المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب قتل المرتد - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب قتل المرتد

‌باب قتل المرتد

الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 28].

فالمرتد - لغة - كما قال الشافعي [رضي الله عنه:] من رجع عن شيء كان عليه.

وقيل: بمعنى الامتناع عن أداء الحق، يقال: فلان مرتد، أي: ممتنع عن أداء الحق، ومنه إطلاق اسم الردة على مانعي الزكاة في زمن أبي بكر، رضي الله عنه.

وفي الشرع: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر من مكلَّف؛ بنية أو فعل صريح في الاستهزاء: كالسجود للصنم ونحوه، والاستخفاف بالمصحف والكعبة، أو يقول عناداً، أو استهزاءً أو اعتقاداً، أو باستحلال حرام، أو تحريم حلال مجمع عليه، كما قاله القاضي الحسين، ومنه: اعتقاد أن السحر حلال، وكما ذكرناه عن البندنيجي، وهذا هو الصحيح.

قال الإمام: وفي بعض التعاليق عن شيخي: أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، وهذا زلل من المعلِّق، وسنذكر في آخر الباب شيئاً من تفصيل ما أجملناه في الضابط.

ولا خلاف في أن الارتداد محظورٌ لا يجوز الإقرار عليه، وهو أنجس أنواع الكفر وأغلظها، كما قال الله - تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ

ص: 304

وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [البقرة:217]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 89]، وغير ذلك من الآيات.

قال: تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار بالإجماع، والمعنيُّ بالصحة [هاهنا]: ترتُّبُ الأحكام أو بعضها عليه.

قال: فأما الصبي والمعتوه فلا تصح ردتهما، أي: سواء كان لهما تمييز أو لا؛ للخبر المشهور، ولأن المجنون – ومن لا تمييز له – لا تصح ردته إجماعاً.

فنقول فيمن له تمييز: آدمي غير مكلف، فلا تصح ردته قياساً عليهما، لكن الذي يمتاز به عليهما عندنا أن الإمام يخوفه ويهدده ولا يقتله؛ كما قاله البندنيجي حكاية عن الشافعي، رضي الله عنه.

وفي كلام الإمام إشارة إلى حكاية خلاف في صحة ردته؛ فإنه قال: وسبيل الردة الصادرة منه كسبيل صدور الإسلام منه؛ كما ذكرناه في اللقيط.

وكما لا تصح الردة من المجنون، لا يقتل في حال جنونه إذا كان قد ارتد في حال إفاقته؛ لأنه ربما عاد إلى الإسلام لو عقل، وكذا لو أقر على نفسه بالزنى، أو بحد من حدود الله - تعالى – في حال إفاقته؛ لا يستوفي منه [في] حال جنونه؛ كما قاله القاضي الحسين في باب: عفو المجني عليه ثم يموت، قال: بخلاف ما لو ثبت عليه بالبيّنة ثم جن؛ فإن الظاهر أنه يستوفي، لكن هذا التأخير على سبيل الاحتياط، حتى لو قتل في حال الجنون، أو حُدَّ من فعل الردة أو سبب الحد – لم يجب على الفاعل شيء.

قال: وتصح ردة السكران؛ لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعوا على تكليفه، وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – هنا، حيث قال: وإن ارتد سكران، فمات كان ماله فيئاً، ولا يقتل إن لم يتب حتى يمتنع مفيقاً. وبه جزم القاضي أبو الطيب.

ص: 305

قال: و [قيل] فيه قولان، سبق توجيه نظيرهما في [كتاب] الطلاق وغيره، وأن الأظهر: هذه الطريقة، وأن أصح القولين فيها: جعْلُهُ كالصاحي.

التفريع: إن قلنا بالصحة فلا يقتل حتى يُفيق، فيعرض عليه الإسلام فيمتنع، وفي صحة استتابته [في حال السكر] وجهان في "الحاوي" و"التهذيب":

أحدهما: أنها تصح كما تصح ردته، لكن المستحب أن يُؤخَّر إلى الإفاقة. قال الماوردي: وهذا ظاهر مذهب الشافعي – رضي الله عنه – وبه قال أبو إسحاق.

والثاني- وهو المذكور في "الشامل" -: المنع؛ لأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة، ولو عاد إلى الإسلام في السكر صح إسلامه، وارتفع حكم الردة.

وقد روي عن الشافعي –رضي الله عنه أنه قال: لو رجع إلى الإسلام لم أُخَلِّ سبيله حتى يفيق، فإن وصف الإسلام كان مسلماً من حين وصف الإسلام، وإن وصف الكفر كان كافراً [الآن]؛ لان إسلامه صح، وإنما أحبسه استظهاراً. وبهذا جزم أبو الطيب في "تعليقه"، وكذلك قال فيما إذا كان قد ارتد وهو صاحٍ، ثم أسلم وهو سكران، وقد تقدم طريق عن [ابن] أبي هريرة

ص: 306

في [أن] تصرفات السكران ينفذ منها ما عليه بلا خلاف، والقولان فيما له، فعلى هذه الطريقة يجيء قول كما قال الماوردي [وغيره]: أنه لا يصح إسلامه بعد ارتداده؛ لأنه تخفيف، وإن صحت ردته، وإن كان بعد كفر يُقَرّ عليه كالذمي؛ صحَّ لأنه تغليظ.

وأطلق القاضي الحسين قولاً: أنه لا يصح إسلامه، وإن صحت ردته.

وعن رواية ابن كج طريقة أخرى قاطعة: بأنه لا يصح عوده إلى الإسلام، وحكى الجزم بالمنع فيما لو كان قد ارتد صاحياً، ثم سكر فأسلم، قال الماوردي: وما صار إليه ابن أبي هريرة خطأ؛ لأن السُّكْرَ إن سلبه حكم التمييز وجب أن يعم كالمجنون، [وإن لم] يسلبه حكم التمييز وجب أن يعم كالصاحي، ولا يصح أن يكون مميزاً في بعض الأحكام وغير مميز في بعضها؛ لتناقضه في المعقول، وفساده في الأصول؛ فثبت بهذا أن الظاهر: الأول، وعلى هذا لو قتله قاتل تعلق به الضمان والقصاص.

وذكر الإمام: أن بعض الأصحاب يشير به إلى الفوراني، فإنه مذكور في "إبانته"؛ ذكر قولاً في إهداره أخذاً من الخلاف فيما إذا اسلم أحد أبوي الطفل بعد علوقه على الكفر، ثم بلغ وقُتِل قبل أن يعرب عن نفسه بالإسلام، هل يجب الضمان على قاتله أم لا؟ والتقريب: أن الإسلام الصادر من السكران حكميّ؛ إذ ليس له عقل صحيح، كما أن الإسلام الحاصل بتبعية أحد الأبوين حكميّ، ثم قال: إنه ليس بشيء، وإن قلنا بعدم صحة ردته، فلو قتله قاتل تعلق بقتله القصاص والضمان، وفي وجه: لا يجب القصاص للشبهة، وتجب الدية، ويحكي هذا عن [ابن] القطان.

قال: وأما المكره فلا تصح ردته، [أي]: إذا كان قلبه مطمئناًّ بالإيمان؛

ص: 307

لقوله – تعالى: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، ويجوز له النطق بكلمة الردة بالشرط المذكور، وهل يجب؟ فيه وجهان، أصحهما: المنع مصابرة وثباتاً على الدين، كما يعرض نفسه للقتل في الجهاد ذبًّا عن الدين، وعلى هذا فالأفضل أن يثبت ولايتكلم بكلمة الردة.

ومن الأصحاب من قال: إن كان ممن يتوقع منه النكاية [في العدو] والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلم بها، ويدفع القتل عن نفسه؛ لما في بقائه من الصلاح، وإلا فالأفضل أن يمتنع، وهذا ما أورده الماوردي، واختاره في "المرشد".

أما إذا أُكره على التلفظ [كلمة الردة]، فاعتقد ذلك بقلبه – صحت ردته؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106].

ولو تجرد قلبه في حالة الإكراه على التلفظ بكلمة الردة عن [اعتقاد الإيمان والكفر]، ففيه وجهان في "الحاوي":

أحدهما: أنه باق على إسلامه؛ لأن ما حدث من الإكراه معفو عنه.

والثاني: أنه يكون مرتداً حتى يدفع حكم لفظه بمعتقده؛ لأنه لا عذر له في تركه.

قال: وهكذا المُكْرَه على الطلاق، تعتبر فيه هذه الأحوال الثلاثة في لفظه ومعتقده.

ولا خلاف أن الحربي والمرتد إذا أُكرِها على الإسلام صح إسلامهما؛ كما حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما، وفي صحة إسلام الذمي بالإكراه عليه وجهان في "المهذب" في [موضع منه لم يحضرني ذكره]، وفي "النهاية" في كتاب الظهار، وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب صفة العمد، والمجزوم به منهما في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب [و"الذخائر" وغيرها] في باب قتل المرتد:[المنع]، كما في الإكراه على الردة، [وهو في

ص: 308

موضع آخر من المهذب]، ونقل مجلي أن الغزالي قال: إن الصحيح أن المرتد إذا حُمل على التوبة بالسيف فلا أثر لها، ومذهب الشافعي – رضي الله عنه – الأول، وقد حكى عن [أبي] إسحاق أيضاً.

قال: وكذا الأسير في يد الكفار، أي: مقيداً [كان] أو محبوساً، لا تصح ردته، أي: سواء طلبت منه أم لا؛ لأن الحبس والقيد إكراه، وهذا ما حكاه الرافعي والقاضي أبو الطيب عن النص، لكن في كلام الأصحاب ما يقتضي خلافه؛ فإنهم قالوا: إذا قامت بيّنة على شخص بأنه ارتد بقوله كذا وكذا، فقال: كنت مكرهاً فيما أتيت به- نظر: فإن كانت قرائن الأحوال تشهد له بأنْ كان في أسر الكفار، أو كان محفوفاً بجماعة منهم وهو مستشعر – صدق بيمينه، وإنما حلف؛ لاحتمال كونه مختاراً؛ [فإنه يصح ذلك الكلام]. وإن لم تشهد القرائن [بصدقه]؛ بأن كان في دار الإسلام – [لم] يقبل قوله، وأجري عليه أحكام المرتدين.

وهكذا الحكم لو كان في دار الحرب وهو آمن؛ لكونه في خلوة، [و] لا يشعر به أحد منهم، وهذا يقتضي أن محل عدم الحكم بردته إذا ادعى الإكراه، مع كونه في أيدي الكفار، أما قبل الدعوى واليمين فلا، ويؤيده ما حُكي عن القفال أنه لو ارتد الأسير في أيدي الكفار، ثم حَلَّ بهم خيل المسلمين، فاطلع عليهم من الحصن وقال: أنا مسلم، وإنما تشبهت بهم؛ فَرَقاً منهم – يقبل قوله، ويحكم بإسلامه، وإن لم يدَّعِ ذلك حتى مات، فالظاهر أنه ارتد طائعاً، وإن مات أسيراً.

ولو رجع الأسير إلى بلاد الإسلام، ومات قبل أن يظهر إسلامه – هل يورث؟ قياس ما ذكرناه عن القفال: لا، وقد صرح الماوردي بحكايته عن

ص: 309

ابن القطان وقال: إنه يموت كافراً، وكان من حقه إذا جاءنا أن يتكلم بكلمة الإسلام.

وقال القاضي الحسين: يحتمل قولين؛ بناء على ما قلنا في الصبي المحكوم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه، فبلغ ومات قبل أن يظهره: ما حكمه؟ فعلى قولين.

وجزم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما [فيما] إذا قامت البينة على إكراهه على الردة في دار الحرب، ثم عاد إلى [دار] الإسلام – بأنه يؤمر بإظهار الإسلام، فإن امتنع كان مرتدًّا من حين ارتد في دار الحرب، لأنَّا تبيَّنا أنه لم يكن مكرهاً [عليه]، وهذا ما حكاه الإمام عن صاحب "التقريب" والعراقيين، [ثم قال]: وفيه عندي احتمال ظاهر؛ فإنه لم يسبق منه اختيار، والأمر محمول على ظاهر الإكراه، ويلزم منه دوام حكم الإسلام [له] مستمرًّا، [وامتناعه من] تجديد كلمة الإسلام لا يغيّر الحكم بإسلامه.

ثم هذا العرض: هل هو [مستحب أو واجب]؟ سكت عنه المعظم، وعن ابن كج: انه مستحب، واحتج له بأنه لو أكره على الكفر في دار الإسلام، لا تعرض الكلمة عليه بعد زوال الإكراه باتفاق الأصحاب. ثم إنه شرط في هذا العرض ألا يؤم الجماعات، ولا يقبل على الطاعات بعد العود إلينا، فلو فعل ذلك [استغنى عن العرض].

قال: ومن ارتد عن الإسلام استحب [له] أن يستتاب في أحد القولين؛ لرجاء توبته، وإنما لم تجب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، ولأن وجوب الاستتابة يوجب حظر دمه قبلها وضَمانَه، كما يجب على قاتل من لم تبلغه الدعوة لما كان التبليغ واجباً، وهو غير مضمون [الدم]؛ فدلَّ على استحبابها،

ص: 310

وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة كما حكاه الرافعي، وقال القاضي الحسين: إنه اختيار الماسرجسي.

ويجب في الآخر؛ لما روى عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلا قُتِلَتْ".

وروى أبو بكر بن المنذر أن ابن مسعود كتب إلى عثمان –رضي الله عنه – في قوم ارتدوا، فكتب [إليه] عثمان –رضي الله عنه: ادعهم إلى الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوا فخلِّ عنهم، وإن امتنعوا فاقتلهم، فأجاب بعضهم؛ فخلى سبيله، وامتنع بعضهم؛ فقتله.

ولأن الأغلب من حدوث الردة: أنه لاعتراض شبهة؛ فلم يجز الإقدام على القتل قبل كشفها والاستتابة منها، كأهل الحرب: لا يجوز قتلهم إلا بعد بلوغ الدعوة، وإظهار المعجزة، وهذا أصح في "الحاوي". وعند النواوي والقاضيين الطبري والروياني.

وقال القاضي الحسين: إنه اختيار ابن أبي هريرة وابن المرزبان.

قال: وفي مدة الاستتابة قولان، أي: سواء قلنا باستحبابها أو بوجوبها، كما قاله الماوردي والبندنيجي وغيرهما:

أحدهما: ثلاثة أيام؛ لما روي أن رجلاً قدم على عمر – رضي الله عنه – من الشام، من قِبَلِ أبي موسى الأشعري، فقال له عمر – رضي الله عنه: هل فيكم من مُغَرّبةِ خبرٍ؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه فقتلناه، وفي رواية أنه قال: لا، إلا أن نصرانيًّا أسلم، ثم ارتد؛ فقتله أبو موسى، فقال عمر – رضي الله عنه: "هَلَاّ حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثاً، وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَومٍ رَغِيفاً، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ؛ لَعَلَّهُ

ص: 311

يَتُوبُ؟! اللَّهُمَّ لَمْ أُحْضَرْ، ولَمْ آمُرْ، وَلَم أرْضَ إِذْ بَلَغَنِي، اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ مِنْ دَمِهِ! "، وفي رواية: مما فعله أبو موسى.

ولأن المقصود منه استبصاره في الدين، ورجوعه [إلى] الحق، وذلك مما يحتاج فيه إلى التروِّي والفكر، فأمهل بما يُقَدَّر في الشرع من مدة [هي] أقل الكثير وأكثر القليل، وذلك ثلاثة أيام.

قال الماوردي: وعلى هذا يكون إمهال الثلاث على قولٍ مستحبًّا، وعلى قولٍ واجباً.

وذهب بعضهم – كما حكاه غيره- إلى أنه لا خلاف في انه لا يجب الإمهال ثلاثاً، وإنما الخلاف في الاستحباب، وهذا ما يحكي عن اختيار الشيخ أبي محمد في "المنهاج"، فإن قلنا: لا يستحب، منع منه، وعلى كل حال: لا يخلي سبيله، بل يحبس حتى تنقضي مدته، كما أشار إليه عمر، رضي الله عنه.

قال: والثاني: في حال، وهو الأصح؛ لما روى ابن المنذر عن جابر أن امرأة يقال لها [أم] رومان، ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بأن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت.

[وَرَوُى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلا قُتِلَتْ]. ولم

ص: 312

يقدر فيها بالثلاث، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، ولقصة عثمان التي ذكرناها، ومن جهة القياس: أنه حَدٌّ، فلم يؤجل فيه كسائر الحدود.

قال البندنيجي: وهذا ما اختاره الشافعي والمزني، رضي الله عنهما.

وقال ابن الصباغ: إنه الذي نصره الشافعي، رضي الله عنه.

وفي "الوسيط": أنا على هذا القول لو قال: أمهلوني؛ ريثما تنجلي شبهتي بالمناظرة، فهل يمهل؟ فيه قولان، والإمام حكاهما عن رواية العراقيين، والذي أورده منهما القاضي الحسين، وحكاه الروياني عن النص: الإمهال، واستبعد الخلاف فيه، ورأى الغزالي مقابله أصحَّ، وعن أبي إسحاق أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم ناظروني، أو كان الإمام مشغولاً بما هو أهم منه – تأتينَا به.

قال: فإن رجع إلى الإسلام قُبِل منه، أي سواء كانت ردته إلى دين يتظاهر به أهله: كاليهودية والنصرانية والمجوسية، أو إلى كفر يُسِرُّه [أهله]: كالزنديق والمنافق، كما صرّح به الماوردي والعراقيون، وحكاه الإمام عن [نص] الشافعي –رضي الله عنه – لعموم قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 94]، يعني: استسلم إليكم، وألقى المقادة إليكم، وسبب نزولها أن رَجُلا يقال له: مِرْداس بن عمر، كانت له غنيمات، لَقِيَتْهُ سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لم قتلته؟! قال: إنما قالها متعوّذاً! قال: هلا شققت عن قلبه! ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردّ عليهم غنمه.

ص: 313

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى [يَشْهَدُوا أَنْ] لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا، وَ [أَنْ] يَاكُلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَ [أَنْ] يُصَلُّوا صَلَاتَنَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَاّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ"، وفي رواية:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ". أخرجه أبو داود والبخاري تعليقاً، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح غريب.

وروي أن رجلاً سارَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُدْرَ ما سارّه حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلا شَهَادَةَ لَهُّ قَالَ: "أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ "، قَالَ: بَلَى، وَلا صَلاةَ لَهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [أُولَئِكَ الذِين] نَهَانِي اللهُ – سبحانه وتعالى – عَنْهُمْ".

ص: 314

ورُوي عَنْ عُمَرَ – رضي الله عنه – أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ رَجُلٍ النِّفَاقَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُسْلِمٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ – رضي الله عنه: أَظُنُّكَ تُظْهِرُ الإِسلَامَ مُسْتَعِيذاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلَيْسَ فِي الإِسْلَامِ مَا يُعِيذُنِي؟! قَالَ عُمَرُ – رضي الله عنه: بَلَى، فِي الإِسْلَامِ مَا أَعَاذَ مَنِ اسْتَعَاذَ بهِ.

وهذا هو الصحيح، ووراءه وجوه أُخر:

أحدها: أنه لا تقبل توبة الزنديق ورجوعه إلى الإسلام؛ لأن التوبة عند الخوف عين الزندقة؛ فلا اعتماد على ما يظهره.

قال الروياني في "الحلية": والعمل على هذا.

قال الإمام: وقد أضاف الأصحاب هذا إلى أبي إسحاق. يعني: الإسفراييني، كما صرّح به غيره.

والصحيح عندنا من مذهبه: الوجه الثاني، وهو أنه إذا أُخذ ليقتل فتاب لم تقبل توبته، وإن جاءنا ابتداء وظهرت مخايل الصدق قبلت.

والثالث – عن القفال الشاشي – أن المتناهين في الخبث – كدعاة الباطنية – لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الإسلام، وتقبل من عوامهم.

قال: وإن تكرر منه ثم أسلم – عزر؛ لتهاونه بالإسلام، وليمتنع من العود إلى مثله، وإنما صح إسلامه؛ للأخبار السالفة.

وقال أبو إسحاق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت منه الردة؛ لبطلان الثقة بقوله.

قال الإمام: وهذا من هفواته الفاحشة، ولا مبالاة بها، والماوردي وأبو الطيب وغيرهما نسبوا هذا القول [إلى] إسحاق بن راهويه، وليس هو من أصحابنا،

ص: 315

والظاهر من المذهب الأول.

قال الأصحاب: ولا يبعد أن يخطئ الإنسان مرتين ويصيب مراراً.

قال: وإن ارتد إلى دين لا تأويل لأهله، أي: كعَبدَة الأوثان، ومنكري النبوات كالأميين من العرب – كفاه أن يقر بالشهادتين، وهما [كما] قال البندنيجي عن الشافعي – رضي الله عنهما – أشهد أن لا إله إلا الله، [وأشهد] أن محمداً رسول الله؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ

" الخبر السابق.

نعم، يستحب أن يأتي بلفظ البراءة من كل دين [خالف الإسلام].

وفي "التهذيب" أنه إذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول سائر الأحكام.

قال: وإن ارتد إلى دين يزعم أهله أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى العرب [أي:] خاصة – لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف [دين] الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يريد ما يعتقده، فإذا قال ما ذكرناه انقطع الاحتمال، ويقوم مقام ذلك قوله: إن محمداً مبعوث إلى كافة الخلق، كما قاله القاضي الحسين والبغوي، وماذكره الشيخ في الحالتين هو المنقول عن نص الشافعي – رضي الله عنه في "الأم"،كما حكاه الماوردي، وفي كتابه المسمى بـ "المرتد الصغير" كما قاله القاضي أبو الطيب، وفي كتابه المسمى بـ "المرتد الكبير" كما حكاه البندنيجي.

وعليه حمل الجمهور- ومنهم القاضي أبو حامد وأبو إسحاق – وَصْف الشافعي –رضي الله عنه الإسلام في "المختصر" في كتاب الظهار، حيث قال: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، [وأن] يبرأ من كل دين يخالف الإسلام. مع قوله في موضع آخر: إنه إذا أتى بالشهادتين حكم بإسلامه، وقالوا: ليس ذلك باختلاف قول، ولم يحك القاضي أبو الطيب غير ذلك، ومن الأصحاب من أخذ بظاهر النص الأول، وقال: الإتيان بالتبرؤ من كل دين

ص: 316

شرط في إسلام كل كافر ومرتد؛ كالشهادتين، ومنهم من أخذ بظاهر النص الآخر، وقال: إنه لا يجبن بل يستحب في إسلام كل كافر ومرتد كالاعتراف بالبعث والجزاء.

وقد حكى الماوردي الوجهين، وما ذكره الشيخ في الحالة الأولى يكتفي به – أيضاً – فيما إذا كان قد انتقل إلى دين من هو معترف بالوحدانية منكرٌ رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره في الحالة الثانية لابد منه في حق [من انتقل إلى دين يزعم أهله أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق]، لكنهم [يقولون]: إنه لم يظهر بعد. ولو كان قد كفر بجحود فرض الصلاة والزكاة، واستباحة محرم – كالزنى والخمر – مع اعترافه بالشهادتين – فلابد في صحة إسلامه من أن يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده ويعترف بما جحده، ولا يجزئه الاقتصار على الاعتراف؛ لأنه قد جرى عليه حكم الكفر بالردة، فلزمه إعادة الشهادتين؛ ليزول بهما حكم الكفر، ولو كان كفره بسبّ [سيدنا] محمد صلى الله عليه وسلم كان [في الاعتراف بنبوته] في الشهادتين مَقْنَعٌ، ولا يفتقر إلى الاعتراف بحظر سبه [صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاعتراف بنبوته اعتراف بحظر سبه].

ومما ذكرناه يظهر لك ما يحصل به إسلام [من لم] يرتد [أصلا]، بل هو كافر أصلي، فيكون فيه الأقوال الثلاثة، ولا يشترط في حقه أن يعرف جميع قواعد العقائد حتى لا تغادره منها قاعدة، بل الذي اعتبره الشرع في ذلك الإتيان بالشهادتين كما ذكرنا، قال الإمام: وهما جامعتان للقواعد؛ إذ في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية، وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره. والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تقتضي تصديقه في جميع ما أتى به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل – عليه السلام – في الحديث المعروف عن

ص: 317

الإسلام: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ"، وهذه طريقة وهي المشهورة، ومَيْلُ الرافعي إلى ترجيحها.

قال الإمام: والقائل بها يرى أن النطق بالشهادتين باب من التعبد، حتى إذا قال المعطِّل [: لا إله إلا الله، لا يحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله، ثم قال: وقال المعظم من المحققين: من أتى من الشهادتين بما يخالف عَقْدَه نحكم له بالإسلام، فإذا قال المعطِّل]: لا غله إلا الله، صار مسلماً، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أباها كان مرتدًّا، وكذلك إذا قال الثَّنَوِيُّ بإثبات الإله حكم له بالإسلام. وإذا قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم له بالإسلام، وإن لم يوحد، إلا أن يكون ممن يرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب [خاصة، وعلى] هذه الطريقة: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكم من الأحكام التي تختص بشريعتنا، كتحريم الخمر والخنزير، فهل يحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف بين المحققين، والذي مال إليه معظمهم: الحكم به، وضبط القاضي الحسين هذا بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قبل كفر بما جحد، فما يجحده يصير الكافر المخالف له مؤمناً بعقده إلا في مسألة واحدة، وهي أن المسلم لو جحد نبوة عيسى – عليه السلام يصير به كافراً، واليهودي لو أقر بنبوته لا يحكم بإيمانه. ووجه هذه القاعدة: أن التصديق لا يتبعض، فإن صدق- وراء ذلك – بالجميع فذلك، وإن كذب في غير ما صدق فهو مرتد، وهذا ما أورده في "التهذيب"، وحكى أن اليهودي إذا أقر برسالة عيسى – عليه السلام – يحكم بإسلامه على وجهٍ؛ طرداً للقاعدة المذكورة.

وكما يصح الإسلام باللغة العربية يصح بجميع اللغات؛ كما صرّح به ابن الصباغ [وغيره]، نعم: لو لُقّن العجمي الكلمة العربية فتلفظ بها وهو لا يعرف معناها، لم يحكم بإسلامه.

ص: 318

وعن "المنهاج" للإمام الحليمي: أنه لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير القول المعروف، وهو كلمة "لا إله إلا الله"، حتى لو قال: لا إله سوى الله، أو غير الله، أو ما عدا الله، فهو كقوله:[إلا الله]. [وكذا لو قال: ما من إله إلا الله، أو: لا إله إلا الرحمن، أو: لا رحمن إلا الله، أو: لا إله إلا الباري، أو: لا باري إلا الله]. وأن قول القائل: [أحمد أو أبو القاسم] رسول الله، كقوله: محمد رسول الله. والأخرس يشير بالإسلام ويكتفي به؛ فإن إشارته قائمة مقام نطق الناطق.

قال الإمام: وأبعد بعض أصحابنا فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامة صلاةٍ، وهذا بعيد لا أصل له، وهذا ما قال الرافعي: إنه ظاهر النص في "الأم"، ثم قال الإمام: وقال بعض من يجزم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة منه تناقض ما يجب عقده في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يومأ إليه جسم، والمذهب الأول، والقائل به حمل اشتراط الصلاة على ما إذا لم تكن الإشارة مفهمة، ويدل على الاكتفاء بالإشارة ما روي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية أعجمية أو خرساء، فقال:"عليَّ عتق رقبة، فهل تجزئ عني هذه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم [لها]: "أَيْنَ اللهُ؟، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا؟ فَأَشَارَتْ [إِلَى] أَنَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".

قال المتولي: وإنما جعل الإشارة إلى السماء دليلاً على إيمانها؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام. فأفهم الإشارة البراءة، وادعى الإمام أن هذا الحديث لا دلالة فيه؛ لأنه قال بعد ما حكاه عن بعض من يجزم على التحقيق: فإن [قال] قائل: كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء في الصحيح؟ قلنا:

ص: 319

ذلك حديث مؤول باتفاق من عليه معول؛ فإن فيه: قال لها:"أين الله؟ "، وكل حديث يقتضي العقل تأويل ظاهره فلا حجة فيه.

وقد حكى الرافعي عن "المنهاج" للحليمي – أيضاً – فروعاً تمس الحاجة إلى ذكرها وإن طالت:

فمنها: إذا قال الكافر الذي لا دين له: آمنت بالله – صار مؤمناً بالله، وإن كان يشرك بالله غيره فلا، حتى يقول: آمنت بالله وحده، وكفرت بما كنت أشرك به، وأن قوله: أسلمت لله، أو أسلمت وجهي لله، كقوله: آمنت بالله.

وأنه لو قيل للكافر: أسلم لله، أو: آمن بالله، فقال: أسلمت وآمنت، فيحتمل أن يجعل مؤمناً، وأنه لو قال: أؤمن بالله، أو: أسلم لله، فهو إيمان؛ كما أن قول القائل: أقسم بالله، يمين، ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده، وأنه لو قال: الله ربي، أو: الله خالقي، فإن لم يكن له دين من قبل فهو إيمان.

وإن كان من الذين يقولون بِقِدَمِ أشياء مع الله – تعالى- لم يكن مؤمناً، حتى يقرَّ بأن لا قديم إلا الله، وكذا الحكم لو قال: لا خالق إلا الله؛ لأن القائلين به يقولون: الله خلق ما خلق لكن من أصل قديم.

وأنه لو قال اليهودي المشبِّه: لا إله إلا الله، لم يكن هذا إيماناً منه حتى يبرأ من التشبيه، ويقر بأنه ليس كمثله شيء، وإن قال مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال التشبيه، كان مؤمناً، وإلا فلابد من أن يبرأ من التشبيه.

وطرد هذا التفصيل فيما إذا قال الذي يذهب إلى قدم أشياء مع الله – تعالى-: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى إذا كان يعلم أن محمداً جاء بإبطال ذلك، كان مؤمناً.

وأن الثنوي إذا قال: لا إله إلا الله [محمد رسول الله]، لم يكن مؤمناً حتى يبرأ من القول بقدم النور والظلمة. وإن قال: لا قديم إلا الله [-تعالى- كان مؤمناً.

وأن الوثني إذا قال: لا إله إلا الله،] فإن كان يزعم ان الوثن شريك لله – تعالى –

ص: 320

صار مؤمناً، وإن كان يرى أن الله – تعالى – هو الخالق ويعظم الوثن؛ لزعمه أن يقربه إلى الله – تعالى – لم يكن مؤمناً حتى يبرأ من عبادة الوثن.

وأنه لو قال الإبراهيمي، وهو يوحد الله – تعالى –وإنما [يكفر بجحد] الرسل: محمد رسول الله – صار مؤمناً، وإن أقر برسالة نبي قبله كإبراهيم – عليه السلام – لم يكن مؤمناً.

وأن المعطل إذا قال: محمد رسول الله، فقد قيل: يكون مؤمناً؛ لأنه أثبت الرسول والمرسل معاً.

وإذا قال الكافر: لا إله إلا الله الذي آمن به المسلمون، كان مؤمناً، ولو قال:[آمنت بالذي لا إله غيره، أو بمن لا إله غيره – لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يريد الوثن، وأنه لو قال: آمنت بالله] وبمحمد، كان مؤمناً بالله، ولم يكن مؤمناً بنبوة محمد [صلى الله عليه وسلم حتى يقول: بمحمد رسول الله، أو:] بمحمد النبي، وأنه لو قال: آمنت بمحمد الرسول، لم يكن مؤمناً؛ لأن النبي لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره.

وأن الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري – تعالى – علة الموجودات، أو مَبْدؤها، أو سببها – لم يكن ذلك إيماناً، حتى يقول: إنه مخترع ما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن.

وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المحيي والمميت، فإن لم يكن من الطبائعيين كان مؤمناً، وإن كان منهم فلا؛ لأنهم ينسبون الحياة والموت إلى الطبيعة؛ فينبغي أن يقول: لا إله إلا الله، أو: إلا الباري، أو يذكر اسماً آخر لا تبقى معه الشبهة.

وأنه إذا قال: لا إله [إلا] الملك، أو: إلا الرزاق – لم يكن مؤمناً؛ لأنه [قد] يريد المَلِك الذي يقيم عطايا الجند، ويرتب أرزاقهم، كما كان يذكر قوم فرعون [له] وكان ملكهم.

ولو قال: لا إله إلا الله، أو: لا رازق إلا الله – كان مؤمناًن وبمثله أجاب

ص: 321

فيما إذا قال: لا مالك إلا الله العظيم، أو العزيز، أو الحكيم، أو الكريم، وبالعكس.

وأنه لو قال: لا إله إلا الله الملك، أو: إلا ملك السماء – كان مؤمناً، قال الله –تعالى-:{أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وأراد نفسه.

ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال:[لا إله] إلا الله ساكن السماء؛ لأن السكون غير جائز على الله تعالى.

وأنه لو قال: آمنت بالله إن شاء الله – [وإن] كان شاباً – لم يكن مؤمناً.

وأنه لو قال اليهودي: أنا برئ من اليهودية، والنصراني: أنا برئ من النصرانية- لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال: من كل ملة تخالف الإسلام؛ لأنه يبقى التعطيل الذي يخالف وليس بملة، فإن قال: من كل [ما يخالف] الإسلام من دين ورأي وهوى، كان مسلماً، وأنه إذا قال: الإسلام حق، لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يكون يقر بالحق ولا ينقاد له، وفي "التهذيب": أنه إذا قال: دينكم حق، أو أنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم – حكم بإسلامه.

[وأنه لو] قال: أنا ولي وأحب محمداً، لم يصح إسلامه؛ لأنه قد يحبه لخصاله الحميدة، وكذا لو قال: أنا مثلكم، أو: مؤمن، أو: مسلم، أو: آمنت، أو: أسلمت، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، ولو كان بين يدي القاضي؛ لأنه قد يريد: في البشرية ومؤمن بموسى ومنقاد لكم.

وعن "منهاج" الحليمي أيضاً: أنه إذا [قال] من له ملة: أنا مسلم مثلكم – كان مقرًّا بالإسلام، [وإذا قال المعطل – بعد أن قيل له: أسلم-: أنا مسلم، أو من المسلمين – كان مقراً بالإسلام،] والله أعلم.

قال: وإن أقام على الردة وجب قتله؛ لما روى عثمان بن عفان – رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَاّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ .. "

ص: 322

الخبر المشهور، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة؛ لما ذكرناه من الأخبار، قال الماوردي: فلو كان المرتد في منعة فلا يقاتلوا إلا بعد إنذارهم وسؤالهم عن سبب ردتهم، فإن ذكروا شبهة أزالها، وإن ذكروا مظلمة رفعها، وإن أصروا قاتلهم.

قال: فإن كان حرًّا لم يقتله إلا الإمام، أي: أو من يأذن له فيه؛ لأنه قتل مستحق لله – تعالى، فكان للإمام ولمن يأذن له كرجم الزاني، وهذا [إذا] لم يقاتل؛ أما إذا كان محارباً في منعة، قال الماوردي: جاز أن يقتله كل من قدر عليه، ولم يختص بالإمام؛ كما يجوز قتل أهل الحرب.

قال: فإن قتله غيره بغير إذنه – عزر؛ لافتياته عليه، وفي "الجيلي" حكاية وجه عن "شرح التلخيص: أنه تجب فيه الدية.

قال: وإن قتله إنسان، ثم قامت البينة أنه كان قد [رجع إلى الإسلام] ففيه قولان:

أحدهما: يجب عليه القود؛ لأن نفسه في الطرفين محظورة، وإباحتها مخصوصة بشخص؛ فلم يقتضِ ذلك سقوط القصاص، كما إذا قتل من وجب عليه قصاص لغيره، وهذا ما نص عليه في "المختصر" و"الأم"، وهو الأصح في "الحاوي" وعند النواوي وغيرهما.

والثاني: لا يجب إلا الدية؛ لأن تقدم الردة شبهة لسقوط القود؛ فأشبه الحربي إذا أسلم وقتله من لم يعلم بإسلامه، سقط عنه القود، وضمنه بالدية، كذلك إسلام الرتد، وهذا ما نص عليه في بعض كتبه، وبعضهم قال: إنه مخرج كما حكيته في الجنايات، وصححه [في]"الجيلي"، ومن الأصحاب من نفى الخلاف في المسألة وقال: النصان محمولان على حالين، وهؤلاء اختلفوا، فقال ابن أبي هريرة: الموضع الذي نص [فيه] على سقوط القود إذا كانت

ص: 323

آثار الردة باقية عليه من قيد أو حبس أو أصفاد، والموضع الذي نص فيه [على وجوب] القود إذا فقد ذلك. ومنهم من قال: الموضع الذي أسقط فيه القود إذا كان في منعة، والموضع الذي أوجب فيه القود إذا لم يكن في منعة؛ لأنه ممنوع من قتل غير الممتنع، وغير ممنوع من قتل الممتنع.

قال: وإن كان عبداً فقد قيل: يجوز للسيد قتله؛ لأنه عقوبة تجب لحق الله – تعالى- فكان للمولى إقامتها كما يقيم عليه حد الزنى. وهذا ما اختاره في "المرشد" والنواوي.

وقيل: لا يجوز؛ لأنه حق لله – تعالى – لا يتصل بحقه في إصلاح ملكه، بخلاف حد الزنى، وهذا أصح عند القاضي الحسين، كما حكاه في باب حد الزنى، وقال: إن به قال أكثر الأصحاب، وقال [القاضي] أبو الطيب ثَمَّ: إنه غير صحيح.

قال: وإن أتلف المرتد مالاً أو نفساً على مسلم وجب عليه الضمان؛ لأنه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام؛ فلا يسقط عنه بالجحود كالملتزم بالإقرار عند الحاكم.

قال: وإن امتنع بالحرب، فأتلف؛ أي في حال الحرب، وكان لهم شوكة – ففيه قولان كأهل البغي.

وجه الوجوب: أنه لا ينفذ قضاء قاضيهم؛ فكان حكمهم في الضمان حكم قطاع الطريق، ولأن كل من ضمن ما يتلفه إذا لم يكن في منعة ضمن، إن كان في منعة كالمسلم طرداً والحربي عكساً، ولأن الردة إن لم تزده شرًّا لم تزده خيراً، وهذا ما نص عليه في "المختصر" هاهنا وأكثر كتبه، كما قاله الماوردي في باب قتال أهل الردة.

وقال البندنيجي: إنه منصوص عليه في "سير" الأوزاعي"، وصححه البغوي والماوردي والبندنيجي وقبلهم الشيخ أبو حامد.

ص: 324

ووجه المنع: أن وفداً من براعة وغطفان الذين كانوا قد ارتدوا، جاءوا إلى أبي [بكر] – رضي الله عنه يسألونه [عن] الصلح بعد توبتهم فقال:"تَدُون قتلانا، وقتلاكم [في النار"]، فقال عمر – رضي الله عنه:"إِن قَتْلانَا قُتِلُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ – تَعَالَى – لَيْسَ لَهُمْ دِيَاتٌ"، فتفرق الناس على قول عمر، وهذا ما نص عليه في "سير" الأوزاعي كما قاله الماوردي، وفي قتال أهل البغي كما قاله البندنيجي وصححه بعضهم. وهذه طريقة ابن أبي هريرة والشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ والبغداديين، وهي الصحيحة عند المصنف، لكن الأصح باتفاق الأصحاب في أهل البغي: عدم الضمان، وهاهنا الأصح عند الجمهور [كما ذكرناه]، ومنهم أيضاً القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: وجوبه، وقال القاضي أبو حامد المرْورُّوذي وأبو القاسم الصيمري وأكثر البصريين: إنه يجب عليه الضمان قولاً واحداً، وهو اختيار المزني كما قاله الماوردي.

قال الرافعي: وقد ترتب الخلاف في المرتدين على الخلاف في الباغين، وفي كيفية الترتيب اختلاف رأي حكاه القاضي الحسين في "تعليقه" – أيضاً – والفوراني في "إبانته":

فقائل يقول: إذا أوجبنا الضمان على الباغي فالمرتد أولى بالوجوب، وإلا ففي المرتدين قولان، والفرق أنهم أولى بالتغليظ، ويحكي هذا عن اختيار القفال، وإليه مال [اختيار] القاضي الحسين أيضاً.

وقائل يقول: إذا نفينا الضمان عن الباغي فالمرتد أولى، وإن أوجبناه على الباغي ففي المرتد قولان.

ص: 325

والفرق: أن المرتدين متخلفون عن الإسلام وأحكامه؛ فهم بأهل الحرب أشبه، ثم يجيء على طريقة التضمين الخلاف في أنهم:[هل] يضمنون النفس بالقصاص أم لا؟ كما ذكرنا في أهل البغي، وبه صرح البندنيجي هنا.

تنبيه: احترز الشيخ بالمسلم عما إذا أتلف المرتد نفس ذمي؛ فإن في ضمانه لها بالقصاص خلافاً تقدم، وأما ضمانه لماله ولنفسه بالدية فهو فيه كالمسلم.

فرع: إذا زنى في ردته أو شرب الخمر فيكتفي بقتله، أم يقام عليه الحد ثم يقتل؟ حكي عن رواية ابن كج فيه وجهان، أصحهما: الثاني.

قال: وإن ارتد وله مال ففيه قولان، أي منصوصان في صدقة الورق.

أحدهما: أنه باق على ملكه؛ لأن الكفر لاينافي الملك كالكفر الأصلي، ولأن الردة سبب لهدر الدم فلا تزيل الملك؛ كالزنى والقتل في الحرابة، وهذا قد نص عليه – أيضاً – في زكاة المواشي، وهو الأصح في "الحاوي"، واختاره المزني والنواوي.

والثاني: أنه موقوف، فإن رجع إلى الإسلام حكم بأنه له، وإن لم يرجع حكم بأنه زال بالردة كبضع زوجته؛ ولأن ماله يعتبر بدمه، ودمه موقوف؛ فكذلك ماله، وهذا ما نص عليه في هذا الباب، وهو أصح في "التهذيب".

وقيل: فيه قول ثالث: أنه يزول بنفس الردة؛ لأن ردته أزالت ملكه عن دمه الذي هو أعز الأشياء عليه، فَلأَنْ تُزيل ملكه عن ماله أولى، وأيضاً فإنه يشبه النكاح قبل الدخول؛ [لعدم العلقة بعد الردة، والنكاح قبل الدخول] يزول بها؛ فكذلك ماله.

ص: 326

قال القاضي الحسين: وليس كالزنى والقتل في الحرابة؛ لأنهما ليسا من جنس المؤثر في إباحة المال، بخلاف الكفر فإنه يؤثر في إباحة المال، وكفر المرتد أغلظ وجوه الكفر؛ فأثر في الملك بالزوال، وهذا أصح في "المهذب" و"حلية"الشاشي و"المرشد" و"الجيلي"، وسبب إفراده عن القولين السابقين: أنه ليس منصوصاً عليه، لكن في لفظ المزني شيء يحتمله ويحتمل غيره؛ فإنه قال في كتاب التدبير:"إن تدبير المرتد باطل في أحد أقواله الثلاثة؛ لأن ملكه خارج عنه". فقال من اقتصر في مسألة الكتاب على إيراد القولين السابقين لا غير، وهو ابن سريج وطائفة: أراد [أن] يكون ملكه خارجاً عنه خروجه عن تصرفه مع بقائه على ملكه؛ لأنه لو خرج عن ملكه بالردة لما عاد إليه إلا بتمليك مستجد. وقال من أورد القول الثالث في مسألة الكتاب – وهو أبو إسحاق المروزي، كما نقله البندنيجي، وكثير من الأصحاب، كما حكاه الماوردي: إنه أراد به زوال ملكه عن ماله، فإن عاد إلى الإسلامن عاد المال غليه كالخل إذا انقلب خمراً زال ملك صاحبه عنه، فإذا صار خلاًّ عاد ملكه، وكالبيضة تبطل المالية فيها بانقلابها مذرة، فإذا صارت فرخاً عاد مالاً، وجلد الشاة تبطل المالية فيه بموتها، ثمإذا دُبغ عاد مالاً، وعلى هذه الطريقة جرى المصنف في "المهذب"، والقاضي الحسين والفوراني وغيرهم.

وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والروياني أيضاً: أن منهم من قطع القول باستمرار الملك، ورد الخلاف إلى [أن] تصرفه هل ينفذ أم لا؟ كما سنذكره.

قال الماوردي: وعلى هذه الأقوال يكون حكم ما استفاد ملكه في [حال] ردته بهبة أو وصية أو اصطياد أو احتشاش، فإن قيل بالأول مَلَكَهُ، وإن قيل

ص: 327

بالثاني كان موقوفاً مراعَى، فإن عاد إلى الإسلام [ملكه]، وألا فينظر: فإن كان عن هبة أو وصية بطلت وعاد إلى الواهب وورثة الموصي، وإن كان عن اصطياد أو احتشاش كان على أصل الإباحة، وإن قيل بالثالث لم يملكه؛ لأنه إذا لم يملك ما استقر عليه ملكه فأولى ألا يملك ما لم يستقر عليه، وعلى ذلك جرى المتولي وكذا المصنف في "المهذب"، لكنه لم يذكر التفريع مفصلاً كما ذكرناه، وذكر بعد حكايته تفريعاً آخر على الأقوال في [الأصل، وقد يفهم أنها مفرعة على الأقوال في] الفرع.

وقال الإمام: إذا قلنا بزوال ملكه، فظاهر القياس أنه يثبت الملك لأهل الفيء فيما إذا احتطب واصطاد، كما يجعل الملك للسيد فيما يحتطبه العبد ويصطاده.

قال: [وليكن] شراؤه واتهابه كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد حتى يجيء فيه الخلاف. وعلى هذا جرى الغزالي، وما قالاه فيه نظر؛ لأنا قد حكينا عن الإمام في باب العبد المأذون: أن شراء العبد إذا صح وقع للعبد، ويكون للسيد الخيار بين أن يقره عليه وبين أن ينزعه من يده، وقضية التخريج: أن يقع الملك للمرتد ثم ينتقل إلى الفيء، وقد دللنا على امتناع ذلك؛ فتعين ما قاله الماوردي ومن معه، [لكن في كلام البندنيجي وغيره ما يقتضي ذكر طريقة قاطعة أنه يملك، وإنما الخلاف في زوال ملكه عما هو موجود، وسنذكر ذلك في باب اليمين في الدعاوى].

ولو وطئت المرتدة بشبهة أو مكرهة، فإن قلنا: إن ملكها باق، وجب لها المهر، وإن قلنا: إنه موقوف، فهو موقوف، وإن قلنا: إنه زائل، لم يجب على الواطئ؛ كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة، كذا قاله الرافعي عن "التتمة"، وقال: إنه إذا أكره على عمل كان حكمه حكم المهر.

هذا حكم اكتسابه، وأما ما يلزمه من الكلف والمؤن، فنفقته واجبة في ماله،

ص: 328

وإن قلنا بزوال ملكه، وكذا نفقة زوجاته ورقيقه، وفي نفقة أقاربه وجهان في "الحاوي" وغيره، وأصحهما - وهو المذكور في "الشامل" -: اللزوم؛ لأن سبب استحقاقها سابق على الردة، ومقابله منسوب إلى الإصطخري، قال القاضي الحسين والإمام: وهو القياس، وقد صححه صاحب "العدة" و"الإبانة". وقال البندنيجي: إنه ليس بشيء. وقد حكى عن الإصطخري طرده في نفقة الزوجة أيضاً.

وعن ابن كج رواية وجه عن ابن الوكيل: أنه لا ينفق عليه في زمن استتابته من ماله إذا قلنا بزواله، وينفق عليه من بيت المال.

ولا خلاف أنه إذا عاد إلى الإسلام استمر ملكه، قال المتولي: وليس كالنكاح المنقطع بالردة لا يعود بالإسلام؛ لأن الحكم بزوال الملك سبيله سبيل العقوبات، والعقوبات تسقط بالعود إلى الإسلام، وانقطاع النكاح ليس سبيله سبيل العقوبات؛ ألا ترى [إلى] انقطاعه بردة المرأة كانقطاعه بردة الرجل، والنكاح حق الرجل، ولا يجوز أن نجعل جنايتها سبباً لعقوبته، وإنما انقطاعه بالردة لفوات الحل بما عرض لا إلى غاية تنتظر.

وعلى الأقوال كلها، يؤجر الحاكم عقاره ورقيقه ومدبره ومستولدته، ومكاتبه يؤدي النجوم إلى الحاكم، ويجعل أمته عند امرأة، وماله عند عدل إلى أن يظهر حاله.

ولا فرق في ذلك بين أن يلتحق المرتد بدار الحرب، وبين أن يكون في قبضة الإمام، نعم إذا كان في دار الحرب باع الحاكم من رقيقه ما يرى فيه المصلحة؛ لأنه إذا خرج عن قبضة الإمام فربما طال الأمر وتعذر رجوعه أو قتله، ويخالف إذا كان في قبضة الإمام؛ فإن الأمر يُفْصَل عن قريب، قاله أب والطيب وغيره.

قال: وأما تصرفه ففيه ثلاثة أقوال، أي بلا خلاف بين الأصحاب؛ كما صرح به البندنيجي والماوردي:

أما عند من حكى في زوال ملكه ثلاثة أقوال، فقد بناها على أقوال [الملك]، وعلى هذا جرى في "المهذب"،وابن الصباغ في "الشامل"، وتبعهما في ذلك ابن يونس والجيلي، وليس اتباعهما بصواب.

ص: 329

وأما على طريقة ابن سريج ومن معه، وهي التي اقتضى إيراد الشيخ هاهنا ترجيحها – فإنهم كما ذكرنا حملوا كلام المزني على منع التصرف لا على انتقال الملك، وبذلك يحصل في التصرف ثلاثة أقوال، ثانيها ليس مبنيًّا على قول زوال الملك.

وأما على الطريقة التي حكاها أبو الطيب والروياني في أن الملك لا ينقطع جزماً، وإنما الأقوال في التصرف – فهي مصرح بها، لكن يحتاج في تقرير الأقوال على هذه الطريقة [إلى] مقدمة، وهي أنه هل يصير محجوراً عليه بنفس الردة أم لا؟ وفيه قولان في "تعليق" أبي الطيب، [وفي غيره] وجهان مشبهان بالخلاف: في أنه إذا طرأ السفه بعد الرشد هل يصير الشخص محجوراً عليه بذلك أم لابد من ضرب القاضي؟ [وقد بناهما القاضي الحسين] عليهما، والظاهر: أنه لا يصير محجوراً عليه بنفس الردة، وهو الذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والشاشي في "حليته" والفوراني، فعلى هذا يحجر الحاكم عليه؛ كي لا يتلفه، وعلى مقابله فهل هذا الحجر حجر سفه أو حجر فلس؟ [فيه قولان في "تعليق" أبي الطيب [أيضاً]، وفي غيره وجهان، أصحهما في "الرافعي": أنه حجر فلس، وحكى الماوردي الوجهين في أن الحجر المذكور حجر سفه أو حجر مرض، وبذلك يجتمع فيه ثلاثة أوجه، وقد حكاها القاضي الحسين.

فإذا تقرر ذلك عدنا إلى تمام [تقرير] كلام الشيخ:

أحدها: ينفذ، أي سواء قتل في الردة أو عاد إلى الإسلام، وهذا بناء على بقاء ملكهن وأنه لا يصير محجوراً عليه بنفس الردة، ولم يصدر من الحاكم حجر عليه.

والثاني: لا ينفذ، أي سواء عاد إلى الإسلام أو لم يعد، وهذا بناء على زوال ملكه عند قوم، وعند قوم بناء على بقاء ملكه، وأنه يصير بنفس الردة محجوراً

ص: 330

عليه حجر سفه أو حجر فلس إذا قلنا: إن تصرفات المفلس فاسدة كما هو أحد القولين، كما صرّح به أبو الطيب.

والثالث: أنه موقف، أي: إن كان من التصرفات التي تقبل الوقف كالعتق والتدبير، فإن قيل بالردة كان تصرفه باطلاً مردوداً، وإن عاد إلى الإسلام كان ذلك نافذاً، وهذا بناء على القول بوقف ملكه عند قوم، وعند قوم هو جارٍ مع قولنا ببقاء ملكه؛ تفريعاً على أنه يصير محجوراً عليه بالردة حجر فلس، وقلنا: تصرفات المفلس موقوفة مراعاة، فإن وفي ما عليه من الدَّيْن من غير ما وقع التصرف فيه نفذ، وإن لم يوف بطل، وكذا يجيء على قولنا: إنه محجور عليه حجر مرض، وهذا القول هو الذي صححه النواوي، وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: إذا قلنا ببقاء ملكه يكون تصرفه تصرف المريض [في] مرض الموت؛ لأن السيف قريب منه، وهو بناء على أن من قدم للقتل يعتبر تصرفه من الثلث.

أما التصرف الذي لا يقبل الوقف كالبيع والإجارة، قال الماوردي: فلا يجيء فيه إلا قولان، يعني على الجديد.

أما إذا قلنا بجواز وقف العقود كما هو محكي عن القديم، جاءت فيه الأقوال الثلاثة أيضاً، وعلى ذلك ينطبق ما حكيناه عنه في الهبة [منه] من قبل.

وقد حكى البندنيجي الأمرين حيث قال: واختلف أصحابنا في موضع الأقوال على طريقين، منهم من قال: في جميع تصرفه ثلاثة أقوال، عقداً كان أو غير عقد، ومنهم من قال: في غير العقود ثلاثة أقوال، وأما في العقود كالبيع والكتابة ونحوها فعلى قولين، وما حكاه في الكتابة هو الذي أورده الرافعي.

وقال في "الحاوي": إن ما اشتمل على أمرين يصح الوقف والشرط في

ص: 331

أحدهما ولا يصح في الآخر، كالخلع والكتابة؛ لأنهما يشتملان على طلاق وعتق، ويصح فيهما الوقف والشرط، وعلى معاوضة لا يصح فيها الوقف والشرط – ففي المغلب منهما وجهان:

أحدهما: يغلب فيهما حكم العوض، فعلى هذا لا يجيء فيهما إلا قولان كالبيع، يعني على الجديد.

والثاني: أنه يغلب فيهما حكم الطلاق والعتق، فعلى هذا تأتي فيهما الأقوال الثلاثة.

ثم قضية كلام البندنيجي: أن يجيء في تزويجه أمته – إذا قلنا بعدم زوال ملكه- الأقوالُ على رأي بعض الأصحاب، وعلى رأي لا يجيء إلا قولان، وعلى ذلك جرى المتولي وغيره حيث قالوا: إن التزويج من التصرفات التي لا تقبل الوقف، لكن قد قال البندنيجي: إنه يملك تزويجها، إذا قلنا: إن ملكه باق، ولم يحجر عليه، كما يملك الكافر تزويج أمته المسلمة.

وقال في "التهذيب": إنه غير قوي.

ثم قال البندنيجي: ومن أصحابنا من قال: لا يزوجها، وتصرفاته بعد حجر الحاكم عليه، أطلق في "المهذب" وغيره القول بعدم نفوذها.

وقال آخرون: الحاكم إذا حجر عليه فهو مفرع على بقاء ملكه، وفي كيفية الحجر الخلاف السابق: فالمشهور أنه حجر سفه أو حجر فلس]، وعند الماوردي: أنه حجر [سفه] أو حجر مرض.

قال القاضي الحسين: فإن قلنا: إنه حجر مرض، نفذ منها في ماله ما ينفذ من المريض. انتهى.

وإن قلنا: إنه حجر سفه، لم ينفذ منها شيء، وإن قلنا: إنه حجر فلس، فقضيته أن يأتي فيها وجهان:

أحدهما: أنها باطلة.

والثاني: أنها موقوفة.

ص: 332

وقال الماوردي: إن التصرف إن كان فيه إهلاك للمالية، كالعطايا والهبات والوصايا والصدقات والوقف والعتق – فهو باطل، سواء قيل: إنه حجر سفه أو مرض، ولا يقال: إنا إذا قلنا: إنه حجر مرض يجاز كما تجاز وصايا المريض؛ لأن للمريض في ماله الثلث، فأمضيت وصاياه من ثلثهن وليس للمرتد ثلث تجعل وصاياه منه. وإن كان التصرف بيعاً أو إجارة، فإن قلنا: إن حجره حجر سفه، لم يصح؛ لأن عقود السفيه باطلة، وإن قلنا: إنه حجر مرض، نفذت؛ لأن عقود المريض جائزة.

قال: وعلى هذين الوجهين يكون حكم إقراره بالديون والحقوق.

قلت: وهما جاريان أيضاً إذا قلنا: إنه حجر فلس؛ بناء على القولين في صحة إقرار المفلس، والله أعلم.

قال: وإذا مات – أي على الردة – أو قتل، قضيت الديون من ماله، يعني الديون اللازمة له قبل الردة، وإن حكمنا بزوال ملكه بنفس الردة؛ لأن الردة وإن أزالت الملك فحقها أن تكون كالموت، [والموت] مزيل للملك، ثم الديون الثابتة في حال الحياة تتعلق بما يخلفه الميت، وهي مقدمة على حقوق الورثة، فبأن تقدم هاهنا على حقوق أهل الفيء أولى؛ لأن جهة الزوال بالردة عرضة للارتفاع بالإسلام، والموت مزيل للملك على الثبات، ويثبت حق الورثة على اللزوم، وهذا ما ادعى القاضي الحسين والإمام نفي خلافه.

قال: والباقي فيء؛ لأنه لما امتنع أن يرثه عنه أقاربه المسلمون؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " [لَا يَتَوارَثُ] أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى"، وأقاربه الكفار؛ لما فيه من علقة الإسلام، ولا مرتدٌّ مثلُه؛ لامتناع إرث المرتد – فتعين كون ماله فيئاً، كحال من لا وارث له من أهل الذمة.

وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عباس – رضي الله عنهما – ولا مخالف لهما من الصحابة.

ص: 333

وأما [ما] تعاطى سبب إيجابه بعد الردة فينظر: فإن كان تصرفاً جائزاً كان كالديون اللازمة قبلها، وإن كان تصرفاً مردوداً لم يستحق، وفي أرش الجنايات على الأنفس والأموال وجهان:

ظاهر المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي": أنها تقضي من ماله.

والثاني: أنها لا تقضي؛ بناء على أن ملكه قد زال بالردة، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالاً مخرجاً على مذهب الإصطخري [في أنه لا تجب نفقة القريب في ماله على هذا القول، وقد [حكى أن الإصطخري] وأبا الطيب بن سلمة قالا به، وهو المختار في "المرشد"، وقد قيل: إن الإصطخري] طرده في قضاء الديون السابقة على الردة.

فروع: إذا كانت الديون مؤجلة ولم يمت بعد فهل تحل بردته؟

قال الأصحاب: ذلك ينبني على زوال ملكه، فإن قلنا ببقائه فلا، وإن قلنا بزواله فنعم، وإن قلنا بقول الوقف: فإن أسلم تبَيّنا عدم حلولها، وإلا تبينا حلولها.

ولو كان قد استولد جارية، أو دبَّر مملوكه فلا يعتق على الأقوال كلها؛ لأن عتق المستولدة يتعلق بالإياس من الاستفراش، ولم يوجد، والمدبر تعلق عتقه بالموت لفظاً ولم يوجد، نعم لو مات أو قتل عتقت المستولدة على الأقوال كلها؛ [لأنها] لا تقبل التصرف ونقل الملك، وأما المدبر فإن قلنا بزوال ملكه أو بقول الوقف فلا يعتق، وإلا كان كما لو دبر من لا وارث له عبداً ثم ماتن ولو استولد المرتد أمته في حال ردته: فإن أثبتنا له الملك نفذ، وإلا فلا ينفذ، فإن أسلم فقولان كما لو استولد المشتري الجارية المشتراة في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع، فتم البيع.

قال: فإن أقام وارثه بينة – أنه صلى بعد الردة، أي التي حكمنا بصحتها منه، فإن كانت الصلاة في دار الإسلام لم يحكم بإسلامه، وإن كانت في دار الحرب حكم بإسلامه.

ص: 334

قال ابن الصباغ والماوردي: والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن إظهار الإسلام في دار الحرب إنما يكون في الصلاة؛ فإنه لا يمكنه إظهار الشهادتين بينهم، بخلاف دار الإسلام.

والثاني: أن صلاته في دار الإسلام تحتمل أن تكون تقية، وفي دار الحرب لا يحتاج إلى اتقاء المسلمين، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عن النص.

وقال البندنيجي: إنه منصوص عليه في كتاب "المرتد [الكبير] ".

والماوردي: إنه في "الأم" ثم قال: وفيه نظر؛ لأنه لو صارت الصلاة إسلاماً للمرتد لصارت إسلاماً للحربي. و [على] هذا جرى الإمام حيث حكى عن العراقيين ما ذكرناه، واستبعده، ثم قال: والوجه في قياس المراوزة القطع بأنه لا يحكم بإسلامه في دار الحرب، كما لو صلى فيها الكافر الأصلي. وهذا منهما دليل على أن الحربي لا يحكم بإسلامه بصلاته في دار الحرب، وبالغ الإمام في ذلك فقال: لو حكم به حاكم كان صائراً إلى مذهب أبي حنيفة.

وفي "الرافعي": أن صاحب "البيان" سوى بين الكافر الأصلي والمرتد فيما ذكرناه، وهذا يدفع الإلزام ثم قال: ويمكن أن نفرق بينهما بأن المرتد كان مسلماً، وعلقة الإسلام باقية فيه، وهو محمول على العود إليه، والعود إلى ما كان أهونُ من افتتاح أمر لم يكن؛ فجاز أن يجعل الشيء عوداً إلى الإسلام ولا يجعل افتتاحاً.

ثم إيراد الشيخ في "المهذب" يفهم تخصيص ما ذكرناه من إسلام المرتد، بما إذا كان قد ارتد إلى دين لا تأويل لأهله، ولم أره في غيره.

ولا يحصل الإسلام بإنكار الردة بعد الشهادة عليه بأنه ارتد بكذا، سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، بخلاف ما لو شهد عليه بأنه أقر بالزنى، فأنكر - جعل [ذلك] رجوعاً، [وسقط] عنه الحد. نعم، لو ادعى أنه قال ذلك مكرهاً، ودلت شواهد الحال على صدقه - قبل قوله، وإلا [فلا] يُقبل كما

ص: 335

ذكرناه من قبل. ولو شهد عليه أنه نطق بكلمة الردة من غير أن تتعرض البينة لأنه ارتد، فقال: صدقا ولكني كنت مكرهاً – فالذي حكى عن الشيخ أبي محمد وتوبع عليه: أنه لا يقتل؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة، بخلاف ما إذا شهدت بالردة، فإن الإكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمة الردة، وعلى هذا يجب عليه أن يجدد كلمة الإسلام، فلو قتل قبل التجديد ودعوى الإكراه أو الحلف عليه، فهل يكون قتله مضموناً أم لا؟ فيه قولان، ولو قتل بعد دعوى الإكراه والحلف عليه، قال الإمام: فيقطع بأنه مضمون.

وأعلم أن الشهادة بالردة عند الماوردي لا تقبل إلا مفسرة كالجرح؛ لاختلاف الناس في أسباب التكفير، ورأى الإمام تخريج ذلك على الخلاف في أن الشهادة على البيع وسائر العقود، هل تسمع مطلقة، أم يجب التفصيل والتعرض للشرائط؟ قال الرافعي: والظاهر قبول الشهادة المطلقة والقضاء بها.

قلت: ولو رتب الخلاف في هذه الشهادة على القولين اللذين حكاهما الأصحاب فيما إذا أقر مسلم أن أباه مات كافراً، وأنه لا يرث منه، ولم يفسر بماذا كفر، بل أطلق هذا القول – لكان أولى؛ لأن الإقرار المطلق يحتمل فيه ما لا يحتمل في الشهادة المطلقة، وأحد القولين في مسألة الإقرار: أنه لا يقبل ويرثه؛ لأنه ربما يعتقد تكفير أهل البدع، والثاني: لا يرثه؛ لأنه أقر بكفره.

وفي "الرافعي" وجه جعله [الأظهر]: أنه يستفصَل، فإن فصل وذكر ما هو كفر صرف المال إلى الفيء، وإن ذكر في التفسير ما ليس بكفر صرف [المال] إليه.

فرع: إذا ارتد الأسير في يد الكفار ولم نحكم بردته، فقال أحد وارثيه: مات مرتداًّ، وقال الآخر: بل مات مسلماً – سلم للذي [ادعى] موته على الإسلام نصيبه، وفي نصيب الآخر قولان نص عليهما في "المرتد الكبير" كما حكاه البندنيجي:

أحدهما: يوقف حتى يُستبان أمره.

ص: 336

والثاني: يكون فيئاً.

ولو كان الأسير يشرب معهم الخمر ويأكل [معهم] الخنزير، ويشهد معهم مواضع متعبَّدهم، إلا أنه ما سجد لصنم، ولا [وجد منه ما يوجب الكفر – فلا نحكم بكفره. فلو مات على هذه الحالة وله ابنان مسلمان، فقال أحدهما:] مات مسلماً، وقال الآخر: بل مرتدًّا – ففيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين:

أحدهما: يكون ميراثه بين ولديه؛ لأنا نغلط مدعي ردته فيما يدعيه؛ لأنه يقول: أبي بما فعل صار مرتدًّا.

والثاني: أن نصيب المدعي الردة لا يحل له، وعلى ذلك جرى في "التهذيب".

قال: وإن علقت منه كافرة، أي: أصلية، وطئها بنكاح أو شبهة، كما قاله في "المهذب"، أو مرتدة، كما قاله أبو الطيب والماوردي والفوراني وغيرهم.

قال: بولد في حال الردة، أي: وانفصل وهما كذلك، كما قيده الفوراني.

قال: فهو كافر؛ [لأنه] متولد بين كافرين؛ فكان كافراً كولد الحربيين، لكن كفره ككفر أبيه سحباً لحكم الردة، أو كفره كفرٌ أصلي؟ فيه قولان: الأصح منهما في "الحاوي"، وادعى أنه المنصوص عليه في هذا الموضع: الأول، وادعى الفوراني أن الأصح: الثاني.

قلت: ولو قيل: بأن ولد المرتد من الكافرة الأصلية كفره أصلي، ومن المرتدة يكون مرتدًّا – لم يبعد؛ بناء على أصلين:

أحدهما: أن الذمي لا يقتل بالمرتد؛ لكونه أشرف منه، مع اشتراكهما في الكفر.

والثاني: أن المتولد بين وثني وكتابية تعقد له الذمة؛ لحكمنا بتبعيته في هذه الحالة لها في الدين؛ لكونها أشرف ديناً من أبيه، كما يتبعها في الإسلام لشرفهن وفي كتب المراوزة – فيما إذا كانت أمه مرتدة أيضاً – طريقة أخرى

ص: 337

حاكية للقولين على غير هذا النحو:

أحدهما: أنه كافر أصلي.

والثاني: أنه مسلم؛ لبقاء علقة الإسلام في الأبوين؛ لأن المرتد يجبر على الإسلام ولا تؤخذ منه الجزية، ولاتعقد معه المهادنة، ويؤمر بقضاء الصلوات التي تمر عليه أوقاتها في الكفر، وكل ذلك من علائق الإسلام، وإذا بقيت فيهما علقة الإسلام غلب على الولد حكمه. وهذا ما صححه في "التهذيب"، وبه قال صاحب "التلخيص".

وعند الاختصار يحصل في الولد ثلاثة أقوال كما ذكرها الغزالي.

ص: 338

قال: وفي استرقاق هذا الولد قولان –أي: على قولنا إنه كافر – وهما ينبنيان على أن كفره ككفر أبيه أو هو كفر أصلي.

فعلى الأول: لا يسترق كما لا يسترق أبواه؛ [لبقاء عُلْقة] الإسلام فيهما، وهذا أصح عند القاضي الحسين، فعلى هذا يستتاب بعد البلوغ، فإن تاب وألا قتل، وحكم أولاد هذا الولد حكمه.

وعلى الثاني: يسترق؛ لأنه كار لا أمان له، ولم يثبت له حكم الإيمان بنفسه؛ فهو كأولاد أهل الحرب، وعلى هذا يجوز المن عليه والفداء به.

قال الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: ولا يجوز أن يقره الإمام بالجزية؛ لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.

وقال الإمام: يجوز عقد الجزية معه إذا بلغ، وهو كالكافر الأصلي في كل معنى. وهذا قد حكاه في باب عقد الذمة وجهاً، وقال: إنه لا أصل له، وإن المذهب: أنها لا تعقد له، وأنا إذا قلنا بعقدها ففي حل المناكحة والذبيحة تردد، وأن الوجه: القطع بالتحريم.

وأما إذا علقت منه مسلمة وطئها بشبهة نكاح أو غيره، فولده منها مسلم، قال الرافعي: بلا خلاف.

وكذلك لو ارتد الأبوان بعد العلوق فهو مسلم، ومن طريق الأولى إذا ارتدا أو أحدهما بعد انفصاله وقبل البلوغ أن نحكم بإسلامه، ولا يتبع أحدهما في الكفر وإن تبعه في الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" [الإِسْلامُ] يَعْلُو، وَلا يُعْلَى".

ولو بلغ هذا الولد بعد ارتداد أبيه وأعرب بالكفر، قال البندنيجي: فالمنصوص أنه مرتد، ومن أصحابنا من قال: يقر على كفره. وهذا [ما] حكاه في "المهذب" قولاً عن تخريج ابن سريج؛ متمسكاً فيه بقول الشافعي – رضي الله عنه: لو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود. قال الماوردي: وهذا التخريج سهو منه إلا أن يكون قاله مذهباً لنسه، فيفسد بما ذكرناه.

ص: 339

قلت: ولا شك أن [هذا] الوجه يجري في الصورتين السابقتين من طريق الأولى.

ولا يجوز استرقاق [من باشر الردة بنفسه بحال، كما لا يجوز استرقاق] أهل البغي، وهذا من الأحكام التي اتفق المرتدون والبغاة فيها، وإن اختلفوا في أمور، [منها: قتلهم] مدبرين، وجواز التذفيف على جريحهم، [وقتل أسيرهم]، ورميهم بالنار ونحوها، والاستعانة عليهم بالكفار، وعدم إمهالهم مدة إذا استمهلوا لغلظ كفرهم، وكذلك قال الأصحاب: إذا امتنع المرتدون بالحرابة بدأنا بقتالاهم قبل قتال أهل الحرب، ولأنهم أهدى إلى عورات المسلمين.

وقد نجز ما في الباب من المسائل، وآن الوفاء بما وعدنا بذكره:

قال المتولي: إذا قال المسلم لمسلم: يا كافر – بلا تأويل – كفر؛ لأنه سمي الإسلام كفراً، وكذا لو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه الشهادة، فلم يفعل، أو أشار عليه بألا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد – فهو كافر؛ للرضا بالكفر، بخلاف ما لو قال للكافر: لا رزقه الله الإيمان، أو لمسلم: سلبه الله الإيمان؛ لأنه ليس رضا بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد العقوبة.

وفي "فتاوى" القاضي الحسين وجهان في كفره بالدعاء بالكفر، وكذا فيما إذا أكره مسلماً على الكفر في أنه هل يكفر بذلك أم لا؟ والمتولي جزم بكفره، بخلاف المكره على الإسلام، إنه لا يكون مسلماً به، وقال: إن العزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه [هل] يكفر أم لا؟ والتعليق بأمر في المستقبل، كما إذا قال: إن هلك مالي أو مات ولدي تهودت أو تنصرت –كفر. وإن من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع، أو نَفَى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالماً وقادراً، أو أثبت ما هو منتف عنه بالإجماع كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال – كان كافراً، وكذا من أنكر جواز بعثة الرسل، أو نبوة نبي من الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أو كَذَّبه، أو جحد آية من القرآ،

ص: 340

مجمعاً عليها، أو زاد في القرآن كلمة [واعتقد] أنها منه، أو سب نبيًّا من الأنبياء – عليهم السلام – أو استخف به، أو استحل حراماً بالإجماع، أو حرم محلَّلا بالإجماع، أو نفى وجوب مجمع عليه كالزكاة ونحوها في زماننا – ووافقه على ذلك الماوردي – أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كصلاة سادسة أو صوم [من] شوّال، أو نسب عائشة – رضي الله عنها – إلى الفاحشة، وادعى النبوة في زماننا، أو صدق مدعيها.

وعن الشيخ أبي محمد – رحمه الله أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً؛ فقد كفر ويراق دمه؛ قال الإمام: وهذه زلة ولم أر ما قاله لأحد من الأصحاب، والظاهر – وهو الذي أورده الغزالي -: أنه يعزر.

وجزم الإمام بأن سب الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو قذفٌ صريحُ كفرٍ باتفاق الأصحاب، وأن الشيخ أبا بكر الفارسي قال في كتاب "الإجماع": إنه لو تاب لم يسقط القتل عنه؛ لأن حد قذفه صلى الله عليه وسلم القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة. وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال. وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه يكفر بالسب، فإذا تاب [سقط] القتل عنه.

وقال الصيدلاني: إذا تاب سقط القتل وجلد ثمانين. ثم أبدى الإمام في ذلك مباحثة [لنفسه]، فليطلبها [من أرادها في كتاب عقد الذمة].

وقال القاضي الحسين: ولو تقلنس المسلم بقلنوسة المجوس، أو تزنَّر بزُنَّارهم – صار كافراً؛ لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا عن عقيدة الكفر، بخلاف ما لو دخل دار الحرب فشرب معهم الخمر، أو أكل لحم الخنزير – لم يُحكَم بكفره؛ فإن ارتكاب المحرمات ليس بكفر ولا يسلب به اسم الإيمان، ولا يستحق الفاسق – إذا مات ولم يتب – الخلود في النار. والله أعلم.

ص: 341