الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب استقبال القبلة
سميت [القبلة] قبلة؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله، وهي الكعبة، روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع [في] قُبُل البيت [ركعتين]، وقال:"هذه القبلة"،
وسميت-: كعبة؛ لارتفاعها عن الأرض، ومنه كعبة الرجل.
وقيل: سميت بذلك؛ لاستدارتها وعلوها، وقد بنيت خمس مرات، آخرها بناية الحجاج، وسنوضح ذلك في" [باب] صفة الحج" إن شاء الله تعالى.
وهي المسجد الحرام، قال الله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرضت الصلاة بمكة يستقبل بيت المقدس؛ كما قاله المتولي وغيره.
وقال الإمام: إنه كان يستقبل الصخرة من بيت المقدس؛ فإنها قبلة الأنبياء قبله، وهذا مروي عن الزهري، ولم يوجد له إسناد صحيح، ومشهور: أن إبراهيم-عليه السلام-كانت قبلته الكعبة، وكذا إسماعيل-عليه السلام-يدل عليه قوله تعالى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].
واختلف العلماء [وكذلك أصحابنا] في أنه-عليه السلام[كان] يستقبل ذلك برأيه واجتهاده أو عن أمر من ربه على قولين:
ووجه الأول-قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
ووجه الثاني: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143].
نعم، هل [كان] ذلك بقرآن أو بغير قرآن؟ أفهم كلام الأصحاب خلافاً فيه، واستدل أبو الطيب على [أنه] كان واجباً بالقرآن بقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} الآية [يونس: 87] وكان – عليه السلام-مدة مقامه بمكة يجعل الكعبة بينه وبينها، فيقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً؛ فيجمع في الاستقبال بين قبلة إبراهيم عليه السلام-وغيره من الأنبياء عليهم السلام فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك إلا باستدبار الكعبة؛ [لأن المدينة عن يسار الكعبة، فشق ذلك عليه، واختلف في سببه:
فقيل: لأنه كان يحب أن يصلي إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وهو ما رواه
ابن جرير الطبري بإسناده عن ابن عباس.
وقيل: لأن اليهود-لعنهم الله-قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا، وهذا قول مجاهد.
وبعضهم يقول: لأن اليهود-لعنهم الله-قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا، وهذا قول مجاهد.
وبعضهم يقول: لأن اليهود عيرته، وقالوا: هو على ديننا، ويصلي إلى قبلتنا.
والأول أقوم، ثم الثاني إن صح فهو مثول بمعنى: أنه على ديننا في القبلة.
ولما شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل أن يسأل ربه أن يجعل قبلته الكعبة؛ فعرج جبريل لذلك؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء؛ فأنزل [الله] عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية [البقرة:144] قال بعضهم: وكان بمسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب فسمي ذلك [المسجد] بمسجد القبلتين.
وقد جاء في البخاري ما يدل على أن ذلك [كان] قبل العصر؛ فإنه قال في حديث البراء: "وصلى، ثم خرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نحو الكعبة".
[لكن] روى مسلم عن البراء من طريق، [و] عن عبد الله بن عمر: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، [وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة]. وهكذا رواه مالك، والشافعي، والترمذي، وقال:
"وانحرفوا وهم ركوع".
وفي البخاري عن البراء: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم ركوع، فقال: أشهد بالله لقد صليت [مع] رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم [قبل البيت].
والجمع بين هذه الرواية وما ذكرناه أولاً: أن تحمل هذه الرواية على أن أول صلاة صلاها كاملة إلى الكعبة صلاة العصر.
وقد اختلف العلماء في أي شهر كان [ذلك]؟
فقيل: كان في رجب قبل بدر بشهرين.
وقيل: بل في شعبان.
وسبب ذلك اختلاف الرواية في مدة صلاته إلى بيت المقدس حين تحول إلى الكعبة، والذي جاء في مسلم أن ذلك ستة عشر شهراً، وفي البخاري ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وروى أبو داود عن قتادة ثمانية عشر شهراً.
وفي رواية شاذة عن معاذ بن جبل ثلاثة عشر شهراً.
واتفقوا على أن ذلك في سنة اثنتين.
قال ابن عباس: وأول ما نسخ من القرآن فيما [ذكر لنا]-والله أعلم- بيان
القبلة، والصيام الأول.
وأول من صلى [إلى الكعبة]، وأوصى بثلث ماله، وأمر أن يوجه إلى الكعبة-البراء بن معرور.
وقد دل كلام ابن عباس على أن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالقرآن؛ فحينئذ يكون القرآن قد نسخ بالقرآن، ومن قال: إنه كان بالسنة من أصحابنا، قال: أصح قولي الشافعي: أن القرآن ينسخ السنة؛ كذا حكاه أبو الطيب وهو خلاف المنقول عنه في كتب الأصول.
قال: واستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وسيأتي بيان معنى الشطر إن شاء الله تعالى، والاستقبال لا يجب في غير الصلاة؛ فتعين أن يكون [المراد] في الصلاة، ويدل عليه من السنة قوله-عليه السلام-للمسيء في صلاته كما سنذكره في "باب فروض الصلاة":"إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وكبر"، فأمره بالوضوء، والاستقبال، والوضوء شرط إجماعاً؛ فكذلك الاستقبال.
وقيل: إنه ركن، وليس بشرط، وسنذكر وجهه في "باب فروض الصلاة"، وسنذكر من كلام الأئمة في الباب ما يدل على أنه ليس بركن ولا شرط، [بل] واجب مع الذكر فقط.
قال: إلا في شدة الخوف، أي: عند التحام القتال والاضطرار إلى ترك الاستقبال، كما سنبينه في "باب صلاة الخوف"، نعم: لو قدر على أني صلي قائماً إلى غير القبلة، وراكباً إلى القبلة، صلى إلى القبلة راكباً، ولم يجز أن يصلي إلى غير القبلة قائماً؛ لأن استقبال القبلة أوكد من فرض القيام؛ أن فرض القيام يسقط في النافلة مع القدرة من غير عذر، بخلاف فرض الاستقبال.
قال: وفي النافلة في السفر، أي: حيث لا يمكنه التوجه إلى القبلة، فإنه يصليها حيث توجه، أما إذا كان راكباً؛ فلقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]،وروى سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية في المتطوع خاصة حيثما [توجه بك] بعيرك.
وروى الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته [في السفر] حيثما توجهت به.
وروى بسنده عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على راحلته النوافل في كل جهة.
وجاء أنه عليه السلام كان يسبح على راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه، أخرجه البخاري ومسلم.
قال مسلم: إلا أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وقال البخاري: إلا الفرائض.
وأما الماشي: فبالقياس على الراكب؛ لأن المشي أحد السفرين، وأيضاً: فقد استويا في صلاة الخوف؛ فكذا في صلاة النفل.
والمعنى في جواز ذلك إلى غير القبلة في السفرين؛ كما قال الخضري-: أن بالناس حاجة إلى الأسفار، وهي مظنة المشاق، فلو شرط فيها الاستقبال، لترك الناس التنفل فيها، فعفي عنه؛ كما عفي عن القيام.
[وعكس أبو زيد] ذلك، فقال: ولو لم يجز للناس ذلك، لترك الناس السفر؛ لاشتغالهم بأورادهم.
قال القفال: فانظر إلى فضل [ما بين] الاعتقادين؛ فإن أبا زيد كان رجلاً زاهداً يقدم أمر الآخرة، والخضري كان مشغولاً بأمر الدنيا؛ فكان يصلي كما يصلي الفقهاء في العادة؛ فلهذا قدم أمر الدنيا، وهذا هو المشهور.
وعن الصيدلاني: أنه لا يجوز صلاة العيد والاستسقاء والكسوف على الراحلة، أي: وإن قلنا: إنها سنة؛ لندرتها.
تنبيه: الألف واللام في كلام الشيخ في "السفر" لا للمعهود-وهو السفر الذي يجوز فيه القصر-بل هما لتعريف الماهية؛ فإن السفر الطويل والقصير في هذه
الرخصة سواء عند العراقيين والماوردي؛ عملاً بقوله في "الأم": و"طويل السفر وقصيره سواء"، وهو أصح القولين عند المراوزة؛ لأن المعنى المجوز لترك الاستقبال المشقة اللاحقة [له] بسبب انقطاعه عن السفر، واستكمال النوافل، وهذا موجود في طويل السفر وقصيره؛ كالتيمم، وبهذا فارق القصر.
والقول الثاني: أنه يشترط أن تبلغ مسافة القصر؛ لأنه تغيير ظاهر في الصلاة، وهو ترك استقبال القبلة؛ فهو حري بأن يشبه بالقصر وغيره من خصائص السفر الطويل، وهذا أخذوه من قوله في البويطي:"وقيل لا يتنفل على دابته إلا في سفر يقصر [في مثله] الصلاة".
والعراقيون قالوا: هذا ذكره حكاية عن مذهب مالك، وليس قولاً له، وهو ظاهر اللفظ.
وقال في "التتمة": إنه منصوص في القديم؛ وعلى هذا قال المراوزة: ويشترط أن يكون [له] صوب واحد، فراكب التعاسيف لا يترخص بهذه الرخصة؛ لفقد ذلك في حقه؛ لأنه الذي يستقبل تارة ويستدبر أخرى؛ إذ ليس له صوب ومقصد معين.
نعم: لو كان لمقصده صوب، ولكن لم يسلك طريقاً معلوماً، فقولان.
ثم المراد من السفر الذي هذا حكمه: السفر الذي لا يمكنه معه الاستقبال إلا بمشقة؛ يدل عليه قوله: "وإن كان ماشياً أو على دابة
…
" إلى آخره، وحينئذ ينحصر في السفر في البر على الراحلة التي لا محمل عليها يمكن المصلي فيه الاستقبال ونحوه، وهي مقطَّرة، سائرة كانت أو واقفة، وكذا غير المقطرة إذا لمتنك طوعاً له، وبه صرح العراقيون، ومنه يظهر لك الحكم في مسألتين:
أحداهما: أن سفر البحر لا يجوز إلى غير القبلة، بل يشترط فيه الاستقبال في جميع الصلاة، كما في الفرض، وبه صرح الأصحاب كافة، وخص الماوردي وصاحب "العدة" بما إذا لم يكن المتنفل مسير المركب، فإن كان سقط عنه
فرض التوجه وصلى إلى جهة مسيره، ثم غير المسير يجو له أن يصلي الفريضة فيها قائماً إن استطاع، واقفة كانت أو سائرة، وينحرف إلى جهة القبلة عند انحرافها في أثناء صلاته.
ولو هبت ريح، فحولت السفينة، فتحول بها [وجه المصلي عن القبلة- لم تبطل صلاته.
قال القاضي الحسين: وهذا بخلاف ما لو حول شخص وهجه عن جهة القبلة فنها تبطل]؛ لأن ذلك نادر، وهو في السفينة غالب.
وغيره قال: أما إن أمال قاهر المصلي عن القبلة، فإن كثر بطلت صلاته؛ لأنه يندر، وإن قل فوجهان.
قال الغزالي: وهذا بخلاف جماح الدابة؛ [فإن الظاهر] أنه إذا حدث ذلك لا تبطل صلاته؛ لأنه عام.
وما ذكرناه من جواز إقامة الفريضة في السفر في البحر لا يختص بالسفر؛ بل يجوز لمن هو مقيم ببغداد وغيرها، وكذا في الزوارق-وهي المراكب اللِّطاف-إذا كانت مشدودة مع الوفاء بإتمام الشرائط والأركان وتحرك الزورق تصعداً أو تسفلاً كتحرك السرير وغيره تحت المصلي.
نعم، لو كانت سائرة، فهل يصلي الفريضة فيها مع تمام الاستقبال والأفعال؟ قال الإمام: فيه تردد ظاهر واحتمال؛ فإن الأفعال تكثر بجريان الزورق، وهو قادر على دخول الشط وإقامة الصلاة، فليتدبر الناظر ذلك.
الثانية: أن الراكب على ظهر بعير أو دابة أو بغل أو حمار، في كنيسة أو محمل ونحوهما على صفة يمكنه التوجه إلى القبلة، ويتسع له الركوع، والسجود بجبهته-يكون التوجه في حقه شرطاً، [وعليه ينطبق] قول البندنيجي: إن التنفل عليها كالتنفل في المركب.
وحكى الماوردي والقاضي الحسين وجهاً آخر: أنه لا يلزمه ذلك؛ لأن فيه إضرار بركوبه.
وابن كج حكاه عن النص.
وعلى هذا يكون كالراكب في غيره.
وفي "حلية الشاشي": أن الأول هو الصحيح، ولا يجوز له أداء الفرض عليها في محمل ولا غيره وإن تمكن من القيام أيضاً؛ كما حكاه الشيخ أبو حامد، وفرق بينه وبين المركب حيث يجوز له إقامة الفريضة فيها: بأن السفينة لا اختيار لها؛ فلا يخشى فيها الانحراف عن جهة القبلة، وللبهيمة اختار، وتسير بنفسها؛ فلا نأمن الانحراف.
والبغوي فرق: بأن سير الدابة منسوب إلى راكبها؛ بدليل أنه يجوز الطواف عليها، بخلاف السفينة؛ فإنها كالدار يقام فيها.
وهذا فيه نظر؛ لأنه لو فرض سيل حول الكعبة حتى ركب شخص في شيء فيه وطاف، لم يظهر إلا صحة طوافه، وحينئذ فلا فرق.
والقاضي الحسين فرق: بأن العادة جارية بأن الشخص يبقى في السفينة شهراً أو دهراً؛ فجعلت في حقه من البحر كالبيت من الدار في حق البري، وما جرت العادة بأن يبقى على ظهر الدابة أكثر من يوم أو نصف يوم.
وهذه الطريقة لمي حك الإمام غيرها موجهاً لها بأن الدابة لا تراد للاستقرار، وهو معنى كلام القاضي.
وطرد لأجل ذلك المنع في صلاة المكتوبة على الأرجوحة المربوطة بالحبال؛ فنها لا تعد في العرف مكان التمكن، وهو مأمور بالتمكن والاستقرار.
وحكى ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب أنه قال: يجوز فعل الفريضة على الراحلة الواقفة إذا تمكن من تمام الاستقبال، والركوع والسجود والقيام؛ كما يجوز فعلها على سرير يحمله أربعة؛ وهذا ما جزم به القاضي الحسين، والبغوي، وغيرهما، وقالوا: لو كانت الدابة سائرة، فهل يجوز فعلها عليها؟ فيه وجهان.
وقضية قياس القاضي الحسين على السرير: أنه لا خلاف فيه، والذي أورده [الإمام] فيه: المنع.
والبغوي أجرى الوجهين في الصلاة عليه إذا كانوا سائرين به.
وإذا جمعت ما قيل في الصلاة المكتوبة على المحمل ونحوه على الدابة واختصرت، قلت: فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كانت واقفة جاز، وإن كانت سائرة فلا.
والمنصوص عليه في "الإملاء": المنع.
قال: فإن كان، أي: المسافر ماشياً، أو على دابة-أي: سائرة-يمكنه توجيهها إلى القبلة، أي: مثل أن يكون زمامها بيده، وهي طوع-لم يجز حتى يستقبل القبلة في الإحرام والركوع والسجود.
وهذا الفصل مسوق لباين ما هو مستثني من كلامه الأول، وبه يعرف صحة ما أسلفناه من بيان مراده، وهو ينظم مسألتين:
الأولى: الماشي في السفر إذا أراد التنفل، لم يجز حتى يستقبل القبلة في الإحرام والركوع والسجود؛ لأن المعنى الذي لأجله لم يجب الاستقبال في النافلة المشقة في الانقطاع عنه، وزمن هذه يسير؛ فلا مشقة فيه تلزمه؛ وهذا ما أورده العراقيون والبغوي والفوراني والمتولي.
قال بعضهم: وهو ما لم يختلف المذهب فيه.
قال البندنيجي: وعليه نص في القديم و"الإملاء"؛ فكأنه اعتبر أن يتوجه إلى القبلة في كل ركن يفتتح بالتكبير.
قلت: وفي قول بعضهم: إن هذا مما لم يختلف المذهب فيه، فيه نظر؛ لما ستعرفه من تفريع ما خرجه ابن سريج أو غيره، وقيل: إنه منصوص للشافعي.
وإن خرجت على ظاهر قوله في "الوسيط": "إن حكم الماشي في الاستقبال حكم راكب بيده زمام الناقة"-لم يحتج إلى نظر، بل نقول: هذا غير صحيح؛ لأن في استقبال الراكب خلافاً يأتي، لكن هذا من الغزالي ليس يجري على إطلاقه، بل هو محمول على أنه لا يشترط في حق الماشي الإتيان بالركوع والسجود بالفعل، بل بالإيماء، كما هو وجه-أو قول-ستعرفه، وبذلك صرح الإمام، وألا فلا خلاف في طريقهم: أن الراكب لا يلزمه الاستقبال فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام، وفي تكبيرة الإحرام والسلام خلاف، والظاهر في الماشي اشتراط الاستقبال في حال تكبيرة
الإحرام؛ [هذا ملخص ما في "الرافعي"].
ثم الماشي يجب عليه أن يركع مطمئناًّ، ويسجد على الأرض كذلك؛ لأنه يتيسر عليه، بخلاف الراكب في [غير] محمل ونحوه؛ كما سنذكره-ولا يجب عليه الجلوس للتشهد عند العراقيين والمتولي، وهو ظاهر المذهب عند الرافعي؛ لطول زمانه، كالقيام
وعن الشيخ أبي محمد حكاية نص عن [الشافعي]: أنه يلزمه أن يقعد فيه، ويسلم، ولا يمشي إلا في حال القيام، وبه قال الإمام ومن تبعه، وحكى هو وغيره عن ابن سريج تخريج قول: أنه لا يلزمه شيء من ذلك، ويقتصر على الإيماء في الركوع والسجود، كي لا يتعطل مقصود السفر، ويحكي هذا عن القفال أيضاً، ويقال: إنه وجد منصوصاً للشافعي، والمشهور في كتبه: الأول.
وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا [يجب عليه] الاستقبال فيما عدا الأحوال الثلاثة؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ.
وفي "حلية" الشاشي و"الحاوي": أنه يجب عليه-أيضاً- في حالة الجلوس بين السجدتين، وهو قضية قول البندنيجي السالف، فكأنه اعتبر أن يتوجه إلى القبلة في كل ركن يفتتح بالتكبير، وخالف هذا القيام عند الرفع من الركوع حيث لا يشترط فيه الاستقبال، فإن مشى القائم يسهل [عليه]؛ فسقط عنه التوجه فيه؛ ليمشي فيه شيئاً من سفره قدر ما يأتي بالذكر المسنون فيه، ومشى الجالس لا يمكن إلا بالقيام، وقيامه غير جائز؛ فكان عليه التوجه فيه؛ كذا قاله في "التهذيب" وغيره، وقد حكينا عن رواية الشيخ أبي محمد عن النص: أنه يجلس حال تشهده؛ وعلى هذا يستقبل القبلة، وبه صرح الرافعي وغيرهن وإذا قلنا به فلابد من الاستقبال حال السلام، وإذا قلنا بمقابله، فلايحتاج إلى الاستقبال حال التسليم.
وفيه وجه حكاه الماوردي عن البصريين من أصحابنا: أنه يلزمه الاستقبال فيه كما لزمه حال تبكيرة الإحرام؛ قياساً على النية، وهو ضعيف.
والفرق بينه وبين وجوب النية في السلام: أن السلام بصورته مناقض للصلاة، فيفتقر إلى صارف يصرفه إلى مقصود الصلاة والتحلل؛ فاعتبرت النية صارفاً، وهذا لا يتحقق في الاستبدال.
وإذا قلنا بأنه يكفيه الإيماء كان حكم الماشي في حكم الاستقبال، حكم راكب بيده الزمام كما تقدم.
المسألة الثانية: الراكب على دابة يمكنه توجيهها إلى القبلة يلزمه الاستقبال في الإحرام والركوع والسجود فقط؛ لما ذكرناه في الماشي؛ وهذا ما صدر به الروياني كلامه في "التلخيص"، وحكاه القاضي أبو الطيب وجهاً في المسألة، وعليه ينطبق قول البندنيجي: إنه إذا كان على دابة سهلة تطيعه، كان استقباله كالماشي.
قال أبو الطيب: والصحيح: أنه لا يلزمه الاستقبال إذا كانت جهة سيره إلى غيره القبلة؛ لأن في تحويل الدابة عن جهة سيره مشقة.
وفي "الشامل": أن هذا الراكب هل يلحق بالماشي حتى يستقبل القبلة حال الإحرام، أو لا يلزمه [شيء من] ذلك؟ فيه وجهان. وهذا يفهم أن الخلاف في وجوب الاستقبال حال الإحرام فقطن وبه صرح الماوردي، ونسب القول بعدم الوجوب إلى البصريين، وصححه، وقال في "المهذب": إنه المذهب. ونسب مقابله إلى البغداديين، وعليه نص في "الأم"، وصححه الروياني؛ لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، وكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه، رواه أحمد في مسنده وأبو داود.
وقال ابن الصباغ: والقياس على هذا: أنه مهما دام واقفاً فلا يصلي إلا [إلى القبلة]، فإذا أراد السير انحرف إلى طريقه؛ وهذه الطريقة مذكورة في "التتمة" مع أخرى قاطعة بالوجوب؛ لأنه قال: لا خلاف [في] أنه ليس عليه أن يصرف وجه الدابة إلى القبلة في شيء من أركان صلاته غير التكبير، [فأما حالة التكبير] هل
يلزمه ذلك أم لا؟ قال الشافعي في موضع: يفتتح الصلاة إلى القبلة.
وفي آخر: إن كان وجه الدابة إلى القبلة يفتتح الصلاة إلى القبلة، وإن كان وجهها إلى الطريق يفتتح إلى الطريق، وإن لم يكن وجهها إليهما، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: المسألة على قولين:
أحدهما: ليس عليه استقبال القبلة [وقت التكبير]؛ كما في باقي الأركان. والثاني: يجب؛ لأنها حالة العقد؛ فيعتبر فيها وجود الشرائط، ثم يجعل ما بعدها تابعاً لها، كما قلنا في النية.
ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين: إن كان زمام الناقة ولجام الفرس في يده، فعليه أن يستقبل حالة الافتتاح؛ لأنه لا يشق عليه ذلك، وإن كانت الجمال مقطرة، وهو راكب واحداً منها، فلا لأن ذلك يشق.
والقاضي الحسين قال: إن كان وجه دابته إلى غير جهة سيره وإلى غير القبلة، فلا بد من توجيهها إلى القبلة حالة الإحرام، وإن كان وجهها إلى جهة سيره، وليست جهة القبلة، فقد نص في موضع على أنه يلزمه الاستقبال عند الافتتاح، وفي آخر: على أنه لا يلزمه ذلك. واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين هما المذكوران في "التتمة".
وفي "الوسيط" في وجوب الاستقبال في ابتدءا الصلاة أربعة أوجه، ثالثها: إن كان العنان بيده، وجب الاستقبال، وإن كانت مقطرة فلا، والرابع: إن كان وجه الدابة إلى القبلة، فلا يجوز تحريفها عنها، وإن كان إلى الطريق [فلا يلزمه تحريفها] إلى القبلة، وإن كان إلى غيرهما، فلابد من التحريف، فليحرفها إلى القبلة، ثم إلى جهة سيره.
قال: ثم من اشترط الاستقبال حال الإحرام، تردد في وجوبه في وقت السلام كما في النية، وقد تقدم الرد على ذلك.
ولا يلزم المتنفل الراكب في غير محمل ونحوه تحقق الركوع والسجود، بل يومئ بهما، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ولو تمكن من أن يمس جبهته شيئاً من
إكاف الدابة ونحوه، لم يلزمه؛ لأن نزغات الدابة لا تؤمن.
وللإمام احتمال في اشتراط الانحناء إلى حيث يساوي الساجد على الأرض.
قال: والظاهر ندي أنه لا يتعين؛ لما ذكرناه من التعليل.
ولو قيل: ينحني إلى حيث لا يتوقع ذلك في حال الغفلات، لم يبعد.
تنبيه: الألف واللام في "الصلاة" في قول الشيخ: "شرط في صحة الصلاة"، لاستغراق الجنس؛ فلهذا حسن بعده الاستثناء، وهو يقتضي مع الاستثناء أن الاستقبال شرط فيما عدا ما استثناه، وحينئذ يدخل فيه صور، ننبه على ما قد يخفى منها.
فمنها: المحرم إذا خاف إن صلى فوت الوقوف، وإن مضى ليقف بعرفة خرج وقت الصلاة، لا يصلي إلى غير القبلة ماشياً، بل قوله:"ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت
…
" إلى آخره يقتضي أنه يصلبها في الوقت وإن فاته الوقوف.
وللأصحاب [في المسألة] ثلاثة أوجه ذكرتها في صلاة الخوف.
ومنها: النافلة في الحضر لابد من الاستقبال فيها كما في الفريضة.
وعن الإصطخري أنه جوزها على الراحلة ونحوها إلى حيث تتوجه إذا كانت سائرة؛ للحاجة إلى ذلك.
ويقال: إنه كان يفعله في صكوك بغداد وهو محتسب بها.
وحكى البندنيجي والروياني عنه: أنه جوز ذلك للماشي في الحضر أيضاً.
وقال القاضي الحسين: تنفل الماشي في الحضر يترتب على الراكب، فإن قلنا [ثم]:لا يجوز، فالماشي أولى، وألا فوجهان.
والفرق: أن الماشي يمكنه أن يدخل إلى المسجد، ويصلي فيه من غير ضرر يلحقه، بخلاف ما لو كان راكباً.
والجواز في الحالين هو مختار القفال، كما حكاه في "التتمة".
وقال الشيخ أبو محمد: إن القفال كان يختار جواز التنفل على الراحلة إن كان
يستقبل القبلة في جميع صلاته، وألا [فلا يجوز].
قال الإمام: وهذا يلتفت إلى أن المتنفل القادر على القيام له أن يتنفل مضطجعاً، والمذهب: المنع.
أما إذا لم يكن المقيم في البلد سائراً، فقد أفهم كلام بعضهم أنه لا يجوز بلا خلاف على مذهب الإصطخري.
وكلام الإمام كالصريح [في] أنه لا يشترط على هذا المذهب أن يكون سائراً كما لا يشترط ذلك في المسح على الخفين يوماً وليلة في الحضر، ون كان الترخص بالمسح شرع إعانة للسائر على مقاصده.
ومنها: الغريق على لوح يخاف إن توجه إلى القبلة غرق، والمربوط على خشبة إلى غير القبلة، والمريض العاجز عن الحركة إذا لم يجد من يوجهه إلى القبلة-أن الاستقبال في حقه في [النفل والفرض] شرط.
وقد قال الرافعي: إن من هو على اللوح في اللجة كمن هو في شدة الخوف، وكذا سائر وجوه الخوف [ملحقة] به، وليس القتال معنيًّا لعينه، وإنما المعتبر الخوف.
وأما المربوط والمريض الذي لا يقدر على التحول فهو معذور؛ فلا يكلف بما ليس في وسعه؛ [الأجل هذا] قال بعض الشارحين: ينبغي أن تستثني هذه الأحوال من كلام الشيخ.
قلت: وليس الأمر كذلك؛ فإن المنقول في المربوط إلى غير القبلة: أنه يلزمه الإعادة، وهو المشهور في الغريق إذا صلى إلى غير القبلة أيضاً والمريض، ولزوم الإعادة يدل على أن الاستقبال شرط؛ إذ لو لم يكن شرطاً لما لزمته الإعادة، كما في صلاة شدة الخوف، ويشهد لذلك أن الطهارة لما كانت شرطاً حال وجود الماء أو التراب وعدمهما، ألزمناه الإعادة عن فقد الماء والتراب، ولما لم تكن السترة شرطاً حال عدمها، لم تلزمه الإعادة إذا صلى عرياناً؛ للعدم على الصحيح.
وفي "التتمة": [أن من الأصحاب] من قال في الغريق: إذا صلى على اللوح إلى غير القبلة، في الإعادة قولان بالنقل والتخريج.
ومنهم من قطع بالإعادة كما في المربوط على خشبة.
وحكى في "الإبانة" الطريقة الأولى وطردها فيما إذا صلى إلى القبلة أيضاً. والمريض العاجز، منهم من ألحقه بالغريق.
ومنهم من قال: تجب الإعادة قولاً واحداً؛ لندرته؛ حكاها المتولي وشيخه.
ومنها: من خاف فوت الرفقة أو على ماله-فقد قال الأصحاب: إنه يصلي على حسب حاله، ويعيد.
وقال القاضي الحسين: هل يعيد؟ يحتمل وجهين.
ومنها: صلاة الجنازة في الحضر والسفر؛ لأنها فرض كفاية، وعليه نص في "الأم"، ومنه يؤخذ أنه لا يجوز فعلا على الراحلة؛ إذ لو جاز لم يشترط فيها الاستقبال، وهو الصحيح.
والغزالي وجهه بأن معظم أركانها القيام، ومقتضاه: أنه [لو تمكن] من القيام عليها أن يجوز، خصوصاً إذا قلنا: إن فعل الفريضة على الراحلة [إذا تأتَّى الإتيان بجميع شرائطها وأركانها تامةً-يجوز.
وقد قال الإمام ها هنا: الظاهر الجواز. وإن قال في الفريضة: إنه لا يجوز مطلقاً.
وحكى ابن الصباغ عن صاحب "التقريب" جواها على الراحلة] مطلقاً إذا لم يتعين عليه، وهو قول البصريين؛ كما قال الماوردي.
وفيه وجه آخر: أنه يجوز وإن تعينت.
ومنها: الصلاة المنذورة وهو المحكي عن نصه في "الأم"، والأصحاب قالوا: هو جواب على أن لانذر كواجب الشرع، كما هو الصحيح.
أما إذا قلنا: إنه كجائزه؛ فتجوز على الراحلة، كما في النفل.
وفي "الرافعي" حكاية وجه آخر: أنه إن أوجبها وهو بالأرض لا يصليها على الراحلة، وإن أوجبها وهو راكب أجزأه فعلها على الدابة.
ومنها: ركعتا الطواف، وذلك ظاهر، إذا قلنا: إنهما [فرض، أما إذا قلنا: إنهما سنة]، فقد قال الرافعي والمتولي والفوراني: إنه يجوز فعلهما على الراحلة. والذي رأيته لغيرهم: أنه لا يجوز- أيضاً-[لفقد السير حال] الإتيان بهما مع كونه في البلد، والأصحاب متفقون على أنه لايجوز للمسافر وهو في البلد أن يتنفل على الدابة في حال سكونه، بل لو قدم بلداً أو قرية وهو في أثناء الصلاة على
الراحلة، ينزل ويبني على صلاته، سواء كان البلد مقصده أو في طريقه.
نعم: لو كان البلد طريقه، ولا أهل له فيه ولا مال، ولم يقف للنزول، بنى عليها؛ لأنه [مسافر سائر]؛ فكان جوف البلد كالصحراء؛ وهذا بخلاف ما لو وصل إلى مقصده؛ فإنه لا يجوز له الإتمام على الدابة وإن كان سائراً؛ لأن سفره انقطع؛ فينزل، ويتم صلاته إلى القبلة كالمقيم.
وإن كان له في البلد الذي مر به أهل أو مال، فهل يكون كوصوله إلى مقصده؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين" جاريان في أنه هل يقصر فيه أم لا؟
وقالوا: لو أنه وقف في أثناء الطريق للاستراحة أو لانتظار رفقة-لزمه الاستقبال ما دام واقفاً، فإن سار بعد ذلك، نظرت: فإن كان سيره لأجل سير الرفقة، أتم صلاته إلى جهة سفره، وإن كان هو المختار لذلك من غير ضرورة، لم يجز [أن يسير] حتى تنتهي صلاته؛ لأنه بالوقوف قد لزمه فرض التوجه.
وإذا [قد] عرفت أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا ما استثنى، فاعلم: أنه واجب في جميع الصلاة، فلو ولاها ظهره في شيء منها عمداً، بطلت صلاته، وإن انحرف عنها يميناً وشمالاً، فكلام الشافعي [الآتي] يدل على أنها لا
تبطل إن لمي تعمد ذلك، بل وقع منه سهواً، والذي ذكره العراقيون: أنها [لا تبطل، طال زمن] استدباره لذلك أو قل، لكنه إن طال سجد للسهو، وإن لم يطل فلا يسجد.
وحكى المراوزة في البطلان ند طول الفصل وجهين، أصحهما البطلان، وهو الذي ذكره الصيدلاني وصاحب "التهذيب"، وقال القاضي الحسين:[إن عليه نص] الشافعي. ووجهه بأن الصلاة لا تحتمل [الفصل] الطويل، وهذا من [كلامهم] يدل على أنه في حال عدم استقبال القبلة ساهياً ليس في الصلاة، ومنهي ظهر أن قول من قال: إن الموالاة في الصالة ركن- ما ستعرفه-غير صحيح.
والخلاف في البطلان في هذه الصورة مشبه عندهم بالكلام الكثير ناسياً، وسيأتي مثلها عن حكاية الماوردي في نظير المسألة.
ولو كان المُحَرِّف له عن القبلة غيره قهراً: فإن طال الزمان، بطلت، وإن قصر، فوجهان، أصحهما: البطلان.
والفرق بني السهو وقهر الغير: أن النسيان مما يكثر ويعم، والإكراه في مثل ذلك يندر؛ ولهذا قلنا: لو أكره على الكلام في صلاته تبطل على الصحيح، بخلاف النسيان.
ثم جهة مسير المتنفل راكباً وماشياً إذا اكتفينا بها عن جهة القبلة مقامة في حقه مقام القبلة في حق غيره مطلقاً- على وجه- حتى لو عدل عنها إلى جهة القبلة عمداً تبطل صلاته، حكاه في "التتمة"، وصورة ذلك ما إذا أدار وجهه إلى دبر الدابة.
وهذا الخلاف أبداه القاضي الحسين في "فتاويه" احتمالين.
والمشهور: [أن] عدوله إلى جهة الكعبة لا يقدح في صلاته؛ لأن ذلك هو الأصل وترك رفقاً به، فإذا عدل إليه لم يضره.
نعم: لو عدل [عن جهة سيره، ولست جهة القبلة، فالأمر كما لو عدل عن القبلة
إلى غيرها] إن فعل ذلك عمداً-قال الشافعي-:بطلت صلاته، كما إذا ولى ظهره القبلة.
قال أبو الطيب: وهذا يدل على أنه إذا انحرف يميناً وشمالاً لا تبطل.
وإن لم يتعمده، بل فعله ساهياً أو جاهلاً بالطريق، لم تبطل عند العراقيين، طال الزمان أو قصر.
[قال الشافعي: ويسجد للسهو إن طال زمن ذلك دون ما إذا قصر].
وقال المراوزة: في بطلان صلاته عند طول الفصل القولان: فإن قلنا: لا تبطل، سجد للسهو، وكذا عند قصر الفصل؛ لأن فعل ذلك عمداً يبطل، فاقتضى سهوه السجود.
وغلبة الدابة له بحيث أمالته عن جهة سيره عند الشيخ أبي حامد وأتباعه كالنسيان.
وقال الماوردي: إن عدلت به عن جهة مسيره إلى جهة القبلة، فهو بالخيار بين [أن يبقيها وبين أن يردها إلى جهة [سيره].
ولو عدلت به إلى غير جهة القبلة، فهو بالخيار بين أن يردها إلى جهة القبلة أو إلى جهة] مقصده، فإن عدل إلى إحدى الجهتين في الحال، أجزأته صلاته، وفي سجود السهو وجهان.
وإن لم يردها إلى إحدى الجهتين مع القدرة، بطلت، ومع العجز: إن قصر الزمان، لم تبطل، وفي السجود وجهان، وإن طال، ففي البطلان وجهان، كما في الكلام الكثير ناسياً.
والغزالي جعل جماح الدابة عن جهة قصده بمنزلة إحالة الشخص عن القبلة، فقال: إن طال الزمان، بطلت صلاته، وإن قصر، ففي البطلان وجهان.
وقال الإمام: الظاهر عدم البطلان؛ فإن نفرة الدابة وجماحها مع ردها على قرب مما يعم وقوعه، وتظهر البلوى به، ولو قضينا ببطلان الصلاة بقليل ذلك؛ لأثر هذا في قاعدة الرخصة.
وأما صرف الرجل الرجل عن [جهة] القبلة فنادر، لا يعهد وقوعه إلا في غاية النذور، ولهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمان قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب.
قال الرافعي: وأنت إذا تصفحت كتب الأصحاب وجدت الأمر كما قال، وإذا جمعت بين كلام الماوردي والغزالي واختصرته، قلت: في بطلان صلاته [عند] انحرافه عن جهة سيره بسبب جماح الدابة [ثلاثة أوجه]، ثالثها: إن طال [الفصل] أبطل، وألا فلا.
وإذا قلنا: لا يبطل، فهل يسجد للسهو؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها- وهو ما اختاره الصيدلاني، ومال إليه الإمام [لا يسجد]؛ لأن سجود السهو لا يثبت إلا عند سهو المصلي بترك شيء أو فعل شيء، ولم يوجد من المصلي شيء.
والثاني: يسجد؛ لجبر ما وقع من خلل [في] صلاته.
والثالث: إن طال الفصل سجد، وألا فلا، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد عن النص.
قال: والفرض في القبلة إصابة العين- أي: عين الكعبة-لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:144]، أي: نحوه، وجهته، قال الشاعر:
ألا من مبلغِّ عمراً رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو
أراد: نحو عمرو، وتقول العرب: شاطرنا بيوت بني فلان، أي: حاذينا البيوت.
وحديث البخاري الذي قدمناه في أول باب يدل عليه، ويدل-أيضاً-على أن استقبال الحجر وإن ثبت بالسنة أنه من البيت [لا] يكفي، وهو أصح الوجهين في
"الحاوي" وقد قال القاضي أبو الطيب في كتاب الحج: إن الحنفية قالوا: إن ذلك مجمع عليه بيننا وبينهم. قال: وهذه المسالة لانعرف عن الشافعي ولا عن أحد من أصحابنا نصًّا فيها؛ فيحتمل ألا نسلمه، وإن سلمناه، فنقول: إنما لم يسقط الفرض عن المصلي بالتوجه إليه؛ لأن قدر الخارج من البيت مختلف فيه؛ لما اختلف فهي قلنا: لا يسقط الفرض عن المصلي إلا بيقين، وهو أن يتوجه إلى البنية.
قلت: وهذا التوجيه فيه نظر؛ لان الكلام فيما اتفقت الروايات على أنه من البيت إذا استقبله لا ما وقع الاختلاف فيه. نعم: العلة الصحيحة ما قالها الماوردي: أن الحجر ليس ثابتاً من البيت قطعاً وإحاطة، وإنما هو بغلبة الظن؛ فلم يجز العدول عن [اليقين] والنص لأجله.
ثم إصابة عين الكعبة تتحقق بمقابلة كل البدن لها، وهل يكفي مقابلتها [ببعض البدن؟ ينظر:] فإن كانت المقابلة ببعض العرض في كل الطول؛ بأن وقف مقابلة بعض الأركان، وبعض بدنه خارجاً عن سمتها-فهل يصح؟
حكى القاضي الحسين فيه قولين كالقولين فيمن لم يقابل الحجر بجميع بدنه في ابتداء الطواف: هل [يعتد به] أم لا؟ والذي ذكره الروياني في "تلخيصه": أنه لا يكفي، وهو ما حكى الإمام عن الصيدلاني القطع بهن والأصح في الرافعي.
[و] إن كنا الاستقبال بكل العرض لكن ببعض الطول، مثل: أن وقف داخل الكعبة [واستقبل ما شخص من العتبة]، والباب مفتوح، ففيه-أيضاً- خلاف بين الأئمة، والذي حكاه بعضهم عن الشيخ أبي حامد: أنه يكفي، سواء كان الشاخص قدر مؤخرة الرحل أو دونه.
وحكى الإمام عن رواية العراقيين وجهاً: أنه لا يكفي ما لم يكن ما يستقبله قدر قامة المصلي.
[قال: وهو منقاس حسن.
ورأيت في "زوائد العمراني": أن الطبري قال في "عدته": هل يشترط أن يكون الشاخص بقدر قامة المصلي؟] فيه وجهان ذكرهما أبو حامد:
أحدهما: نعم؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لا يكون مستقبلاً بجميع بدنه.
والثاني: لا يشترط، بل إذا كان قدر مؤخرة رحل البعير جاز، ودونه لا يجوز، وهذا هو المشهور، ولم يذكر المسعودي غيره. ومؤخرة الرحل، سنذكر عند الكلام في المرور بين يدي المصلي حدها.
و [القاضي] أبو الطيب رأى [أن] المعتبر قدر ذراع، فلو نقص عنه لم تصح صلاته، ولم يحك سواه؛ لاعتقاده أن مؤخرة الرحل ذراع، والقائلون بهذا الوجه، قال الإمام: كأنهم راعوا في هذا القدر أن يكون [في] سجوده يسامت بمعظم بدنه ذلك الشاخص، لكنه فيه شيء؛ من جهة أنه في حال قيامه خارج بدنه عن مسامته ذلك الشيء، وقد تردد الأصحاب في الخروج ببعض البدن عن المحاذاة، ولكن هؤلاء نزلوا هذا منزلة ما لو استعلى الواقف والكعبة أسفل منه، ومع هذا ففيه نظر، فإن جميع الكعبة إذا تسفل، فهو القبلة بلا مزيد؛ فينزل عليه اسم الاستقبال، وهذا الشاخص في حق الواقف أمامه جزء من الكعبة، وفيه من تبعيض الأمر في المحاذاة ما ذكرناه.
[وجميع] ما ذكرناه في العتبة جار كما قال الأصحاب فيما إذا صلى على ظهر الكعبة وبين يديه سترة متصلة.
وقال الإمام: إننا إذا اعتبرنا قدر قامة المصلي؛ فيجب طرده في اعتبار عرضه أيضاً. قال: فمن قرب منها، لزمه ذلك-أي: إصابة العين- بيقين؛ لقدرته عليه، ولا يسوغ له الاجتهاد، كما لا يسوغ لمن قدر على النص في واقعة أن يجتهد فيها؛ لاحتمال تطرق الخطأ إليه.
ثم اليقين تارة يحصل بالمشاهدة حال دخوله في الصلاة، وتارة يكون بعلمه ذلك بالمشاهدة قبل الدخول، فإن لم توجد المشاهدة حال دخوله في الصلاة؛ لظلمة ونحوها، وقف في موضع وقوفه حال المشاهدة.
قال: ومن بعد عنها، لزمه ذلك بالظن في أحد القولين؛ لأن المطلوب في المكان القريب والبعيد واحد؛ قال الله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]،وقد ثبت بذلك أن فرض القريب من الكعبة التوجه إلى عينها؛ فكذا فرض البعيد، لكن [القريب] يمكنه اليقين؛ فلزمه، والبعيد لا يمكنه اليقين؛ فتعين الظن، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره البغوي، وهذا [الظن طريق] تحصيله عند عدم مخبر بالمشاهدة-الاجتهاد.
قال: و [في] القول الآخر الفرض لمن بعد الجهة؛ لقوله عليه السلام: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح.
ولأنه لو كان فرضه العين، لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين لو مد خيط مستقيم من عين الكعبة إليه، وهذا ظاهر ما نقله المزني؛ ولأجله قال بعضهم: إنه الجديد، واختاره في "المرشد".
وقال الشيخ أبو حامد وأتباعه: [إنه] لا يعرف للشافعي، وإنما [هو] مذهب للمزني وجهة القبلة لمن هو بمصر ما بين المشرق والمغرب، فإذا جعل المصلي المشرق على يساره والمغرب على يمينه كان مستقبلاً جهتها.
وقد أجاب القائلون بالأول عن الخبر بما قاله [ابن الصلاح]: أنه قيل: إنه موقوف على عمر.
قال: وهو المشهور، والصف الطويل إنما صحت صلاتهم عند البعد عن الكعبة؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي؛ فنه لو اشتعلت نار على رأس جبل، ووقف جماعة يهم كثرة على بعد منها؛ فإن كلا منهم يرى النار في محاذاته، ولو مد من موضعه خيطاً إليها تهيأ.
وهذا الجواب كلام الإمام يأباه، فإنه قال: لو وقف صف في آخر المسجد بحيث لو قاربوا الكعبة يخرج بعضهم عن السمت، صحت صلاة جميعهم، بخلاف ما لو كانوا بالقرب من الكعبة؛ فإنه لا تصح صلاة من خرج عن سمتها.
قال: مع أنا نعلم بالقطع أن حقيقة المحاذاة لا تختلف بالقرب والبعد: فتعين أن يكون المتبع في ذلك وفي نظائره حكم الإطلاق والتسمية لا حقيقة المسامتة، فمن يطلق عليه اسم الاستقبال عند البعد تصح صلاته، وإن كان لو قرب يخرج عن السمت.
قال: وعلى ذلك بنى الشافعي تفصيل القول في الصلاة على ظهر الكعبة، فقال: إن لم يكن على طرف السطح شيء شاخص من بناء الكعبة- لا تصح صلاته؛ فإن من علا شيئاً لا يسمى مستقبلاً، [ولو وقف على أبي قبيس، فالقبلة مستقلة]
عن موقفه، وصلاته صحيحة؛ لأنه يسمى مستقبلاً.
وقال بعضهم: إنما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأنه لم يتعين الخارج منه عن السمت. وإلى هذا يميل كلام ابن الصباغ؛ لأنه قال بعد حكاية صحة صلاة الصف الطويل: وهذا لعمري يكون مع [تقوس الصف، فأما مع] الاستواء فلا يمكن المحاذاة، وإنما طريقه الظن، فإذا لم يتعين المخطئ؛ فلا يجب على واحد القضاء.
قلت: وقول ابن الصباغ "وهذا لعمري يكون مع تقوس الصف" مؤذن بأن محل الكلام إذا كان بمكة، وألا فلا معنى للتقوس.
وقوله: "إن مأخذ الصحة عند الاستواء الظن"، فيه نظر؛ لأنه يلزم منه ألا تصح صلاة من في [آخر] الصف إذا كان بينه وبين إمامه أكثر من قدر عرض الكعبة؛ لأنه دائر بني أن يكون هو خارجاً عن الكعبة أو إمامه، وأياً ما كان فلا تصح القدوة، ولم يمنع من ذلك أحد، وحينئذ فلا مأخذ إلا ما قاله الأولون والإمام.
واعلم أن قول الشيخ: "في أحد القولين" يعود إلى ما ذكرناه من أول الفصل إلى قوله: "بالظن"، فكأنه قال: الفرض [في القبلة] في أحد القولين إصابة العين، فمن قرب منها، لزمه ذلك بيقين، ومن بعد عنها، لزمه ذلك بالظن؛ ولذلك [عبر عنه] العجلي بأن الواجب على ظاهر المذهب إصابة العين على حسب الوسع.
وفي القول الآخر: الفرض لمن بعد الجهة.
وقد أطلق الشيخ القرب والبعد ولم يحده، [ولعل مراده] بالقرب أن يكون بموضع [يمكن] أن يرى الكعبة منه، وبالبعد ما إذا كان في موضع لا يمكن أن يرى الكعبة [منه] عادة لا لحائل موجود.
فإن قلت: لو كان [هذا] مراده، لكان مقتضاه لزوم طلب اليقين عند إمكان الرؤية، لولا ما بينهما من حائل.
وقد قال الأصحاب: إنه إذا كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل خلقي: كالجبال، والتلال-جاز له الاجتهاد عند فقد المخبر [كما سنذكره].
وإن كان الحائل طارئاً: كالبناء، فهل يلزمه طلب اليقين، أو يجوز له الاجتهاد، كما لو كان الحائل خلقيًّا؟ فيه وجهان.
قال في "المهذب" و"التتمة": إن ظاهر المذهب منهما الثاني، وهو المختار في "التهذيب" و"المرشد".
وقال القاضي أبو الطيب: إنه أشبه بالصواب.
وقال الغزالي: إنه بعيد؛ إذ كيف يرجع إلى الاجتهاد مع إمكان درك اليقين في عين المطلوب.
وهذا الاعتراض وارد على ما إذا كان الحائل خلقيًّا، والوجه الأول هو الذي حكاه البندنيجي عن الأصحاب حيث قال: إن الشافعي ذكر في أول استقبال القبلة من "الأم": "فكلما كان يقدر على رؤية [البيت] ممن بمكة في مسجدها أو منزل منها أو سهل أو جبل، فلا تجزئه صلاته حتى يستقبل البيت بالصواب".
وقال بعد مسائل من هذا الكتاب: "ومن كان بمكة لا يرى البيت، أو خارجاً من مكة؛ فلا يحل له كلما أراد المكتوبة أن يدع الاجتهاد [في طلب] صواب الكعبة بالدلائل من الشمس والنجوم والقمر والجبال ومهب الريح، وكلما كان عنده دلائل على القبلة".
قال أصحابنا: وليست على قولين، بل على اختلاف حالين:
فقوله الأول [محمول] على ما إذا كان الحائل حادثاً.
وقوله الثاني [محمول] على ما إذا كان الحائل خلقياً.
قلت: لا شك أن [ظاهر] كلامه يقتضي إيجاب طلب اليقين عند القرب، سواء وجد الحائل أو لم يوجد، لكن قوله من بعد: "ومن غاب عنها
…
" إلى آخره يدل على أن مراده بما ذكره ها هنا إذا لم يغب عنها، وبه يعرف أن قوله: "أو غاب عنها"، لا فرق فيه بين أن يكون بسبب حائل أصلي أو حادث، وهو ظاهر المذهب؛ كما حكيناه عن "المهذب" وغيره.
ثم ظاهر كلام من حكى الخلاف والوفاق عند وجود الحائل: أنه لا فرق في ذلك بين المكي وغيره وبين من هو بمكة [أو خارجاً عنها قريباً منها، وبالثاني صرح الروياني وغيره]، وقال أبو الطيب: إن من كان بمكة ففرضه [طلب] اليقين، سواء كان الحائل أصلياً أو طارئاً، ومن كان خارجاً عنها: فإن كان مكياً، ففرضه-أيضاً- طلب اليقين كيف كان الحائل، وإن كان غريباً، فإن كان الحائل أصليًّا، ففرضه الاجتهاد، وإن كان حادثاً ففيه الوجهان.
قال: ومن صلى في الكعبة أو على ظهرها وبين يديه سترة متصلة، جازت صلاته: أما في الأولى؛ فلما روى البخار يعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسام بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح- رضي الله عنهم-فأغلقها عليه، ومكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه- وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة-ثم صلى". وأخرجه مسلم لكن قال: "عمودين عن يساره".
وإذا ثبت جواز ذلك في النفل، جاز في الفرض؛ لأن الاستقبال شرط في [النفل كما هو] في الفرض ولأنه صلى إلى جزء من البيت؛ فصحت صلاته كما لو صلى خارج الكعبة قبالة الباب وهو مفتوح.
وأما في الثانية: فلأنه متوجه إلى جزء من البيت؛ فصحت صلاته، كما في الكعبة، والاتصال يحصل بالبناء والتسمير، وهل يحصل بغرز خشبة ونحوها؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنها تندرج تحت مطلق بيع الدار؛ فدل على اتصالها.
والثاني: لا؛ إلحاقاً لذلك بالشيء الموضوع بين يديه؛ وهذا ما صححه البغوي والإمام.
والكلام في قدر السترة قد تقدم.
أما إذا لم يكن سترة [ثَمَّ] لم تصح صلاته،
ووجهه فيما إذا كان على السطح قوله-عليه السلام: "سبعة مواطن لا يجوز الصلاة فيها
…
" وذكر منها: فوق بيت الله العتيق.
ولأنه صلى عليه من غير عذر؛ فلم يصح؛ كما لو وقف على طرف السطح، واستدبر باقيه.
وفيما إذا كان في الكعبة، فبالقياس على العلو؛ بجامع ما اشتركا فيه من عدم الصلاة إليها، ويتصور ذلك بما إذا وقف قبالة الباب، واستقبله وهو مفتوح، ولا شاخص من العتبة ولا غيرها.
ولو تهدم البيت-والعياذ بالله-ولم يبق من جدرانه شيء شاخص، [فالواجب] أن يستقبل جميع العرصة [وهواءها]، فلو وقف بوسط العرصة، واستقبل باقيها، لم يصح.
وعن ابن سريج: أنه يصح، كما لو وقف خارجها، واختاره في "المرشد"، وهو خلاف النص.
والصحيح [ما] قال الإمام: "ولا شك وأن تخريج ابن سريج يجري فيما لو صلى على ظهر الكعبة"، وهذا منه دال على أن ابن سريج إنما نص على الجواز في العرصة، وكذا حكاه بعضهم، وصرح في "التهذيب" عنه بنفي الجواز على ظهر الكعبة.
والفرق لائح؛ إذ لا شيء عند انهدامها يستقبل غير العرصة، فقام بعضها مقام
كلها، كما قام بعض البناء مقام كله، ومع بقائها لا تستقبل عرصتها؛ فلذلك امتنعت الصلاة على ظهرها من غير شاخص، ولا خلاف [في] أنه لو وقف على طرف العرصة عند انهدامها، وجعل باقيها خلفه، لا تصح صلاته، وتلال الرمل [والتراب] في العرصة كالبناء، حتى تصح صلاته باستقبالها؛ كذا قاله في "التهذيب"، وصرح به في الشجرة أيضاً والزرع.
وفي "النهاية" أن الحشيشة إذا علت في أرض الكعبة لا حكم لها في الاستقبال.
وحكى في "الزوائد" عن رواية الطبري فيما إذا نبتت شجرة في البيت، وارتفعت على السطح، فاستقبلها، هل تصح أم لا؟ وجهان.
ولو حفر [حفرة] في أرض الكعبة وصلى فيها، صحت صلاته.
قال في "الذخائر": هكذا أطلقه بعض الأصحاب، وذلك إذا لم يجاوز
الحفر قواعد البيت، فإن جاوزها بحيث لا يحاذي بأعلى بدنه شيئاً [منها]، [لم تصح، وألا] فهو كالصلاة على ظهرها إلى سترة قصيرة.
قلت: وفيما قاله نظر من وجهين:
أحدهما: ما ظهر لك مما حكيناه عن الإمام في تعليل ما اكتفى به الأصحاب من الشاخص.
والثاني: أن المعتبر عند فقد البناء [الظاهر] العرصة، لا ما بها من أساس؛ ولهذا لو أزيلت القواعد-والعياذ بالله-كان حكم الاستقبال باقياً [كما] عند بقائها، وحينئذ فلا فرق بين أن يتجاوز القواعد أو لا، كما أطلقه الأصحاب.
واعلم: أنا حيث جوزنا الصلاة في الكعبة، صلاة النفل فيها أفضل منها خارجها، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، وإن رجاها فخارجها أفضل؛ قاله في "الروضة"؛ وهذا يؤخذ من قوله في "المهذب": "والأفضل أن يصلي الفرض خارجها؛ لأنه يكثر الجمع؛ فكان أفضل، وفيه نظر؛ لأن من قاعدة الشافعي: أنه إذا دار الأمر بين إدراك فضيلة [وبين بطلان العبادة، على اعتقاد غيره-كان ترك الفضيلة] إذا حصلت العبادة مجمعاً عليها أولى، دليله: ما ستعرفه في القصر ونحوه.
قال: ومن غاب عنها، فأخبره ثقة-[أي: حر أو عبد، رجل أو امرأة عن علم-
[عمل به]؛ كالمفتي إذا أخبره ثقة] في الواقعة بخبر لا يجتهد، بل يعمل به.
[وصورة ذلك] إذا كان بينه وبين الكعبة جبل، عليه شخص يراها، فأخبره بها. وكذا لو كان يعلم أن الكعبة حيث تغيب الشمس في وقت مخصوص، فأخبره [من] على موضع عال: أنه رآها غربت في هذا الموضع، ونحو ذلك.
أما لو أخبره عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد، ولم يضق الوقت-لا يقلده؛ لما تقدم في المواقيت.
وكذا لو ضاق الوقت على المذهب، [بل] يصلي على حسب حاله في الوقت، [ويعيد] إذا عرف جهة الصواب، وإن كان قد وافق بصلاته الأولى القبلة.
وعن ابن سريج: أنه يقلد غيره، ولا إعادة عليه، وطرده في الحاكم؛ كما ستعرفه في موضعه.
وقال الماوردي: إنه يقلده بلا خلاف، وهل يعيد أم لا؟ قال الشافعي فيه كلاماً محتملاً، فقال ها هنا:"ومن خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى"، وظاهره يقتضي سقوط الإعادة، وقال في موضع آخر حكاه [[عنه] المزني] ها هنا:" [ومن دله من المسلمين، وكان أعمى، لزمه اتباعه]،ولا يسع بصيراً خفيت عليه الدلائل اتباعه"، وظاهره يقتضي سقوط وجوب الإعادة.
[و] اختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
إحداها-وهي طريقة المزني وأبي الطب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل، وهي التي صححها في "المهذب"-: أن وجوب الإعادة على قولين: على الخلاف الظاهر في الموضعين، واختار المزني منهما عدم الإعادة.
والطريقة الثانية-طريقة ابن سريج-: أنه لا إعادة عليه قولاً واحداً، وحمل قول الشافعي:"ولا يسع بصيراً خفيت عليه الدلائل اتباعه"- على ما إذا كان الوقت واسعاً.
والطريقة الثالثة-طريقة أبي إسحاق المروزي-: أن الإعادة واجبة عليه قولاً واحداً، وحمل قوله:" [فهو] كالأعمى" على وجوب الاتباع، لا على سقوط الإعادة.
والغزالي قال تبعاً لإمامه: [إن] الحكم كما لو تناوب [مع] جمع على بئر، وعلم أن النوبة لا تنتهي إلهي إلا بعد خروج الوقت.
وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا أخبره غير ثقة- وهو الفاسق- بالقبلة: انه لا يرجع إلى قوله، وهو وجه في المسألة مقيس على ما لو أخبر عنه عليه السلام، و [لم] يحك الإمام غيره.
وحكى القاضي الحسين [وغيره وجها][آخر]: أنه يرجع إليه.
وقال في "التتمة": إنه المذهب؛ لأنهم لا يتهمون في ذلك.
ولا يقبل خبر الكافر [بحال].
وفي قبول رواية الصبي في ذلك وجهان، وقيل: قولان؛ لأن القاضي الحسين قال: إن القفال سأل أبا زيد عن ذلك، فقال:[إن الشافعي نص على قبول روايته؛ إذا كان مراهقاً، وانه سأل أبا عبد الله-أعني: الخضري-عن ذلك، فقال:] لا يجوز له تقليده نصاًن فأخبرته بقول أبي زيد، فقال: أنا لا أتهمه في ذلك.
ويحتمل أن [يكون] الشافعي أراد بذلك [النص] إذا دله فإنه يجوز، وبالنص الثاني إذا أخبره بجهة القبلة باجتهاد من قبله.
وبالجملة: فمعظم الأصوليين على عدم قبول روايته، والفوراني قال في كتاب الصيام: إن الأصح قبولها.
قال [الإمام]: وعلى هذا يشترط أن يكون مميزاً، ولا يكون كذاباً.
قال: وكذلك إذا رأى محاريب المسلمين في بلد صلى إليها، ولم يجتهد.
قال ابن الصلاح: لأن الإجماع منعقد على اتباعها والعمل بها؛ فإن السلف والخلف مجمعون على [أن] من انتهى إلى بلد صلى إلى قبلة أهله، ولم يجتهد؛ وعلى ذلك يحمل ما حكاه ابن الصباغ من الإجماع، وبعضهم حمله على الإجماع
على نصها، فقال: لعل ذلك فيما إذا تكرر عليها الزمان، ووقف عليها العدد الكثير، وعدم الطاعنون والمنكرون؛ فإن ذلك ينزل منزلة إجماعهم عليها، وإلا يجوز [أن يكون][الوضع] عن اجتهاد، والمخبر عن اجتهاد لا يعمل بخبره القادر عليه.
والحكم في القرية الكبيرة المطروقة كالبلد، بل قال في "التهذيب": لو وجد محراباً، أو علامة للقبلة [في طريق] جادة المسلمين، وجب عليه التوجه إليها.
وكذلك لو أخبره عدل بأنه رأى جماعة من المسلمين اتفقوا على هذه الجهة، فعليه قبوله، وليس بتقليد، بل هو قبول الخبر من أهله، كما لو أخبره أني رأيت الشمس طالعة.
وإذا ثبت هذا الحكم في محاريب بلد صلى إليها المسلمون، ففي محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبكل موضع صلى فهي أولى؛ لأنه لا يقر على الخطأ، وبه صرح الأصحاب كافة، وقالوا: حكم ذلك حكم الكعبة فيما ذكرناه، ولا يجوز أن يجتهد فيه بالتيامن والتياسر.
ولو تخيل عارف بأدلة القبلة: أن الصواب في ذلك أن يتيامن أو يتياسر قليلاً فخياله باطل.
وهل يجوز أن يجتهد في محاريب المسلمين بالتيامن والتياسر؟ وفيه وجهان:
ظاهر المذهب منهما في "النهاية" الجواز، وهو الذي أورده القاضي الحسين والفوراني والبغوي والمتولي والأكثرون، [كما] قال الرافعي.
والمذكور في "الحاوي" مقابله، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه.
وقال بعض المتأخرين: إنه الصحيح؛ إذ لو جاز لمنع من الصلاة بدونه، ولا قائل به.
وعبارة الإمام: أن من قال بالجواز، يلزمه أن يقول: حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل إلى بلد أن يجتهد في صوب قبلته، وقد يلوح له [أن] التيامن وجه الصواب. قال: وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعد ظاهر.
وقال القاضي الروياني وغيره: قبلة الكوفة يقيناً كقبلة المدينة؛ لأنه صلى إليها الصحابة، بخلاف قبلة البصرة.
قال الرافعي: وقضية هذا جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في قبلة البصرة دون الكوفة، وفيما نقل عن ابن يونس القزويني: أن قبلة الكوفة قد صلى إليها عليّ مع عامة الصحابة، ولا اجتهاد مع إجماع الصحابة.
قال: واختلف أصحابنا [في قبلة البصرة]: فمنهم من قال: هي كقبلة الكوفة. ومنهم من جوز فيها الاجتهاد؛ لأن ناصبها عتبة بن غزوان وناصب قبلة الكوفة عليّ، والصواب في فعل على أقرب.
وألحق القاضي الحسين بالمحاريب الكوَّةَ الواحدة في المسجد، وقال: لو كان فيه كوى على نمط واحد على جوانب المسجد، يصلي ويعيد، اللهم [إلا] أن يكون بجانب واحدة منها علامة المحراب كالوتد للسراج ونحوه؛ فنه يصلي نحوه، ولا يعيد.
وقد احترز الشيخ بقوله: "محاريب المسلمين"[عما] إذا رأى محاريب بلد خراب [لنكه] لا يعلم من أسسه؛ فإنه لا يجوز أني صلي إليها من غير اجتهاد، كما قال البندنيجي، ومحاريب القرية التي لا يدري:[أبناها] الكفار أم المسلمون بذلك أولى؛ صرح به في "التهذيب".
وبقوله: "في بلد" عن القرية الصغيرة التي يجوز أن يتطرق الخطأ لأهلها إذا لم
يكثر المرور عليها- فإن محاريبها لا تمنع من الاجتهاد، بل لا يجوز إلا عن اجتهاد. نعم، لو نشأ فيها قرون من المسلمين، كان حكمها حكم البلد؛ قاله في "التهذيب"؛ وكذا إذا دخل إلى دار إنسان [يستخبر صاحبها]، ولا يجتهد.
قال: وإن كان في برية، واشتبهت عليه القبلة، اجتهد في طلبها بالدلائل، أي: إن كان يعرفها، والوقت متسع؛ لقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: 97] وقال عز من قائل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، ولأن له طريقاً يتوصل بها إلى معرفة المطلوب، وهي الاجتهاد، فلزمه سلوكه؛ كالحاكم إذا لم يجد في الحادثة نصًّا.
ومما ذكرناه يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا شك: هل صلى ثلاثاً أو أربعاً؟ أو نسي صلاة من الخمس، حيث قلنا: إنه يبني على اليقين فيهما؛ لأنه لا مجال للاجتهاد يهما؛ لفقد العلامات، وهي موجودة هنا.
وإذا كان عليه طلبها بالدلائل، فلو تركه، وصلى [بالاجتهاد] إلى جهة، ثم ظهر أنها جهة [القبلة أو] غيرها، وجبت عليه الإعادة بلا خلاف.
قال في "الذخائر": [وهذا بخالفي ما لو اشتبه عليه إناء طاهر، فهجم، وتوضأ بواحد من غير اجتهاد، فظهر أنه طاهر قبل شروعه في الصلاة-فإنه يصح وضوءه على الصحيح من المذهب؛ لأن المقصود من الوضوء الصلاة وقد وجد حال الدخول فيها العلم بها، بخلاف ما نحن فيه.
وإذا اجتهد وغلب على ظنه في جهة [أنها القبلة] صلى إليها، ولا إعادة عليه، إلا أن يظهر خلافه، كما سيأتي.
والدلائل، قد حكينا عن الشافعي أنه قال: هي الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، ومهب الرياح، ونحو ذلك.
ونسب الإمام عد الريح منها إلى الصيدلاني، وقال: إنه بعيد جداً؛ فإن الرياح
التفافها في مهابها أكثر من اشتدادها.
ثم لا يتأتى التمييز فيها، والعلامات تختلف باختلاف البلاد؛ فالنجم المسمى بالقطب الشمالي يجعله المصلي بمصر على عاتقه الأيسر، وبالعراق على الكتف الأيمن.
قال بعضهم: فيكون مستقبلاً باب الكعبة إلى المقام، وباليمن قبالة المستقبل مما يلي الجانب الأيسر، وبالشام يكون وراء المصلي، وقيل: ينحرف بدمشق وما قاربها إلى الشرق قليلاً، وكلما قرب من الغرب كان انحرافه أكثر.
قيل: وأعدل القبلة قبلة حران؛ فإن القطب بها يكون خلف ظهر المصلي من غير انحراف، وهو نجم صغير واقع بين الجدي والفرقدين، ومحله النصف من الخط الخارج بالوهم من الجدي إلى [الكوكب المنير] بين الرقدين.
وطريق معرفة القبلة بمصر [أن يستقبله ثم] ينزع رجليه من نعليه ويتركهما بحالهما، ويدير قدميه مستدبراً له، وذلك خط الاستواء.
[قالوا]: والواقف فيه كذلك يكون مستقبلاً للجنوب مستدبراً للشمال، والمغرب على يمينه، والمشرق على يساره-ثم يميل قدمه اليسرى إلى شماله قدر شبر، ثم يلحقها الأخرى فيكون متوجهاً للقبلة، والله أعلم.
قال: فإن لم يعرف الدلائل، [أو كان أعمى، قلد بصيراً يعرف]؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وقال-عليه السلام في قصة المشجوج "هلا سألوا إذا لم يعلموا؛ إنما شفاه العي السؤال".
فلو وجد بصيرين يعرفان، واتفق اجتهادهما فلا كلام، وإن اختلف: فهل يجب عليه تقليد أعلمهما وأعرفهما وأوثقهما عنده، أم يجوز [له تقليد] الآخر؟ فيه وجهان:
الذي حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم": الأول؛ فإنه قال: [قال] في "الأم": "عليه أن يقلد أوثقهما وأعلمهما عنده"، وغيره نسب ذلك إلى ابن سريج،
وطرده في العامي إذا اختلف الفقهاء في واقعة له، يجب عليه أن يأخذ بقول الأفقه، وقد حكاه أبو الطيب عن ابن سريج.
والذي حكاه في "المهذب" والبندنيجي والأكثرون: الثاني، وعليه يدل قول الشيخ:"قلد بصيراً يعرف".
ولو كانا عنده في العلم سواء، قال في "الحاوي": فهو كالبصير إذا تساوت عنده جهات، فيكون على وجهين:
أحدهما: يكون متخيراً في الأخذ بقول من شاء منهما.
[والثاني: يأخذ بقولهما] ويصلي إلى جهة [كل] واحد منهما.
وقال القاضي الحسين: إنه يصلي إلى أي الجهتين شاء، ويعيد.
وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق في البصير الذي لا يعرف الدلائل بين أن يكون قادراً على تعلمها والوقت واسع لذلك وللاجتهاد، أو غير قادر؛ إما لكونه لا يتأتى منه تعلم ذلك، أو لكونه يتهيأ منه لكنه لم يجد من يعلمه.
ولا شك في أنه كالأعمى من كل وجه إذا لم يقدر على التعلم، أما إذا قدر على التعلم والوقت واسع له للاجتهاد، فالذي قاله [القاضي] أبو الطيب: أنه يجب عليه أن يتعلم، ويجتهد لنفسه، فإن قلد غيره وصلى، كان كمن قدر على تعلم الفاتحة [في الوقت، وصلى بالبدل، وسيأتي حكمه، وهذا من القاضي يدل على وجوب تعلم دلائل القبلة على كل احد، كما يجب عليه تعلم الفاتحة].
وقد حكى المراوزة في وجوب تعلم دلائل القبلة وجهين:
أحدهما: أن ذلك فرض عين، وقال في "التهذيب": إنه الأصح.
والثاني: أنه فرض كفاية.
قال القاضي الحسين: وهما مستنبطان من نصين ذكرناهما في أن من هو من أهل الاجتهاد هل يقلد غيره ند ضيق الوقت، ولا يقضي أو لا؟ فإن قلنا بالأول، [فهو فرض كفاية، وألا] فهو فرض [عين].
وحكى الإمام أن من لا يعرف الدلائل إن قلنا: لا يجب عليه تعلم الأدلة، قلد [وصلى]، ولا إعادة [عليه]. وإن قلنا: يجب عليه التعلم، فقد فرط؛ فيلزمه القضاء، ثم يصلي؛ لحق الوقت من غير تقليد أو بتقليد؟ فيه تردد.
وفي "الإبانة": هل يجوز أن يقلد في القبلة؟ إن قلنا: يجب، تعلم [لدلائل القبلة]، فلا يجوز التقليد، وإلا جاز.
قال الإمام: والوجه المذكور في وجوب التعلم خاص بالمسافر، وإذا قلنا به قال الفوراني: فيكفي فيه الرجوع إلى قول واحد، ولا يكون ذلك تقليداً [كما أنه يرجع في خبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الراوي الواحد، ويجتهد هو فيما يدل عليهن ولا يكون تقليداً].
قال [الماوردي]: ويجوز أن يتعلمها من كافر إذا وقع في قلبه صدقه.
والأمر الثاني: أنه لا فرق في جواز تقليد البصير الذي يعرف بين أن يكون كافراً أو مسلماً، ثقة أو غير ثقة، ذكراً أو أنثى، بالغاً أو صبياً ولا خلاف في أنه يشترط أن يكون مسلماً، ولايشترط أن يكون ذكراً، وهل يشترط فيه الأمانة والبلوغ؟ فيه ما تقدم.
قلت: ويمكن أن يقال: قول الشيخ ثَمَّ: "فأخبره ثقة عن علم، عمل به" يؤخذ منه: أنه لابد في المقلد أن يكون ثقة؛ لأنه إذا اشترط ذلك فيما يخبر عنه يقيناً، ففيما يخبر عنه ظناً أولى، وإذا كان كذلك، استلزم –أيضاً- اشتراط الإسلام والبلوغ؛ لأن الكافر لا يوثق به، وكذا الصبي؛ لأنه لا [يخشى عقاباً] فيما يخبر به كذباً؛ فانتظم كلامه حينئذ على ما قاله الأصحاب.
والغزالي مال إلى أنه لا تشترط فيه العدالة؛ لأنه قال: قلد مكلفاً مسلماً عارفاً بأدلة القبلة، وهو ما ادعى في "التتمة" أنه المذهب.
وقول الغزالي: "قلد مكلفاً مسلماً" يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
عنده، وفيه ما تقدم، والله أعلم.
فرع: إذا أبصر الأعمى في أثناء الصلاة، فإن ظهر له حين أبصر أنه على جهة القبلة؛ بأن رأى محراباً أو نجماً يعرف به جهة القبلة، أتمها، وألا استأنف؛ لأن فرضه في هذه الحالة الاجتهاد دون التقليد، وزمن الاجتهاد يطول؛ فأبطل الصلاة، كما لو وجد العاري في أثناء الصلاة بالبعد منه سترة؛ قاله الماوردي وغيره.
وقال القاضي الحسين: إن ذلك ينبني على أنه لو كان بصيراً: هل يجوز أن يقلد غيره عند عجزه؟ فإن قلنا: يجوز، مضى [في صلاته، وإلا فوجهان:
أحدهما-وهو الصحيح-: أنها تبطل.
والثاني: لا تبطل؛ لأن صلاته] انعقدت في الابتداء بالتقليد، ففي الدوام مثله؛ لأن الدوام ينبني على الابتداء
وقال في "التتمة" فيما إذا لم يظهر له جهة الصواب حين بصره، ينظر:
فإن بان له يقين الخطأ، فهو كالبصير يظهر له ذلك في أثناء صلاته، وسنذكره. وإن وقع له أن الجهة غيرها بالاجتهاد، [قال]: فينحرف، وحكمه حكم بصير تغير اجتهاده.
وإن لم يعرف، أو لم تظهر له الدلائل، فوجهان ذكرناهما عن القاضي.
وعكس هذا الفرع: لو اجتهد بصير وصلى، ثم كف بصره في أثناء الصلاة، مضى عليها، إلا أن يعلم أنه انحرف عنها؛ فحينئذ تبطل، ولا يصلي غيرها إلا بتقليد.
قال بعضهم: اللهم إلا أن يبقى مكانه فيأتي [فيه] الخلاف الذي سنذكره في البصير.
قال: فإن لم يجد من يقلده، أي: إما لفقد المجتهدين، أو لوجودهم ولم
يظهر لهم جهة القبلة-صلى على حسب حاله، أي: على ما حدد حاله في الفقد أو في الجهل-فإن الحسب مأخوذ من "الحساب"، وهو بفتح السين، ووجهه: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
قال: وأعاد، أي: إذا وجد من يقلده، سواء صادف جهة القبلة أو خالفها؛ لأن الشرط في حقه التقليد؛ فإنه المحصل لغلبة الظن بجهة القبلة، وقد فقد؛ فكان كمن لم يجد ماء ولا تراباً، يصلي لحرمة الوقت، ويعيد إذا قدر على أحدهما؛ لفقد الشرط في الأولى.
قال الجيلي: ويجري الخلاف المذكور ثَمَّ هاهنا.
والصحيح في الموضعين ما ذكره الشيخ.
وقد أفهم كلام الشيخ في هذه الحالة: "وأعاد": أن في الحالة الأولى وهي إذا وجد من يقلده، لا يعيد، وهو في الأعمى كذلك، وأما في البصير الذي لا يعرف الدلائل، ففيه ما أسلفناه من التفصيل والخلاف، والبصير العارف بدلائل القبلة إذا اجتهدن ولم يظهر له جهة القبلة، أو كان محبوساً في مطمورة ولم يجد من يقلده- يصلي على حسب حاله أيضاً، ويعيدن فإن وجد من يقلده، كما إذا كان الاشتباه على شخصين، فأدى اجتهاد أحدهما إلى جهة القبلة، ولم يظهر للآخر جهتها- ففيه ما ذكرناه من الطرق الثلاثة، والمذكور منها، في "التهذيب" طريقة أبي إسحاق، وهو المذهب في "تعليق البندنيجي".
وقال في "الوسيط": الأصح: أنه يقلد ويعيد؛ لأن هذا عذر نادر، وما قاله يتركب مما حكيناه عن الماوردي وغيره من قبل.
والطرق الثلاث تجري-كما قال البندنيجي-فيمن ضاق عليه الوقت عن التعليم والاجتهاد.
قال: ومن صلى بالاجتهاد، أعاد الاجتهاد للصلاة [الأخرى]؛ كالحاكم إذا حكم في واقعة باجتهاد، ثم وقعت له-أيضاً- لا يحكم فيها إلا بعد الاجتهاد؛ لاحتمال تغيره؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، ومثله يجري في المقلد إذا وقعت له واقعة واستفتى فيها، ثم وقعت له مرة أخرى لا يجوز أن يعمل فيها بما قاله [له]
المفتي الأول، بل لابد [أن يعيد] الاستفتاء؛ قاله [القاضي] أبو الطيب.
وكلام القاضي الحسين يقتضي تخصيص ذلك بما إذا كانت المسألة مجتهداً فيها، أما لو كان المفتي حين أفتاه قال له ذلك عن نص، [قال]: فلا يحتاج إلى الإعادة، بل قال: إن للعامي أن يفتي فيها بما ذكر له.
ثم ظاهر كلام الشيخ: أن محل ما ذكره إذا لم ينتقل عن مكانه، وإذا انتقل من طريق الأولى.
وقيل: [إنه] إذا لم ينتقل منه، ولم يتغير اجتهاده، لا يلزمه الإعادة، وقد تقدم مثله في التيمم، ولا خلاف في جواز صلاة النفل بالاجتهاد الأول.
وما ذكرناه في المجتهد مثله يجري في المقلد إذا قلد في صلاة، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى، فلابد له من التقليد ثانياً على المذهب، كما قال البندنيجي.
وقال الروياني في "تلخيصه": إن الأعمى لو كان له مسجد يصلي فيه على الدوام، فدخل إليه، وجس محرابه بيدهن لا يجوز أن يصلي إليه حتى يقلد بصيراً يعرفه الصواب.
والقاضي الحسين: قال: إنه إذا دخل مسجداً، فوجد المحراب في أحد جوانبه الأربع بالمس باليد، فله أن يصلي إليه، و [هو] ما حكاه في "المهذب"[و"التهذيب" و"التتمة"].
وحكى الرافعي عن صاحب "العدة": أنه إنما يعتمد على لمس المحراب إذا شاهد المحراب قبل العمى، أما لو لم يشاهده، فلا يعتمد عليه.
قال: فإن تغير اجتهاده، عمل بالاجتهاد الثاني فيما يستقبل؛ لأنه الصواب في ظنه الناجز، ولا يعيد ما صلى بالاجتهاد الأول؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد؛ بدليل الحاكم.
وقيل: يعيده فقط، حكاه الإمام.
وقيل: [يعيد] الكل؛ لأنه صلى بعض ذلك إلى غير القبلة؛ فصار كمن
نسي صلاة من الخمس ولم يعرف عينها، وهذا ما حكاه القاضي الحسين والمتولي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني، والإمام حكاه عن صاحب "التقريب"، وهو مفرع على قولنا: إنه إذا تيقن الخطأ في صلاة معينة يجب قضاؤها.
[و] قال القاضي الحسين: والفرق على الأول بين ذلك وبين ما قاس عليه: أنه ها هنا [ما] من صلاة يؤديها [إلا] وهو يعتقد سقوط ما عليه بها؛ فلهذا لا يلزمه قضاء الكل، ولا كذلك من نسي صلاة [من الخمس]؛ لأنه إذا صلى صلاة أو صلاتين لا يعتقد أنه [أدى الصلاة] المنسية، وأنها سقطت عنه قطعاً؛ لاحتمال أنها في الصلوات التي لم يقضها، والأصل شغل ذمته بها.
[وما] ذكره الشيخ مصور في "تعليق القاضي الحسين" بما إذا كان الاجتهاد الثاني أقوى من الأول.
أما لو كان دون الأول، فلا عبرة به، ويصلي إلى الجهة التي صلى إليها أولاً، وإن كان مثله فإنه يكون كالمتحير يصلي إلى أي الجهتين شاء، ويقضي الصلاة الثانية دون الأولى و [لكن] لا يعصي. نعم: لو صلى إلى جهة ثالثة عصى، وهكذا الحكم فيما إذا دخل عليه صلاة ثالثة ورابعة [وأكثر]، وهذا [لو] تغير اجتهاده بعد الفراغ من الأولى، فلو تغير اجتهاده في أثنائها، وكان الاجتهاد الثاني مثل الأول أو أقوى منه، أتمها على موجب الاجتهاد الأول على وجه حكاه الماوردي.
وقيل: يلزمه أن يعدل عن الأول قولاً واحداً، إذا كان الثاني أقوى، وهي طريقة البندنيجي، وهل يلزمه أن يستأنفه أم لا؟
قال في "المهذب" وغيره: فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي: البناء، وهو ما حكاه الماوردي، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه.
[وقصة] أهل قباء تشهد له، وهو مطرد-كما قال القاضي الحسين-فيما لو صلى إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات أربع ركعات، والقائلون بالاستئناف
هاهنا، قالوا: الفرق بين ما نحن فيه، وبين أهل قباء- إن قلنا: إن النسخ يثبت قبل العلم به على رأي-:أنهم كانوا على قبلة صحيحة بالنص، ولم يصلوا باجتهاد، وإنما صلوا بناء على الأصل؛ فلم يلزمهم طلب الناسخ، وهذا مطالب بالاجتهاد في طلب الصواب، وقد ظهر تقصيره. وخالف هذا ما لو صلى أربع صلوات إلى أربع جهات حيث لا يقضي على المذهب؛ لأن الصلاة الواحدة عبادة واحدة لا تتجزأ في البطلان والصحة، بل آخرها متصل بأولها ويتداعى فساد آخرها إلى فساد أولها؛ فجاز أن يقال بأنها تبطل بتغير الاجتهاد فيها، وليس كذلك الصلوات؛ لأن كل واحدة منهن لا تكون مرتبطة بالأخرى.
وحكم الأعمى في تغير اجتهاد مقلِّده بعد الصلاة وفي أثنائها حكم المجتهد في نفسه، والله أعلم.
قال: فإن تيقن الخطأ، أي: ووجد الصواب بعد الفراغ من الصلاة، لزمه الإعادة في أصح القولين؛ لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت الحرام، وقد بان أنه لم يستقبله؛ فلم يعتد بما أتى به، كالحاكم إذا حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص بخلافه.
ولأن ما لا يسقط بالنسيان من شروط الصلاة لا يسقط بالخطأ، كالطهارة، والوقت.
قال في "المهذب" وغيره: ولأنه تيقن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلم يعتد بما مضى، كالحاكم إذا حكم، ثم وجد النص بخلافه، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وفي استقبال القبلة من الجديد.
ومقابله: أنه لا يلزمه الإعادة؛ لأنه روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة؛ فخفيت علينا القبلة؛ فجمع كل واحد منا أحجاراً، وصلى إليها، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
ولأنه صلى إلى جهة مأمور بالصلاة إليها؛ فسقط الفرض بالصلاة إليها؛ كما لو صلى إلى غير القبلة في شدة الخوف، وهذا ما نص عليه في القديم، والصيام من الجديد؛ [كما] قال الماوردي وغيره، واختاره المزني، وقال: إن الآية محمولة على
حالة العلم، وفارق الحاكم، لأن الخطأ منه يندر؛ فكان نقضه أحق، وهو يتعلق بحق [العبد؛ فاحتيط] له، ولا كذلك هاهنا.
والفرق بين الطهارة من الحدث والخبث: أنها أغلظ؛ بدليل أنه لو توضأ بالإناءين اللذين وقع الاشتباه فيهما، أو صلى بالثوبين اللذين وقع الاشتباه فيهما صلاتين باجتهادين- وجب عليه إعادتهما. ولو صلى إلى جهتين باجتهادين، لم تجب الإعادة.
والقائلون بالأول، قالوا: الخبر لا يعرف إلا من طريق أشعث السمان، وقد قال الترمذي: إنه ضعيف الحديث، ولو صح فهو معارض بقول ابن عمر: إن الآية نزلت في صلاة النفل في السفر. أو نحمله على الخطأ من العين إلى الجهة.
والفرق بين ما نحن فيه وصلاة شدة الخوف: أنا نأمره ثم بالصلاة إلى غير القبلة مع تحققها، ولا كذلك هاهنا، وإنما لم تجب الإعادة على المصلي إلى جهتين؛ لأنه لم يتعين له الخطأ في إحداهما.
وما ذكرناه من [تصوير] محل القولين اتبعنا فيه البندنيجي والقاضي الحسين والغزالي، وإليه يرشد ما ذكرناه عن "المهذب" وغيره من علة [القول الأول؛ إذ] لو كانت المسألة مصورة بما إذا تيقن الخطأ، ولم يتحقق جهة الصواب- لم يحسن ذلك. نعم: لو تيقن الخطأ، وظهرت له جهة الصواب بالاجتهاد، ففي "الوسيط" و"التتمة": أن القولين يأتيان بالترتيب، وأولى بعدم وجوب القضاء؛ لأن الخطأ غير مأمون في القضاء؛ فلا تجب [كما] في خطأ الحجيج، وهذا ما حكاه
الإمام عن شيخه، وقال: إنه خطأ عندي، فإنه يمكنه أن يصير إلى بقعة يتيقن فيها جهة الصواب [ولا عس] في ذلك بخلاف خطأ الحجيج.
وما قاله الإمام فيه نظر من حيث إن ذلك يوجب المصير إليها في الابتداء، ويمنع الاجتهاد.
وابن الصلاح قال في تقرير الترتيب: إنه لو وجب القضاء، [لجاز على [الفور حال] الاجتهاد؛ فإنه لا يجب تأخيره، وحينئذ فلا يؤمن الخطأ في القضاء]؛ فحسن الترتيب، وكلام المتولي صريح في أنه على [أحد] القولين يعيد في الوقت بالاجتهاد، ولو تيقن الخطأ، [ولم تبن له جهة الصواب] أصلاً فطريقان: منهم من قال: لا يعيد قولاً واحداً، ومنهم من قال:[إنه] على القولين.
[قال بعضهم]: وهو الأصح.
وقد جمع الفوراني والروياني بين الطرق، وقالا: اختلف أصحابنا في محل القولين على طرق:
فقيل: محلهما إذا تيقن [مع الخطأ جهة الصواب] أما إذا لم يتيقنها فلا تجب قولاً واحداً.
وقيل: محلهما إذا [لم يتيقن] جهة الصواب، فإن تيقنها، وجبت قولاً واحداً؛ وهذه الطريقة يفهمها كلام أبي الطيب.
وقيل: القولان في الحالين، وهو الذي نقله الشيخ أبو محمد والماوردي.
أما لو ظهر له يقين الخطأ ووجه الصواب في أثناء الصلاة: فإن قلنا: [إنه] إذا تيقن ذلك بعد الفراغ يعيد، فها هنا يستأنف، [وإلا] فوجهان أو قولان. قال الفوراني: ومنهم من قطع بأنه يستأنف؛ لما ذكرناه من الفرق من قبل. ولو ظهر [له] في أثناء الصلاة الخطأ يقيناً أو بالاجتهاد، ولم يبن له جهة
الصواب- قال ابن الصباغ: بطلت صلاته، وهو نظير ما حكيناه عن الماوردي وغيره فيما إذا أبصر الضرير في أثناء الصلاة، ولم تبن له جهة الصواب.
وقال غيره: إن عجز عن درك الصواب بالاجتهاد مع طول الفصل، بطلت. وإن قصر فوجهان، سواء مضى ركن أو لم يمض؛ كذا قاله ابن الصلاح، وأن المرجع في القصر والطول إلى العرف، وأن فيما علقه بخراسان في الدروس تحديد طويل الزمان [بأن يمضي] ركن أو وقت مضى ركن. قال: وهذا غير مرضي.
قلت: والأشبه: أن يأتي فه ما ذكرناه عن القاضي والمتولي في مسألة إبصار الضرير.
إذا قال له خلاف مقلده بعد الفراغ من الصلاة: قد أخطأ [بك] مقلدك- فإن كان عن علم أو بلغ المخبرون حد التواتر – كان في وجوب القضاء عليه القولان، وإن [لم] يبلغ المخبرون حد التواتر:
قال الماوردي: فعند أبي إسحاق لا تلزمه الإعادة؛ لأنه لا يتيقن الخطأ بخبرهم، كما يتيقنه البصير بمشاهدته.
وقد قال غيره من أصحابنا: في الإعادة عليه القولان، كما لو كان المخبر له مقلده.
قال أبو علي بن أبي هريرة: وقد كنت أذهب إلى ما قاله أبو إسحاق حتى وجدت للشافعي ما يدل على التسوية بين مقلده وغيره.
وإن قال له خلاف مقلده وهو في الصلاة: أخطأ بك مقلدك: فإن كان مثل مقلده او دونه، لم يرجع إليه، وإن كان أرفع من مقلده في العلم والأمانة صار [إلى قوله].
قال أبو الطيب والبندنيجي: ثم ينظر:
فإن أخبره عن اجتهاد بني على صلاته.
قال الماوردي: قولاً [واحدا].
وفي "تلخيص الروياني" حكاية وجه آخر: أنه يستأنف.
وإن كان عن يقين، انحرف إلى الجهة التي قالها [له]، وهل يبني أو يستأنف؟
[فيه] قولان؛ بناء على ما لو صلى باجتهاد نفسه، ثم تبين له يقين الخطأ [هل] يقضي أم لا؟ فإن قلنا: يقضي، استأنف، وإلا بنى.
قلت: والذي يظهر، إنه إذا أخبر عن علم بالخطأ ألا يفرق في المخبر بين أن يكون دون مقلده أو أعلى منه، وكلام أبي الطيب وغيره الذي ذكرناه يقتضي التفرقة.
ولا جرمن قال الإمام: إنه إذا اخبره عن يقين من هو دون مقلده أو مثله، رجع إلى قوله، اللهم إلا أن يكون مقلده أيضاً قد قطع بالجهة أنه جهة الصواب؛ فلا يرجع إلى غيره، ولعل هذا مراد من أطلق ممن ذكرنا، والله أعلم.
وقد حكى بعضهم وجهاً فيما إذا كان المخبر مثل مقلده: انه يعمل بقوله.
ثم ظاهر كلام الشيخ أن المراد بيقين الخطأ: خطأ العين؛ إذا قلنا: إنها الفرض، أو خطأ؛ إذا قلنا: إنها الفرض، وهو ما حكاه الروياني في "تلخيصه"، وكلام الماوردي مصرح بأن محل الخلاف إذا اخطأ من جهة إلى جهة، أما إذا أخطأ من العين إلى الجهة، فلا يضره ذلك. وحكاه عند حكايته القولين في أن الفرض العين أو الجهة عن نص الشافعي في "الأم".
ولو ظهر له أنه انحرف عن الجهة يميناً أو شمالاً، والجهة واحدة بعد الفراغ من الصلاة-فلا يضره ذلك؛ قاله في "المهذب" وغيره.
وإن كان في الصلاة: فإن بانت له جهة الصواب يقيناً، انحرف إليها، وبنى على [النص].
وخص الروياني ذلك بما إذا لم يتفاحش انحرافه إلى حيث يقارب الجهتين، ووجه ذلك بأنه لا يكاد ذلك يتيقن.
وإن كان من جهة الاجتهاد، قال الروياني: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يستأنف. وهو غلط، بل يبني على صلاته، وهل يعدل إلى الثاني أو يستمر على ما كان عليه أولاً؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي.
وقال الإمام: إن العراقيين حكوا وجهين في أنه هل يمكن إدراك الانحراف عن الجهة يقيناً [أو لا] يدرك إلا ظناً؟ والأقرب: الثاني.
وقال في "الوسيط": إنه لو ظهر له الخطأ في التيامن والتياسر، فهل يؤثر؟ فيه خلاف مبني على أن المطلوب جهة الكعبة أو عينها؟ هكذا قاله الأصحاب، وفيه نظر من حيث إن الجهة لا تكفي؛ بدليل أن القريب من الكعبة إذا خرج عن محاذاة الركن لا تصح صلاته، مع القطع باستقبال الجهة، ومحاذاة العين ليست بشرط؛ بدليل صحة صلاة الصف الطويل.
قال: ولعل مراد الأصحاب أن بين موقف المحاذي الذي يقول الحاذق فيه: إنه على السداد، وبين موقفه الذي يخرج عن الاستقبال بالكلية- مواقف بعضها أسد من بعض، فهل واجبه طلب الأسد مع حصول مسمى الاستقبال بدونه، أو يكفيه السديد؟
قال ابن الصلاح: [وحاصله]: أنه يجب على المجتهد أن يطلب باجتهاده استقبال عين الكعبة ومحاذاتها من حيث الاسم، لا من حيث الحقيقة التي من شأنها أنه لو مد خيطاً مستقيماً من موقفه إلى الكعبة لانتهى إلى نفسها. ورد الخلاف
المذكور إلى أنه هل يجب طلب الأقوم والأسد مما يشمله اسم الاستقبال، أو يكفي مجرد ما هو سديد يشمله اسم الاستقبال وإن لم يكن بالأسد، وهي طريقة اخترعها إمام الحرمين، واتبعه هو فيها مع تصرف يسير، والذي عليه نقلة المذهب: الأول، وما شكك فيه يندفع بأن الحكم يدور مع اسم الاستقبال نفياً وإثباتاً، والمعتبر مع الحضور تحقق الاسم [بالإضافة إلى العين؛ لعدم المشقة، والمعتبر في الغيبة على القول الأول تحقق الاسم] بالإضافة إلى العين؛ لعدم المشقة، والمعتبر في الغيبة على القول الأول تحقق الاسم] بالإضافة [إلى العين، وعلى مقابله: تحقق الاسم بالإضافة إلى] الجهة، ولا إشكال في ذلك، وهو ظاهر نص الشافعي ومذهبه.
وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به:
إذا اجتهد جمع في القبلة، فأدى اجتهاد كل واحد، إلى جهة- لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض، وإن جوزنا اقتداء الشافعي بالحنفي؛ لأن المخالفة ها هنا ظاهرة، بخلافها ثَمَّ.
ولو اختلف اجتهادهم بالتيامن والتياسر، فهل يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين" وغيره.
ولو أدى اجتهادهم إلى جهة واحدة، جاز أن يقتدي بعضهم ببعض، فلو تغير اجتهاد المأمومين في أثناء الصلاة دون الإمام، [و] قلنا: يمضون على موجب الاجتهاد الثاني- نَوَوْا مفارقته، وهي مفارقة بعذر، وفيها ما ستعرفه من الخلاف في البطلان.
ومنهم من يقول: إنها مفارقة بغير عذر؛ لأنهم مفرطون في الاجتهاد.
وإن تغر اجتهاد الإمام دونهم، نووا مفارقته أيضاً.
ومنهم من يقول: الحكم في البطلان كما في المسألة قبلها.
ومنهم من قال: الصحيح أنهم يبنون على صلاتهم قولاً واحداً؛ لأنهم معذورون في ذلك؛ [لأنهم] لا يمكنهم أن يتحفظوا من اجتهاد الإمام؛ قاله القاضي الحسين، والله أعلم.