الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قتال أهل البغي
الباغي في اصطلاح الفقهاء: المخالف للإمام العادل، الخارج عن طاعته بالامتناع عن أداء ما وجب عليه بالشرائط التي سنذكرها.
ولم سمِّي باغياً؟
قيل: لمجاوزته الحد الرسوم له؛ فالبغي: مجاوزة الحد؛ يقال: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد، وبغت المرأة: إذا فجرت.
وقيل: لطلبه الاستعلاء على الإمام؛ من قولهم: بغى الشيء، إذا طلبه.
وقيل: لأنه ظالم بذلك، والبغي: الظلم والتعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق؛ قال الله تعالى: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [الحج: 60] أي: ظلم، وهذا يقتضي أن يكون البغاة فسقة؛ لظلمهم.
وقد أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وإنما عبَّرَ به الشافعي رضي الله عنه عن قوم اجتهدوا فأخطئوا، وما فسقوا عنده، كما أنهم ليسوا بكفرة كما دَلَّ عليه الكتاب العزيز، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل.
ومنهم من يسميهم: عصاة، ولا يسميهم: فسقة.
ومنهم من قسم البغي إلى ما هو فسق، وإلى ما ليس بفسق، وسنذكره - إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء.
وعلى الأول: فالتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة افمام ومخالفته، كما روى [عن] عبادة بن الصامت قال:"بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَلا تُنَازِعَ الأَمْرَ اَهْلَهُ"، وما روى أبو داود: أنه صلى الله عيه وسلم قال:
"مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيدَ شِبْرٍ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ عَنْ عُنُقِهِ".
ومعنى: قيد شبر، أي: قدر شبر؛ يقال: قِيدُ الشيء، وقَادُ الشيء، وقَدُّ الشيء، [أي]: قَدْره.
والرِّبْقُة: هي الحبل الذي يجعل في عنق الناقة وقت الحلب، حكاه أب الطيب.
وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ".
-محمولة على من يخرج من الطاعة ويخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل.
قال: إذا خرج على الإمام، أي: العادل أو الجائر، كما ذكره العمراني عن القفال، طائفة من المسلمين، ورامت خلعه، أي: طلبت عزله؛ بتأويل في كتاب الله – تعالى – أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قاله المتولي.
قال: أو منعت الزكاة، أي: عن الإمام، عند طلبها [بتأويل] كما ذكرناه، أو حقًّا توجه عليها، أي: بتأويل كما ذكرناه، وامتنعوا بالحرب – بعث إليهم، وسألهم: ما ينقمون؟ أي: يكرهون، فإن ذكروا شبهة أزالها، وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها – أي: إبعادها – أزاحها، وذلك مثل أن يطلبوا قاتلاً معيناً؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، فأمر بالإصلاح أولاً، وفي ذلك سعي في الإصلاح، وما روي أن عليًّا – كرم الله وجهه – بعث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهم – إلى أهل "النهروان"، فمضى إليهم وقال: هذا
علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وقد عرفتم فضله، فما تنقمون منه؟ قالوا: ننقم ثلاثاً: تحكيم في الدين وقد أغنى كتاب الله وسنة رسوله عن التحكيم، وأنه قتلوما سبي، فإما أن قتل ويسبي، أو لا يقتل ولا يسبي، ومحي اسمه من الخلافة: فإن كان على حق فلم خلع؟ وإن كان على غير حقٍّ فلم دخل؟!
فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – أما التحكيم فإن الله تعالى حكَّم في الدين فقال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقال عز من قائل:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] في أرنب قيمته درهم.
وأما أنه قتل وما سبي، فلو حصلت عائشة- رضي الله عنها – في قسم أحدكم كيف يصنع؟ وقد قال تعالى:{وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53]؛ فقالوا: رجعنا عن هذه.
وأما محوه اسمه من الخلافة حين كتب كتاب التحكيم بينه وبين معاوية، فقد محا النبي صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة في المفاضلة بينه وبين قريش عليُّ بن أبي طالب – رضي الله عنه فكتب: هذا ما قاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا تكتب: "رسول الله"؛ لو علمنا أنك رسول ما خالفناك، واكتب:"محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم [لعليٍّ]:"امحه"، فقال: لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرنيه"، فأراه فمحاه بإصبعه. فلما قال لهم ذلك رجع بعضهم، وأقام بعض على المخالفة، [وهم] نحو من أربعة آلاف.
ثم المبعوث ينبغي أن يكون أميناً فطناً ناصحاً كما فعل عليٍّ، كرم الله وجهه! ثم ظاهر كلام الشيخ – رضي الله عنه – يقتضي أن [يكون] هذا البعث
واجباً، وهو قضية كلام الماوردي، وكذا ابن الصباغ؛ حيث قال: لم يكن للإمام أن يقاتلهم حتى يبعث إليهم ويسألهم عن شبهتهم.
وقال البندنيجي: لم يجز قتالهم حتى تقع المراسلة.
وقال الإمام: لا يحل [له] أن يبغتهم بالقتال.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن افمام لو أراد قتالهم قبل تقديم المناظرة، قال بعض أصحابنا: يحتمل وجهين؛ بناء على استتابة المرتد: إن قلنا: لا تجب الاستتابة، فله ذلك؛ لأنهما سواء في أن الشبهة اعترضت على كل واحد منهما. وأصح الوجهين: أنه يناظرهم؛ لأنهم ليسوا أسوأ حالاً من المشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجه سريَّةً يأمرهم أولاً بأن يدعوهم إلى كلمة الشهادة.
قال: فإن أبَوْا، أي: إما عن العود إلى الطاعة بعد إزالة ما ادعوه من الشبهة، أو عن المناظرة على ما امتنعوا لأجله، كما قال البندنيجي وغيره.
قال: وعظهم وخوفهم بالقتال؛ لأن ذلك أقرب إلى تحصل المقصود، فإن أبوا قاتلهم، أي: إذا علم الإمام أن في عَسْكره قدرةً عليهم، ويكون القصد بالقتال دفعهم عما هم عليه – كما قاله البندنيجي- دون قتلهم.
ووجهه فيمن أراد خلع الإمام قولُهُ تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي: ترجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قاله قتادة؛ فإذا أمر بقتال طائفة بغت على طائفة أخرى حتى تفيء إلى أمر الله، [فلأَنْ يقاتل الذين بغوا على الإمام إلى أن يفيئوا إلى أمر الله] أولى.
وأيضاً: فإن عليًّا – كرّم الله وجهه – لما ردَّ عليه ابن عباس – رضي الله عنهم – خبر من بقي من أهل النهروان قال لأصحابه: سيروا على اسم الله تعالى؛ فلن ينقلب منهم عشرة، ولن يتقل [منّا] عشرة. فساروا معه إليهم، فقتلهم، وأفلت منهم ثمانية، وقتل من أصحاب علي – رضي الله عنه – تسعة.
وقاتل علي – رضي الله عنه – أيضاً أهل "البصرة" يوم الجمل، ومعاوية بـ"صفين".
ووجهه في مانعي الزكاة والحقوق: ما روي أن أبا بكر [الصديق] –رضي الله عنه – لما منعه أهل الردة الزكاةَ، وتمسكوا من قوله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:103] بأمرين:
أحدهما: أن الله تعالى خاطب بالأخذ نبيَّه صلى الله عليه وسلم دون غيره.
والثاني: أن صلاة ابن أبي قحافة ليست سكناً لهم كصلاته صلى الله عليه وسلم.
ظهر له فساد قولهم، وأزمع على قتالهم؛ فأشار عليه جماعة بالكف عنهم، منهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف؛ فقال أبو بكر – [رضي الله عنه: يا أصحاب محمد، لا فرقت بين ما جمع الله – يعني قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] – والله، لو منعوني عناقاً – أو عقالاً – مما أعطو رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه، فقال له عمر – رضي الله عنه: علامَ تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَاتِلُوا النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ"؟! فوكز أبو بكر في صدر عمر – رضي الله عنهما – وقال: إليك عني، شديداً في الجاهلية، خوّاراً في الإسلام؟! وهل هذا إلا من حقها؟! قال عمر – رضي الله عنه: فشرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر، رضي الله عنه. فحينئذ أجمعوا معه على قتالهم مع مُقامهم على الإسلامز
ولأنهم لما قوتلوا لامتناعهم من حق الإمام في الطاعة، كان قتالهام على امتناعهم من حق الله تعالى في الزكاة أولى، وقد حُكي عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال: أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا السيرة من قتال المرتدين من أبي بكر – رضي الله عنه –وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي، رضي الله عنه!
ثم هذا القتال هل هو واجب أم مباح؟
قال الماوردي: هو منقسم ثلاثة أقسام:
قسم يكون واجباً، وهو يؤخذ من خمسة أمور:
أحدها: أن يتعرضوا لحريم أهل العدل أو لإفساد سبيلهم.
والثاني: أن يتعطل جهاد المشركين بهم.
والثالث: أن يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم.
والرابع: أن يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم.
والخامس: أن يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته ولزمت طاعته.
وقسم يكون مباحاً، وهو ما إذا انفردوا عن الجماعة، ولم يمنعوا حقاًّ، ولا تعدوا إلى ما ليس لهم؛ فيجوز للإمام قتالهم لتفريق الجماعة، ولا يجب؛ لتظاهرهم بالطاعة.
وقسم مختلف فيه هل هو مباح أو واجب؟ وهو ما إذا امتنعوا – مع انفرادهم – من دفع زكوات أموالهم الظاهرة، وأقاموا بتفريقها في أهل السُّهْمان ففيهم قولان
أحدهما – وهو قياس قول الشافعي، رضي الله عنه في القديم -: أن قتالهم عليها [واجب إذا قيل بوجوب دفعها إلى الإمام.
والثاني – وهو قياس قوله في الجديد -: أن قتالهم عليها] مباح، وليس بواجب إذا قيل: إن دفعها إلى الإمام مستحب.
فإذا عرفت ذلك علمت أن كلام الشيخ منطبق على القسم الأول والأخير؛ فيكون مراده: الوجوب، وهو ظاهر اللفظ، وهذا [ما] حكاه الماوردي بعد أن قال: إن إباحة قتال البغاة على بغيهم معتبرة بثلاثة شروط متفق عليها، ورابع مختلف فيه – وكذلك هي في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل"، وفي كلام الشيخ – رضي الله عنه إشارة إلى بعضها كما نُنِّبه عليه-:
أحدها: أن يكونوا في منعة بكثرة عددهم؛ بحيث لا يمكن تفريق جمعهم إلا بقتالهم، فإن كانوا آحاداً لا يمتنعون استُوفيت منهم الحقوق، ولم يقاتلوا. وهذا يؤخذ من قول الشيخ: طائفة، ومن قوله: امتنعوا بالحرب؛ لأن من لا منعة فيه ولا قوة لا يمتنع بقتال.
والثاني: أن يعتزلوا عن إمام أهل العدل بدار ينحازون إليها ويتميزون بها
كأهل الجمل وصفين، فإن كانوا على اختلاطهم بأهل العدل ولم ينفردوا عنهم لم يقاتلوا، ولا تجري عليهم أحكام [البغاة]؛ لانتفاء المعنى الذي لأجله نثبتها.
قال الرافعي: وربما قال القائل بهذا: [و] ينبغي أن يكونوا بحيث لا يحيط بهم أجناد الإمام، بل يكونوا في طرف من الأطراف، وقد صرح الإمام بحكايته عن العراقيين، والمحققون لم يعتبروا هذا الشرط، وإنما اعتبروا استعصاءهم وخروجهم عن قبضة الإمام، حتى لو تمكنوا من [المقاومة مع] كونهم محوفين بجند الإمام – وجب الحكم بحصول الشوكة، وهذا ما اقتضاه كلام الشيخ؛ حيث لم يأت في كلامه بما يدل عليه.
والثالث: أن يخالفوه بتأويل محتمل، كالذي تأوله أهل الجمل وصفين في المطالبة بدم عثمان بن عفان – رضي الله عنه[حيث اعتقدوا أنه يعرف قَتَلَتَهُ، ويقدر عليهم ويمنعهم منهم لرضاه بقتله، ومواطأته إيَّاهم، وكذا كل تأويل بطلانه مظنون، فإن] لم يكن لهم تأويل، أجرى عليهم حكم الحرابة وقطاع الطريق.
قال المتولي: وإنما اعتبرنا ذلك؛ لأن من خالف بغير تأويل كان معانداً، ومن تمسك بتأويل كان [طالب حق] على اعتقاده؛ فلا يكون معانداً؛ فنسب إلى نوع حرمة بسقوط الضمان وغيره كما سنذكره.
وأبدى الإمام احتمالاً فيما إذا كان لمن لا تأويل لهم شوكة في نفوذ قضاء قضاتهم.
وحكى الرافعي طريقة مجرية للقولين في ضمانهم ما يتلفونه في حال القتال كأهل البغي، وقال: إنها أظهر؛ لأن المعنى المعتمد عليه هناك موجود هنا.
وكذا حكى الإمام أن هذه الطريقة يدل عليها ظاهر النص، هذا ما قيدنا به كلام الشيخ، وليس فيه ما يمكن أن يؤخذ منه إلا قوله: فإن ذكروا شبهة
أزالها، مع قوله: بعث إليهم، وسألهم: ما تنقمون.
ولو كان بطلان التأويل مقطوعاً به ففيه وجهان:
قال الرافعي: أوفقهما لما أطلقه الأكثرون: انه لا يعتبر كتأويل أهل الردة وشبهتهم الآن.
والثاني: يعتبر، ويكفي تغليطهم فيه، وقد يغلط في القطعيات غالطون.
قال الرافعي: وعلى الوجهين يخرج أن معاوية ومن تابعه مخطئون فيما اعتقده قطعاً أو ظنًّا؛ لأنهم باغون عند الأئمة بلا شك، وعليه يدل الخبر المشهور:"أَنَّ عَمَّاراً تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغيَةُ"، فإن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنوناً فنقول: كان مبطلاً فيما ذهب إليه ظنًّا، وإن لم نشترطه وأثبتنا اسم البغي وحكمه، مع القطع ببطلان التأويل – فنقول: كان معاوية مبطلاً قطعاً.
وهذا الكلام لم يظهر لي توجيهه.
والرابع المختلف فيه: فهو نصب إمام لهم يجتمعون على طاعته، وينقادون لأمره، وفيه وجهان في "الحاوي"، وقولان كما حكاهما القاضي أبو الطيّب:
أحدهما – وهو قول طائفة -: أنه شرط يستحق به قتالهم؛ ليستقر به تميزهم ومباينتهم، وهذا ما نسبه الرافعي إلى الجديد.
وقال الإمام: إن معظم الأئمة في الطرق اعتبروه، وبه جزم الفوراني والقاضي الحسين في "تعليقه" والماوردي في "الأحكام"، ومال إليه البغوي والمتولي.
والثاني –وهو قول الأكثرين من أصحاب الشافعي، كما قال المارودي، وهو الذي صححه ابن الصباغ والإمام -: أنه ليس بشرط في قتالهم؛ لأن عليًّا – رضي الله عنه – قاتل أهل الجمل ولم يكن لهم إمام، وأهل صفين قبل أن ينصبوا إماماً لهم.
قال الإمام: وعلى هذا فلابد وأن يكون لهم متبوع وإن لم يكن إماماً؛ لأن الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع؛ فإن رجال النجدة – وإن كثروا –فلا قوة لهم ولا شوكة إذا لم يصدروا عن رأي.
وفي "الرافعي": أن في "منهاج" الشيخ أبي محمد اعتبار امرين آخرين في أهل البغي:
أحدهما: أن يمتنعوا من حكم الإمام.
والثاني: أن يظهروا لأنفسهم حكماً.
وعلى هذا: لا نسلم ما ذكره الماوردي في التقسيم من منازعة في إباحة القتال في القسم الثاني والثالث، مأخذها: ما سنذكره في الخوارج، إن شاء الله تعالى.
فرع: إذا تقوى قوم قليل بحصن منيع، فهل يلتحقون بمن تقوى بالعَدَد والعُدَد حتى تثبت لهم أحكام البغاة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، وراى الأولى أن يُفَصَّل فيقال: إن كان الحصن على فوهة الطريق، وكانوا يستولون بسببه لى ناحية وراء الحصن – فالشوكة حاصلة، وحكم اهل البغي ثابت؛ كي لا يتضرر أهل الناحية
بتعطيل الأقضية والأحكام، وإلا فليسوا بأهل بغين ولا يبالي بما يقع من التعطيل في العدد القليل. ثم قال: ولا خلاف أنه لو تحزَّب [من] رجال القبائل المرموقين عددٌ يسير، وكانوا يقوون بما تفضل القوى على مصادمة الجموع الكثيرة - فهم على عدة تامة.
قال الرافعي: ويحتمل أن ينازع فيه منازع؛ لقلة عددهم، وتجعل قواهم كالمكان الحصين.
قال: وإن استنظروا مدة - أي: معينة كاليوم والثلاث والشهر والشهرين، كما قاله الفوراني؛ ليُنظَروا - أنظرهم؛ لعل يتضح لهم الحق.
قال: إلا أن يخاف أنهم يقصدون الاجتماع على حربه؛ فلا ينظرهم للأمن من ذلك، ويظهر له ذلك بالبحث عن حالهم.
وهذا الذي ذكره الشيخ في هذا الكتاب هو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" وما حكاه القاضيان أبو الطيب والحسين في تعليقهما وغيرهم.
وفي "المهذب" قال: إن سألوا إنظار مدة قريبة كاليوم وإلى ثلاثة أيام، فيجابون إليه، وإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنهم الإمام.
وذكر التفصيل المذكور وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، [وبه جزم البندنيجي]، وهو كذلك في "الحاوي"، وأشار في كلامه إلى الفرق بين الحالين: بأنه في الثلاثة الأيام إذا أنظرهم كان عسكره مقيماً عليهم، ويحترز في هذه المدة منهم؛ لأن قتالهم لا يدوم، واتصاله ليلا ًونهاراً لا يمكن، ولابد من استراحة عسكره ودوابه، فيجعلها إجابة لسؤالهم إعذاراً وإنذاراً. ثم قال - وكذلك البندنيجي [أيضاً]- فيما إذا سألوا الإنظار مدة طويلة [و] يظهر أن قصدهم بالإنظار ليجمعوا في مدته العساكر، أو ليطلبوا آلة المناكدة،
أو لينصرف عنهم العساكر -: إنا ننظر: فإن كان عسكر أهل العدل [يه قوة وصبر على قتالهم لم يُنظرهم، وإن وجد في عسكر أهل العدل] ضعفاً عنهم وعجزاً عن مطامولتهم، أنظرهم؛ ليلتمس القوة عليهم، إما بعساكر أو بأموال، ويجعل ظاهر الإنظار إجابة لسؤالهم؛ ليقيموا على الكفء الموادعة، وباطن إنظارهم لالتماس القوة عليهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب.
وقال القاضي أبو الطيب: إن هذه الحالة إذا كانت موجودة قبل سؤالهم لا يبتدئ بقتالهم، ويؤخره ما أمكن إلى أن تحصل له قوة؛ فإنا لا نأمن الاستئصال.
والذي استصوبه ابن الصباغ، وقال: إنه أولى – ما ذكره الشيخ في هذا الكتاب؛ لأنه يجوز أن يكون بإنظارهم يوماً يلحقهم مدد منهم؛ فيقووا.
ولا يجوز أن يُنظرهم إلا إلى غاية اتفاقاً، وحيث لا يجوز الإنظار لا نجوزه بأحد البراهين؛ لأنه لا يجوز التعرض لها.
قال: ويقاتلهم إلى أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى؛ للآية.
قال: ولا يتبع في الحرب مُدْبرهم، ولا يذفِّف على جريحهم؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجَارُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، ولَا يُقْتَلث اَسِيرُهُمْ"، وقال: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَاّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ
…
" الحديث.
ودخل الحسين بن علي –رضي الله عنهما – على مروان فقال له: ما رأيت أكرم من أبيكن ما عن ولينا ظهورنا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يُتبع مدبر، ولا يذفّف على جريح.
وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره: أن الشافعي – رضي الله عنه –فسر الآية، فقال: الفيء: ترك القتال بالعود إلى الطاعة، أو بالهزيمة والإعراض عن
القتال، كما قال تعالى في الإيلاء:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226].
يعني: رجع عن الإضرار إلى إيفاء حقها بالجماع.
وعلى هذا يكون الدليل على منع قتال المنهزم الآية أيضاً، ومنها استدل الشافعي بوجه آخر؛ حيث قال: الله تعالى أمر بقتال أهل البغي، ولم يأمر بقتلهم، وإنما يقال: قاتلوا، لمن يقاتل، فأما من لا يقاتل لا يقال: قاتلوه، وإنما يقال: اقتلوه.
وهذا إذا لم يكن في هزيمته متحيِّزاً إلى فئة، فإن كان فقد قال القاضي الحسين والإمام: إن كانت الفئة قريبة فيتبع، وإن كانت بعيدة منه لم يتبع، خلافاً لأبي حنيفة وأبي إسحاق المروزي حيث قالا باتباعه إذا انهزم إلى فئة مطلقاً، كما حكاه ابن الصباغ وغيره، وأنه يجوز قتله؛ لأن المتحرِّف والمتحيِّز بمنزلة المقاتل.
وكذا حكى البندنيجي في "تعليقه" والعمراني في "الزوائد" عن أبي إسحاق؛ بناء على هذا الأصل: أنه لا يطلق الأسير الذي انهزم متحيزاً إلى فئة.
وعلى الصحيح قال الجيلي: لو قتل المدبر أو ذُفِّف على الجريح؛ لم يجب على فاعل ذلك القصاص.
تنبيه:
التذفيف – بالذال المعجمة -: التجهيز وتتميم القتل وتعجيله، يقال: رجل
ذفيف، أي:[سريع].
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه موالاة الجرح، وإجهاز القتل.
ويقال بالدال المهملة، والأول أكثر.
قال: ويتجنب قتل ذي رحمه، أي: محرماً كان أو غير محرم، كما صرّح به الإمام اولقاضي الحسين وغيرهما؛ لأن ذلك يقطع صلة الرحم وهي مأمور بها؛ قال الله تعالى:"أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ بِيَدِي، وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ"، كذا قاله القاضي الحسين.
ويروي أنه – عليه السلام كان يقول يوم دخل المدينة، وهو على بعير:"أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ".
وقد استدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الآية [لقمان: 15]، فأمر بصحبتهما بمعروف في حال دعائهما إلى الشرك، ففي هذه الحالة أولى. وهذا فيه نظر؛ لأن الدعوى عامة في ذي الرحم، وما استدل به يختص ببعضهم، ولا يلزم من مَنْعِ قَتْل هذا البعض مَنْعُ قتل بقية ذوي الأرحام، كما سنذكره في قتال المشركين. وعلى كل حال: فلو خالف وقتل ذا رحمه فقد ارتكب مكروهاً، اللهم إلا أن يقصد المَحْرم قتله؛ فلا يكره، كما إذا قصد قتله في غير القتال.
قال: وإن أسر منهم رجلاً حبسه على أن تنقضي الحرب، أي: ويتفرق جمعهم؛ لينكف شره. ولا يجوز قتله؛ لما رويناه من خبر ابن مسعود – رضي الله عنه – ولأن سيرة علي – كرّم الله وجهه – فيهم كانت هكذا، وعليها عَمِلَ المسلمون من بعده، وهذا بخلاف أهل الحرب؛ لأن المقصود ثَمَّ: قتلهم بقتالهم، وهاهنا المقصود بقتالهم –كما ذكرنا -: دفعهم عمَّا هم عليه، وقد حصل بالحبس.
قال الماوردي والمصنف: فلو قتل أسيراً منهم ضمنه القاتل بالدية، وفي ضمانه بالقود وجهان، وجه المنع: أن أبا حنيفة تخير قتله؛ فصار ذلك شبهة يدرأ بها القصاص، وهذا ما اختاره في "المرشد".
قال: ثم يخليه؛ لحصول الأمن منه.
قال: ويأخذ عليه العهد ألا يعود إلى قتاله، احتياطاً بحسب القدرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يطلقه إِلَاّ بعد مبايعته على الطاعة، [أي: قبل انقضاء الحرب]، وأن من أصحابنا من خص ما ذكرناه بما إذا أمنا بعد انقضاء الحرب رجوعهم إلى طاعة الإمام وذهاب شوكتهم، فأما ما دام يخاف شرهم فلا يلزمه إطلاقهم. والأول: هو المنصوص، فقال الإمام بعد حكاية الأول عن رواية العراقيين عن بعض الأصحاب: إن هذا [بعيد] لا أصل له.
ثم محل حبسه إلى أن تنقضي الحرب مصوَّرٌ بما إذا لم يذعن للمبايعة حال أسره، أما إذا أذعن لذلك، وأظهر الطاعة عند الأسر، وقبل انقضاء الحرب – يجب أن يخلي إذا كان حرًّا.
قال القاضي الحسين: والعبد يحبس إلى أن تنقضي الحرب؛ لأنه ليس من أهل المبايعة.
وفي "تعليق" البندنيجي و"المهذب": إلحاقه بالنساء جزماً، وهو ما حكاه الرافعي عن [بعض] الأصحاب وإن كان يقاتل، وسيأتي حكم النساء.
فرع: لا يجوز قتل من كف عن القتال من أهل البغي إذا كان واقفاً معهم في الصف؛ لأن القصد بقتاله الكف، وهو كافٌّ فصار كالأسير، وفي "الحاوي" وغيره وجه: أنه يجوز أن يعمد إلى قتله؛ لأنه رِدْءٌ لهم وعَوْن، فأجري عليه حكم مقاتليهم.
وقد روي أن شخصاً قتل محمد بن طلحة بن عبد الله، حين كان واقفاً مع أهل الجمل، فلم يأخذ على – رضي الله عنه – [قاتله] بدية، ولا زجره على قتله.
قال: وإن أسر منهم صبيًّا أو امرأة، خلاه لى المنصوص؛ إذ ليس هو من أهل القتال والمبايعة عليه، [وهذا ما] اختاره في "المرشد".
وقيل: يحبس إلى أن تنقضي الحرب؛ لأن فيه كسراً لقلوبهم، فيكون في ذلك مصلحة للحرب [وتدبير] للقتال، وهذا ما حكاه الإمام، عن رواية العراقيين، عن أبي إسحاق.
وهكذا الخلاف في المجنون، والشيخ الكبير الذي لا يقاتل مثله.
ولا فرق في الصبي بين أن يكون مراهقاً، أو غير مراهق؛ كما صرّح به البندنيجي، وحكاه الرافعي عن بعض الأصحاب، وإن كان ممن يقاتل.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: الجزم بالمنصوص [عليه]، إلا إذا خاف بإطلاقهم قوة أهل البغي؛ فإنه لا بأس بحبسهم إلى أن يأمن شرهم وتنقضي الحرب، وهذا ما حكاه الرافعي عن أبي إسحاق، وقال القاضي: إن الصبي المراهق يحبس إلى [أن تنقضي] الحرب كالبالغ، وعلى ذلك جرى الإمام، والله أعلم.
قال: ولا يقاتلهم بما يعم كالمنجنيق والنار؛ لأن القصد: [الكف، لا الهلاك]، ولأانه يصيب من [لا] يجوز قتله كالجرحى، ومن لا يدعي إلى الطاعة والبيعة على الجهاد، مثل الصبيان، والنسوان، والعبيد.
قال: إلا لضرورة، أي: مثل أن يحيطوا بأهل العدل ويخاف [الاصطلام] ولا يجدوا مخلصاً منهم إلا بذلك، أو يرميهم أهل البغي بالنار، أو ينصبوا المنجنيق عليهم، فيفعل أهل العدل مثل ذلك.
وفي معنى النار تفجير المياه عليهم ليغرقوا، وإلقاء الحيات والأسد عليهم؛ فلا يجو ذلك من غير ضرورة، صرّح به الماوردي.
فرع: لو تحصنوا ببلدة، ولم يتأت الاستيلاء عليها [إلا بهذه الأسباب [العظيمة الأثر، فإن كان فيها رعايا لا بغي منهم لم يجز توجيه هذه الأسباب][عليها]؛ محافظة عليهم، وإن لم يكن فيها إلا الباغون المقاتلون فقد حكى الغزالي فيه تردداً.
وقال الإمام: الذي أراه المنع؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين، وتَرْك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين – وربما قدر على احتيال في المحاصرة والتضييق – أقربُ إلى الصلاح من اصطدام الأمم.
قال: ولا يستعين عليهم بالكفار؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، ولأن المقصود كف شرهم وردهم إلى الطاعة، وهؤلاء يتديَّنون بقتل مقبلهم ومدبرهم والمجروحين والمأسورين، ويرون ذلك قربة وطاعة؛ فلا يحصل المقصود بهم.
قال: ولا بمن يرى قتلهم مدبرين، أي: وهم الحنفية؛ لما يلزم من الكف عنهم إذا انهزموا، وهكذا أطلقه المزني، وهل هذا المنع منع تحريم أو منع ندب واستحباب؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وما أطلقه المزني [والشيخ] محمول على ما إذا لم تدع الضرورة إليه، أما إذا دعت إلى ذلك؛ لعجز أهل العدل عن مقاومتهم جاز ان يستعين بهم على ثلاثة شروط: ألا يجد عوناً غيرهم، وأن يقدر على ردهم إذا انهزم أهل البغي، بأن تكون له هيبة تمنعهم من مخالفته، وهذان الشرطان اقتصر عليهما القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، والثالث – قاله الماوردي، [وهو]-: أن يثق بما شرطه عليهم: ألا يتبعوا مدبراً، ولا يجيروا على جريح. قال: فإن فقد شرط من هذه الثلاثة لم تجز الاستعانة بهم. وعند غيره المعتبر في المنع فَقْد أحد الشرطين الأولين.
[قال الرافعي]: ولفظ "التهذيب" يقتضي جواز الاستعانة إذا وجد أحدهما، ولفظ القاضي الحسين يقتضي جواز الاستعانة إذا وجد الشرط الثاني؛ فإنه قال: أطلق المزني منع أهل العدل [من] الاستعانة بمن يرى قتلهم مدبرين. ثم قال:
قال أصحابنا: الشافعي – رضي الله عنه – فصّل [فقال]: إن كان بالإمام قوة تضبطهم لم أرَ بأساً أن يستعان بهم، وإن لم يكن به قوة فلا يستعين بهم. وذلك صحيح.
قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: اليس قد قلتم: إنه يجوز للحاكم أن يستخلف من يعتقد خلاف مذهبه، فيولي الشافعي مالكيًّا وحنفيًّا وغيرهما من أهل المذاهب؟
فالجواب: أن أصحابنا اختلفوا فيه على ما حكاه ابن أبي هريرة، وقال: قد نص الشافعي على المنع من ذلك، فقال: وهكذا من ولى شيئاً فينبغي ألا يوليه من يعلم أنه يعمل بخلاف الحق فيه. فإن قلنا: لا يجوز، [سقط السؤال، وإن قلنا: يجوز] فالفرق: أن الحاكم يحكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وهذه الأحكام يسوغ فيها الاجتهاد، وليس كذلك قتل [أهل البغي مولِّين]، والجرحى والأسرى منهم؛ فإن ذلك لا يسوغ فيه الاجتهاد.
وقد ظهر لك بما ذكره الشيخ أن أهل البغي يخالفن أهل الحرب في أشياء [: في امتناع كبسهم في ديارهم غِرَّةً وبَياتاً، و] في امتناع قتلهم مدبرين، والتذفيف على جريحهم، وقتل أسيرهمن وعدم استرقاقه.
وفي عدم قتالهم بالمنجنيق والنار وما في معناهما، وعدم الاستعانة عليهم بمن ذكرناهم. ووراء ذلك أمور أخر، منها: أنه لا يجوز أن يحاصرهم ويمنعهم الطعام والشراب، إلا على رأي الإمام في أهل القلعة، ولا يجوز عقر خيولهم إذا قاتلوا عليها، ولا قطع أشجارهم وزرعهم، ولا الانتفاع بما يأخذه من أموالهم من مطعوم وغيره، وكذا من أسلحة وخيول، بل يحفظ لهم إلى انقضاء الحرب والأمن من قتالهم يعودهم إلى الطاعة أو تفريق شملهم، وهو وقت إطلاق الأسرى، اللهم إلا ان تقع ضرورة بألا يجد أحدنا ما يدفع به عن نس سوى سلاحهم، أو ما يركبه في وقت الهزيمة إلا خيولهم؛ فيجوز الاستعمال والركوب، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة، وهذا بخلاف أهل الحرب، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله – تعالى.
قال: وإن أتلف عليهم أهل العدل شيئاً، يعني من نفس ومال، دعت الحاجة إلى إتلافه بالقتال في حال الحرب-[لم يضمنوه؛ لأنهم مأمورون بقتالهم، وقتالهم يفضي إلى ذلك، فلم يلزم ضمانه، كنفس من قصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق.
قال: وإن أتلف أهل البغي على أهل العدل شيئاً، أي: من نفس ومال في حال الحرب] مع الحاجة إلى إتلافه، ففيه قولان:
أصحهما: أنهم لا يضمنون.
قال الشافعي – رضي الله عنه –: لأن الله – تعالى – أمر أن نصلح بينهم بالعدل، ولم يذكر وجوب الضمان على أهل البغي في الدماء والأموال؛ فدلَّ على أنها ساقطة الضمان، ولأن الحروب جرت في عصر الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – كوقعة الجمل وصفين، [ولم] ينقل أن بعضهم طالب بعضاً بضمان نفس ولا مال مع معرفة القاتل والمقتول، كما رواه ابن شهاب الزهري، ولأن الغرامة لو وجبت لم يؤمن أن ينفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة، ويحملهم على التمادي فيما هم فيه، [ولأجل] ذلك أسقط الشرع التَّبِعات عن أهل الحرب إذا أسلموا، وهذا ما حكاه الماوردي عن الجديد، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه الذي قال به في القديم.
والقول الثاني: أنهم يضمنون؛ لما روي أن أبا بكر – رضي الله عنه قال للذين قاتلهم بعدما تابوا: "تَدُونَ قَتْلَانَا، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ"، ولأنهما فريقان من المسلمين [محق ومبطل]، فلا يستويان في سقوطالغرم؛ كقطاع الطريق
والرفقة، وهذا ما ادّعى الماوردي انه قاله في القديم، واختاره الروياني.
ويقال: إن القولين منصوصان في "البويطي"، وحكى البندنيجي: أنهما منصوصان في "الأم".
والقائلون بالأول قالوا: إن أبا بكر – رضي الله عنه لما قال ذلك القول قال له عمر – رضي الله عنه: "لا تأخذ لقتلانا دية؛ لأنهم عملو لله، وأجورهم على الله"، فسكت أبو بكر سكوتَ راجعٍ.
التريع: إن قلنا بالأول وكان المتلف نفساً، فهل تجب الكفارة؟ فيه وجهان: أشبههما في "الرافعي" – وهو أصح في "الحاوي" -: المنع؛ طرداً للإهدار وقطعاص للتبعات، وإن قلنا بالثاني، وكان القتل عمداً ففي وجوب القصاص وجهان، فإن أوجبناه – وهو قول أبي إسحاق قال: الأمر إلى المال – كان في مال الجاني، و [إن] لم نوجبهن فهل تجب دية شبه العمد في مال [العاقلة، او دية العمد في مال] الجاني؟ خرجه الإمام على الخلاف الذي حكيناه عن روايته فيما إذا قتل من رآه في ادر الإسلام على زي أهل الحربن ولم نوجب فيه القصاصن والذي ذكره في "الحاوي": الثاني.
أما لو أتلف [كل من] الفريقين على الآخر شيئاً في غير القتال، أو فيه مع الاستغناء عنه، كما صرح به الإمام وغيره – ضمنوه. وجهاً واحداً، وهذا يضعف قياس عدم تضمين أهل البغي، قياساً على أهل الحرب؛ لأجل النفرة من العود.
قال الماوردي: ولو قصد أهل العدل بإتلاف أموال أهل البغي إضعافهم لم يضمنوا، وفي "تعليق" القاضيالحسين: أنهم لو أكلوا طعامهم قبل انقضاء الحرب، واستمتعوا بدوابهم وأسلحتهم، ولبسوا ثيابهم – فوجهان:
أحدهما: لا شيء عليهم؛ لأنهم أتلفوا متأولين؛ فإن أبا حنيفة يبيح لهم ذلك.
والثاني: يجب عليهم الضمان كما لو حرقوه.
ثم قال: والوجهان ينبنيان على القولين في أهل البغي إذا أتلفوا في حال القتال.
ولا خلاف في وجوب رد ما أخذ من أموال كل من الفريقين، بعد انقضاء الحرب وسكون الفتنة.
فرع: لو استولى باغ على أمة أو مستولدة لأهل العدل، فوطئها – فعليه الحد، [وحكى الماوردي في "الأحكام" وجهين فيه؛ لأنه قال: إذا أتى أهلُ البغي قبل القدرة عليهم حدوداً، ففي إقامتها بعد القدرة عليهم وجهان،] وإن أولدها فالولد رقيق غير نسيب.
وهل يجب المهر إذا كانت مكرهة؟ منهم من جعله على الخلاف في ضمان المال، وقال صاحب "التهذيب": ينبغي أن يقطع بوجوبه؛ كما لو أتلف المأخوذ بعد الانهزام.
فرع: إذا استعان أهل البغي بأهل الذمة على قتالنا، وأتلفوا مالاً أو نفساً – فهل حكمهم حكم أهل البغي في الضمان؛ أم لا؟ وكذا في جواز قتلهم مقبلين لا مدبرين، [وغير ذلك]؟
قال الأصحاب: الكلام في ذلك ينبني على أنهم: [هل] ينتقض عهدهم بالقتال، أم لا؟ وفيه تفصيل سنذكره. فإن قالوا: كنا مكرهين على القتال، قُبِلَ قولهم، [ولم يكن] ذلك نقضاً لعهدهم، وكذا لو قالوا: ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض، أو أنهم يستعينون بنا على أهل الكفر، أو أنهم المحقون ولنا إعانتهم – فلا ينتقض عهدهم؛ للشبهة. وإن لم يدعوا شيئاً من ذلك، وقاتلوا بعد إعلامهم وإنذارهم بالمراسلة والمكاتبة، فللشافعي – رضي الله عنه – فيه قولان:
أحدهما: أنه يكون نقضاً لعهدهم؛ كما لو قاتلوا مع المشركين؛ ولهذا قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة لما عاونوا الأحزاب.
والثاني: لا؛ لأنهم قاتلوا مع المسلمين [وفي نصرتهم، ولا يجب عليهم معرفة المحق من المبطل من المسلمين]؛ فكان ذلك شبهة في حقهم.
هكذا ذكر القاضي أبو الطيب الحكم والتعليل، ووافقه في الحكم البندنيجي،
وكذا ابن الصباغ، لكنه صور مسألة القولين بما إذا لم يدَّعوا شيئاً مما ذكرناهن ولم تعرض لذكر المراسلة وغيرهان وقاس قول الانتقاض على ما لو انفردوا، ووجَّهَ مقابله: بأن أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل؛ فيكون ذلك شبهة لهم.
وحكي أن أبا إسحاق المروزي قال: القولان فيما إذا لم يكن قد شرط عليهم الكف عن القتال في عقد الذمة نطقاً، فأما إذا شرط انتقض. قولاً واحداً. وهذا [ما] حكاه الماوردي والروياني، وكذا الشيخ في "المهذب"، لكنه صور مسألة القولين بما إذا كانوا عالمين غير مكرهين، واختار في "المرشد" منهما الانتقاض، وكذا الرافعي.
وفي "التهذيب" و"الإبانة" و"تعليق" القاضي الحسين: الجزم بانتقاض العهد في حالة العلم بأنه لا يجوز لهم قتالنا، ولم يكونوا مكرهين ولا جاهلين بالحال، وكذا إذا كان قد شرط عليهم [في عقد الذمة] ترك [قتالنا، وحكاية القولين في حالةدعواهم الجوازَ، ولم يكن قد شرط عليهم ترك] القتال. ثم قال القاضي الحسين: وقال الشيخ – يعني: القفال -: لا يختلف القول في [أهل] الذمة أن قتالهم لا يكون نقضاً؛ لأن أمانهم بيدهم، [وإنما] القولان في أن للإمام نقضه مع دعواهم الجهالة، أم لا؟ وعامة أصحابنا لم يفصِّلوا هذا التفصيل، ومنقول المزني يدل على ما قاله أصحابنا. انتهى.
وفي "الرافعي": أن أبا الطيب بن سلمة طرد القولين في حالة دعواهم الإكراه أيضاً، فإذا تقرر ذلك فحيث قلنا: لا ينتقض عهدهمن فهم كأهل البغي في أنه لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، ولا يقتل أسيرهمن ولو أتلفوا مالاً أو نفساً على أهل العدل ضمنوه، قولاً واحداً.
قال الشافعي – رضي الله نه -: إنما سقط الضمان عن المسلمين؛ للتأويل، فأما أهل الذمة فلا يسقط عنهم.
قال القاضي أبو الطيب: والدليل عليه قوله – تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات: 9]، ولم يأمرنا بالتبعية، وأيضاً فإنا إنما لم نغرم
المسلمين؛ كي لا يكون ذلك [تنفيراً لهم عن الدخول في طاعة افمام، ولا يحتاج إلى ذلك] في أهل الذمة؛ فلزمهم الضمان.
[وقيل]: إذا قلنا: إن المسلم إذا قَتَلَ وهو من أهل البغي، لا يجب عليه القصاص، فهاهنا لا يجب على الذمي [على وجه]؛ للشبهة المقترنة باحوالهم، وحيث قلنا: ينتقض عهدهم، فما أتلفوه من نفس ومال بعد نقض العهد، [لا يكون مضموناً عليهم؛ لأنهم أهل حرابة، ويجوز قتلهم وقتالهم مقبلين، وهل يجوز وهم مدبرون؟ إن قلنا: من نقض العهد] لا يُبْلَغ مأمنه، وهو ما جزم به القاضي الحسين والإمام هنا فيما إذا قالوا: علمنا أنكم مسلمون، وأنه لا يجوز لنا قتالكم، ولم نكن مكرهين على ذلك – فنعم، وإن قلنا: يُبْلَغ [إلى] مأمنه، فهاهنا وجهان: وجه الجواز: جعل ذلك من بقيَّة العقوبة على القتال.
وقال الإمام: ينبغي على هذا أن يقطع بأنهم يضمنون ما أتلفوا؛ لانا إذا قلنا: إنهم يبلغون المأمن، جعلناهم في بقيَّة من الأمان، فكيف يجوز ألا نغرمهم؟!
ولو استعان أهل البغي بأهل العهد إلى مدةن قال القاضي أبو الطيب: كان ذلك نقضاً لعهدهم، إلا في مسألة واحدة: وهي إذا كانوا مكرهين، وأقاموا بذلك بينة ون ما إذا ادعوا ذلك، [أو ادعوا] الجهل بالحال، والفرق بينهم وبين أهل الذمة: أن الذمة أقوى؛ ولهذا نقول: يجوز أن [ينبذ إليهم] عهدهم؛ لخوف الجناية، ولا كذلك [في] أهل الذمة. وعلى ما قاله جرى الأئمة، ولم أر له مخالفاً فيما وقفت عليه.
ولو استعانوا بأهل الحرب بأمان أعطوهم إياه، فإن كان الأمان مطلقاً قال الماوردي: صح الأمان لهم، وكان عقد أهل البغي لهم كعقد أهل العدل.
وقد قال الشافعي – رضي الله عنه كما حكاه القاضي الحسين: ولو وادع أهل البغي قوماً من المشركين لم يكن لأحد من المسلمين غدرهم؛ فإن قاتلوا، قال الماوردي: صاروا كاهل العهد، ولو كان عقد الأمان مشروطاً بقتالهم معنا حكمه في حق أهل] البغي؛ اعتباراص بالشرط؛ فيجوز لأهل العدل قتلهم واسترقاقهم وسبيهم مقبلين ومدبرين، ولم يجز لأهل البغي ذلك.
وفي "النهاية": أنه حكي عن القاضي أنه قال: لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم؛ لأنهم صاروا من أهل البغي بالأمان، فثبت لهم حكم أهل البغي. وهذا عندنا زلل، لا يثبت لأهل الحرب في حقوق أهل العدل – امان ولا عُلقة أمان،
وهم كما لو انفردوا بمقاتلة المسلمين، نعم: هل ينعقد لهم أمان في حق أهل البغي؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: لا ينعقد، فليس للبغاة أن يقاتلوهم، بل يردونهم إلى مأمنهمن فلو قال أهل الحرب، وقد وقعوا في أسر أهل العدل: ظننا أنه يحل لنا مقاتلتكم إذا استعان بنا المسلمون، وحسبنا أنهم الفئة المحقة، أو قالوا: ظننا أنكم كفار – فهذا موضع الخلاف [المشهور]، فمنهم من قال: نصدقهم ونعاملهم معاملة البُغاة؛ فلا نقتلهم مدبرينن ونبلغهم المأمن، وهو الظاهر، ومنهم من قال: نقتلهم حيث ثقفناهم؛ لأن مجرد ظنون الكفار لا يؤثر. انتهى.
وقوله: "هذا موضع الخلاف المشهور"، يعني: بين الأصحاب والقاضي؛ لأن القاضي الحسين صرّح في هذه الحالة في "تعليقه": بأنهم لا يقتلون مدبرين، [ويبلغون المأمن، وفي حالة دعواهم العلم وعدم الإكراه يقتلون مدبرين،] ولا يبلغون المأمن، ولو لم يعقدوا [لهم] أماناً، لكن استعانوا بهم على قتال اهل العدلن فلا خلاف أنه [لا] ينعقد لهم امان على أهل العدل، ويجوز قتلهم مدبرين.
وإيراد القاضي يقتضي ترجيح الوجه الصائر إلى انعقاد الأمان في حق أهل البغي، وهو الأصح في "الرافعي" و"التهذيب"، وقال في "الزوائد": إنها طريقة أبي حامد.
وعلى هذا: إذا حاربنا أهل البغي ومعهم أهل الحرب، لا يبطل أمانهم في حقهم، بخلاف ما لو أمَّن رجلٌ مشركاً، فقصد مسلماً أو ماله، فإن لمؤمِّنه مجاهدته ونبذ أمانه.
قال القاضي الحسين: والفرق أن هذا الواحد إذا أمنه، فإنما [هو] يأخذ من الكف عن جميعهم، فإذا قاتل واحداً منهم صار ناقضاً لأمانه، وأما البغاة فإنهم أمنوه على قتالنا، فإذا حاربونا معهم لم يفعلوا شيئاً يضاد عقد أمانهم؛ فلم يصيروا ناقضين.
وعلى الوجه الآخر قال في "التهذيب": يجوز لأهل البغي أن يكرُّوا عليهم
بالقتل والاسترقاق في صورة دعواهم العلم بالحال. وهو خلاف ما حكيناه عن الإمام، وفي صورة دعواهم الظن بجواز القتال: لا يجوز لأهل البغي اغتيالهم، بل يبلغونهم المأمن، وكذلك أهل العدل أيضاً. وهو خلاف ما حكيناه عن الماوردي.
ولو قاتل أهل الذمة أهل البغي، قال القاضي ابن كج: لا ينتقض عهدهم، وعن [رواية] أبي الحسين بن القطان وجه: أنه ينتقض؛ لأنهم حاربوا المسلمين.
قال: وإن ولوا قاضياً نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم الجماعة، أي: جماعة أهل [العدل]؛ لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد.
وقال المعتبرون من الأصحاب وهم العراقيون، وطائفة من المراوزة والماوردي: وهذا بشرط أن يكون مسجتمعاً لشرائط القضاء كما سنذكرها، وبهذا يخرج ما إذا كان ممكن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم؛ لأنه بهذا الاعتقاد فاسق، ومن شرط القضاء: العدالة، وما إذا كان من الخطابيةن وهم طائفة يرون أن يشهدوا لموافقيهم في العقيدة؛ تصديقاً لقولهم واعتماداً على أنهم لا يكذبون؛ لأن الكذب كفر عندهم؛ لأن من هذا شأنه يقضي لموافقه أيضاً، ونحن لا نقبل شهادته له – كما سيأتي في موضعه – فقضاؤه له أولى، كما [أنَّا] لا نقبل شهادة الوالد لولده، ولا نقبل حكمه له، نعم: لو قضى على من وافقه في الاعتقاد، اتجه تنفيذ حكمه إن قبلنا شهادته عليه، كما جزم به القاضي الحسين؛ لأنه ليس في القول بتصديق صاحبه ما يوجب فسقه، وهو نظير العداوة والقرابة: يردان الشهادة من أحد الجانبين دون الآخر.
قال الرافعي: ومنهم من يطلق نفوذ قضاء أهل البغي؛ رعاية لمصلحة الرعايا، وقد صرّح مصرّحون: بأن من ولاه صاحب الشوكة نفذ قضاؤه، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً كقضاء أهل البغين وهذا القياس فيه نظر، وسيأتي إن شاء الله – تعالى- في كتاب الأقضية.
[ولا فرق] في تنفيذ حكمه بين أن يرفع إلينا [بعد عود البلاد إلينا،]
وبين أن يأتي كتابه إلينا، [لكن] قال الأئمة: يستحب في هذه الحالة ألا نقبله استخفافاً بهم واستهانة، كما حكاه في "المهذب"، وكذا البندنيجي وابن الصباغ.
وقال الماوردي: الأولى ألا يتظاهر بقوله ويتلطف في ردّه. وظاهر كلام الغزالي يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: يجب على قاضينا إمضاؤه. وكذلك لفظ القاضي الحسين؛ فإنه قال: ولو كتب [إلى قاضينا] بحكومة لزمه التنفيذ والإمضاء. وكذا لفظ أبي الطيب: وجب أن نقبله وننفذه. فلعلهم أرادوا بذلك عدم النقض والحكم بخلافه.
أما إذا لم يحكم، لكن كتب بسماع البيّنة دون الحكم – فهل يحكم قاضينا به؟ فيه قولان:
أحدهما: لا؛ لما فيه من معاونة أهل البغي وإقامة مناصبهم، ولأنه يعتقد خلافه؛ فكان كما إذا كتب الحنفي على قاضٍ شافعي بالشفعة للجار، وانقطاع الرجعة بلفظ البينونة- لا نحكم به؛ لأنه خلاف ما نعتقده.
وأصحهما –وهو ما أورده البندنيجي -: نعم؛ لأن الكتاب الذي يرده يتعلق برعايانا، وإذا نفذنا حكم قاضيهم لمصلحة رعاياهم، فَلأَنْ نراعي مصلحة رعايانا كان أولى.
وقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد طرد القولين فيما إذا أبرموه واستعانوا به في الاستيفاء، وقال: كنت أود لو فَصَلَ فاصلون بين الأحكام التي تتعلق بأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلق بالرعايا.
تنبيه: حكم الشيخ بنفوذ حكم حاكمهم يعرفك قبول شهادة الواحد منهم؛ لأنه لو خرج بالبغي عن العدالة لم يصح حكمه، وهذا بناء على أصلنا في انهم ليسوا بفسقة كما مر، ولفظ الشافعي –رضي الله عنه:"ولو شهد منهم عدل قبلت شهادته ما لم يكن يرى أن يشهد لموافقته [بتصديقه"، فأثبت العدالة مع البغي.
وقوله: "ما لم يكن يرى أن يشهد لموافقته]، أراد به الخطابية.
وقول الشيخ: ما ينفذ من حكم الجماعة، احترز به عما لو خالف حكمه نصًّا أو إجماعاً أو قياساً جليًّا؛ فإنا لا ننفذه حتى لو وقع واحد من أهل العدل في
أسرهم، فقضى عليه قاضيهم بضمان ما أتلف في الحرب، لم ينفذ قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط الضمان عمن أتلف شيئاً في غير القتال، فإن حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه في حال الحرب أنفذناه؛ لأنه محل الاجتهاد.
فرع: إذا ورد على قاضي أهل العدل كتاب من قاضي أهل البغي، وهو لا يدري أنه يستحل دماء أهل العدل وأموالهم أو لا – فقد حكى ابن كج في تنفيذه قولين، وقال: إن اختيار الشافعي – رضي الله عنه – منهما: أنه لا يقبل ولا يعمل به.
قال: وإن أخذوا الزكاة والخراج [والجزية] اعتد به، [أي: اعتد به] أهل العدل للمأخوذ منه إذا رجعت البلاد إليهم؛ اقتداء بعلي – كرّم الله وجهه – فإنه قاتل أهل "البصرة" ولم يتبع ما أخذوه من الحقوق، ولأنهم أخذوا ذلك بتأويل سائغ؛ فأشبه حكم الحاكم [باجتهاد سائغ] لا ينقضه آخر، ولأن في إعادة الطلب إضراراً بأهل البلدة ومشقة شديدة؛ فغنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين [حكاية وجه]: أنهم إن أعطوا الزكاة بطيب أنفسهم من غير كره منهم لا يسقط عنهم، وقضية ذلك أن تطرد في غيرها.
قال الرافعي: وفي الجزية وجه رواه الفوراني وغيره: أنه لا يُعتد بأخذها؛ لأنها عوض السكنى، والأعواض بعيدة عن المسامحة.
قلت: وقضية هذا التعليل: أن يطرد هذا الوجه في الخراج، لكن كلام الفوراني يفهم التعليل بشيء آخر؛ لأنه قال – بعد أن حكى: أنهم إذا أخذوا الجزية فلا ينبني كما في أخذ الصدقات -: وقيل: فيه وجه ىخر: ينبني، والرق: أن الذمي ليس بأمين على ما عليه من الجزية، يشير بذلك إلى أنه متهم في الدفع لهم على وجه الإكراه؛ لأنه عدو لأهل العدل؛ فيكون كما لو دفعها بالرضا، وقد تقدم في دفعها بالرضا احتمال وجه في عدم الإجزاء، وعلى هذا لا يحسن تخريج هذا الوجه في الخراج.
وفي الاعتداد بما فرقوه من سهم المرتزقة من الفيء على جندهم وجهان في "النهاية"، وظاهر المذهب: وقوعه موقعه.
قال: فإن ادعى من عليه زكاة أنه [دفع الزكاة] إليهم، قُبل قوله مع يمينه، أن الزكاة عبادة وجبت على سبيل المواساة، والمسلم في إيفاء العبادات [أمين].
قال: وقيل: يحلف مستحبًّا، وهو المختار في "المرشد"، وقيل: يحلف وجوباً، وتوجيههما مذكور في الزكاة.
وقال النواوي: الصواب حذف "الواو" من "وقيل" الأولى أو جعلها "فاء"، وقد سبق في الاصطدام مثله.
فإن قلنا بالثاني، وهو الأصح في "الجيلي" وعند النواوي، فإذا لم يحلف ألزمناه الزكاة، لا لنكوله؛ بل لأنها كانت واجبة عليه في الأصل، وقد ملك إسقاطها باليمين، فإذا لم يحلف رجعنا إلى الأصل، وفي "الجيلي" وجه: أنها لا تؤخذ منه.
قال: وإن ادعى من عليه جزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله إلا ببيّنة؛ لأن الجزية على الكفار عوض عن المساكنة، فأشبه ما لو ادعى المستأجر دفع الأجرة لا يقبل قوله إلا بينة. وفي كتاب ابن كج وجه: أنه يُصدق كدافع الزكاة.
قال: وإن ادعى من عليه خراج أنه دفعه إليهم، أي: وهو مسلم، فقد قيل: يقبل قوله؛ لأن المسلم من أهل الائتمان؛ فقبل قوله كما في دفع الزكاة. قال النبدنيجي: وليس بشيء.
وقيل: لا يقبل؛ لأن الخراج [ثمن أو أجرة]، فلا يقبل قوله في الدفع، كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، وهذا أصح في "الرافعي" وغيره، وهو المختار في "المرشد".
أما لو كان من عليه الخراج كافراً، لم يقبل قوله كما في الجزية، صرح به الماوردي.
ولو ادّعى من عليه حد أنهم استوفوه منه، قُبِل قوله بلا يمين، وهذا ما حكاه الماوردي؛ لأنها مما تدرأ بالشبهات، وقيل: إن كان قد ثبت بإقراره قُبِل، وإن كان قد ثبت بالبينة: فإن ظهر أثر الضرب أو القطع قبل قوله، وإلا فلا، وهذا ما حكاه المتولي.
فرع: حيث لا يقبل قول المدعي الإيفاء إلا ببينة، فلو أحضر خطًّا بالقبض منه، قال الماوردي: فإن كانت محتملة شبهة لم يُعمل بها، وإن كانت سالمة من الاحتمال ظاهرة الصحة، فهل يعمل بها في حقوق بيت المال؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ اعتباراً بالعرف فيها.
والثاني- وهو الأصح في "الحاوي" -: [لا؛] كما لا يجوز العمل بها في الأحكام، ولا في حقوق المعاملات؛ لدخول الاحتمال فيها، وإمكان التزوير.
قال: وإن أظهر قومٌ رأيَ الخوارج، ولم يظهروا ذلك بحرب، لم [نتعرض إليهم].
الخوارج: صِنف مشهور من المبتدعة، يعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر وحبط عمله، واستحق الخلود في النار، وأن دار الأمير تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة؛ فيكون من تولاهم جرى عليه حكمهم؛ فلذلك طعنوا في الأئمة، وامتنعوا من الصلاة خلف واحد منهم، ولزموا تجنب [الجمعات و] الجماعات. فإظهار رأيهم أن ينطقوا بمعتقدهم، يوتجنبوا حضور الجمعات والجماعات، فإذا فعلوا ذلك ولم يُظهروه بحرب، بل استمروا على طاعة الإمام [ظاهرا] – لم نتعرض إليهم؛ لما رُوي أن عليًّا – كرم الله وجهه – سمع وهو في الصلاة رجلاً يقول، [وهو] في جانب المسجد: لا حُكْمَ إلا لله ولرسوله، وقصد بذلك تخطئة عليّ في التحكيم بينه وبين معاوية، فقال علي – كرم الله وجهه – وهو [في] خلال الصلاة – كما نقله القاضي الحسين-:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60]، وقصد به قراءة القرآن، وإن تضمن ذلك ردًّا عليه، ومثل ذلك لا يضر بالصلاة عندنا كما قاله القاضي [الحسين]، فلما فرغ من الصلاة قال:"كلمة حق أُريد بها باطل"، [كما] قال الماوردي، وهذا أحسن جواب فيمن عرض بمثل هذا القول. ثم قال [علي] – رضي الله عنه: "لكم
علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله – تعالى – أن تذكروا فيها سامه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بالقتال". فجعل الأحكام فيهم كهي في أهل العدلن واقتفى في ذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين في كفه عنهم مع علمه بمعتقدهم؛ لتظاهرهم بالطاعة مع استبطان المعصية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا اَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللهُ يَتَولَّى السَّرَائِرَ".
قال القاضي الحسين [و] أصحابنا: وهذا إذا لم يكن على المسلمين ضرر منهم، فأما إذا اتصل ذلك بضررهم، فإنه يتعرض غليهم حتى يزول ذلك عن المسلمين.
قال: وكان حكمهم حكم الجماعة فيام لهم وعليهم، يعني:[حكم] جماعة أهل العدل فيما يتلف بعضهم على بعض من نفس ومال، وفيما يتعاطونه مما يوجب العقوبات؛ لما ذكرناه من أثر عليّ رضي الله عنه.
وقد روي أن عليًّا – رضي الله عنه – ولي [علي] أهل النهروان عامله عبد الله ابن خباب بن الأرت وقد اعتزلوه، فكنا ناظراً فيهم كنظره في أهل العدل، إلى أن وثبوا عليه وقالوا: ما تقول في الشيخين أبي بكر وعمر؟ فقال: ما أقول في خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامي المسلمين، فقالوا: ما تقول في عثمان بن عفان؟ فقال في الست الأوائل خيراً، وأمسك عن الست الأواخر، فقالوا: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فقال: أمير المؤمنين، وسيد المتقين. فعمدوا إليه فذبحوه؛ فراسلهم عليّ: أن سَلِّموا إليَّ قاتله أحكم فيه بحكم الله – تعالى – فقالوا: كلنا قتلناه. قال: فاستسلموا لحكم الله. فسار إليهم وقتل أكثرهم.
قال القاضي الحسين: وقد قيل: إنه لم ينفلت منهم أكثر من اثنين أو ثلاثة،
وكان عدد القتلى أربعة آلاف، وهذا يدل على إجراء حكم أهل العدل عليهم، وأنه لا يسقط بخلع الطاعة.
وفي "المهذب" و"الشامل" و"الحاوي" وغيرها وجه: أنه يتحتم قتل القاتل منهم؛ بالقياس على القتل في المحاربة.
وفي "التتمة" تخصيص الخلاف بما إذا قتل في حال القتال، أما إذا أظهروا ذلك بحرب فقد قال في "التهذيب": إنهم فسقة وأصحاب نهب؛ فحكمهم حكم قطاع الطريق. وهو قضية ما ذكرناه عن الأصحاب من قبل في أن مِن شَرْط الباغي أن يكون تأويله محتملاً يسوغ في الشرع، كالذي تأوله أهل الجمل وصفين في المطالبة بقتلة عثمان –رضي الله عنه – وأنهم إذا لم يكن لهم تأويل أجري عليهم حكم الحرابة وقطاع الطريق، فعلى هذا: يضمنون ما يتلفونه في حال القتال من نفس ومال جزماً؛ لان تأيلهم كَلَا تأويلٍ، بل هم به كفرة على رأي، وقد صرح بذلك المتولي.
قال: وإن صرحوا بسب الإمام، [أي:] أو أحد من أهل العدلن مثل أن قالوا: يا فاسق أو يا ظالم – عَزرهم؛ لتعديهم بإتيان معصية لا حَدَّ فيها ولا كفارة.
وقد روي أن عدي بن أرطاة كتب إلى عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه: إن الخوارج عندنا يسبونك، فكتب إليه: إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم.
قال: وإن عرضوا بسبِّهِ، أي مثل أن قالوا: ما بقي في الناس عادل، أو قد عم الظلن الناس – لم يتعرض إليهم؛ لأنه يحتمل السب وغيره، فلا يرتب عليه ما يرتب على السب المحقق، وروي أن رجلاً من الخوارج قال لعلي – رضي الله عنه – بعد صلاة الصبح:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه عليَّ:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الروم: 60]، ولم يتعرض له بتعزير ولا غيره، وقيل: يعزرهم؛ كي لا تنخرق الهيبة، ويجعلوا التعريض تصريحاً.
وهذا الذي ذكرناه هو المذكور في طريقة أهل العراق و"الحاوي"، وكذا في
"تعليق" القاضي الحسين خلا ذكر التعزير. والغزالي وإمامه قالا: في تكفيرهم الخلاف المشهور في تكفير أهل الأهواء والبدع، فإن لم نكفرهم ففيهم وجهان:
أحدهما: أن شبهتهم كتأويل البغاة، وحكمهم كحكمهم.
قلت: وهذا نازع إلى أن التأويل المقطوع بخطئه تأويل معتبر فيما نحن فيه.
قال الإمام: وهذا الوجه ساقط لا أصل له.
وأصحهما: أنهم كأهل الردة، ولا يبالي بما يتمسكون به؛ لظهور فساده، وعلى هذا: فلا تنفذ أحكامهم، بخلاف أحكام البُغاة.
ويجيء في ضمان ما يتلفونه في حال القتال الطريقان الآتيان في المرتدين، وهما كالطريقين [المذكورين] في الذين كثرت شوكتهم ولا تأويل لهم إذا أتلفوا في حال الحرب، وقد مضيا.
قال: وإن اقتتلت طائفتان في طلب رياسة أو نهب مال أو عصبيةٍ، فهما ظالمتان، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَان فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ".
قال: وعلى كل واحدة منهما ضمان ما تتلف على الأخرى من نفس ومال؛ لأن سقوط ذلك عن البغاة كان لأجل التأويل، واعتقادهم إباحة القتال، وهذا منتفٍ [ها] هنا، وعلى الإمام أن يكفهما عن الظلم.
ولو اقتتلت طائفتان من أهل البغين قال الصحاب: لم يجز للإماام ان يُعِين أحداهما على الأخرى إن قدر على دفعهما، بل عليه أن يدفعهما عن البغي، إن لم يستطع فليضم إليه أقربهما إلى معتقده وأرغبهما في طاعته، فإن استويتا ضم إليه [أقلهما جمعاً، فإن استويتا ضم إليه] أقربهما داراً، فإن استويتا
اجتهد رأيه في أحداهما، فإن طاوعته التي قاتلها أو انهزمت عنه عدل إلى الأخرى ولم يبدأها بقتال، إلا بعد استدعائها ثانياً إلى الطاعة؛ لأن انضمامها إليه كالأمان الذي يقطع حكم ما تقدم من الاستدعاء والجناية.
قال: ومن قصد قتل رجل أي: بغير حق، جاز للمقصود دفعه عن نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، [كذا أخرجه البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس. وخرج أبو داود عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أرِيدَ مَالُهُ بشغَيءرش حَقٍّ فَقَاتَلَ فَهُوَ شَهِيدٌ" وقال الترمذي: إنه حسن صحيح].
فلولا أن له قتاله ودفعه عن ماله لم يدرك به الشهادة، فإذا ثبت ذلك في المال ففي النفس من طريق الأولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شبه حرمة المال بحرمة النفس، فقال:"حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ"، والمشبه دون المشبه به.
[وقد روى أبو داود عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، اَوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ"، وأخرجه النسائي وابن ماجهن وقال الترمذي: إنه حسن صحيح].
ولا فرق في الدافع عن نفسه بين أن يكون مسلماً أو ذميًّا، ولا بين الحر والعبد، سواء كان قاصده سيده أو غيره.
ثم محل جوازه بالاتفاق إذا لم يكن للمطلوب ملجأ يلجأ إليه من حصن يغلقه عليه، أو هرب لا يمكن لحوقه فيه، أما إذا وجد ملجأ [فقد قال] الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب الخراج:"له أن يثبت ويقاتل"، وقال في كتاب أهل البغي:"ليس له أن يقاتل، [بل] يلزمه أن يهرب". فاختلف
الأصحاب في ذلك: فخرجه بعضهم على قولين:
أحدهما: يجب الهرب؛ لأنه ضرب من الدفع وهو أسهل من غيره، وإذا قدر على الدفع بأدنى الأمور لم يعدل إلى أصعبها، وهذا ما قال الإمام قبيل باب ما له لبسه من كتاب صلاة الخوف: إن الظاهر عندي القطع به.
والثاني: له أن يثبت؛ لأن المقام في ذلك المكان مباح، فإذا جاء من يطلب منه ما لا يجب عليه، كان له الدفع بأدنى ما يندفع، ولا يلزمه الانتقال عن مكانه.
قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: ومنهم من بنى الخلاف على وجوب الدفع، فإن قلنا: الدفع واجب، لزمه الهرب، وإلا فلا، [وعلى هذا جرى الإمام].
وقال آخرون: بل هو على اختلاف حالينن وحملوا الأول على ما إذا غلب على ظنه أنه [ينجو، والثاني على ما إذا غلب على ظنه أنه] لا ينجو بالهرب منه.
قال: وهل يجب [ذلك]؟ قيل: يجب؟ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وكما يجب على المضطر من الجوع إحياء نفسه بأكل ما يجده من الطعام، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه الذي قال به سائر الأصحاب، وأنه المشهور، وهو الأصح في "الجيلي".
وقيل: لا يجب، لقوله تعالى:{لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا، فقد ورد في شرعنا ما يقرره، روي عن حذيفة بن اليمان في الصحيح [-كما قال الإمام -] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [لمّا] وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة:"يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ [الزَّمضانُ]؟ فَقَالَ: ادْخُلْ بَيْتَكَ، وَأَخْمِلء ذِكْرَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو دَخَلَ بَيْتِي، فَقَالَ: إِذَا رَاعَكَ بَرِيقُ السَّيفِ فَاسْتُرْ وَجْهَكَ، وَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَن وَلاض تَكُنْ عَبْدَ اللهِ القَاتِلَ"، وفي بعض الألفاظ:
" [وَكُنْ خَيْرَ ابْنَي] آدَمَ"، وعَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل.
وقد صحَّ أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – حين أربدت نفسه منع عنه عبيدَهُ، وكانوا أربعمائة شاكِّين [في] السلاح كما حكاه الإمام، وقال لهم: من ألقى سلاحه فهو حر. والفرق على هذا بنيه وبين المضطر: أن في القتل شهادة يرجو بها الثواب، وليس في ترك الأكل شهادة يُثاب عليها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهوا لمختار في "المرشد"، ثم الرافعي ثم النواوي، وإيراد الماوردي يقتضي ترجيحه، وفي "التهذيب" أن شيخي كان يقول – يعني القاضي الحسين -: إن أمكنه دفعه من غير أن يقتله يجب، ولا يجوز أن يستسلم.
والذي رأيته في "تعليقه": أن الأصحاب أطلقوا القول بأن المقصود بالقتل، بالخيار بين الاستسلام وبين الدفع عن نفسه.
وقلت أنا: إن أمكنه أن يدفعه من غير أن يجرحه أو يقتله يجب عليه الدفع.
وقال في "التتمة": المذهب أنه إن قدر على دفعه من غير تفويت روحه، أو تفويت [عضو من أعضائه – لزمه الدفع، وإن لم يتمكن [من الدفع] إلا بأن يأتي على روحه أو] عضو من أعضائه، ولم نوجمب عليه الهرب إذا قدر عليه
- فهاهنا محل الخلاف، وقد حكى الماوردي: أن أبا إسحاق طرد مذهبه فيما إذا وجد المضطر طعاماً لغيره وهو غير قادر على ثمنه، وفيما لو وجد ميتة، وقال: لا يجب عليه الأكل، بل يكون مخيراً فيه، وجعل محل إيجاب الأكل – جزماً – ما إذا كان مالكاً للطعام، أو واجداً لثمنه، وغيره أوجب الأكل في جميع الأحوال.
ثم إذا لم نوجب الدفع عن النفس، فهل يكون تركه مباحاً أو مندوباًظ حكى الإمام فيه خلافاً عن الأصحاب، وأثبت الخلاف المذكور في الكتاب قولين، وأشار إلى أنهما منصوصان، ثم قال: ولا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثر، وهو شِيَم الصالحينن ويتصور من أوجه يدل البعض منها على الكل، فإذا اضطر الرجل وانتهى إلى المخمصة ومعه ما يسد جوعه، وفي رفقته مضطر، فآثره بالطعام – فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي يتدارك بها المُهَج.
قال: وإن قصد ماله فله أن يدفعه نه لما ذكرناه من قبل.
ولا فرق في ذلك بين ما كثر منه أو قل [ولو درهم]؛ لعموم الخبر، [وحكى الإمام في باب صلاة الخوف أن الأصحاب استنبطوا من نص نقله الأئمة والصيدلاني عن الشافعي: أنه لا يصلي صلاة شدة الخوف فيما إذا أدركه سيل، وعلم أنه لو مر مسرعاً وصلى ماراً مؤمئاً سَلِمَ وسلم ماله، ولو صلى متمكناً أن يهرب ويتلف ماله – قولاً في أن الذابَّ عن المال إذا علم أنه لا يتأتى له دفع قاصد ماله إلا بقتلهن وبما يؤدي إلى القتل – فليس له أن يدفعه، قال: وهذا بعيد جداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، فإذا كان يجوز له أن يعرض نفسه للهلاك بسبب ماله، فَقَتْل الصائل مع الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع أولى.
ومن منع قتل الصائل على المال، لا شك أنه يمنع مالك المال من أن يعرض نفسه للهلاك في الذب عن المال، وإذا قال هذا فيكون مخالفاً للخبر، والله أعلم].
قال: [وله تركه؛] لأنه يجوز له أن يتجه إياه، وفي "التهذيب": أن الأمر كذلك إذا لم يكن المال حيواناً، أو كان ولم يقصد إتلافه، أما إذا قصد إتلافه فإنه يجب عليه الدفع ما لم يخش على نفسه؛ لحرمة ذي الروح.
قال: وإن قصد حريمه –أي كولده وزوجته ونحوهما – بقتل، أو لينال من
أحدهما فاحشة- كما قال الماوردي – وجب عليه الدفع؛ لتحريم إباحة ذلك؛ لأن الحق لغيره، وليس [له] أن يجود بحق غيره.
وقد روي أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل فراودها عن نفسها؛ فرمته بفهر فقتلته، فرُفع ذلك لعمر – رضي الله عنه – فقال: قتيل الله، والله لا نودي هذا ابداًز ولم يخالفه أحد؛ فكان إجماعاً، وهذا ما جزم به البغوي والمتولي، وشرطا في الوجوب: ألا يخاف على نفسه، وإليه أشار الغزالي وإمامه في كتاب السير، كما سنذكره ثَمَّ، إن شاء الله تعالى.
وفي "النهاية" في كتاب الخوف، ما يقتضي جريان الخلاف الذي ذكرناه في وجوب الدفع عن نفسه، والذب عن الحريم؛ فإنه قال بعد حكاية الخلاف في وجوب الدفع عن نفسه: والذب عن [دم] الغير وعن الُحرَم في كل ما ذكرتهن بمثابة ذب الإنسان عن دم نفسه. وكلامه الذي سنذكره من بعد مصرح به أيضاً، وقد حكاه من العراقيين: القاضي أبو الطيب في باب جامع السير، عند الكلام في لقاء الواحد ثلاثة من الكفار، [والماوردي جزم به في صلاة الخوف حين قال: وأما القتال المباح فقتال الرجل عن ماله وحريمه].
وقد احترز الشيخ بلفظة "من" في قوله: ومن قصد قتل رجل، عما إذا صالت عليه بهيمة؛ فإنه يجب عليه دفعها وجهاً واحداً، ولا يجري فيها الخلاف المذكور في الاستسلام، وقد صرّح به الماوردي والإمام وغيرهما.
تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: أنه لا فرق في القاصد من الآدميين لقتل الشخص بين الكافر والمسلم، والمكلف وغيره، إذا كان له تمييز، وهو في هذا الإطلاق متبع للعراقيين، إلا انه لا خلاف في أن القاصد إذا كان حربيًّا لا يجوز الاستسلام له، كما سيأتي في موضعه، وكذلك إذا كان مرتدًّا، وقد الحق بهما الإمام الذمين حيث قال في باب صول الفحل: والوجه القطع [بأنه] لا يجوز الاستسلام له، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لانه بصياله ناقض عهده،
فتسقط حرمته ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، وإن قلنا: إنه لا ينتقض عهده بصياله – كما هو وجه ضعيف – فلا حرمة للذمة حالة القتال والصيال، وعلى الجملة فالاستسلام للكافر ذل، وقد حكى ذلك عن الأصحاب في باب: صلاة الخوف.
وعن "جمع الجوامع" للروياني: أن الصائل إذا كان كافراً فالأولى له أن يقاتل، ويكره له ترك القتال والدفع عند الإمكان. وهذا يشعر بالتجويز كما أفهمه إطلاق [كلامي الشيخ، والمشهور الأول، وفي "الحاوي" إلحاق المجنون بالبهيمة وقال: إنه لو كف عن الدفع كان كالإذن في قتل نفسه، وقد حكى الإمام عن شيخه في كتاب صلاة الخوف طريقة قاطعة تمنع الاستسلام لغير المكلف كما في البهيمة؛ نظراً إلى ما دَلَّ عليه قوله تعالى: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، وهذا ليس بآثم. ثم قال: و [هذا] فيه نظر؛ لأن المحذور قتل مسلم، وهذا متحقق في الصبي والمجنون، ولعله أظهر من جهة أنهما لا يأثمان وليسا كالسبع يصول؛ فإنه يتعين دفعه قطعاً، وعلى ذلك جرى الرافعي، وجعل الأظهر طريقة القولين كما اقتضاه كلام الشيخ وغيره.
الثاني – وهو ما دل عليه المفهوم -: أنه إذا قصد عضواً من أعضائه لا يكون الحكم فيه كالحكم في قصد القتل، والأصحاب مطبقون على أن له الدفع، وساكتون عن الوجوب وعدمه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا ما سأذكره عن الإمام.
الثالث- وهو ما دَلَّ عليه المفهوم أيضاً-: أنه إذا قصد قتل غيره، وليس ذلك الغير من حريمه، لا يكون الحكم فيه كما تقدم، وقد حكيت عن الإمام أنه قال في صلاة الخوف: إن الذب عن دم الغير بمثابة الذب عن دم نفسه في جميع ما ذكرناه.
وقال في باب صول الفحل: إن الذي اختاره المحققون من الفقهاء أن حكمه في حق غيره كحكمه في الدفع عن نفسه حتى يكون واجباً عليه على قولٍ، وبه أجاب في "التهذيب" وعلله بأن الحق لغيره، لويس له أن يجود بحق غيره، لكن بشرط
ألا يغلب على ظنه هلاك نفسه، فإن غلب فلا يجب؛ لأنه لا يلزمه أن يجعل روحه فداء لروح غيره. وهذا لشرط مختار القاضي الحسين في "التعليق"، وحكاه الرافعي عن الشيخ إبراهيم المروزي؛ إذ قال الإمام: وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة، فأما آحاد الناس فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهر السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوَّزه ولم يوجبه، وأن هذا لا يختص بأن يصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان [مُقدِماً] على مُحرَّم فيمنع منه، فإن أبى دفع عنه.
ثم قال: فخرج مما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجه، والكلام في وجوب الدفع، وهذه مرتبة، والمرتبة الأخرى في الدفع عن الغير، وهو مقصود بالقتل أو بفاحشة الزنى، وهاهنا افتراق الفقهاء وأرباب الأصول كما قدمناه، وفي كلام الأصوليين رمز إلى موافقة الفقهاء. والمرتبة الثالثة في الدفع عن المنكرات والمحرمات سوى ما ذكرناه، يعني: كشرب الخمر ورض رأس حيوان محترم كما صرّح به في كلامه من قبل، فالأصوليون مطبقون على: أنه لا يجوز لآحاد الناس شهر السالح، وذهب طوائف من الفقهاء [إلى]: أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا أفضت الحاجة إليه، وعلى [هذا] ينطبق ما جزم به الرافعي فيما إذا رأى شخصاً يتلف مال نفسه، بأن يحرق لبسه ويغرق متاعه، أنه يجوز له الدفع، وفيما إذا كان حيواناً محترماً ورآه يشدخ لبسه ويغرق متاعه، أنه يجوز له الدفع، وفيما إذا كان حيواناً محترماً ورآه يشدخ رأسه، في وجوب الدفع لحرمة الحيوان وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": الوجوب؛ ولذا قال فيما إذا علم أن إنساناً يشرب الخمر في داره أو أن في الدار طنبوراً يضربه: فله أن يهجم عليه ويريق الخمر ويفصل الطنبور، ويمنعهم من الشرب والضرب، وإن [لم] ينتهوا قَاتَلهم عليه، فإن أتى القتل عليهم فهو مثاب عليه، وكذا حكاه الفوراني والعمراني عن الطبري، وحكى الغزالي من أن من الفقهاء من منع [ذلك] إلا للسلطان؛ خوفاً من الفتنة، وهو مأخوذ من قول الإمام: وذهب طوائف من الفقهاء إلى كذا.
قال: وإذا أمكن الدفع بأسهل الوجوه لم يعدل إلى أصعبها؛ لأن هذا فعل
جُوّز للضرورة، ولا ضرورة في الأصعب مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فعلى هذا: إذا غلب على ظنه أن الصائل يندفع بالصياح لم يدفعه باليد، فإن لم يندفع بالصياح – مثل أن كان في موضع لا يلحقه غوث – دفعه باليد إن غلب على ظنه اندفاعه بها، فإن لم يندفع بها دفعه بالعصا إن غلب على ظنه اندفاعه بها، فإن لم يندفع دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بقطع عضو قطعه.
قال: فإن لم يندفع – أي: في ظنه – إلا بالقتل فقتله لم يضمنه، أي: بقود ولا دية ولا كفارة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، والشهيد مظلوم، وللمظلوم دفع الظلم عن نفسه بالقتال، وما أبيح من القتال لم يجب به ضمان؛ لقوله تعالى:{وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 41، 42]، وقد روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن صفوان ابن يعلي بن أمية عن أبيه أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة العسرة، وكان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما [يد] صاحبه، [فانتزع يده من فيه]؛ فانتزع ثنيَّته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم [فأهدر ثنيته] وقال:"أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَعَضُّهَا كَأَنَّهَا [فِي] فِي فَحْلِ".
ولما ذكرناه من قصة عمر – رضي الله عنه – في التي خرجت بالحطب.
فإن قيل: أليس قد روي أنه – عليه السلام – قال: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَاّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانِن وَزنَِى بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيرِ نَفْسٍ"، وهذا غير هذه الثلاثة؛ فلا يجوز القتل به.
قيل: إن المباح – هاهنا – ليس [هو] القتل، وإنما هو الدفع، فإن أدى إلى
القتل فهو سراية متولدة من فعل مباح من غير قصدٍ [ما] إلى القتل؛ فلم يكن مخالفاً للخبر، وعلى أن الزيادة تجوز في مثل هذا بالدليل، كما زِيدَ قتل الحية والسبع العادي على الخمس التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتله، في الحل والحرم، وهذا السؤال قد أورد – أيضاً – على قتال أهل البغي، وأجيب عنه بهذا الجواب. وقال الماوردي: للخبر تأويلان [يغيبان عن الجواب]:
أحدهما: لا يحل قتله صبراً إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل صبراً، وإنما ينتهي حاله إلى القتل دفعاً.
والثاني: لا يحل قتله بسبب متقدم إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل بمتقدم، وإنما يقتل بسبب حادث في الحال.
وحكى الإمام أن بعض الأئمة نقل للشافعي – رضي الله عنه – قولاً قديماً أنه لا يجوز الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا [بقتل القاصد] أو بإتلاف عضو من أعضائه، ثم قال: وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس فهو بعيد في الحكاية، والمتولي روى ذلك وجهاً.
قال الماوردي: وهذا التدريج في غير الدفع عن الفاحشة، أما إذا رأى رجلاً، وقد أولج في فرج أهله تعجل الدفع وتغلظ، فيجوز أن يبدأ بالقتل ولا يترتب على ما قدمناه؛ لأنه في كل لحظة تمر عليه مواقع، فجاز [لأجلها أن يعجل] القتل، قال: وعلى هذا ففي هذا القتل وجهان محتملان:
أحدهما: أنه قتل دفع؛ فيختص بالرجل دون المرأة ويستوي فيه البكر والثيب.
والثاني: [أنه] قتل حد؛ فعلى هذا يجوز أن يجمع فيه بين قتل الرجل والمرأة إذا كانت مطاوعة، إلا أن المرأة يفرق فيها بين البكر والثيب؛ فيقتلها [إن كانت ثيباً، وتُجلد إن كانت] بكراً وتغرب.
وأما الرجل ففيه وجهان:
[أحدهما]: يفرق فيه بين البكر والثيب أيضاً.
والثاني- وهو الأظهر -: لا يفرق، ويقتل في الحال؛ لأن القتل في الحال أغلظ من قتله دعاً، وهو يجوز وإن لم يكن محصناً.
ثم إذا خالف المصول عليه في الترتيب الذي ذكرناه وعَدَل إلى الدفع باليد مع إمكان الدفع بالكلام – ضمن، وكذا إذا عدل إلى الضرب بالعصا مع إمكان الدفع باليد، فأتى الضرب عليه – ضمنه، ومن طريق الأولى إذا عدل إلى قطع العضو مع إمكان الدفع بالجرح، أو إلى القتل مع إمكان الدفع بالقطع. نعم، لو كان يمكن دفعه بالسوط، وليس معه إلا سيف أو سكين لو قَصَدَهُ لَقَتَلَهُ – فهذا فيه تردد.
قال الإمام: لأن الدفع ممكن من غير قتل، لكن [ليس] يتأتى الدفع في هذه الحالة إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط، وهذا ما جعله في "الوسيط" الظاهر.
وقد حكى الإمام أن صاحب "التقريب" قال: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدئ الدفع فعلاً من غير تقديم إنذار بالقول؟ فإن هذا عندي يتخرج على استتابة المرتد، وفيها قولان: ثم قال الإمام: وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولابد فيه من تفصيل؛ فإن الأصحاب أطلقوا أقوالهم: إن أمكن الدفع بالقول فلا يعدل عنه إلى الفعل؛ فالوجه: [القول] الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل إن أمكن الدفع به؛ فلا يجوز أن يكون في وجوب البداءة به خلاف. والذي ذكره صاحب ["التقريب"] إنذار لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو قريب منها، فإن أوجبناه فلم يفعله المصول عليه وفعل غيره ضمن بتركه، وليس كما إذا أوجبنا استتابة المرتد فلم يستتب، وابتدر مبتدر فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من
جهة أن الردة مهدرة، وهي واقعة.
قال: وإن اندفع، أي: إما بنفسه أو باليد، أو بضرب بعصا أو بجرح – [لم يتعرض إليه] لزوال السبب المسلط، وهكذا الحكم فيما لو كان قد أخذ المال فتبعه صاحبه، فألقاه إليه، لم يجز له اتباعه، فإن اتبعه فأتى عليه في نفس أو غيرها – ضمن.
قال: وإن اطلع رجل في بيت رجل، أي: فنظر حريمه، وليس بينهما محرمية – جاز رمي عينيه، أي: في حالة النظر بما يعميها مع إمكان زجره بالكلام؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَاتَ عَيْنَهُ – فَمَا عَلَيكَ جُنَاحٌ"، وفي بعض ألفاظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفُقِئَ عَينُه فَلَا دِيةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ".
وروى – أيضاً – بسنده عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجلٍ ينظر في حجرة من حُجَرِهِ صلى الله عليه وسلم من صِيرِ بابهن وبيده مدرى يحك بها رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لَوْ أَعْلَمُ أَنَكَ تَنْظُرُنِي، أَوْ تَنْظُرُ لِي؛ لَقَلَعْتُ بِهَا عَينَكَ، أَوْ لضطَعَنْتُ بِهِ فِي عَينِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ".
والمدري – كما قال أبوا لطيب -: حديدة صغيرة يفرق بها الشعر، وتُسمى بـ"العراق": المخيط، يستعملها النساء.
وقيل: ليس له أن يرميه قبل أن ينهاه؛ كما في الصائل، والأحاديث محمولة على ما إذا داوم النظر بعد النهي، فعلى هذا لو رماه قبل النهي ضمن، وهذا ما نسبه ابن الصباغ والبندنيجي إلى الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكذلك الماوردي نسبه إليه وإلى القاضي أبي حامد وجمهور البصريين، والغزالي نسبه إلى القاضين يعني: الحسين. وفي "المهذب" نسبة الأول إلى القاضي أبي حامد والشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو المختار في "المرشد"، والمجزوم به في "الإبانة"، وقال الماوردي: إنه قول ابن أبي هريرة، وأكثر البغداديين.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: نسبته إلى شيخه أبي الحسن الماسرجسي، ثم أشار إلى أنه مذهب الشافعي – رضي الله عنه – لأنه قال بعد حكاية الوجه الثاني: وهذا خلاف مذهب الشافعي، رضي الله عنه. قال الغزالي: وكأن الفرق أن النظر إلى الحرم جناية تامة؛ فإن ما رآه وانكشف له لا يستر باندفاعه بعده، لكن لا خلاف أنه بعد الاندفاع لا يقصد عينه بالجناية السابقة، فكأن المسلط الخاصية المذكورة مع وجود الجناية.
ثم قال القاضي أبو الطيب: نعم، قال الأصحاب: يستحب له ألا يرميه في أول الاطلاع، ويأمره بالانصراف عنه، فإن رماه قبل أن يأمره فقد ترك الاستحباب ولا ضمان عليه، ويأتي في وجوب هذا الإنذار إذا أوجبناه في الصائل بغير النظر خلاف صاحب "التقريب".
[قال:] ويرميه بشيء خفيف، أي: مثل حصا الخَذْف والعُود بقدر المدْرَى؛ لأن المستحق بالجناية فقء العين التي جنت، والخفيف يحصله، والكثيف يزيد عليه؛ فلا يجوز، ثم إذا رماه بشيء خفيف؛ ففقأ عينه، أو أصاب قريباً من عينه، فجرحه – فلا ضمان عليه، وكذا إذا سرى فَقْءُ العين إلى النفس فمات، كما صرّح به في "التهذيب".
ولو أصاب موضعاً بعيداً من عينه، لا عن قصد، فهل يضمن؟ قال في "الشامل": لا، وفي "التهذيب": فيه وجهان. وقال: إنهما جاريان فيما لو لم يمكنه إصابة عينه، فأصاب موضعاً آخر، وجزم في "الشامل": بالمنع من الرمي إلى
غير العين، وقد وافق عليه البغوي عند إمكان الرمي إلى العين.
قال: فإن رماه بحجر [ثقيل] يقتل، فقتله؛ فعليه القود لتعديه.
قال: فإن رماه بشيء خفيف، فلم يرجع – استغاث عليه، فإن لم يلحقه غوث فله أن يضربه بما يردعه [عنه]؛ لوضوح عذره؛ كما في الصائل.
قال في "المهذب": والمستحب له قبل الضرب بما يردعه أن يخوفه بالله تعالى. ونسب ابن الصباغ هذا إلى نص الشافعي، رضي الله عنه.
أما إذا كان في البيت محرم للناظر، مثل أمه وأخته ونحوهما – نُظِر: فإن كان منكشفاً متجرداً هو كالأجنبية؛ فيجوز رميه؛ لأن النظر إليه حرام، كذا أطلقه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يقال له إذا كان في الدار امرأة متجردة: انصرِفْ؛ فإن هاهنا عورة مكشوفة، فإن لم ينصرف وحلَّ منه مايحل من الأجنبي، ثم قال: وهذا نص في: أنه لا يجوز حتى يتقدم إليه بما هو أيسر منه؛ وهو الإضراب، ولو كان المحرم مستترة لم يجز رميه.
قال الإمام: وإن كان لا يجوز له أن ينظر؛ لجواز أن يكون في الدار حرم لصاحب الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقط جواز قصد عينه.
وفي "حلية" الشاشي: أن المطلع إذا كان من المحارم الذي يجري بينهما القصاص، في جواز رميه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد: يجوز.
وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز.
وهما كذلك في "الحاوي"، وجزم في "الإبانة" بمنع الرمي.
وقد ألحق بهذه الحالة ما إذا كان للمطلع في البيت مال، وحُكْم الرجل إذا كان في البيت وحده مكشوف العورة حكم الأجنبية؛ فيجوز له رمي عين الناظر، صرّح به أبو الطيب والبغوي، ولو لم يكن مكشوف العورة، فالذي حكاه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: منع الرمي.
وفي "الحاوي" أنه كالمرأة سواء، وفي "التهذيب" و"عدة" الطبري و"النهاية" و"الإبانة" فيه وجهان جاريان فيما لو كان له فيها حريم وهن متسترات بالثياب، ورأى الإمام الأظهر – هاهنا-: جواز الرمي؛ لاشتمال الدار على الحرم.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "وإن اطلع رجل" عما إذا اطلع امرأة أو صبي مراهق؛ فإن في جواز رمي عينه وجهين في "التهذيب"، [و] المذكور منهما في "الشامل" و"عدة" الطبري و"الإبانة" في المرأة: الجواز؛ لأن الإنسان يستر عورته من النساء والرجال.
وبقوله: "في بيت رجل" عما إذا دخل رجل بيت رجل بغير أمره؛ فإنه يأمره بالخروج من غير ضرب، فإن امتنع دَفَعَه، فإن لم يندفع ضربه، وبأي عضو يبدأ؟ فيه وجهان في "العدة" وغيرها:
أحدهما: بالرِّجل؛ لأنها الجانية، كما في النظر تفقأ العين، فعلى هذا لو ضرب غير الرِّجْلِ ضمن، قاله في "التهذيب" وقال الإمام: هذا الوجه غلط لا أصل له.
والثاني: له ضرب أي عضو شاء؛ لأنه دخل بجميع بدنه، فلو أتى الضرب عليه لم يضمنه، ولو دفعه قبل أن يأمره بالخروج، فهل يضمنه؟
فيه وجهان في "التهذيب"؛ كما لو رمى الناظر قبل النهي، والمذكور – في "تعليق" أبي الطيب -: الضمان.
نعم، قال: لو كان في البيت امرأة ليست بمحرم للداخل فنظر إليها، فهل يجوز رمي عينه وطعنها؟
قال [أبو علي] بن أبي هريرة والطبري: نعم؛ لأنه إذا جاز ذلك إذا نظر من خارج الدار؛ فمن داخلها أولى.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز، بل يأمره بالانصراف، فإذا لم ينصرف ضَرَبه؛ لان الحكم لما انتقل غلى جميع النفس سقط اعتبار الطروء.
وعما إذا قعد إنسان في طريق هو وزوجته وهي مكشوفة العورة؛ فنظر غليها
ناظر، لا يجوز رميه؛ لأن التفريط من المنظور.
وكذا لو جلس مع امرأته، أو وحده مكشوف العورة في مسجد [وأغلق بابه]، فنظر إليهما نظار، لا يجوز رميه؛ لأن التفريط منهما؛ فإن الجلوس في المسجد لا يجوز هكذا، ولأنه لا يختص بقوم دون قوم؛ فهو بمنزلة الجلوس في الطريق.
ثم كلام الشيخ يشمل ما إذا كان الباب مغلقاً أو مفتوحاً، ونظر منه النظار أو من كوة في البيت واسعة، وقد قال الأصحاب: إن نظر وهو مختار – لم يجز رميه، فإن فعل ضمن، وإن وقف طويلاً ينظر فهل يجوز رميه؟ فيه وجهان، اختيار الشيخ أبي حامد: الجواز، وأصحهما في "التهذيب": المنع، وهو المختار في "المرشد"، ولم يحك الفوراني – وكذا الإمام – سواه، وطرده فيما إذا سقط شيء من جدار البيت، فنظر ناظر من تلك الثلمة.
وأجرى البغوي الوجهين فيما لو نظر إليه الناظر من سطح بيته، أو المؤذن من المنارة، وكلام الشيخ يقتضي الجزم [بالرمي] فيهما، وهو المذكور في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي و"العدة" و"الإبانة" و"النهاية"، [وفيما] إذا نظر إليه من سطح بيته.
ولا خلاف [في] أن المشرف لو كان أعمى، [لا يجوز] رميه؛ لان الأعمى لا تأثير لاطلاعه؛ فلو رماه ضمنه، سواء كان عالماً بعماه أو جاهلاً به. صرّح به في "التهذيب".
ولو كان النظار مخطئاً في النظر؛ بأن وقع اتفاقاً، لم يكن لصاحب الحريم أن يرميه مع العلم بحاله، فإن رماه حين اطلع فأصاب عينه، لم يضمن؛ لأن الاطلاع قد وجد في الظاهر، [ولا يعلم] ما في قلب المطلع من القصد وعدمه، فلا ينسب إلى التفريط في رميه إيَّاه. ذكره ابن الصباغ والطبري.
فرع: لو وقف واقف بباب دار، وكان يسترق السمع – فلا يجوز أن يقصد أُذنه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه باستراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. قال الإمام: وهذا لا يجوز غيره، وقد قطع به القاضي لما سئل عنه.
وفي بعض التعاليق عن شيخي: تنزيل الأذن منزلة العين، وهذا لم أسمعه ولم أثق بمن علق عنه ذلك فيما زعم، ولم أورد هذا ليعتد به، ولكني نبهت على غلطه.
قال: وإن عض يد إنسان فنزعها منه، فسقطت أسنانه لم يضمن؛ لما ذكرناه من حديث صفوان بن يعلي بن أمية، وقد روى عمران بن الحصين أيضاً "أَنَّ رَجُلاً عَضَّ آخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ؛ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَبْطَلَهَا". خرجه مسلم، ولغيره:"وَقَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَقْضِمَ يَدَ أَخِيكَ كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ".
والقضم بالأسنان، والخضم بالأضراس، وقد روي عن الحسن أنه قال: يخضم ويقضم.
ولأن النفس لا تضمن بالدفع؛ فالأطراف أولى، وهذا إذا لم يمكنه تخليصها بدون سقوط الأسنان.
أما إذا أمكن بأن قدر على فتح فيه بيده الأخرى، وإخراج يده فلم يفعله ونتر يده، أو لم يمكن ذلك، وأمكن بضرب فكه دون غيره، فلم يفعله ونترها، فسقطت أسنانه – ضمن؛ لما ذكرناه في دفع الصائل.
قال الشافعي – رضي الله عنه – في "الأم": "وسواء كان العاض ظالماً أو مظلوماً؛ لأن نفس العض محرم على كل حال".
قال: فإن لم يقدر على تخليصه، أي: إلا بفك لحييه، ففك لحييه – لم يضمن؛ كما لو لم يتمكن من دفع الصائل إلا بقطع طرفه، وهكذا لو لم يقدر على تخليصه إلا ببعج بطنه وعصر خُصْيَيْه وما أشبه ذلك، كان له فعله، صرّح به القاضي أبو الطيب.
فرع: لو عض قفاه كان له تخليصه بما يقدر عليه، فإن أمكنه بيده ضرب فكه لا غير، فإن لم تنله يداه تحامل على رأسه مصعداً أو منحدراً، فإن لم يتمكن من ذلك كان له بعج بطنه وعصر خُصْيَيه إذا لم يقدر على الخلاص بأيسر من ذلك.
قال الإمام: وهذا أصح، فإن خطر لذي خاطر أن [منتهى عضِّ العاض] خدش أو إيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد فلساً في الدفع عنه، فلو خالف ودفع بنوع من قدرته على الدفع بدونه ضمن، وعلى هذه الحالة حمل ما نقله المزني عن الشافعي – رضي الله عنه:[أنه] إذا بعج بطنه بسكين أو فقأ عينه بيده، أو ضربه في بعض جسده – ضمن.
وفي "الزوائد": أن صاحب ["العدة"] وكذا صاحب "الإبانة" قالا: وأخطأ بعض أصحابنا وأجرى هذا اللفظ على ظاهره وقال: يضمن الطاعن وإن لم يمكن الدفع إلا به؛ لأن العاض قصده بغير سلاح؛ فليس له دفعه بالسلاح.
وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني، وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية فلا أصل له، والذي أراه أن يترك فعله إذا كان القصد من الجاني لا ينتهي إلى قتل أوف فساد [عضو]، فإن كان ينتهي إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخليص العضو الذي منه الجناية بالدفع – فالوجه: القطع بتسليط المصول عليه على الدفع، فإن ظن ظانٌّ أن الوجه الضعيف الذي حكيناه يوجب أن تختص اليد الصائلة بالدفع إذا احتوت على قبضه السيف، فقد أخطأ في ظنه؛ فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً
من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملته، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك أو فساد عضو.
[قال:] وإن صالت عليه بهيمة، فلم تندفع إلا بقتلها [فقتلها] – لم يضمن؛ لأنه دفعٌ مباح بالاتفاق، فوجب ألا يكون مضموناً على الدافع؛ كالآدمي المكلف من حُرّ أو عبدن بل أولى؛ لأن ضمان الآدمي آكد من ضمان البهيمة، وقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على إهدار دمه.
فرع: لا يجوز للإنسان أن يدخل بيت شخص إلا بإذنه، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً، ثم إن كان أجنبيًّا أو قريباً غير محرم؛ فلابد من إذن صريح، سواء كان الباب مغلقاً أو مفتوحاً، وإن كان ذا محرم: فإن كان ساكناً مع صاحب البيت فيه، فلا يلزمه أن يستأذن، ولكن عليه إذا أراد الدخول أن يشعر بدخوله بالنحنحة وشدة الوطء، ونقل الخُطا ليستتر العريان، ويفترق المجتمعان، وإن لم يكن المحرم ساكناً معه، فإن كان الباب مغلقاً لم يجز الدخول إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً ففي وجوب الاستئذان وانتظار الإذن وجهان:
أحدهما: يجب عليه الاستئذان، ويحرم عليه الدخول بغير إذن؛ لجواز أن يكون رب الدار على عورة.
والثاني: لا يلزمه الاستئذان، ويلزمه الإشعار بالدخول بالنحنحة والحركة الشديدة. قاله الماوردي، والله أعلم.