهما – ولأن كُلاًّ منهما حيوان يضمن بالقصاص والكفارة؛ فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدنه كالحر، وهذا هو الجديد، والأصح في الطرق، ولم يحك العراقيون سواه.

وبعضهم نفي أن يكون ثَمَّ خلافٌ، كما حكاه في "التهذيب"، وعلى هذا تأتي المسائل التي نفرعها من بعد.

وحكى المراوزة عن ابن سريج [تخريج] قول: أن جميع أطراف العبد والأمة وجراحاتهما مضمونة بقدر النقصان كالبهائم، وهذا أخذ من نص الشافعي – رحمه الله – أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد المقتول خطأ، كالبهائم.

وقد حكى الإمام هذا التخريج قولاً منصوصاً [في القديم].

فحصل في المسألة قولان، وهما جاريان فيما ضمن من الحر بأرش مقدر: كالسن، والأنملة، ونحوهما، هل يضمن من العبد والأمة بما نقص، أو بمثل نسبة ذلك من قيمته، حتى يضمن سنه بنصف عشر قيمته، وأنملة، ونحوهما، هل يضمن من العبد والأمة بما نقص، أو بمثل نسبة ذلك من قيمته، حتى يضمن سنه بنصف عشر قيمته، وأنملة خنصره – مثلاً- بثلث عشر قيمته.

قال الإمام: ثم على الجديد قد يعرض للعبد ما لا يتصور في الحر، وبيانه: أن العبد إذا كانت قيمته ألفاً؛ فإذا قطعت يده؛ فعادت قيمته إلى ستمائة – فعلى القاطع خمسمائة؛ فلو قطع آخر يده؛ فعليه ثلاثمائة، وهذا لا يتصور في الحر؛ فإن بدله لا ينقص.

ثم محلف هذا عند صاحب "التهذيب" إذا صدر القطع الثاني بعد اندمال

ص: 186

الأول، وقال إذا حصل قبل اندماله: إن على الثاني نصف ما أوجبنا على الأول، وهو مائتان وخمسون؛ لأن الجناية الأولى ما استقرت بَعْدُ حتى يقسط النقصان، وقد أوجبنا بها نصف القيمة، وكأنه انتقص نصف القيمة.

ولو مات العبد من القطعين، قال الرافعي: ففي الواجب عليهما اختلاف أوجه مذكورة في الصيد والذبائح، وقد حررته في هذا الكتاب في الباب المذكور على أبلغ وجه؛ فليطلب منه.

قال: وما ضمن من الحر بالحكومة ضمن من العبد والأمة بما نقص؛ لأنا نشبه الحُر في الحكومة بالعبد؛ لنعرف قدر التفاوت؛ فنرجع به؛ ففي المشبه به أولى.

وقد قال الأصحاب: إن العبد أصل للحر في الحكومة، والحر أصل للعبد في التقدير، فعلى هذا: لا يبلغ بأرش الجناية التي لا أرش لها قيمة الجملة، أو قيمة العضو التي صدرت الجناية فيه، على التفصيل والخلاف السابق في الحر، صرح به الماوردي، وصرح بنقيضه عن النص.

قال: ولا يختلف العمد والخطأ في ضمان العبد والأمة؛ لأن المضمون هو المالية، وضمان المال لا يختلف فيه العمد والخطأ.

وقد قال: لم لا أجرى قول في التغليظ في قيمتهما إذا وقع القتل عمداً، أو في الحرم، أو كان القتيل ذا رحم محرم للقاتل، أو في الأشهر الحرم؛ بناء على أن العبد كالحر في كون العاقلة تحمله، وبناء على أن دية الحر [مقدرة بألف] دينار أو اثني عشر ألف درهم عند إعواز الإبل، وأنه يزاد للتغليظ فيها قدر الثلث.

قال: وإن قطع يد عبد، ثم أعتق، ثم مات وجب فيه دية حُرّ؛ نظراً إلى حال استقرار الجناية؛ فإن الضمان بدل المتلف؛ فينظر فيه حالة التلف، وسواء في ذلك الزيادة على قدر القيمة والنقص عنها.

قال: [للمولى منها] أقل الأمرين من نصف الدية أو نصف القيمة –أي:

ص: 187

وقت الجناية – لأن نصف القيمة إن كان أقل فهو لم يستحق أكثر من ذلك؛ لأن الزيادة حصلت في حال الحرية، ولا حق له فيها. وإن كان نصف الدية أقل لم يستحق أكثر منه؛ لأنه استحق [نصف] بدل نفسه في حال الرق؛ فإذا نقص نصف بدلها بالعتق عن نصف بدلها في حال الرق لم يستحق أكثر منه؛ لأنه المتسبب فيه بالعتق، وهذا قول أبي عليّ بن أبي هريرة.

والمنصوص عليه؛ كما ذكره القاضي الحين، وهو الذي أورده في "المهذب"، وعليه الجمهور: أنه يجب للمولى منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو كل الدية.

قال الماوردي: وما قاله ابن أبي هريرة زلل؛ لأن الجناية من شخص واحد لا يخلو حالها من أربعة أقسام:

إما أن نعتبرها وقت الجناية بنصف القيمة؛ قَلَّت أو كثرت.

أو نعتبرها وقت الموت بجميع الدية، قلت أو كثرت.

أو نعتبرها بأكثر الأمرين؛ فلا يجوز، وهو مردود بالاتفاق.

أو نعتبرها بأقل الأمرين، وهو متفق عليه؛ فوجب أن يكون الأقل ما وجب في الابتداء وهو نصف القيمة، وما استقر في الانتهاء وهو جميع الدية، فأما أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية، فلا يعتبر إلا في جناية اثنين، وهو أن يقطع حر يد عبد، فيعتق، ثم يقطع آخر يده الأخرى، ثم يموت – فيكون عليها دية حر بينهما نصفين، للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته، أو نصف ديته؛ لانهما جنايتان أحداهما في الرق يختص بها السيد، والأخرى في الحرية يختص بها الورثة.

وكذا فيما إذا قطع يده، وهو عبد؛ فعتق، ثم عاد الجاني، وقطع الأخرى، ومات منهما فإن الواجب عليه الدية، وللمولى منها أقل الأمرين من نصف القيمة، أو نصف الدية؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي – أيضاً- وقال: لعل ابن

ص: 188

أبي هريرة خالف في تلك المسألة حملاً على هذه، والفرق بينهما واضح.

ولا يجب على الجاني في هذه الصورة القصاص في النفس، ويجب عليه في الطرف الذي قطعه بعد الحرية.

وعن ابن كج حكاية وجه: أنه يجب في النفس أيضاً.

وعن ابن سريج حكاية وجه: أنه لا يجب في الطرف كما حكاه الماوردي؛ لدخوله بالسراية في نفس لا تستحق قوداً، وهما ضعيفان.

وقد حكى في مسألة الكتاب قول آخر: ادعى صاحب "التقريب" وأبو يعقوب الأبيوردي، والقاضي الحسين وشيخه القفال –أنه مخرج من قول الشافعي في الفروع التي سنذكرها: إن للمولى أقل الأمرين من كل الدية أو كل القيمة.

وفي تعليق بعض المراوزة نسبة هذا القول إلى القديم، وعبر عنه المراوزة كما حكاه الإمام – بأنه يجب للسيد الأقل مما يلزم الجاني آخراً بالجناية على الملك أولاً، أو من مثل نسبته [من] القيمة.

وفي "تعليق" القاضي الحسين أن المزني قال [وجهاً: إنه] يجب للمولى نصف [القيمة]؛ لأنه قد استحق النصف من قيمته على الجاني بقطع يده؛ فلا يتغير.

أما إذا اندمل القطع، ومات المعتق بسبب آخر- كان للسيد على الجاني نصف قيمته.

ثم على القول الصحيح في مسألة الكتاب فروع:

منها: إذا كان الجاني قد قطع يدي العبد قبل العتق، ثم سري القطع؛ فمات منه – وجب على الجاني الدية، وللسيد منها أقل الأمرين من كل الدية، وكل القيمة.

وقال المزني: إن كانت القيمة أكثر وجبت للسيد على الجاني؛ اعتباراً بوقت الجناية.

قال الإمام: وكأنه يقول: لا سبيل إلى صرف رقبة الحر إلى السيد، ولا سبيل إلى حرمانه؛ فالوجه أن يقطع أثر الجناية، ويصرف إليه أرش ما جرى في الرق.

وهذا كوجه ذكره الإصطخري، فيما إذا قطع يدي مسلم ورجليه، فارتد، ومات بالسراية – أنه يجب على الجاني ديتان، ولا ينظر إلى السراية بعد السردة.

ص: 189

وعن الشيخ أبي محمد: أن من سلك مسلك الإصطخري هناك لا يبعد أن يوافق المزني هاهنا.

ولو لم يمت العبد في هذه الصورة، واندمل الجرح – وجب للسيد كمال القيمة.

وعن ابن كج حكاية وجه فيما إذا كان الاندمال بعد العتق: أن الواجب فيه دية حر؛ اعتباراً بحال الاستقرار.

ومنها: لو قطعت يدا العبد في حال الرق، ثم عتق، ثم أوضحه الجاني، ومات من الجراحات- فالواجب عليه دية حر، وللمولى منها أقل الأمرين من كل الدية، أو [كل] القيمة.

وفي شرح الفروع للقاضي أبي الطيب حكاية قول آخر: أنه يجب للمولى أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف ديته.

وهكذا الخلاف فيما لو صدرت الموضحة من جانٍ آخر.

ومنها: إذا: قطع حر يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر فقطع يده الأخرى، ثم جاء آخر؛ فقطع رجله، ثم مات بالسراية – فعلى الثاني والثالث القصاص فيما قطعاه، وكذا في النفس على [الأصح]، خلافاً لأبي الطيب بن سلمة؛ كما حكيناه من قبل عن رواية القاضي أبي الطيب، وغيره.

وبعضهم نسب إلى أبي الطيب بن سلمة حكاية قولين في المسألة؛ كما في شريك السبع.

وأما الدية فهي عليهم أثلاثاً: للورثة منها الثلثان بلا شك، وهل هما الثلثان الواجبان على الثاني والثالث، أو هما شائعان على الجميع؟ فيه خلاف سنذكره، وما الذي يستحقه السيد؟ فيه قولان منصوصان في المختصر:

اختيار المزني: أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية.

والقول الثاني: أنه يستحق أقل المرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية، وباقي الثلث للورثة – أيضاً –إن كان أكثر الأمرين.

ولو انعكست الصورة؛ بأن قطع أحدهما يده، وآخر رجله، وهو رقيق، ثم عتق؛ فقطع آخر يده الأخرى- فالسالم للورثة الثلث بلا شك. وما للسيد؟

ص: 190

فعلى اختيار المزني: أقل الأمرين من كمال القيمة أو ثلثي الدية.

وعلى القول الآخر: أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.

ولو كان الجناة أربعة، وقد قطع أحدهم يده، وآخر يده الأخرى، وآخر رجله قبل العتق، ثم قطع الرابع الرجل الأخرى بعد العتق؛ فالواجب عليهم الدية أرباعاً: للورثة منها ربع بلا شك، وما الذي يجب للسيد؟

فعلى رأي المزني: الأقل من نصف قيمته وثلاثة أرباع الدية.

وعلى القول الآخر: الأقل من ثلاثة أرباع الدية أو ثلاثة أرباع القيمة، وعلى هذا فَقِسْ.

ومنها: إذا قطع حر إصبع عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده، مات منهما – فعليهما الدية، وللسيد الأقل من نصف الدية وعشر القيمة، ولا يخفى على متأمل التفريع على قول ابن أبي هريرة وغيره فيما ذكرناه من الفروع.

تنبيه: ظاهر قول الشيخ: "للمولى منها أقل الأمرين .. " إلى آخره، أن الواجب للسيد إبل، لا قيمة، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب؛ حيث قال: إذا ثبت القولان في جميع المسائل – يعني القولين اللذين حكيناهما عن "المختصر" في الفروع – فإن حق السيد يتعلق بعين الإبل، وليس للورثة أن يمنعوه الإبل، ويعطوه غيرها بدلها.

فعلى هذا: إن كان نصف الدية أقل أو مساوياً لنصف القيمة، أخذه [إبلا]، على رأي الشيخ وأبي علي بن أبي هريرة.

وعلى رأي غيره: إن كان كل الدية اقل أو مساوياً لنصف القيمة أخذه إبلاً، وإن كان الأقل نصف القيمة أخذ من الإبل بقدره، وقد صرح به المحاملي، وكذا ابن الصباغ وقال: فإن قيل: أليس لو كان على المقتول دين تعلق بذمته؛ فلو قال الورثة: نحن نقضي الدين ونأخذ الإبل، كان لهم ذلك؟ فهلا كان هنا مثله.

قلنا: الفصل بينهما: أن مال الميت انتقل إلى الورثة، وقد تعلق به حق الغرماء؛ فكان لهم أن يقضوه من غيره، وهاهنا حق الجناية على الجاني وجب

ص: 191

للسيد دون الورثة؛ فلم يكن لهم أن يعطوه من غيره.

قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل هنا: الزكاة تتعلق بعين المال على قول تعلق شركة، ولرب المال دفعها من غيره.

قلنا: الفرق [بينهما]: أن مستحق الزكاة غير معين، وليس كذلك هاهنا؛ فإن [السيد هو المستحق]، وهو معين.

وقد أبدى الإمام احتمالاً أقامه وجهاً، وكذلك الغزالي، فيما إذا كان الأقل هو الواجب على الجاني -: أن الجاني إذا أتى للسيد بالدراهم، أجبر على قبولها؛ لأن ما يجب له يجب بحق الملك، [والواجب بحق الملك] النقد، فإذا أتى به فقد أتى بأصل حقه، [وإن أتى] له بالإبل أجبر على قبولها أيضاً.

ويخرج من ذلك: أن الخيار للجاني، وهو أفقه وأغوص عند الإمام، وإيراده في "الوجيز" يشعر بترجيحه.

وفي "الحاوي" ما يقتضي أن الواجب على الجاني إن كان هو أقل الأمرين، فالأمر كما حكيناه عن القاضي وغيره من قبل، وإن كان الأقل الواجب للسيد تعين على الجاني دفع الدراهم للسيد، وأجبر عليها السيد، ويسقط مما عليه من الإبل بقدرها، ويدفع الباقي للورثة؛ فإنه حكى فيما إذا قطع يد عبد، فعتق، فقطع آخر يده الأخرى، ومات بسرايتهما – فالدية عليهما نصفين، وللسيد منها أقل الأمرين، كما ذكرناه من قبل.

فإن [كان] نصف الدية أقل استوفى من القاطع الدية إبلا، وأعطى السيد نصفها إبلا، وهل يختص السيد بالنصف الذي على القاطع الأول، أو يشترك هو والورثة فيما على القاطعين؟ فيه وجهان. ولا يجوز أن يعدل بالسيد عن نصف الدية من الإبل إلى نصف القيمة إلا عن مراضاة.

وإن كان الأقل نصف القيمة [وجب أن يأخذ السيد من إبل الدية نصف قيمة عبده ورقاص أو ذهباً، فإن عدل به إلى الإبل لم يجز إلا عن مراضاة.

فإن قيل بالوجه الأول: إن حقه مختص بالجاني الأول، رجع عليه بنصف قيمة

ص: 192

عبده، وقوم بها من الإبل ما قابلها، ودفع ما بقي من نصف الدية مع جميع النصف الآخر إلى الورثة.

ومن هنا استنبطت ما ذكرته؛ فإن جميع ما وجب على الجانب في مسألة الكتاب نظير ما وجب على الجاني الأول إذا قلنا بانحصار حق السيد فيه.

قال الماوردي: وإن قيل باشتراك السيد والورثة أخذت الدية إبلاً، وكان للوارث الخيار بين أن يدفع للسيد نصف القيمة من ماله ويأخذ جميع الدية، وبين أن يبيع منها بقدر نصف القيمة ويأخذ الباقي؛ فإن أراد الوارث أن يدفع إلى السيد بنصف القيمة إبلا، لم يلزمه إلا عن مراضاة؛ لأن حقه في غيرها.

وهذا – أيضاً – يقتضي في مسألة الكتاب أن يكون للورثة الخيار كما ذكره؛ لأن حق السيد شائع في جميع ما وجب على الجاني، كما هو شائع فيما وجب على الجانيين.

ومساق هذا البحث: ألا يبرأ الجاني بإبراء السيد من قدر ما وجب له، وقد صرح الإمام والرافعي ببراءته، وهو يعضد ما اقتضاه كلام الشيخ، والله أعلم.

فرع حكاه الإمام في كتاب السير: إذا جرح مسلم ذميًّا؛ فنقض العهد، والتحق بدار الحرب، ثم استرق، ومات من تلك الجراحة – ففيما يجب على الجاني ثلاثة أقوال:

أضعفها – وهو ما حكاه القاضي الحسين، والإمام والدي: أنه أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ورأيته في تعليق القاضي الحسين احتمالاً لنفسه.

والقول الثاني: أنه تجب القيمة بالغة ما بلغت، ولا ينظر إلى الأرش.

قال الإمام: ويعرض عليه إشكال؛ فإن الجناية قد تخللها حالة إهدار.

وكذا فيما إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجروح، ثم أسلم، ومات، وقلنا: لا تجب الدية الكاملة – فماذا يجب على الجارح؟ وجهان:

أحدهما: نصف الدية؛ نظراً إلى حالة العصمة، والإهدار.

والثاني: ثلثا الدية؛ نظراً إلى حالتي العصمة، والإهدار؛ فيجب أن يجريا هاهنا على [هذا] القول.

ص: 193

والقول الثالث: أن الواجب أقل الأمرين من أرش الجناية [وكل] القيمة، [قال الإمام: وعلى قياس التخريج الذي ذكرته يكون الواجب أقل الأمرين من أرش الجناية] ونصف القيمة في قول، أو ثلثي القيمة في قول.

ثم المأخوذ لمن يصرف؟

قال الإمام: إن قلنا بالأول فهو للورثة لا محالة، ولا حظ للسيد فيه؛ لأنها صدرت في حال الحرية.

وإن قلنا بالثاني فمقدار الأرش من القيمة للورثة، والباقي للسيد؛ فإن لم يفضل عن الأرش شيء، أو نقص عن القيمة – فإن الورثة يختصون بالمأخوذ دون السيد.

وإن قلنا بالقول الثالث فهو للورثة، نص عليه الشافعي – رضي الله عنه –هكذا.

وجزم القاضي الحسين في "تعليقه" بأن السيد على القول الأول والثالث: يفوز بالمأخوذ، وعلى الثاني: يأخذ من المأخوذ قدر القيمة؛ فإن فضل شيء أخذه الورثة، وإلا فلا شيء لهم، ونسب ما ذكره من التفريع على القولين الأخيرين إلى النص، وقال الإمام: إنه غلط.

ثم ما ذكرناه من استحقاق الورثة هو ظاهر النص هاهنا، وفيه قول مخرج: أنه يكون فيئاّ وسنذكر في باب عقد الهدنة – إن شاء الله تعالى – كيفية التخريج.

قال: ويجب في جنين الأمة –أي: الرقيق – عشر قيمة الأم؛ لأنه جنين آدمية سقط ميتاً؛ فضمن بعشر ما تضمن به الأم؛ كجنين الحرة.

ولأنه لما اعتبرت فيه القيمة، وليس له قيمة؛ لأنه إن قوم ميتاً لم يكن للميت قيمة، وإن قوم حيًّا، لم يكن له حياة؛ فوجب أن يعدل عن تقويمه عند استحالته إلى تقويم أصله؛ كما يجعل العبد أصلاً للحر في الحكومات، ويجعل الحر أصلاً للعبد في المقدرات.

ص: 194

قال: حال الضرب، لا حال الإسقاط؛ لأنه لابد من اعتبار إحدى الحالين؛ فكان الاعتبار بحالة الجناية أولى؛ لأن الجناية سبب الإسقاط، وهذا هو المنصوص، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وهو الأصح.

وقال المزني: الاعتبار بحالة الإسقاط. وقد وافقه عليه الإصطخري؛ لأن الجناية إذا صارت نفساً، كان الاعتبار ببدلها وقت استقرارها؛ كالجناية على العبد إذا عتق، وعلى الكافر إذا أسلم.

قال الماوردي: وهو خطأ؛ لأن سراية الجناية إذا لم تعتبر بحال حادثة، كانت معتبرة بوقت الجناية، دون استقرارها [بالسراية؛ كالعبد إذا جنى عليه، ثم سرت إلى نفسه مع تقارفه؛ فإنه يعتبر قيمته وقت الجناية، دون استقرارها].

وحكى القاضي الحسين وراء الوجهين وجهاً آخر قال: إنه سمعه من شيخه – يعني القفال -: أن الاعتبار قيمة أكثر الأمرين من يوم الجناية إلى يوم الإلقاء، وأنه قال: إن النص محمول على أنه أراد به أن الغالب أن قيمتها يوم الجناية أكثر من قيمتها يوم الإلقاء؛ فلهذا نص على حالة الجناية.

وحكم جنين أم الولد، والمكاتبة، والمدبرة، والمعتقة بصفة إذا كان مثلها لا حرًّا حكم جنين الأمة فيجب فيه عشر قيمة أمة، وهذا إذا كانت الأم سليمة الأعضاء، والجنين سليمها، سواء كان ذكراً أو أنثى.

ولو كان الجنين سليم الأطراف، كامل الخلقة، والأم زمنة، ناقصة الخلقة – ففي طريق المراوزة حكاية وجهين، أصحهما –عند القاضي الحسين وغيره -: أنا نقدر الأم سالمة الأطراف، ونقومها، ونوجب عشر قيمتها، وقد قاسه الرافعي على ما إذا كانت الأم كافرة، والجنين مسلماً؛ فإنا نقدر فيها الإسلام، وتقوم مسلمة.

ولو انعكس الحال؛ فكانت الأم سالمة الأطراف، والجنين ناقصها؛ فوجهان أيضاً:

أحدهما: أنا نقدر [أن] الأم ناقصة الأطراف، ونوجب عشر قيمتها.

والثاني: أنا نوجب عشر قيمة الأم، ولا ننظر إلى المخالفة. وهذا ما أبداه القاضي احتمالاً، ولم يذكر سواه، وهو الأصح في "الرافعي".

ص: 195

والفرق: أن نقصان الجنين قد يكون من أثر الجناية، واللائق: الاحتياط والتغليظ على الجاني.

أما إذا كان جنين الأمة حرًّا؛ بأن وطئها حر؛ ظانًّا أنها زوجته الحرة أو أمته- ففي "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" وغيرهما من كتب العراقيين: أن الواجب فيه غرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين إبداء ذلك احتمالاً.

ولو كان جنين [الحرة] رقيقاً؛ بأن كان الحمل لشخص، وأمه لآخر بالوصية، فأعتق الأم مالكها – قدرنا الأم رقيقة، وأوجبنا [في الجنين] عشر قيمتها.

قال: وإن ضرب بطن أمة، [ثم أعتقت]، ثم ألقت جنيناً [ميتاً – وجب] فيه دية جنين حر، أي: وهي غرة؛ لأن الضمان عند تغير الحال معتبر بحالة الاستقرار، [كما إذا قطع يد عبدٍ، فأعتق، ثم مات؛ فإن الواجب فيه ديةُ حُرٍّ نظراً لحالة الاستقرار]، والجنين في حالة استقرار الجناية حر. ثم ما الذي يستحقه السيد من ذلك؟ فيه وجهان، أو قولان:

مشهورهما – وبه جزم الماوردي، وهو المعزي إلى ابن أبي هريرة في تعليق أبي الطيب -: أقل الأمرين من عشر قيمة الأم قبل العتق، والغرة.

والثاني- حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق، وقال الرافعي: إن به قال القاضي أبو الطيب، ويحكي عن القفال-: أنه لا يستحق بحكم الملك شيئاً؛ لأن الإجهاض حصل في حالة الحرية، وما يجب إنما يجب بالإجهاض؛ فأِبه ما إذا حفر بئراً؛ فتردى فيها حرٌّ كان رقيقاً حال الحفر.

وقد قيل: إن مأخذ الوجهين: أن الموجب للضمان الضرب أو الإجهاض؟ وفيه طريقان للأصحاب:

أحدهما: أنه الضرب، وإليه مال ابن الحداد والشيخ أبو علي في جماعة؛ لأنه يؤثر في الجنين؛ ألا ترى أثره عليه [عند] الانفصال، والإجهاض هو نهاية الجناية؛ فكان الضرب كقطع اليد، والإجهاض كالسراية.

ص: 196

والثاني: أنه الإجهاض، وإليه ميل النص، وكلام أكثر الناقلين؛ كما حكاه الرافعي؛ لأن الرحم محل نشوء الطفل وتربيته وسبب الهلاك مفارقته دون الضرب، لكن الضرب لما فيه من الآلام يفضي إلى المفارقة؛ فيكون الاعتبار بوقت المفارقة؛ فالوجه الأول مبني على الأول، و [الوجه] الثاني [مبني] على الثاني.

وقد بنى الأصحاب على الطريقين فروعاً:

منها: إذا كان الضارب هو السيد، ثم حصل العتق، ثم الإجهاض – فعلى الأول: لا شيء عليه، وعلى الثاني: عليه غرة لورثته.

ومنها: إذا كان الجنين مشتركاً بين اثنين بالسوية، فأعتق أحدهما نصيبه [بعتق نصيبه] من أمه، وهو معسر بعد أن جنى عليها، ثم أجهضت الجنين كان عليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه، وهل يجب عليه نصف غرة للنصف الحر؟

قال ابن الحداد: لا؛ بناء على المأخذ الأول؛ لأن الضرب وجد، وهو في ملكه.

وقال آخرون: نعم، وحكوه عن النص في "الأم"، ومنهم ابن الصباغ، وهو بناء على أن الموجب هو الإجهاض، وقد حكيناه في باب الديات عن نصه في "عيون المسائل" أيضاً.

فعلى هذا: لمن يكون؟ ينبني على الخلاف في أن من بعضه حر وبعضه رقيق هل يورث؟

إن قلنا: لا، كان للشريك الذي لم يعتق؛ على رأي، وبه جزم في "الحاوي"، ولبيت المال على رأي الإصطخري.

وإن قلنا: نعم، ورثه عصبته دون أمه ومعتقه، فإن لم يكن له عصبة فبيت المال.

ولو كان المعتق موسراً؛ فإن قلنا: السراية تحصل بنفس الإعتاق، أو بأداء القيمة، فأدَّاها قبل الإجهاض – فإن قلنا: الموجب الإجهاض، فعلى الجاني الغرة، ومصرفها ما ذكرناه.

وإن قلنا: تحصل بأداء القيمة، ولم يؤدها حتى أجهضت؛ فالحكم كما ذكرناه فيما إذا كان معسراً.

وإن قلنا: إن العتق موقوف؛ فإن أدى القيمة تبين حصول العتق من وقت

ص: 197

اللفظ، ويكون الحكم على ما إذا فرعنا على أن السراية تحصل بنفس اللفظ.

وإن لم يؤد القيمة فكما ذكرنا فيما إذا كان المعتق معسراً.

ولو ضرب الشريكان الجارية المشتركة، ثم اعتقاها معاً، ثم أسقطت جنينً ميتاً، ضمن كل واحد ربع الغرة عند ابن الحداد.

وعلى ما حكى عن النص والأكثرين: يجب على كل واحد نصف الغرة، وترث الأم منه الثلث؛ كذا قاله ابن الصباغ.

ومنها: إذا جنى على حربية؛ فأسلمت، ثم أجهضت؛ فعلى الأول: لا شيء على الضارب.

وقال الماوردي: إنه الذي يجيء على مذهب الشافعي، رحمه الله.

وإن قلنا: الموجب الإجهاض؛ وجبت غرة.

قال الماوردي: وهو قياس مذهب المزني؛ لأنه يعتبر جنينها بوقت الولادة.

ثم قال: فإن قيل: كيف يضمن الجناية عند سرايتها في الجنين إذا كانت هدراً في الابتداء؟

قيل: لأن الجناية على الجنين لا تكون إلا بالسراية إليه دون المباشرة؛ فصارت السراية كالمباشرة في غيره.

وبقية المسائل المتفرعة على الطريقين نذكر ما تيسر منها في باب العاقلة، إن شاء الله تعالى.

فرع: إذا اشترك مسلم وذمي في وطء ذمية، فعلقت بولد، فضربها ضارب؛ فأجهضت جنيناً -: فإن ألحقه القائف بالمسلم وجب ضمان جنين مسلم، وإن ألحقه بالذمي فعليه ضمان جنين ذمي، وإن لم يوجد قائف، أو وجد، وأشكل – قال القاضي الحسين: الذي سمعته من شيخي: أنه يؤخذ من الجاني نصف الغرة، ونصف ثلث الغرة؛ فيكون ثلثي الغرة، ويكون موقوفاً بين المسلم والذمي والذمية إلى أن يتبين الأمر ويصطلحوا عليه.

وغيره أطلق أن الواجب على الجاني ضمان جنين ذميّ.

وقد نجز شرح مسائل الباب، وإذا تأملت ما فيه، وما ألحقناه به – عرفت أن

ص: 198

الشخص الواحد قد يجب فيه إذا كان رجلاً سبعٌ وعشرون دية، وإذا كان امرأة ستٌّ وعشرون دية؛ فنسردها لك؛ ليسهل عليك تناولها، ثم نذكر بعدها فرعاً نختم به؛ لتعلقه بالباب.

في الأذنين إذا قطعهما، أو أبطل حسهما – الدية.

وفي السمع الدية.

في العقل الدية.

في العينين أو البصر الدية.

في الأجفان الدية.

في المارن الدية.

في الشم الدية.

في الشفتين الدية.

في الكلام الدية، واللسان تابع له.

في إبطال الصوت الدية.

في الذوق الدية.

في اللحيين الدية.

في الأسنان الدية فأكثر.

في إبطال المضغ الدية.

في إبطال الازدراد الدية.

في إبطال شهوة الطعام الدية.

في اليدين الدية.

في الرجلين الدية.

في الأليتين الدية.

في إبطال المشي الدية.

في إبطال الجماع الدية.

في بطلان الإنزال الدية.

ص: 199

في اللحم الناتئ على الظهر الدية.

في [جميع الجلد] الدية.

في حلمتي المرأة الدية، والثدي تابع [لهام].

في حلمتي الرجل الدية على قول.

في الحشفة الدية، وبقية الذكر تابع.

في الأنثيين الدية.

في إسكتي المرأة الدية.

في إبطال قوة [الإحبال من] المرأة الدية.

في الإفضاء الدية.

وهذه الديات ترجع عند السراية إلى دية واحدة.

ولو حز الجاني رقبته قبل الاندمال، فكذلك الحكم على المذهب.

وخرج ابن سريج قولاً قال به الإصطخري أيضاً: أنه يفرد حكم كل جناية، واختاره الإمام؛ كما لو حز بعد الاندمال، وكما لو كان الجاني غيره، وهذا إذا اتفقت الجناية على الأطراف، والجناية على النفس في العمد والخطأ، أما إذا كانت أحداهما عمداً، والأخرى خطأ، وقلنا بالتداخل عند اتحاد الصفة – فهاهنا وجهان أو قولان ادعى مجلي أنهما منصوصان:

أحدهما: أن الحكم كذلك.

وأشبههما: المنع؛ لأن التداخل يليق بحالة الاتفاق دون الاختلاف، ولأن المستحق عليه مختلف عند اختلاف الصفة.

ولنضرب لذلك مثالاً:

فإذا قطع يديه خطأ، ثم حزَّ رقبته قبل الاندمال عمداً – فللولي القصاص في النفس، وليس له قطع يده؛ [فإن قتله]، وقلنا بالتداخل – فوجهان؛ فلا شيء له من الدية، وإن قلنا بعدم التداخل، فيأخذ نصف الدية من العاقلة.

وإن عفا عن القصاص؛ فإن قلنا بالتداخل فوجهان:

أحدهما: تجب دية، نصفها مخفف على العاقلة، ونصفها مغلظ على الجاني، وهذا ما ينسب إلى النص.

ص: 200

وأظهرهما – وهو الذي أورده في "التهذيب"-: أنه تجب دية مغلظة على الجاني؛ لأنا إذا قلنا بالتداخل فمعناه إسقاط بدل الطرف، والاقتصار على بدل النفس؛ لتصير الجناية نفساً، وإذا قلنا بعدم التداخل فيجب نصف دية مخففة على العاقلة لليد، ودية مغلظة على الجاني للنفس.

ولو قطع يده عمداً، ثم حزَّ رقبته خطأ – فللولي قطع يده؛ فإذا فعل وقلنا بالتداخل، أخذ نصف الدية مخففاً من العاقلة، وإذا عفا، فعلى وجه: يجب نصف دية مخففة، [ونصف دية مغلظة لليد، وعلى وجهٍ: تجب دية مخففة] للنفس.

وإن قلنا بعدم التداخل، فيأخذ كمال الدية ومخففة عند استيفاء القطع، وعند العفو [يجب نصف دية في مال الجاني مغلظاً]، [ودية على العاقلة مخففاً].

والفرع: إذا اختلف الجاني وولي المقتول، فادعى الجاني أنه مات بالسراية، وقال ولي المقتول: بل مات بعد الاندمال – نظر:

إن لم يمكن الاندمال في تلك المدة؛ لقصر الزمان، كيوم ويومين – فالقول قول الجاني بلا يمين.

وعن "تعليق" الشيخ أبي حامد أنه يحلف؛ لجواز أن يكون الموت بسبب حادث؛ كلسع حية، وشرب سم مذفف، ولم يستحسن ما ذكره؛ لأن تنازعهما في الاندمال، والسبب الآخر لم يجر له ذكر حتى يُنْفَى.

فإن أمكن الاندمال في تلك المدة، فقد قال ابن الصباغ والروياني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير مندملة فالقول قول الجاني بلا يمين، وإن أمكن الاندمال وعدمه في تلك المدة فالقول قوله مع اليمين.

قال الرافعي: ويشبه أن يقال: ليس لمدة الاندمال ضبط، وقد تبقى الجراحة سنين كثيرة، والشخص ضمنا بسببها إلى أن يموت منها؛ فينبغي ألا يكون التصديق عند إمكان الاندمال إلا باليمين. وهذا ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره.

وقال الإمام: إن أمكن الاندمال، لكنه كان بعيداً، وكان الظاهر خلافه – فالقول قول الجاني؛ بناء على ظاهر الحال، وادعى وفاق الأصحاب عليه، وهذا

ص: 201

معنى قول الغزالي: فيصدق من يصدقه الحال الظاهر.

قال الرافعي: والذي يوجد للأكثرين في الصورة التي حكاها الإمام: أن المصدق الولي، وربما قطعوا به.

وعن أبي الطيب بن سلمة تخريج قول من مسألة الملفوف: أنه يصدق الجاني؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة.

قلت: ولما جزم به الإمام أصل في المذهب يعضده، وهوأن المدعي من هو؟ هل هو الذي يُخَلَّى وسكوته، أو من يدعي خلاف الظاهر؟ وفيه خلاف بين الأصحاب حكاه الغزالي في آخر الرهن، وفي آخر نكاح المشركات، وفي أوائل الدعاوى والبينات.

فإن قلنا: إن المدعي من يدعي خلاف الظاهر، فهو في مسألتنا الوليُّ.

وإن قلنا: هو من يُخَلَّى وسكوته، فهو أيضاً الولي.

فظهر أنه مدع على كل حال، وإذا كان مدعياً، كان الجاني مدعي عليه؛ فيكون القول قوله جزماً، وألا انخرم الأصل المذكور.

نعم، يظهر من هذا الأصل اختلاف فيما إذا انعكس الحال؛ فكان الظاهر يصدق الولي، ويكذب الجاني-:

فإن قلنا: إنه الذي يخلي وسكوته، [فالولي يخلي وسكوته]؛ فيكون الجاني مدعى عليه؛ فيكون القول قوله.

وقد جزم الغزالي بقبول قول الولي، وهو من طريق الأولى عند الرافعي، [والله أعلم].

ولو قال الجاني: مات بالسراية، أو: قتلته قبل الاندمال، وفرعنا على التداخل، وادعى الولي أنه مات بسبب آخر، بأن قال: إنه قتل نسه، أو شرب سمًّا موحياً، أو: قتله آخر – فوجهان:

ص: 202

أحدهما: المصدق الجاني؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة، ويحكي هذا عن أبي إسحاق.

وأظهرهما- وبه قال أبو عليّ الطبريّ -: أنه يصدق الولي؛ لأن الأصل بقاء الديات الواجبة بالجنايات، والأصل عدم السبب الآخر.

وعلى هذا ينطبق قول الغزالي: وإن لم يكن مع أحدهما ظاهر، فهو خارج على تقابل الأصلين.

وقد ادعى الرافعي أن الخلاف الذي ذكره عن أبي الطيب بن سلمة وغيره في الصورة السابقة، ينطبق عليه قول الغزالي:"فهو خارج على تقابل الأصلين"، ولم يظهر ذلك، والله أعلم.

ص: 203